منابع ازمون وکالت 97

پرتال تخصصی فقه و حقوق

پرتال تخصصی فقه و حقوق

متون فقه | اصول فقه | حقوق اساسی | حقوق مدنی | حقوق تجارت | آیین دادرسی مدنی | آیین دادرسی کیفری

پرتال تخصصی فقه و حقوق

متون فقه | اصول فقه | حقوق اساسی | حقوق مدنی | حقوق تجارت | آیین دادرسی مدنی | آیین دادرسی کیفری

به پرتال تخصصی فقه و حقوق خوش آمدید

آمادگی برای آزمون وکالت

وبلاگ حقوقي نيما جهانشيري

پیوندها

کفایة الاصول - قسمت دهم

فیختص بما یوجب نفی التکلیف لا إثباته.
نعم ربما یقال (1) : بأن قضیة الاستصحاب فی بعضٍ الصور وجوب الباقی فی حال التعذر أیضاً.
ولکنه لا یکاد یصحّ إلّا بناءً على صحة القسم الثالث من استصحاب الکلیّ ، أو على المسامحة فی تعیین الموضوع فی الاستصحاب ، وکان ما تعذر مما یسامح به عرفاً ، بحیث یصدق مع تعذره بقاء الوجوب لو قیل بوجوب الباقی ، وارتفاعه لو قیل بعدم وجوبه ، ویأتی تحقیق الکلام فیه فی غیر المقام (2).
کما أن وجوب الباقی فی الجملة ربما قیل (3) بکونه مقتضى ما یستفاد من قوله 9 : ( إذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم ) (4) وقوله : ( المیسور لا یسقط بالمعسور ) (5) وقوله : ( ما لا یدرک کله لا یترک کله ) (6) ودلالة الأوّل مبنیة على کون کلمة ( من ) تبعیضیة ، لا بیانیة ، ولا بمعنى الباء ، وظهورها فی التبعیض وأنّ کان مما لا یکاد یخفى ، إلّا أن کونه بحسب الأجزاء غیر واضح ، لاحتمال أن یکون بلحاظ الأفراد ، ولو سلّم فلا محیص عن إنّه ـ هاهنا ـ بهذا اللحاظ یراد ، حدیث ورد جواباً عن السؤال عن تکرار الحج بعد أمره به ، فقد روی إنّه خطب رسول الله 9 (7) ، فقال : ( إن الله کتب
__________________
1 ـ راجع فرائد الأصول / 294.
2 ـ سیأتی فی مبحث الاستصحاب / 425.
3 ـ راجع فرائد الأصول / 294.
4 ـ غوالی اللآلی 4 / 58 ، مع اختلاف یسیر.
5 ـ غوالی اللآلی 4 / 58 ، باختلاف یسیر.
6 ـ غوالی اللآلی 4 / 58 ، باختلاف یسیر.
7 ـ راجع مجمع البیان 2 : 250 ، فی ذیل الآیة 101 من سورة المائدة والتفسیر الکبیر للفخر الرازی 12 : 106 وأنوار التنزیل للبیضاوی 1 : 294 ، وفی الأخیر فقام سراقة بن مالک.
 
علیکم الحج ، فقام عکاشة (1) ـ ویروى سراقة بن مالک (2) ـ فقال : فی کلّ عام یا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى أعاد مرتین أو ثلاثاً ، فقال : ویحک ، وما یؤمنک أن أقول : نعم ، والله لو قلت : نعم ، لوجب ، ولو وجب ما استطعتم ، ولو ترکتم لکفرتم ، فاترکونی ما تُرکتم ، وإنما هلک من کان قبلکم بکثرة سؤالهم ، واختلافهم إلى أنبیائهم ، فإذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهیتکم عن شیء فاجتنبوه ).
ومن ذلک ظهر الإِشکال فی دلالة الثّانی أیضاً ، حیث لم یظهر فی عدم سقوط المیسور من الإِجزاء بمعسورها ، لاحتمال إرادة عدم سقوط المیسور من أفراد العام بالمعسور منها. هذا.
مضافاً إلى عدم دلالته على عدم السقوط لزوماً ، لعدم اختصاصه بالواجب ، ولا مجال لتوهم دلالته على إنّه بنحو اللزوم ، إلّا أن یکون المراد عدم سقوطه بماله من الحکم وجوباً کان أو ندباً ، بسبب سقوطه عن المعسور ، بأن یکون قضیة المیسور کنایة عن عدم سقوطه بحکمه ، حیث إن الظاهر من مثله هو ذلک ، کما أن الظاهر من مثل ( لا ضرر ولا ضرار ) (3) هو نفی ماله من تکلیف أو وضع ، لا إنّها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه وبقائه على عهدة المکلف کی لا یکون له دلالة
__________________
1 ـ عکاشة بن محصن بن حُرثان ، شهد بدراً مع النبی 6 ، ثم لم یزل عنده یشهد المشاهد مع رسول الله 6 حتى قتل فی قتال أهل الردة ، کان عمره عند وفاة النبی 6 اربعاً وأربعین سنة. ( تهذیب الأسماء 1 : 338. رقم 418 )
2 ـ سراقة بن مالک بن جعشم الکنانی المدلجی ، کنیته أبو سفیان ، له صحبة ، کان یسکن قدید ، مات بعد عثمان ، روى عنه سعید بن المسیب وأبو رشدین وعبد الرحمن بن مالک. ( الجرح والتعدیل 4 : 308 رقم 1342 ).
3 ـ الکافی 5 / 293 ، کتاب المعیشة باب الضرار ، الحدیث 6.
و : الکافی 5 / 280 ، کتاب المعیشة باب الشفعة ، الحدیث 4.
و : التهذیب 7 / 164 ، باب الشفعة ، الحدیث 4. 
 
على جریان القاعدة فی المستحبات على وجه ، أو لا یکون له دلالة على وجوب المیسور فی الواجبات على آخر ، فافهم.
وأما الثالث ، فبعد تسلیم ظهور کون الکلّ (1) فی المجموعی لا الأفرادی ، لا دلالة له إلّا على رجحان الإِتیان بباقی الفعل المأمور به ـ واجباً کان أو مستحباً ـ عند تعذر بعضٍ أجزائه ، لظهور الموصول فیما یعمهما ، ولیس ظهور ( لا یترک ) فی الوجوب ـ لو سلّم ـ موجباً لتخصیصه بالواجب ، لو لم یکن ظهوره فی الأعم قرینة على إرادة خصوص الکراهة أو مطلق المرجوحیة من النفی ، وکیف کان فلیس ظاهراً فی اللزوم هاهنا ، ولو قیل بظهوره فیه فی غیر المقام.
ثم إنّه حیث کان الملاک فی قاعدة المیسور هو صدق المیسور على الباقی عرفاً ، کانت القاعدة جاریة مع تعذر الشرط أیضاً ، لصدقه حقیقة علیه مع تعذره عرفاً ، کصدقه علیه کذلک مع تعذر الجزء فی الجملة ، وأنّ کان فاقد الشرط مبایناً للواجد عقلاً ، ولأجل ذلک ربما لا یکون الباقی ـ الفاقد لمعظم الإِجزاء أو لرکنها ـ مورداً لها فیما إذا لم یصدق علیه المیسور عرفاً ، وأنّ کان غیر مباین للواجد عقلاً.
نعم ربما یلحق به شرعاً مالا یعد بمیسور عرفاً بتخطئة للعرف ، وأن عدم العد کان لعدم الاطلاع على ما هو علیه الفاقد ، من قیامه فی هذا الحال بتمام ما قام علیه الواجد ، أو بمعظمه فی غیر الحال ، وإلاّ عدّ إنّه میسوره ، کما ربما یقوم الدلیل على سقوط میسور عرفی لذلک ـ أیّ للتخطئة ـ وإنّه لا یقوم بشیء من ذلک.
وبالجملة : ما لم یکن دلیل على الاخراج أو الإلحاق کان المرجع هو الإِطلاق ، ویستکشف منه أن الباقی قائم بما یکون الأمور به قائماً بتمامه ، أو بمقدار یوجب إیجابه فی الواجب واستحبابه فی المستحب ، وإذا قام دلیل على أحدهما فیخرج أو یدرج تخطئة أو تخصیصاً فی الأوّل ، وتشریکاً فی الحکم ، من دون الاندراج فی
__________________
1 ـ فی « ب » : ظهور کون الکل
 
الموضوع فی الثّانی ، فافهم.
تذنیب : لا یخفى إنّه إذا دار الأمر بین جزئیة شیء أو شرطیته ، وبین مانعیته أو قاطعیته ، لکان من قبیل المتباینین ، ولا یکاد یکون من الدوران بین المحذورین ، لإمکان الاحتیاط بإتیان العمل مرتین ، مع ذاک الشیء مرة وبدونه أُخرى ، کما هو أوضح من أن یخفى.
 
 
خاتمة : فی شرائط الأُصول
أما الاحتیاط : فلا یعتبر فی حسنه شیء أصلاً ، بل یحسن على کلّ حال ، إلّا إذا کان موجباً لاختلال النظام ، ولا تفاوت فیه بین المعاملات والعبادات مطلقاً ولو کان موجباً للتکرار فیها ، وتوهمّ (1) کون التکرار عبثاً ولعباً بأمر المولى ـ وهو ینافی قصد الامتثال المعتبر فی العبادة ـ فاسد ، لوضوح أن التکرار ربما یکون بداع صحیح عقلاًئی ، مع إنّه لو لم یکن بهذا الداعی وکان أصل إتیإنّه بداعی أمر مولاه بلا داعٍ له سواه لما ینافی قصد الامتثال ، وأنّ کان لاغیاً فی کیفیة امتثاله ، فافهم.
بل یحسن أیضاً فیما قامت الحجة على البراءة عن التکلیف لئلا یقع فیما کان فی مخالفته على تقدیر ثبوته ، من المفسدة وفوت المصلحة.
وأما البراءة العقلیة : فلا یجوز إجراؤها إلّا بعد الفحص والیأس عن الظفر بالحجة على التکلیف ، لما مرت (2) الإِشارة إلیه من عدم استقلال العقل بها إلّا بعدهما.
وأما البراءة النقلیة : فقضیة إطلاق أدلتها وأنّ کان هو عدم اعتبارٍ
__________________
1 ـ المتوهم هو الشیخ ( قده ) راجع فرائد الأصول ، ص 299.
2 ـ فی الاستدلال على البراءة بالدلیل القطعی ، ص 343.  
الفحص فی جریإنّها ، کما هو حالها فی الشبهات الموضوعیة ، إلّا إنّه استدل (1) على اعتباره بالإِجماع وبالعقل ، فإنّه لا مجال لها بدونه ، حیث یعلم إجمالاً بثبوت التکلیف بین موارد الشبهات ، بحیث لو تفحص عنه لظفر به.
ولا یخفى أن الاجماع هاهنا غیر حاصل ، ونقله لوهنه بلا طائل ، فإن تحصیله فی مثل هذه المسألة مما للعقل إلیه سبیل صعب لو لم یکن عادةً بمستحیل ، لقوة احتمال أن یکون المستند للجل ـ لولا الکلّ ـ هو ما ذکر من حکم العقل ، وأنّ الکلام فی البراءة فیما لم یکن هناک علم موجب للتنجز ، امّا لانحلال العلم الإِجمالی بالظفر بالمقدار المعلوم بالإِجمال ، أو لعدم الابتلاء إلّا بما لا یکون بینها علم بالتکلیف من موارد الشبهات ، ولو لعدم الالتفات إلیها.
فالأولى الاستدلال للوجوب بما دلّ من الآیات (2) والأخبار (3) على وجوب التفقة والتعلم ، والمؤاخذة على ترک التعلم فی مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم ، بقوله تعالى کما فی الخبر (4) : ( هلا تعلمت ) فیقید بها أخبار البراءة ، لقوة ظهورها فی أن المؤاخذة والاحتجاج بترک التعلم فیما لم یعلم ، لا بترک العمل فیما علم وجوبه ولو إجمالاً ، فلا مجال للتوفیق بحمل هذه الإخبار على ما إذا علم إجمالاً ، فافهم.
ولا یخفى اعتبارٍ الفحص فی التخییر العقلی أیضاً بعین ما ذکر فی البراءة ، فلا تغفل.
ولا بأس بصرف الکلام فی بیان بعضٍ ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من
__________________
1 ـ راجع فرائد الأصول / 300 و 301.
2 ـ التوبة : 122 والنحل : 43.
3 ـ الفقیه 6 / 277 ، الباب 176 ذیل الحدیث 10 ـ الکافی 1 / کتاب 2 / احادیث الباب 1.
4 ـ الامالی للشیخ / 9 ـ الصافی / 555. 
 
التبعة والأحکام.
أما التبعة ، فلا شبهة فی استحقاق العقوبة على المخالفة فیما إذا کان ترک التعلم والفحص مؤدیاً إلیها ، فإنّها وأنّ کانت مغفولة حینها وبلا اختیار ، إلّا إنّها منتهیة إلى الاختیار ، وهو کافٍ فی صحة العقوبة ، بل مجرد ترکهما کافٍ فی صحتها ، وأنّ لم یکن مؤدیاً إلى المخالفة ، مع احتماله ، لأجل التجری وعدم المبالاة بها.
نعم یشکل فی الواجب المشروط والمؤقت ، لو أدى ترکهما قبل الشرط والوقت إلى المخالفة بعدهما ، فضلاً عما إذا لم یؤد إلیها ، حیث لا یکون حینئذ تکلیف فعلّی أصلاً ، لا قبلهما وهو واضح ، ولا بعدهما وهو کذلک ، لعدم (1) التمکن منه بسبب الغفلة ، ولذا التجأ المحقق الأردبیلی (2) وصاحب المدارک (3) ( قدس سرهما ) إلى الالتزام بوجوب التفقه والتعلم نفسیاً تهیئیاً ، فتکون العقوبة على ترک التعلم نفسه لا على ما أدى إلیه من المخالفة. فلا إشکال حینئذ فی المشروط والمؤقت ، ویسهل بذلک الأمر فی غیرهما لو صعب على أحد ، ولم تصدق کفایة الانتهاء إلى الاختیار فی استحقاق العقوبة على ما کان فعلاً مغفولاً عنه ولیس بالإختیار ، ولا یخفى إنّه لا یکاد ینحل هذا الإِشکال إلّا بذلک ، أو الالتزام بکون المشروط أو المؤقت مطلقاً معلّقاً ، لکنه قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته الوجودیة عقلاً بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غیر التعلم ،
__________________
1 ـ إلّا أن یقال بصحة المؤاخذة على ترک المشروط أو الموقت عند العقلاء إذا تمکن منهما فی الجملة ، ولو بأن تعلم وتفحص إذا التفت ، وعدم لزوم التمکن منهما بعد حصول الشرط ودخول الوقت مطلقاً ، کما یظهر ذلک من مراجعة العقلاء ومؤاخذتهم العبید على ترک الواجبات المشروطة أو المؤقتة ، بترک تعلمها قبل الشرط أو الوقت المؤدی إلى ترکها بعد حصوله أو دخوله ، فتأمل منه ( 1 ).
2 ـ راجع کلامه 1 فی مجمع الفائدة والبرهان فی شرح إرشاد الأذهان 2 / 110 ، عند قوله : واعلم أیضاً أن سبب بطلان الصلاة ... الخ.
3 ـ راجع مدارک الأحکام / 123 ، فی مسألة إخلال المصلی بإزالة النجاسة عن بدنه أو ثوبه. 
 
فیکون الإِیجاب حالیّاً ، وأنّ کان الواجب استقبالیّاً قد أخذ على نحو لا یکاد یتصف بالوجوب شرطه ، ولا غیر التعلم من مقدماته قبل شرطه أو وقته.
وأما لو قیل بعدم الإِیجاب إلّا بعد الشرط والوقت ، کما هو ظاهر الأدلة وفتاوى المشهور ، فلا محیص عن الالتزام یکون وجوب التعلم نفسیّاً ، لتکون العقوبة ـ لو قیل بها ـ على ترکه لا على ما أدى إلیه من المخالفة ، ولا بأس به کما لا یخفى ، ولا ینافیه ما یظهر من الإخبار من کون وجوب التعلم إنّما هو لغیره لا لنفسه ، حیث أن وجوبه لغیره لا یوجب کونه واجباً غیریاً یترشح وجوبه من وجوب غیره فیکون مقدّمیاً ، بل للتهیّؤ لایجابه ، فافهم.
وأما الأحکام ، فلا إشکال فی وجوب الإِعادة فی صورة المخالفة ، بل فی صورة الموافقة أیضاً فی العبادة ، فیما لا یتأّتى منه قصد القربة وذلک لعدم الإِتیان بالمأمور به ، مع عدم دلیل على الصحة والإجزاء ، إلّا فی الإتمام فی موضع القصر أو الاجهار أو الاخفات فی موضع الآخر ، فورد فی الصحیح (1) ـ وقد أفتى به المشهور ـ صحة الصلاة وتمامیتها فی الموضعین مع الجهل مطلقاً ، ولو کان عن تقصیر موجب لاستحقاق العقوبة على ترک الصلاة المأمور بها ؛ لأن ما أتى بها وأنّ صحت وتمت إلّا إنّها لیست بمأمور بها.
إن قلت : کیف یحکم بصحتها مع عدم الأمر بها؟ وکیف یصحّ الحکم باستحقاق العقوبة على ترک الصلاة التی أُمر بها ، حتى فیما إذا تمکن مما أمر بها؟ کما هو ظاهر إطلاقاًتهم ، بأن علم بوجوب القصر أو الجهر بعد الإتمام والإِخفات وقد بقی من الوقت مقدار إعادتها قصراً أو جهرا ، ضرورة إنّه لا تقصیر هاهنا یوجب
__________________
1 ـ التهذیب 3 / 226 ، الباب 23 الصلاة فی السفر ، الحدیث / 80 ، وسائل الشیعة 5 / 531 الباب : 17 من أبواب صلاة المسافر الحدیث 4.
التهذیب 2 / 162 الباب 9 تفصیل ما تقدم ذکره فی الصلاة من المفروض والمسنون ، الحدیث 93.
ووسائل الشیعة 4 / 766 الباب 26 من أبواب القراءة فی الصلاة ، الحدیث 1.
 
 
استحقاق العقوبة ، وبالجملة کیف یحکم بالصحة بدون الأمر؟ وکیف یحکم باستحقاق العقوبة مع التمکن من الإِعادة؟ لولا الحکم شرعاً بسقوطها وصحة ما أتى بها؟
قلت : إنّما حکم بالصحة لأجل اشتمالها على مصلحة تامة لازمة الاستیفاء فی نفسها مهمة فی حد ذاتها ، وأنّ کانت دون مصلحة الجهر والقصر ، وإنما لم یؤمر بها لأجل إنّه أمر بما کانت واجدة لتلک المصلحة على النحو الأکمل والأتم.
وأما الحکم باستحقاق العقوبة مع التمکن من الإِعادة فإنّها بلا فائدة ، إذ مع استیفاء تلک المصلحة لا یبقى مجال لاستیفاء المصلحة التی کانت فی المأمور بها ، ولذا لو أتى بها فی موضع الآخر جهلاً ـ مع تمکنه من التعلم ـ فقد قصر ، ولو علم بعده وقد وسع الوقت.
فانقدح إنّه لا یتمکن من صلاة القصر صحیحة بعد فعل صلاة الإتمام ، ولا من الجهر کذلک بعد فعل صلاة الاخفات ، وأنّ کان الوقت باقیاً.
إن قلت : على هذا یکون کلّ منهما فی موضع الآخر سبباً لتفویت الواجب فعلاً ، وما هو سبب لتفویت الواجب کذلک حرام ، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا کلام.
قلت : لیس سبباً لذلک ، غایته إنّه یکون مضاداً له ، وقد حققنا فی محله (1) أن الضد وعدم ضدّه متلازمان لیس بینهما توقف أصلاً.
لا یقال : على هذا فلو صلّى تماما أو صلّى إخفاتاً ـ فی موضع القصر والجهر مع العلم بوجوبهما فی موضعهما ـ لکانت صلاته صحیحة ، وأنّ عوقب على مخالفة الأمر بالقصر أو الجهر.
فإنّه یقال : لا بأس بالقول به لو دلّ دلیل على إنّها تکون مشتملة على المصلحة
__________________
1 ـ مبحث الضد ، فی الأمر الثّانی ، عند دفع توهّم المقدمیة بین الضدین ص 130. 
 
ولو مع العلم ، لاحتمال اختصاص أن یکون کذلک فی صورة الجهل ، ولا بعد أصلاً فی اختلاف الحال فیها باختلاف حالتی العلم بوجوب شیء والجهل به ، کما لا یخفى. وقد صار بعضٍ الفحول (1) بصدد بیان إمکان کون المأتیّ به فی غیر موضعه مأموراً به بنحو الترتب ، وقد حققناه فی محبث الضد امتناع الأمر بالضدین مطلقاً ، ولو بنحو الترتب ، بما لا مزید علیه فلا نعید.
ثم إنّه ذکر (2) لأصل البراءة شرطان آخران :
أحدهما : أن لا یکون موجباً لثبوت حکم شرعی من جهة أُخرى.
ثانیهما : أن لا یکون موجباً للضرر على آخر.
ولا یخفى أن أصالة البراءة عقلاً ونقلاً فی الشبهة البدویة بعد الفحص لا محالة تکون جاریة ، وعدم استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقلیة والإباحة أو رفع التکلیف الثابت بالبراءة النقلیة ، لو کان موضوعاً لحکم شرعی أو ملازماً له فلا محیص عن ترتبه علیه بعد إحرازه ، فإن لم یکن مترتباً علیه بل على نفی التکلیف واقعاً ، فهی وأنّ کانت جاریة إلّا أن ذاک الحکم لا یترتب ، لعدم ثبوت ما یترتب علیه بها ، وهذا لیس بالاشتراط.
وأما اعتبارٍ أن لا یکون موجباً للضرر ، فکل مقام تعمه قاعدة نفی الضرر وأنّ لم یکن مجال فیه لأصالة البراءة ، کما هو حالها مع سائر القواعد الثابتة بالأدلة الاجتهادیة ، إلّا إنّه حقیقة لا یبقى لها مورد ، بداهة أن الدلیل الاجتهادی یکون بیاناً وموجباً للعلم بالتکلیف ولو ظاهراً ، فإن کان المراد من الاشتراط ذلک ، فلابد من اشتراط أن لا یکون على خلافها دلیل اجتهادی ، لا خصوص قاعدة الضرر ، فتدبرّ ، والحمد لله على کلّ حال.
__________________
1 ـ وهو کاشف الغطاء 1 کشف الغطاء عن مبهمات الشریعة الغراء / 27 فی البحث الثامن عشر.
2 ـ ذکرهما الفاضل التونی ( قده ) فی الوافیة / 79 ، فی شروط التمسّک بأصالة البراءة. 
 
ثم إنّه لا بأس بصرف الکلام إلى بیان قاعدة الضرر والضرار على نحو الاقتصار ، وتوضیح مدرکها وشرح مفادها ، وأیضاًح نسبتها مع الأدلة المثبتة للأحکام الثابتة للموضوعاًت بعناوینها الأولیة أو الثانویة ، وأنّ کانت اجنبیة عن مقاصد الرسالة ، إجابة لالتماس بعضٍ الأحبّة ، فأقول وبه أستعین :
إنّه قد استدل علیها بأخبار کثیرة :
منها : موثقة زرارة (1) ، عن أبی جعفر 7 : ( إن سمرة بن جندب کان له عذق فی حائط لرجل من الأنصار ، وکان منزل الانصاری بباب البستان ، وکان سمرة یمرّ إلى نخلته ولا یستأذن ، فکلمه الانصاری أن یستأذن إذا جاء فأبى سمرة ، فجاء الأنصاری إلى النبی 9 فشکا إلیه ، فأخبر بالخبر ، فأرسل رسول الله وأخبره بقول الانصاری وما شکاه ، فقال : إذا أردت الدخول فاستأذن ، فأبى ، فلما أبى فساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن یبیعه ، فقال : لک بها عذق فی الجنة ، فأبى أن یقبل ، فقال رسول الله 9 للأنصاری : اذهب فاقلعها وارم بها إلیه ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار ).
وفی روایة الحذّاء (2) عن أبی جعفر 7 مثل ذلک ، إلّا إنّه فیها بعد الاباء ( ما أراک یا سمرة إلّا مضاراً ، إذهب یا فلان فاقلعها وارم بها وجهه ) إلى غیر ذلک من الروایات الواردة فی قصة سمرة وغیرها (3). وهی کثیرة وقد ادعی (4) تواترها ، مع اختلافها لفظاً ومورداً ، فلیکن المراد به تواترها إجمالاً ، بمعنى
__________________
1 ـ التهذیب 7 : 146 ، الحدیث 36 من باب بیع الماء ، مع اختلاف لا یخل بالمقصود.
الکافی 5 : 292 ، الحدیث 2 من باب الضرار.
الفقیه 3 : 147 الحدیث 18 من باب المضاربة.
2 ـ الفقیه 3 : 59 الحدیث 9 الباب 44 حکم الحریم.
3 ـ الفقیه 3 : 45 الحدیث 2 الباب 36 الشفعة.
الکافی 5 : 280 الحدیث 4 باب الشفعة.
التهذیب 7 : 164 ، 727.
4 ـ أیضاًح الفوائد : فخر المحققین 2 : 48 کتاب الدین ، فصل التنازع.
 
القطع بصدور بعضها ، والانصاف إنّه لیس فی دعوى التواتر کذلک جزاف ، وهذا مع استناد المشهور إلیها موجب لکمال الوثوق بها وانجبار ضعفها ، مع أن بعضها موثقة ، فلا مجال للإشکال فیها من جهة سندها ، کما لا یخفى.
وأما دلالتها ، فالظاهر أن الضرر هو ما یقابل النفع ، من النقص فی النفس أو الطرف أو العرض أو المال ، تقابل العدم والملکة ، کما أن الأظهر أن یکون الضرار معنى الضرر جیء به تأکیداً ، کما یشهد به إطلاق المُضارّ على سمرة ، وحکی عن النهایة (1) لا فعل الاثنین ، وأنّ کان هو الأصل فی باب المفاعلة ، ولا الجزاء على الضرر لعدم تعاهده من باب المفاعلة ، وبالجملة لم یثبت له معنى آخر غیر الضرر.
کما أن الظاهر أن یکون ( لا ) لنفی الحقیقة ، کما هو الأصل فی هذا الترکیب حقیقةً أو ادعاءً ، کنایة عن نفی الآثار ، کما هو الظاهر من مثل : ( لا صلاة لجار المسجد إلّا فی المسجد ) (2) و ( یا أشباه الرجال ولا رجال ) (3) فإن قضیة البلاغة فی الکلام هو إرادة نفی الحقیقة ادعاء ، لا نفی الحکم أو الصفة ، کما لا یخفى.
ونفی الحقیقة ادعاءً بلحاظ الحکم أو الصفة غیر نفی أحدهما ابتداءً مجازاً فی التقدیر أو فی الکلمة ، مما لا یخفى على من له معرفة بالبلاغة.
وقد انقدح بذلک بُعد إرادة نفی الحکم الضرری (4) ، أو الضرر الغیر المتدارک (5) ، أو إرادة النهی من النفی جداً (6) ، ضرورة بشاعة استعمال الضرر
__________________
1 ـ النهایة لابن الاثیر 3 : 81 مادة ضرر. وفیها « الضرار : فعل الاثنین .... وقیل هما بمعنى ، وتکرارهما للتأکید ».
2 ـ دعائم الإسلام 1 : 148 فی ذکر المساجد.
3 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 27.
4 ـ التزم به الشیخ فی فرائد الأُصول / 314 فی الشرط الثّانی المحکی عن الفاضل التونی من شروط اصالة البراءة ، وکذا فی رسالة قاعدة لا ضرر المطبوعة فی المکاسب 373.
5 ـ ذهب إلیه الفاضل التونی (ره) ، الوافیة / 79 ، فی شروط التمسک بأصالة البراءة.
6 ـ اختاره السید میر فتاح ، العناوین / 198 ، العنوان العاشر. ومال إلیه شیخ الشریعة الاصفهانی ، 
 
وإرادة خصوص سبب من أسبابه ، أو خصوص الغیر المتدارک منه ، ومثله لو أُرید ذاک بنحو التقیید ، فإنّه وأنّ لم یکن ببعید ، إلّا إنّه بلا دلالة علیه غیر سدید ، وإرادة النهی من النفی وأنّ کان لیس بعزیز ، إلّا إنّه لم یعهد من مثل هذا الترکیب ، وعدم إمکان إرادة نفی الحقیقة حقیقة لا یکاد یکون قرینة على إرادة واحد منها ، بعد إمکان حمله على نفیها إدعاءً ، بل کان هو الغالب فی موارد استعماله.
ثم الحکم الذی أُرید نفیه بنفی الضرر هو الحکم الثابت للأفعال بعناوینها ، أو المتوهّم ثبوته لها کذلک فی حال الضرر لا الثابت له بعنوإنّه ، لوضوح إنّه العلّة للنفی ، ولا یکاد یکون الموضوع یمنع عن حکمه وینفیه بل یثبته ویقتضیه.
ومن هنا لا یلاحظ النسبة بین أدلّة نفیه وأدلّة الأحکام ، وتقدم أدلّته على أدلّتها ـ مع إنّها عموم من وجه ـ حیث إنّه یوفّق بینهما عرفاً ، بأن الثابت للعناوین الأولیّة إقتضائی ، یمنع عنه فعلاً ما عرض علیها من عنوان الضرر بأدلّته ، کما هو الحال فی التوفیق بین سائر الادلة المثبتة أو النافیة لحکم الأفعال بعناوینها الثانویة ، والادلة المتکفّلة لحکمها بعناوینها الأوّلیة.
نعم ربما یعکس الأمر فیما أحرز بوجه معتبر أن الحکم فی المورد لیس بنحو الاقتضاء ، بل بنحو العلّیة التامة.
وبالجملة الحکم الثابت بعنوان أوّلی :
تارة یکون بنحو الفعلیة مطلقاً ، أو بالإضافة إلى عارض دون عارض ، بدلالة لا یجوز الإغماض عنها بسبب دلیل حکم العارض المخالف له ، فیقدّم دلیل ذاک العنوان على دلیله.
وأُخرى یکون على نحو لو کانت هناک دلالة للزم الإغماض عنها بسببه عرفاً ، حیث کان اجتماعهما قرینة على إنّه بمجرد المقتضی ، وأنّ العارض مانع فعلّی. هذا
__________________
قاعدة لا ضرر ولا ضرار ، 44.  
ولو لم نقل بحکومة دلیله على دلیله ، لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله ، کما قیل (1).
ثم انقدح بذلک حال توارد دلیلی العارضین ، کدلیل نفی العسر ودلیل نفی الضرر مثلاً ، فیعامل معهما معاملة المتعارضین لو لم یکن من باب تزاحم المقتضیین ، وإلاّ فیقدّم ما کان مقتضیه أقوى وأنّ کان دلیل الآخر أرجح وأولى ، ولا یبعد أن الغالب فی توارد العارضین أن یکون من ذاک الباب ، بثبوت المقتضی فیهما مع تواردهما ، لا من باب التعارض ، لعدم ثبوته إلّا فی أحدهما ، کما لا یخفى ، هذا حال تعارض الضرر مع عنوان أولی أو ثانوی آخر.
وأما لو تعارض مع ضرر آخر ، فمجمل القول فیه أن الدوران إن کان بین ضرری شخص واحد أو إثنین ، فلا مسرح إلّا لاختیار أقلهما لو کان ، وإلاّ فهو مختار.
وأما لو کان بین ضرر نفسه وضرر غیره ، فالاظهر عدم لزوم تحمله الضرر ، ولو کان ضرر الآخر أکثر ، فإن نفیه یکون للمنة على الامة ، ولا منة على تحمّل الضرر ، لدفعه عن الآخر وأنّ کان أکثر.
نعم لو کان الضرر متوجهاً إلیه ، لیس له دفعه عن نفسه بإیراده على الآخر ، اللّهم إلّا أن یقال : إن نفی الضرر وأنّ کان للمنة ، إلّا إنّه بلحاظ نوع الأمة ، واختیار الأقلّ بلحاظ النوع منّة ، فتأمل.
__________________
1 ـ التزم الشیخ ( قده ) بحکومة دلیل لا ضرر على أدلة العناوین الأولیة ، فرائد الأُصول 315 ، فی الشرط الثّانی مما ذکره عن الفاضل التونی من شروط البراءة.  

 
فصل
فی الاستصحاب : وفی حجیته إثباتاً ونفیاً أقوال للاصحاب.
ولا یخفى أن عباراتهم فی تعریفه وأنّ کانت شتى ، إلّا إنّه تشیر إلى مفهوم واحد ومعنى فارد ، وهو الحکم ببقاء حکم أو موضوع ذی حکم شک فی بقائه :
إما من جهة بناءً العقلاء على ذلک فی أحکامهم العرفیة مطلقاً ، أو فی الجملة تعبداً ، أو للظن به الناشىء عن ملاحظة ثبوته سابقا.
وإما من جهة دلالة النص أو دعوى الإجماع علیه کذلک ، حسبما تأتی الإِشارة إلى ذلک مفصلاً.
ولا یخفى أن هذا المعنى هو القابل لأن یقع فیه النزاع والخلاف فی نفیه وإثباته مطلقاً أو فی الجملة ، وفی وجه ثبوته ، على أقوال.
ضرورة إنّه لو کان الاستصحاب هو نفس بناءً العقلاء على البقاء أو الظن به الناشىء مع العلم بثبوته ، لما تقابل فیه الأقوال ، ولما کان النفی والإِثبات واردین على مورد واحد بل موردین ، وتعریفه بما ینطبق على بعضها ، وأنّ کان ربما یوهم أن لا یکون هو الحکم بالبقاء بل ذاک الوجه ، إلّا إنّه حیث لم یکن بحد ولا برسم بل من قبیل شرح الاسم ، کما هو الحال فی التعریفات غالباً ، لم یکن له دلالة على إنّه نفس 
 
الوجه ، بل للاشارة إلیه من هذا الوجه ، ولذا لا وقع للاشکال على ما ذکر فی تعریفه بعدم الطرد أو العکس ، فإنّه لم یکن به إذا لم یکن بالحد أو الرسم بأس.
فانقدح أن ذکر تعریفات القوم له ، وما ذکر فیها من الإِشکال ، بلا حاصل وطول بلا طائل.
ثم لا یخفى أن البحث فی حجّیته (1) مسألة أصولیة ، حیث یبحث فیها لتمهید قاعدة تقع فی طریق استنباط الأحکام الفرعیة ، ولیس مفادها حکم العقل بلا واسطة ، وأنّ کان ینتهی إلیه ، کیف؟ وربما لا یکون مجرى الاستصحاب إلّا حکماً أصولیاً کالحجیة مثلاً ، هذا لو کان الاستصحاب عبارة عما ذکرنا.
وأما لو کان عبارة عن بناءً العقلاء على بقاء ما علم ثبوته ، أو الظن به الناشىء من ملاحظة ثبوته ، فلا إشکال فی کونه مسألة أُصولیة.
وکیف کان ، فقد ظهر مما ذکرنا فی تعریف اعتبارٍ أمرین فی مورده : القطع بثبوت شیء ، والشک فی بقائه ، ولا یکاد یکون الشک فی البقاء إلّا مع اتحاد القضیة المشکوکة والمتیقنة بحسب الموضوع والمحمول ، وهذا مما لا غبار علیه فی الموضوعاًت الخارجیة فی الجملة.
وأما الأحکام الشرعیة سواء کان مدرکها العقل أم النقل ، فیشکل حصوله فیها ، لإنّه لا یکاد یشک فی بقاء الحکم إلّا من جهة الشک فی بقاء موضوعه ، بسبب تغیر بعضٍ ما هو علیه مما احتمل دخله فیه حدوثاً أو بقاءً ، وإلاّ لما تخلف (2) الحکم عن موضوعه إلّا بنحو البداء بالمعنى المستحیل فی حقه تعالى ، ولذا کان النسخ بحسب الحقیقة دفعاً لا رفعاً.
__________________
1 ـ فی « ب » : حجیة.
2 ـ فی « ب » : لا یتخلف.
 
 
ویندفع هذا الإِشکال ، بأن الاتحاد فی القضیتین بحسبهما ، وأنّ کان مما لا محیص عنه فی جریإنّه ، إلّا إنّه لما کان الاتحاد بحسب نظر العرف کافیاً فی تحققه وفی صدق الحکم ببقاء ما شک فی بقائه ، وکان بعضٍ ما علیه الموضوع من الخصوصیات التی یقطع معها بثبوت الحکم له ، مما یعد بالنظر العرفی من حالاته ـ وأنّ کان واقعاً من قیوده ومقوماته ـ کان جریان الاستصحاب فی الأحکام الشرعیة الثابتة لموضوعاًتها عند الشک فیها ـ لأجل طروء انتفاء بعضٍ ما احتمل دخله فیها ، مما عد من حالاتها لا من مقوماتها ، بمکان من الإِمکان ، ضرورة [ صحة ] (1) إمکان دعوى بناءً العقلاء على البقاء تعبداً ، أو لکونه مظنوناً ولو نوعاً ، أو دعوى دلالة النص أو قیام الإجماع علیه قطعاً ، بلا تفاوت (2) فی ذلک بین کون دلیل الحکم نقلاً أو عقلاً.
أما الأوّل فواضح ، وأما الثّانی ، فلان الحکم الشرعی المستکشف به عند طروء انتفاء ما احتمل دخله فی موضوعه ، مما لا یرى مقوماً له ، کان مشکوک البقاء عرفاً ، لاحتمال عدم دخله فیه واقعاً ، وأنّ کان لا حکم للعقل بدونه قطعاً.
إن قلت : کیف هذا؟ مع الملازمة بین الحکمین.
قلت : ذلک لأن الملازمة إنّما تکون فی مقام الإِثبات والاستکشاف لا فی مقام الثبوت ، فعدم استقلال العقل إلّا فی حال غیر ملازم لعدم حکم الشرع فی غیر تلک الحال ، وذلک لاحتمال أن یکون ما هو ملاک حکم الشرع من المصلحة أو المفسدة التی هی ملاک حکم العقل ، کان على حاله فی کلتا الحالتین ، وأنّ لم یدرکه إلّا فی إحداهما ؛ لاحتمال عدم دخل تلک الحالة فیه ، أو احتمال أن یکون معه ملاک آخر بلا دخل لها فیه أصلاً ، وأنّ کان لها دخل فیما اطلع علیه من الملاک.
وبالجملة : حکم الشرع إنّما یتبع ما هو ملاک حکم العقل واقعاً ، لا ما هو
__________________
1 ـ أثبتناها من « ب ».
2 ـ إشارة إلى تضعیف تفصیل الشیخ ( قده ) ، فرائد الأصول / 325. 
 
مناط حکمه فعلاً ، وموضوع حکمه کذلک مما لا یکاد یتطرق إلیه الإِهمال والإِجمال ، مع تطرقه إلى ما هو موضوع حکمه شأناً ، وهو ما قام به ملاک حکمه واقعاً ، فرب خصوصیة لها دخل فی استقلاله مع احتمال عدم دخله ، فبدونها لا استقلال له بشیء قطعاً ، مع احتمال بقاء ملاکه واقعا. ومعه یحتمل بقاء حکم الشرع جداً لدورإنّه معه وجوداً و عدماً ، فافهم وتأملّ جیداً.
ثم إنّه لا یخفى اختلاف آراء الأصحاب فی حجیة الاستصحاب مطلقاً ، وعدم حجیته کذلک ، والتفصیل بین الموضوعاًت والأحکام ، أو بین ما کان الشک فی الرافع وما کان فی المقتضی ، إلى غیر ذلک من التفاصیل الکثیرة ، على أقوال شتى لا یهمنا نقلها ونقل ما ذکر من الاستدلال علیها. وإنما المهمّ الاستدلال على ما هو المختار منها ، وهو الحجیة مطلقاً ، على نحو یظهر بطلان سائرها ، فقد استدل علیه بوجوه :
الوجه الأوّل : استقرار بناءً العقلاء من الإانسان بل ذوی الشعور من کافة أنواع الحیوان على العمل على طبق الحالة السابقة ، وحیث لم یردع عنه الشارع کان ماضیاً.
وفیه : أولاً منع استقرار بنائهم على ذلک تعبداً ، بل امّا رجاءً واحتیاطاً ، أو اطمئناناً بالبقاء ، أو ظنا ولو نوعا ، أو غفلةً کما هو الحال فی سائر الحیوانات دائماً وفی الإانسان أحیاناً.
وثانیاً : سلمنا ذلک ، لکنه لم یعلم أن الشارع به راضٍ وهو عنده ماضٍ ، ویکفی فی الردع عن مثله ما دلّ من الکتاب والسنة على النهی عن اتباع غیر العلم ، وما دلّ على البراءة أو الاحتیاط فی الشبهات ، فلا وجه لاتباع هذا البناء فیما لابد فی اتباعه من الدلالة على إمضائه ، فتأمل جیداً.  

 
الوجه الثّانی (1) : إن الثبوت فی السابق موجب للظن به فی اللاحق.
وفیه : منع اقتضاء مجرد الثبوت للظن بالبقاء فعلاً ولا نوعاً ، فإنّه لا وجه له أصلاً إلّا کون الغالب فیما ثبت أن یدوم مع إمکان أن لا یدوم ، وهو غیر معلوم ، ولو سلّم ، فلا دلیل على اعتباره بالخصوص ، مع نهوض الحجة على عدم اعتباره بالعموم.  الوجه الثالث : دعوى الإجماع علیه ، کما عن المبادیء (2) حیث قال :
( الاستصحاب حجة ، لاجماع الفقهاء على إنّه متى حصل حکم ، ثم وقع الشک فی إنّه طرأ ما یزیله أم لا؟ وجب الحکم ببقائه على ما کان أولاً ، ولو لا القول بأن الاستصحاب حجة ، لکان ترجیحاً لاحد طرفی الممکن من غیر ) مرجح ، انتهى. وقد نقل عن غیره (3) أیضاً.
وفیه : إن تحصیل الإجماع فی مثل هذه المسألة مما له مبان مختلفة فی غایة الإِشکال ، ولو مع الاتفاق ، فضلاً عما إذا لم یکن وکان مع الخلاف من المعظم ، حیث ذهبوا إلى عدم حجیته مطلقاً أو فی الجملة ، ونقله موهون جداً لذلک ، ولو قیل بحجیته لولا ذلک.  الوجه الرابع : وهو العمدة فی الباب ، الإخبار المستفیضة.
منها : صحیحة زرارة (4) ( قال : قلت له : الرجل ینام وهو على وضوء ،
__________________
1 ـ راجع شرح مختصر الأصول / 453.
2 ـ مبادىء الأصول / 250 ، ونظیر هذا ما عن النهایة على ما حکاه الشیخ ـ 1 ـ فرائد الأصول / 329.
3 ـ راجع معالم الأُصول / 231 ، الدلیل الرابع.
4 ـ التهذیب 1 / 8 الباب 1 ح 11 ، باختلاف یسیر فی اللفظ. 
 
أیوجب الخفقة والخفقتان علیه الوضوء؟ قال : یا زرارة ، قد تنام العین ولا ینام القلب والأُذن ، وإذا نامت العین والاذن والقلب فقد وجب الوضوء ، قلت : فإن حُرّک فی جنبه شیء وهو لا یعلم ، قال : لا ، حتى یستیقن إنّه قد نام ، حتى یجیء من ذلک أمر بین ، وإلاّ فإنّه على یقین من وضوئه ، ولا ینقض الیقین أبداً بالشک ، ولکنه ینقضه بیقین آخر ).
وهذه الروایة وأنّ کانت مضمرة إلّا أن إضمارها لا یضر باعتبارها ، حیث کان مضمرها مثل زرارة ، وهو ممن لا یکاد یستفتی من غیر الامام ـ 7 ـ لا سیما مع هذا الاهتمام.
وتقریب الاستدلال بها إنّه لا ریب فی ظهور قوله 7 : ( وإلاّ فإنّه على یقین .. إلى آخره ) عرفاً فی النهی عن نقض الیقین بشیء بالشک فیه ، وإنّه 7 بصدد بیان ما هو علّة الجزاء المستفاد من قوله 7 : ( لا ) فی جواب : ( فإن حرک فی جنبه ... إلى آخره ) ، وهو اندراج الیقین والشک فی مورد السؤال فی القضیة الکلیة الارتکازیة الغیر المختصة بباب دون باب ؛ واحتمال أن یکون الجزاء هو قوله : ( فإنّه على یقین ... إلى آخره ) غیر سدید ، فإنّه لا یصحّ إلّا بارادة لزوم العمل على طبق یقینه ، وهو إلى الغایة بعید ، وأبعد منه کون الجزاء قوله : ( لا ینقض .. إلى آخره ) وقد ذکر : ( فإنّه على یقین ) للتمهید.
وقد انقدح بما ذکرنا ضعف احتمال اختصاص قضیة : ( لا تنقض ... إلى آخره ) بالیقین والشک بباب الوضوء جداً ، فإنّه ینافیه ظهور التعلیل فی إنّه بأمر ارتکازی لا تعبدی قطعاً ، ویؤیده تعلیل الحکم بالمضی مع الشک فی غیر الوضوء فی غیر هذه الروایة بهذه القضیة أو ما یرادفها ، فتأمل جیداً. هذا.
مع إنّه لا موجب لاحتماله إلّا احتمال کون اللام فی الیقین للعهد ، إشارة إلى الیقین فی ( فإنّه على یقین من وضوئه ) مع أن الظاهر إنّه للجنس ، کما هو 
 
الأصل فیه ، وسبق : ( فإنّه على یقین ... إلى آخره ) لا یکون قرینة علیه ، مع کمال الملاءمة مع الجنس أیضاً ، فافهم.
مع إنّه غیر ظاهر فی الیقین بالوضوء ، لقوة احتمال أن یکون ( من وضوئه ) متعلقاً بالظرف لا ب‍ ( یقین ) ، وکان المعنى : فإنّه کان من طرف وضوئه على یقین ، وعلیه لا یکون الاوسط (1) إلّا الیقین ، لا الیقین بالوضوء ، کما لا یخفى على المتأمل.
وبالجملة : لا یکاد یشک فی ظهور القضیة فی عموم الیقین والشک ، خصوصاً بعد ملاحظة تطبیقها فی الإخبار على غیر الوضوء أیضاً.
ثم لا یخفى حسن اسناد النقض ـ وهو ضد الإبرام ـ إلى الیقین ، ولو کان متعلقاً بما لیس فیه اقتضاء للبقاء والاستمرار ، لما یتخیل فیه من الاستحکام بخلاف الظن ، فإنّه یظن إنّه لیس فیه إبرام واستحکام وأنّ کان متعلقاً بما فیه اقتضاء ذلک ، وإلاّ لصحّ أن یسند إلى نفس ما فیه المقتضی له ، مع رکاکة مثل ( نقضت الحجر من مکإنّه ) ولما صحّ أن یقال : ( انتقض الیقین باشتعال السراج ) فیما إذا شک فی بقائه للشک فی استعداده ، مع بداهة صحته وحسنه.
وبالجملة : لا یکاد یشک فی أن الیقین کالبیعة والعهد إنّما یکون حسن إسناد النقض إلیه بملاحظته لا بملاحظة متعلقة ، فلا موجب لارادة ما هو أقرب إلى الأمر المبرم ، أو أشبه بالمتین المستحکم مما فیه اقتضاء البقاء لقاعدة ( إذا تعذرت الحقیقة فأقرب المجازات ) بعد تعذر إرادة مثل ذاک الأمر مما یصحّ إسناد النقض إلیه حقیقة.
فإن قلت : نعم ، ولکنه حیث لا انتقاض للیقین فی باب الاستصحاب حقیقة ، فلو لم یکن هناک اقتضاء البقاء فی المتیقن لما صحّ إسناد الانتقاض إلیه بوجهٍ
__________________
1 ـ کذا صححه فی « ب » وفی « أ » : الأصغر. 
 
ولو مجازاً ، بخلاف ما إذا کان هناک ، فإنّه وأنّ لم یکن معه أیضاً انتقاض حقیقة إلّا إنّه صحّ إسناده إلیه مجازاً ، فإن الیقین معه کإنّه تعلق بأمر مستمّر مستحکم قد انحلَّ وانفصم بسبب الشک فیه ، من جهة الشک فی رافعه.
قلت : الظاهر أن وجه الإِسناد هو لحاظ اتحاد متعلقی الیقین والشک ذاتاً ، وعدم ملاحظة تعددهما زماناً ، وهو کافٍ عرفاً فی صحة إسناد النقض إلیه واستعارته له ، بلا تفاوت فی ذلک أصلاً فی نظر أهل العرف ، بین ما کان هناک اقتضاء البقاء وما لم یکن ، وکونه مع المقتضی أقرب بالانتقاض وأشبه لا یقتضی تعیینه لأجل قاعدة ( إذا تعذرت الحقیقة ) ، فإن الاعتبار فی الاقربیة إنّما هو بنظر العرف لا الاعتبار ، وقد عرفت عدم التفاوت بحسب نظر أهله ، هذا کله فی المادة.
وأما الهیئة ، فلا محالة یکون المراد منها النهی عن الانتقاض بحسب البناء والعمل لا الحقیقة ، لعدم کون الانتقاض بحسبها تحت الاختیار ، سواء کان متعلقاً بالیقین ـ کما هو ظاهر القضیة ـ أو بالمتیقن ، أو بآثار الیقین بناءً على التصرف فیها بالتجوز أو الاضمار ، بداهة إنّه کما لا یتعلق النقض الاختیاری القابل لورود النهی علیه بنفس الیقین ، کذلک لا یتعلق بما کان على یقین منه أو أحکام الیقین ، فلا یکاد (1) یجدی التصرف بذلک فی بقاء الصیغة على حقیقتها ، فلا مجوّز له فضلاً عن الملزِم ، کما توهّم.
لا یقال : لا محیص عنه ، فإن النهی عن النقض بحسب العمل لا یکاد یراد بالنسبة إلى الیقین وآثاره ، لمنافاته مع المورد.
فإنّه یقال : إنّما یلزم لو کان الیقین ملحوظاً بنفسه وبالنظر الاستقلالی ،
__________________
1 ـ فیه تعریض بالشیخ 1 فرائد الأُصول / 336 ، عند قوله : ثم لا یتوهم الاحتیاج ... الخ. 
 
لا ما إذا کان ملحوظاً بنحو المرآتیة بالنظر الآلی ، کما هو الظاهر فی مثل قضیة ( لا تنقض الیقین ) حیث تکون ظاهرة عرفاً فی إنّها کنایة عن لزوم البناء والعمل ، بالتزام حکم مماثل للمتیقن تعبداً إذا کان حکماً ، ولحکمه إذا کان موضوعاً ، لا عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس الیقین بالالتزام بحکم مماثل لحکمه شرعاً ، وذلک لسرایة الآلیة والمرآتیة من الیقین الخارجی إلى مفهومه الکلّی ، فیؤخذ فی موضوع الحکم فی مقام بیان حکمه ، مع عدم دخله فیه أصلاً ، کما ربما یؤخذ فیما له دخل فیه ، أو تمام الدخل ، فافهم.
ثم إنّه حیث کان کلّ من الحکم الشرعی وموضوعه مع الشک قابلاً للتنزیل بلا تصرف وتأویل ، غایة الأمر تنزیل الموضوع بجعل مماثل حکمه ، وتنزیل الحکم بجعل مثله ـ کما أشیر إلیه آنفاً ـ کان قضیة ( لا تنقض ) ظاهرة فی اعتبارٍ الاستصحاب فی الشبهات الحکمیة والموضوعیة ، واختصاص المورد بالاخیرة لا یوجب تخصیصها بها ، خصوصاً بعد ملاحظة إنّها قضیة کلیّة ارتکازیة ، قد أتی بها فی غیر مورد لأجل الاستدلال بها على حکم المورد ، فتأمّل.
ومنها : صحیحة أُخرى لزرارة (1) : ( قال : قلت له : أصاب ثوبی دم رعاف أو غیره أو شیء من المنی ، فعلَّمت أثره إلى أن أصیب له الماء ، فحضرت الصلاة ، ونسیت أن بثوبی شیئاً وصلّیت ، ثم إنی ذکرت بعد ذلک ، قال : تعید الصلاة وتغسله ، قلت : فإن لم أکن رأیت موضعه ، وعلمت إنّه قد أصابه ، فطلبته ولم أقدر علیه ، فلما صلیت وجدته ، قال 7 : تغسله وتعید ، قلت : فإن ظننت إنّه قد أصابه ولم أتیقن ذلک ، فنظرت فلم أر شیئاً فصلیت ، فرأیت فیه ، قال : تغسله ولا تعید الصلاة ، قلت : لم ذلک؟
__________________
1 ـ تهذیب الأحکام 1 : 421 الباب 22 ، الحدیث 8. 
 
قال : لانک کنت على یقین من طهارتک فشککت ، فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک أبداً ، قلت : فإنی قد علمت إنّه قد أصابه ، ولم أدر أین هو ، فأغسله؟ قال : تغسل من ثوبک الناحیة التی ترى إنّه قد أصابها ، حتى تکون على یقین من طهارتک ، قلت : فهل علی إن شککت فی إنّه أصابه شیء أن أنظر فیه؟ قال : لا ولکنک إنّما ترید أن تذهب الشک الذی وقع فی نفسک ، قلت : إن رأیته فی ثوبی وأنا فی الصلاة ، قال : تنقض الصلاة وتعید ، إذا شککت فی موضع منه ثم رأیته ، وأنّ لم تشک ثم رأیته رطباً ، قطعت الصلاة وغسلته ، ثم بنیت على الصلاة ؛ لانک لا تدری لعله شیء أوقع علیک ، فلیس ینبغی لک أن تنقض الیقین بالشک.
وقد ظهر مما ذکرنا فی الصحیحة الأولى تقریب الاستدلال بقوله : ( فلیس ینبغی أن تنقض الیقین بالشک ) فی کلاّ الموردین ، ولا نُعید.
نعم دلالته فی المورد الأوّل على الاستصحاب مبنی على أن یکون المراد من الیقین فی قوله 7 : ( لانک کنت على یقین من طهارتک ) الیقین بالطهارة قبل ظن الإصابة کما هو الظاهر ، فإنّه لو کان المراد منه الیقین الحاصل بالنظر والفحص بعده الزائل بالرؤیة بعد الصلاة ، کان مفاد قاعدة الیقین ، کما لا یخفى.
ثم إنّه أشکل على الروایة ، بأن الإِعادة بعد انکشاف وقوع الصلاة [ فی النجاسة ] (1) لیست نقضاً للیقین بالطهارة بالشک فیها ، بل بالیقین بارتفاعها ، فکیف یصحّ أن یعلل عدم الإِعادة بإنّها نقض الیقین بالشک؟
نعم إنّما یصحّ أن یعلل به جواز الدخول فی الصلاة ، کما لا یخفى.
ولا یکاد یمکن التفصی عن هذا الإِشکال إلّا بأن یقال : إن الشرط فی الصلاة فعلاً
__________________
1 ـ اثبتنا الزیادة من « ب ». 
 
حین الالتفات إلى الطهارة هو إحرازها ، ولو بأصل أو قاعدة لا نفسها ، فیکون قضیة استصحاب الطهارة حال الصلاة عدم إعادتها ولو انکشف وقوعها فی النجاسة بعدها ، کما أن إعادتها بعد الکشف یکشف عن جواز النقض وعدم حجیة الاستصحاب حالها ، کما لا یخفى ، فتأمل جیداً.
لا یقال : لا مجال حینئذ لاستصحاب الطهارة فإنّها إذا لم تکن شرطاً لم تکن موضوعة لحکم مع إنّها لیست بحکم (1) ، ولا محیص فی الاستصحاب عن کون المستصحب حکماً أو موضوعاً لحکم.
فإنّه یقال : إن الطهارة وأنّ لم تکن شرطاً فعلاً ، إلّا إنّه غیر منعزلة عن الشرطیّة رأساً ، بل هی شرط واقعی اقتضائی ، کما هو قضیة التوفیق بین بعضٍ الإطلاقاًت ومثل هذا الخطاب ، هذا مع کفایة کونها من قیود الشرط ، حیث إنّه کان إحرازها بخصوصها لا غیرها شرطاً. 
لا یقال : سلمنا ذلک ، لکن قضیته أن یکون علّة عدم الإِعادة حینئذ ، بعد انکشاف وقوع الصلاة فی النجاسة ، هو إحراز الطهارة حالها باستصحابها ، لا الطهارة المحرزة بالاستصحاب ، مع أن قضیة التعلیل أن تکون العلة له هی نفسها لا إحرازها ، ضرورة أن نتیجة قوله : ( لأنک کنت على یقین ... إلى آخره ) ، إنّه على الطهارة لا إنّه مستصحبها ، کما لا یخفى.
فإنّه یقال : نعم ، ولکن التعلیل إنّما هو بلحاظ حال قبل انکشاف الحال ، لنکتة التنبیه على حجیة الاستصحاب ، وإنّه کان هناک استصحاب مع وضوح استلزام ذلک لأن یکون المجدی بعد الانکشاف ، هو ذاک الاستصحاب لا الطهارة ، وإلاّ لما کانت الإِعادة نقضاً ، کما عرفت فی الإشکال.
__________________
1 ـ هذا ما أثبتاه من « ب » المصححة ، وفی « أ » : الضمائر کلها مذکرة. 
 
ثم إنّه لا یکاد یصحّ التعلیل ، لو قیل باقتضاء الأمر الظاهری للإِجزاء ، کما قیل (1) ، ضرورة أن العلة علیه إنّما هو اقتضاء ذاک الخطاب الظاهری حال الصلاة للإِجزاء وعدم إعادتها ، لا لزوم النقض من الإِعادة کما لا یخفى ، اللهم إلّا أن یقال : إن التعلیل به إنّما هو بملاحظة ضمیمة اقتضاء الأمر الظاهری للإِجزاء ، بتقریب أن الإِعادة لو قیل بوجوبها کانت موجبة لنقض الیقین بالشک فی الطهارة قبل الانکشاف وعدم حرمته شرعاً ، وإلاّ للزم عدم اقتضاء ذاک الأمر له ، کما لا یخفى ، مع اقتضائه شرعاً أو عقلاً ، فتأمل (2).
ولعل ذلک مراد من قال (3) بدلالة الروایة على إجزاء الأمر الظاهری.
هذا غایة ما یمکن أن یقال فی توجیه التعلیل ، مع إنّه لا یکاد یوجب الإِشکال فیه والعجزُ عن التفصی عنه ـ إشکالاً فی دلالة الروایة على الاستصحاب ، فإن لازم على کلّ حال ، کان مفاده قاعدته أو قاعدة الیقین ، مع بداهة عدم خروجه منهما ، فتأمل جیداً.
ومنها : صحیحة ثالثة لزرارة (4) : ( وإذا لم یدر فی ثلاثٍ هو أو فی أربع ، وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إلیها أُخرى ولا شیء علیه ، ولا ینقض الیقین بالشک ، ولا یدخل الشک فی الیقین ، ولا یخلط أحدهما بالآخر ، ولکنه ینقض الشک بالیقین ، ویتمّ على الیقین فیبنى علیه ، ولا یعتدّ بالشک فی حال من الحالات ).
والاستدلال بها على الاستصحاب مبنیٌّ على إرادة الیقین بعدم الإِتیان
__________________
1 ـ راجع فرائد الأصول / 331.
2 ـ وجه التأمل أن اقتضاء الأمر الظاهری للإِجزاء لیس بذاک الوضوح ، کی یحسن بملاحظته التعلیل بلزوم النقض من الإِعادة ، کما لا یخفى ، منه ( 1 ) ، أثبتنا هذه التعلیقة من « أ و ب ».
3 ـ کما عن بعضٍ مشایخ الشیخ الانصاری.
4 ـ الکافی : 3 / 352 ، الحدیث 3. 
 
بالرکعة الرابعة سابقاً والشک فی إتیإنّها.
وقد أشکل (1) بعدم إمکان إرادة ذلک على مذهب الخاصة ، ضرورة أنّ قضیته إضافة رکعة أُخرى موصولة ، والمذهب قد استقرّ على إضافة رکعة بعد التسلیم مفصولة ، وعلى هذا یکون المراد بالیقین الیقین بالفراغ ، بما علّمه الإمام 7 من الاحتیاط بالبناء على الأکثر ، والإِتیان بالمشکوک بعد التسلیم مفصولة.
ویمکن ذبه (2) بأنَّ الاحتیاط کذلک لا یأبى عن إرادة الیقین بعدم الرکعة المشکوکة ، بل کان أصل الإِتیان بها باقتضائه ، غایة الأمر إتیإنّها مفصولة ینافی إطلاق النقض ، وقد قام الدلیل على التقیید فی الشک فی الرابعة وغیره ، وأنّ المشکوکة لا بدّ أن یؤتى بها مفصولةً ، فافهم.
وربّما أُشکل أیضاً ، بإنّه لو سلّم دلالتها على الاستصحاب کانت من الأخبار الخاصة الدالة علیه فی خصوص المورد ، لا العامة لغیر مورد ، ضرورة ظهور الفقرات فی کونها مبنیّة للفاعل ، ومرجع الضمیر فیها هو المصلّی الشاک.
وإلغاء خصوصیة المورد لیس بذاک الوضوح ، وأنّ کان یؤیّده تطبیق قضیّة ( لا تنقض الیقین ) وما یقاربها على غیر مورد.
بل دعوى أن الظاهر من نفس القضیة هو أنّ مناط حرمة النقض إنّما یکون لأجل ما فی الیقین والشک ، لا لما فی المورد من الخصوصیّة ، وأنّ مثل الیقین لا ینقض بمثل الشک ، غیر بعیدة.
ومنها قوله (3) : ( من کان على یقین فأصابه شک فلیمض على
__________________
1 ـ المستشکل هو الشیخ الانصاری 1 فرائد الأصول 331.
2 ـ الصحیح ما أثبتناه خلافاً لما فی النسخ.
3 ـ الخصال ، 619. 
 
یقینه ، فإن الشک لا ینقض الیقین ) أو ( فإن الیقین لا یدفع بالشک ) (1).
وهو وأنّ کان یحتمل قاعدة الیقین لظهوره فی اختلاف زمان الوصفین ، وإنما یکون ذلک فی القاعدة دون الاستصحاب ضرورة إمکان اتّحاد زمانهما ، إلّا أن المتداول فی التعبیر عن مورده هو مثل هذه العبارة ، ولعله بملاحظة اختلاف زمان الموصوفین وسرایته إلى الوصفین ، لما بین الیقین والمتیقن من نحوٍ من الاتّحاد ، فافهم.
هذا مع وضوح أن قوله : ( فإن الشک لا ینقض ... إلى آخره ). هی القضیة المرتکزة الواردة مورد الاستصحاب فی غیر واحدٍ من أخبار الباب (2).
ومنها : خبر الصفار (3) ، عن علی بن محمد القاسانی ، ( قال : کتبت إلیه ـ وأنا بالمدینة ـ عن الیوم الذی یشک فیه من رمضان ، هل یصام أم لا؟ فکتب : الیقین لا یدخل فیه الشک ، صم للرؤیة وأفطر للرؤیة ) حیث دلّ على أن الیقین ب‍ ( شعبان ) (4) لا یکون مدخولاً بالشک فی بقائه وزواله بدخول شهر رمضان ، ویتفرع [ علیه ] (5) عدم وجوب الصوم إلّا بدخول شهر رمضان.
وربما یقال : إن مراجعة الأخبار الواردة فی یوم الشک یشرف القطع بأن المراد بالیقین هو الیقین بدخول شهر رمضان ، وإنّه لابد فی وجوب الصوم ووجوب الافطار من الیقین بدخول شهر رمضان وخروجه ، وأین هذا من الاستصحاب؟ فراجع ما عقد فی الوسائل (6) لذلک من الباب تجده شاهداً
__________________
1 ـ الإِرشاد ، 159.
2 ـ جامع أحادیث الشیعة 2 / 384 ، الباب 12 من أبواب ما ینقض الوضوء وما لا ینقض.
3 ـ تهذیب الأحکام 4 / 159 ، الباب 41 علامة اول شهر رمضان وآخره.
4 ـ فی نسختی « أ » و « ب » بالشعبان.
5 ـ زیادة تقتضیها العبارة.
6 ـ وسائل الشیعة 7 / 182 الباب 3 من أبواب أحکام شهر رمضان.  

 
علیه.
ومنها : قوله 7 : ( کلّ شیء طاهر حتى تعلم إنّه قذر ) (1) وقوله 7 : ( الماء کله طاهر حتى تعلم إنّه نجس ) (2) وقوله 7 : ( کلّ شیء حلال حتى تعرف إنّه حرام ) (3).
وتقریب دلالة مثل هذه الأخبار على الاستصحاب أن یقال : إنّ الغایة فیها إنّما هو لبیان استمرار ما حکم على الموضوع واقعاً من الطهارة والحلیة ظاهراً ، ما لم یعلم بطروء ضدّه أو نقیضه ، لا لتحدید الموضوع ، کی یکون الحکم بهما قاعدة مضروبة لما شک فی طهارته أو حلّیته ، وذلک لظهور المغیّا فیها فی بیان الحکم للأشیاء بعناوینها ، لا بما هی مشکوکة الحکم ، کما لا یخفى ؛ فهو وأنّ لم یکن له بنفسه مساسٌ بذیل القاعدة ولا الاستصحاب إلّا إنّه بغایته دلّ على الاستصحاب ، حیث إنّها ظاهرة فی استمرار ذاک الحکم الواقعی ظاهراً ما لم یعلم (4) بطروء ضدّه أو نقیضه ، کما إنّه لو صار مغیّاً لغایة ، مثل الملاقاة بالنجاسة أو ما یوجب الحرمة ، لدلّ على استمرار ذاک الحکم واقعاً ، ولم یکن له حینئذ بنفسه ولا بغایته دلالة على الاستصحاب.
ولا یخفى إنّه لا یلزم على ذلک استعمال اللفظ فی معنیین أصلاً ، وإنما یلزم لو جعلت الغایة مع کونها من حدود الموضوع وقیوده غایة لاستمرار حکمه ، لیدل على القاعدة والاستصحاب من غیر تعرض لبیان الحکم الواقعی للاشیاء أصلاً ، مع وضوح ظهور مثل ( کلّ شیء حلال ، أو طاهرٌ ) فی إنّه لبیان حکم الأشیاء بعناوینها الأولّیة ، وهکذا ( الماء کله طاهر ) ، وظهور الغایة فی کونها حداً للحکم لا لموضوعه ، کما لا یخفى ، فتأمل جیّداً.
__________________
1 ـ المقنع / 5 ، الهدایة ، 13 ، الباب 11 ، مع اختلاف فی الالفاظ.
2 ـ الکافی 3 / ص 1 وفیه الماء کله طاهر حتى یعلم إنّه قذر.
3 ـ الکافی : 5 / 313 الحدیث 40 باب النوادر من کتاب المعیشة مع اختلاف یسیر.
4 ـ فی « أ » : ما لم یعلم بارتفاعه لطروء ضده. 
 
ولا یذهب علیک أنّه بضمیمة عدم القول بالفصل قطعاً بین الحلّیة والطهارة وبین سائر الأحکام ، لعم الدلیل وتمّ.
ثم لا یخفى أن ذیل موثقة عمار (1) : ( فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فلیس علیک ) یؤید ما استظهرنا منها ، من کون الحکم المغیّا واقعیاً ثابتاً للشیء بعنوإنّه ، لا ظاهریاً ثابتاً له بما هو مشتبه ، لظهوره فی إنّه متفرع على الغایة وحدها ، وإنّه بیان لها وحدها ، منطوقها ومفهومها ، لا لها مع المغیّا ، کما لا یخفى على المتأمل.
ثم إنک إذا حقّقت ما تلونا علیک مما هو مفاد الأخبار ، فلا حاجة فی إطالة الکلام فی بیان سائر الأقوال ، والنقض والإبرام فیما ذکر لها من الاستدلال.
ولا بأس بصرفه إلى تحقیق حال الوضع ، وإنّه حکم مستقل بالجعل کالتکلیف ، أو منتزع عنه وتابع له فی الجعل ، أو فیه تفصیل ، حتى یظهر حال ما ذکر ها هنا بین التکلیف والوضع من التفصیل.
فنقول وبالله الاستعانة :
لا خلاف کما لا إشکال فی اختلاف التکلیف والوضع مفهوماً ، واختلافهما فی الجملة مورداً ، لبداهة ما بین مفهوم السببیة أو الشرطیّة ومفهوم مثل الإِیجاب أو الاستحباب من المخالفة والمباینة.
کما لا ینبغی النزاع فی صحة تقسیم الحکم الشرعی إلى التکلیفی والوضعی ، بداهة أن الحکم وأنّ لم یصحّ تقسیمه إلیهما ببعض معانیه ولم یکد یصحّ إطلاقه على الوضع ، إلّا أن صحة تقسیمه بالبعض الآخر إلیهما وصحة إطلاقه علیه بهذا المعنى ، مما (2) لا یکاد ینکر ، کما لا یخفى ، ویشهد به کثرة
__________________
1 ـ التهذیب 1 / 285 : الباب 12 ، الحدیث 119.
2 ـ فی « أ » : کان مما لا یکاد ینکر. 
 
إطلاق الحکم علیه فی کلماتهم ، والالتزام بالتجوز فیه ، کما ترى.
وکذا لا وقع للنزاع فی إنّه محصور فی أُمور مخصوصة ، کالشرطیة والسببیة والمانعیة ـ کما هو المحکی عن العلامة ـ أو مع زیادة العلّیة والعلامیة ، أو مع زیادة الصحة والبطلان ، والعزیمة والرخصة ، أو زیادة غیر ذلک ـ کما هو المحکی عن غیره (1) ـ أو لیس بمحصور ، بل کلما لیس بتکلیف مما له دخل فیه أو فی متعلقه وموضوعه ، أو لم یکن له دخل مما أطلق علیه الحکم فی کلماتهم ؛ ضرورة إنّه لا وجه للتخصیص بها بعد کثرة إطلاق الحکم فی الکلمات على غیرها ، مع إنّه لا تکاد تظهر ثمرة مهمة علمیة أو عملیة للنزاع فی ذلک ، وإنما المهمّ فی النزاع هو أن الوضع کالتکلیف فی إنّه مجعول تشریعاً بحیث یصحّ انتزاعه بمجرد إنشائه ، أو غیر مجعول کذلک ، بل إنّما هو منتزع عن التکلیف ومجعول بتبعه وبجعله.
والتحقیق أن ما عُدّ من الوضع على أنحاء.
منها : ما لا یکاد یتطرّق إلیه الجعل تشریعاً أصلاً ، لا استقلالاً ولا تبعاً ، وأنّ کان مجعولاً تکویناً عرضاً بعین جعل موضوعه کذلک.
ومنها : ما لا یکاد یتطرّق إلیه الجعل التشریعی إلّا تبعاً للتکلیف.
ومنها : ما یمکن فیه الجعل استقلالاً بإنشائه ، وتبعاً للتکلیف بکونه منشأً لانتزاعه ، وأنّ کان الصحیح انتزاعه من إنشائه وجعله ، وکون التکلیف من آثاره وأحکامه ، على ما یأتی الإِشارة إلیه.
أما النحو الأوّل : فهو کالسببیّة والشرطیّة والمانعیّة والرافعیة لما هو
__________________
1 ـ الآمدی ، الأحکام فی أُصول الأحکام / 85 ، فی حقیقة الحکم الشرعی وأقسامه. 
 
سبب التکلیف وشرطه ومانعه ورافعه ، حیث إنّه لا یکاد یعقل انتزاع هذه العناوین لها من التکلیف المتأخّر عنها ذاتاً ، حدوثاً أو ارتفاعاً ، کما أنّ اتصافها بها لیس إلّا لأجل ما علیها من الخصوصیة المستدعیة لذلک تکویناً ، للزوم أن یکون فی العلّة بأجزائها من ربط (1) خاص ، به کانت مؤثرة (2) فی معلولها ، لا فی غیره ، ولا غیرها فیه ، وإلاّ لزم أن یکون کلّ شیء مؤثراً فی کلّ شیء ، وتلک الخصوصیة لا یکاد یوجد فیها بمجرد إنشاءً مفاهیم العناوین ، ومثل قول : دلوک الشّمس سبب لوجوب الصلاة إنشاءً لا إخباراً ، ضرورة بقاء الدلوک على ما هو علیه قبل إنشاءً السببیّة له ، من کونه واجداً لخصوصیةٍ مقتضیة لوجوبها أو فاقداً لها ، وأنّ الصلاة لا تکاد تکون واجبةً عند الدلوک ما لم یکن هناک ما یدعو إلى وجوبها ، ومعه تکون واجبة لا محالة وأنّ لم ینشأ السببیة للدُّلوک أصلاً.
ومنه انقدح أیضاً ، عدم صحة انتزاع السببیّة له حقیقة من إیجاب الصلاة عنده ، لعدم اتصافه بها بذلک ضرورة.
نعم لا بأس باتّصافه بها عنایة ، واطلاق السبب علیه مجازاً ، کما لا بأس بأن یُعَبِّر عن إنشاءً وجوب الصّلاة عند الدلوک ـ مثلاً ـ بإنَّه سبب لوجوبها فکنّی به عن الوجوب عنده.
فظهر بذلک إنّه لا منشأ لانتزاع السببیة وسائر ما لأجزاء العلة للتکلیف ، إلّا ما هی علیها من الخصوصیة الموجبة لدخل کلّ فیه على نحو غیر دخل الآخر ، فتدبرّ جیداً.
وأما النحو الثّانی : فهو کالجزئیة والشرطیة والمانعیة والقاطعیة ، لما هو جزء المکلف به وشرطه ومانعه وقاطعه ، حیث إنَّ اتصاف شیء بجزئیة المأمور به أو شرطیته أو غیرهما لا یکاد یکون إلّا بالأمر بجملة أمور مقیدة بأمر وجودی أو عدمی ، ولا یکاد یتصف شیء بذلک ـ أیّ کونه جزءاً أو شرطاً
__________________
1 ـ فی « أ » : من ربط.
2 ـ فی « أ » : کان مؤثراً ، وفی « ب » : کانت مؤثراً. 
 
للمأمور به ـ إلّا بتبع ملاحظة الأمر بما یشتمل علیه مقیداً بأمر آخر ، وما لم یتعلق بها الأمر کذلک لما کاد اتصف بالجزئیة أو الشرطیّة ، وأنّ أنشأ الشارع له الجزئیة أو الشرطیّة ، وجعل الماهیة واختراعها لیس إلّا تصویر ما فیه المصلحة المهمة الموجبة للأمر بها ، فتصورها بأجزائها وقیودها لا یوجب اتصاف شیء منها بجزئیة المأمور به أو شرطه قبل الأمر بها. فالجزئیة للمأمور به أو الشرطیّة له إنّما ینتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به ، بلا حاجة إلى جعلها له ، وبدون الأمر به لا اتصاف بها أصلاً ، وأنّ اتصف بالجزئیة أو الشرطیّة للمتصور أو لذی المصلحة ، کما لا یخفى.
وأما النحو الثالث : فهو کالحجیة والقضاوة والولایة والنیابة والحریة والرقیّة والزوجیة والملکیة إلى غیر ذلک ، حیث إنّها وأنّ کان من الممکن انتزاعها من الأحکام التکلیفیة التی تکون فی مواردها ـ کما قیل ـ ومن جعلها بإنشاء أنفسها ، إلّا إنّه لا یکاد یشک فی صحة انتزاعها من مجرد جعله تعالى ، أو من بیده الأمر من قبله ـ جل وعلا ـ لها بإنشائها ، بحیث یترتب علیها آثارها ، کما یشهد به ضرورة صحة انتزاع الملکیة والزوجیة والطلاق والعتاق بمجرد العقد أو الایقاع ممن بیده الاختیار بلا ملاحظة التکالیف والآثار ، ولو کانت منتزعة عنها لما کاد یصحّ إعتبارها إلّا بملاحظتها ، وللزم أن لا یقع ما قصد ، ووقع ما لم یقصد.
کما لا ینبغی أن یشک فی عدم صحة انتزاعها عن مجرد التکلیف فی موردها ، فلا ینتزع الملکیّة عن إباحة التصرفات ، ولا الزوجیة من جواز الوطئ ، وهکذا سائر الاعتبارات فی أبواب العقود والإیقاعات.
فانقدح بذلک أن مثل هذه الاعتبارات إنّما تکون مجعولة بنفسها ، یصحّ انتزاعها بمجرد إنشائها کالتکلیف ، لا مجعولة بتبعه ومنتزعة عنه.
وهم ودفع : امّا الوهم (1) : فهو أن الملکیة کیف جعلت من الاعتبارات
__________________
1 ـ انظر شرح التجرید 216 ، المسألة الثامنة فی الملک. 
 
الحاصلة بمجرد الجعل والإنشاء التی تکون من خارج المحمول ، حیث لیس بحذائها فی الخارج شیء ، وهی إحدى المقولات المحمولات بالضمیمة التی لا تکاد تکون بهذا السبب ، بل بأسباب أخر کالتَّعَمُّم والتَّقَمُّص والتَّنَعُّل ، فالحالة الحاصلة منها للإنسان هو الملک ، وأین هذه من الاعتبار الحاصل بمجرد إنشائه؟
وأما الدفع : فهو أن الملک یقال بالاشتراک على ذلک ، ویسمى بالجدة أیضاً ، واختصاص شیء بشیء خاص ، وهو ناشىء امّا من جهة إسناد وجوده إلیه ، ککون العالم ملکاً للباری جل ذکره ، أو من جهة الاستعمال والتصرف فیه ، ککون الفرس لزید برکوبه له وسائر تصرفاته فیه ، أو من جهة إنشائه والعقد مع من اختیاره بیده ، کملک الأراضی والعقار البعیدة للمشتری بمجرد عقد البیع شرعاً وعرفاً.
فالملک الذی یسمى بالجدة أیضاً ، غیر الملک الذی هو اختصاص خاص ناشىء من سبب اختیاریّ کالعقد ، أو غیر اختیاری کالإرث ، ونحوهما من الأسباب الاختیاریّة وغیرها ـ فالتوهّم إنّما نشأ من إطلاق الملک على مقولة الجدة أیضاً ، والغفلة عن أنّه بالاشتراک بینه وبین الاختصاص الخاص والإضافة الخاصة الإشراقیّة کملکه تعالى للعالم ، أو المقولیة کملک غیره لشیء بسبب من تصرف واستعمال أو إرث أو عقد أو غیرها (1) من الأعمال ، فیکون شیء ملکاً لاحد بمعنى ، ولآخر بالمعنى الآخر ، فتدبر.
إذا عرفت اختلاف الوضع فی الجعل ، فقد عرفت إنّه لا مجال لاستصحاب دخل ماله الدخل فی التکلیف إذا شک فی بقائه على ما کان علیه من الدخل ، لعدم کونه حکماً شرعیاً ، ولا یترتب علیه أثر شرعیّ ، والتکلیف وأنّ کان مترتباً علیه إلّا إنّه لیس بترتب شرعی ، فافهم.
__________________
1 ـ فی « أ » : غیرهما.  

 
وأنّه لا إشکال فی جریان الاستصحاب فی الوضع المستقلّ بالجعل ، حیث إنّه کالتکلیف ، وکذا ما کان مجعولاً بالتبع ، فإن أمر وضعه ورفعه بید الشارع ولو بتبع منشأ انتزاعه ، وعدم تسمیته حکماً شرعیاً لو سلّم غیر ضائر بعد کونه مما تناله ید التصرف شرعاً ، نعم لا مجال لاستصحابه ، لاستصحاب سببه ومنشأ انتزاعه ، فافهم.
ثم إن هاهنا تنبیهات :
الأول : إنّه یعتبر فی الاستصحاب فعلیّة الشک والیقین ، فلا استصحاب مع الغفلة ، لعدم الشک فعلاً ولو فرض إنّه یشک لو التفت ؛ ضرورة أن الاستصحاب وظیفة الشاک ، ولا شک مع الغفلة أصلاً ، فیحکم بصحة صلاة من أحدث ثم غفل وصلّى ثم شک فی إنّه تطهّر قبل الصلاة ، لقاعدة الفراغ ، بخلاف من ألتفت قبلها وشک ثم غفل وصلّى ، فیحکم بفساد صلاته فیما إذا قطع بعدم تطهیره بعد الشک ، لکونه محدثاً قبلها بحکم الاستصحاب ، مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابی.
لا یقال : نعمٍ ، ولکن استصحاب الحدث فی حال الصلاة بعد ما ألتفت بعدها یقتضی أیضاً فسادها.
فإنّه یقال : نعم ، لولا قاعدة الفراغ المقتضیة لصحتها المقدمة على أصالة فسادها.
الثانی : إنّه هل یکفی فی صحّة الاستصحاب الشک فی بقاء شیء على تقدیر ثبوته ، وأنّ لم یحرز ثبوته فیما رتب علیه أثر شرعاً أو عقلاً؟ إشکال ، من عدم إحراز الثبوت فلا یقین ، ولابدّ منه ، بل ولا شک ، فإنّه على تقدیرٍ لم یثبت ، ومن أن اعتبارٍ الیقین إنّما هو لأجل أن التعبّد والتنزیل شرعاً إنّما هو فی 
 
البقاء لا فی الحدوث ، فیکفی الشک فیه على تقدیر الثبوت ، فیتعبّد به على هذا التقدیر ، فیترتب علیه الأثر فعلاً فیما کان هناک أثر ، وهذا هو الأظهر ، وبه یمکن أن یذبّ عمّا فی استصحاب الأحکام التی قامت الأمارات المعتبرة على مجرد ثبوتها ، وقد شک فی بقائها على تقدیر ثبوتها ، من الإِشکال بإنّه لا یقین بالحکم الواقعی ، ولا یکون هناک حکم آخر فعلّی ، بناءً على ما هو التحقیق (1) ، من أن قضیّة حجیة الامارة لیست إلّا تنجّز التکالیف مع الإصابة والعذر مع المخالفة ، کما هو قضیّة الحجة المعتبرة عقلاً ، کالقطع والظن فی حال الانسداد على الحکومة ، لا إنشاءً أحکام فعلیة شرعیة ظاهریة ، کما هو ظاهر الأصحاب.
ووجه الذبّ بذلک ، أنّ الحکم الواقعی الذی هو مؤدّى الطریق حینئذ محکوم بالبقاء ، فتکون الحجة على ثبوت حجة على بقائه تعبّداً ؛ للملازمة بینه وبین ثبوته واقعاً.
إن قلت : کیف؟ وقد أخذ الیقین بالشیء فی التعبّد ببقائه فی الأخبار ، ولا یقین فی فرض تقدیر الثبوت.
قلت : نعم ، ولکن الظاهر إنّه أُخذ کشفا عنه ومرآةً لثبوته لیکون التعبّد فی بقائه ، والتعبد مع فرض ثبوته إنّما یکون فی بقائه ، فافهم.
الثالث : إنّه لا فرق فی المتیقّن السابق بین أن یکون خصوص أحد
__________________
1 ـ وأمّا بناءً على ما هو المشهور من کون مؤدیات الأمارات أحکاماً ظاهریة شرعیة ، کما اشتهر أن ظنیّة الطریق لا ینافی قطعیة الحکم ، فالاستصحاب جار ، لأن الحکم الذی أدّت إلیه الامارة محتمل البقاء لإمکان إصابتها الواقع ، وکان مما یبقى ، والقطع بعدم فعلیته ـ حینئذ ـ مع احتمال بقائه لکونها بسبب دلالة الامارة ، والمفروض عدم دلالتها إلّا على ثبوته ، لا على بقائه ، غیر ضائر بفعلیته الناشئة باستصحابه ، فلا تغفل ( منه 1 ). 
 
الأحکام ، أو ما یشترک بین الاثنین منها ، أو الأزید من أمر عام.
فإن کان الشک فی بقاء ذاک العام من جهة الشک فی بقاء الخاص الذی کان فی ضمنه وارتفاعه ، کان استصحابه کاستصحابه بلا کلام.
وإن کان الشکُّ فیه من جهة تردد الخاص الذی فی ضمنه ، بین ما هو باق أو مرتفع قطعاً ، فکذا لا إشکال فی استصحابه ، فیترتّب علیه کافة ما یترتب علیه عقلاً أو شرعاً من أحکامه ولوازمه ، وتردد ذاک الخاص ـ الذی یکون الکلیّ موجوداً فی ضمنه ویکون وجوده بعین وجوده ـ بین متیقّن الارتفاع ومشکوک الحدوث المحکوم بعدم حدوثه ، غیر ضائرٍ باستصحاب الکلی المتحقق فی ضمنه ، مع عدم إخلاله بالیقین والشک فی حدوثه وبقائه ؛ وإنما کان التردد بین الفردین ضائراً باستصحاب أحد الخاصین اللذین کان أمره مردداً بینهما ، لإخلاله بالیقین الذی هو أحد رکنی الاستصحاب ، کما لا یخفى. نعم ، یجب رعایة التکالیف المعلومة إجمالاً المترتبة على الخاصین ، فیما علم تکلیف فی البین.
وتوهمّ کون الشک فی بقاء الکلی الذی فی ضمن ذاک المردّد مسبباً عن الشک فی حدوث الخاص المشکوک حدوثه المحکوم بعدم الحدوث بأصالة عدمه ؛ فاسد قطعاً ، لعدم کون بقائه وارتفاعه من لوازم حدوثه وعدم حدوثه ، بل من لوازم کون الحادث المتیقن ذاک المتیقن الارتفاع أو البقاء ، مع أن بقاء القدر المشترک إنّما هو بعین بقاء الخاص الذی فی ضمنه لا إنّه من لوازمه ، على إنّه لو سلّم إنّه من لوازم حدوث المشکوک فلا شبهة فی کون اللزوم عقلّیاً ، ولا یکاد یترتب بأصالة عدم الحدوث إلّا ما هو من لوازمه وأحکامه شرعاً.
وأما إذا کان الشک فی بقائه ، من جهة الشک فی قیام خاص آخر فی مقام ذاک الخاص الذی کان فی ضمنه بعد القطع بارتفاعه ، ففی استصحابه إشکال ، أظهره عدم جریإنّه ، فإن وجود الطبیعی وأنّ کان بوجود فرده ، إلّا 
 
أن وجوده فی ضمن المتعدد من أفراده لیس من نحو وجود واحد له ، بل متعدد حسب تعددها ، فلو قطع بارتفاع ما علم وجوده منها ، لقطع بارتفاع وجوده ، وأنّ شک فی وجود فرد آخر مقارن لوجود ذاک الفرد ، أو لارتفاعه بنفسه أو بملاکه ، کما إذا شک فی الاستحباب بعد القطع بارتفاع الإِیجاب بملاک مقارن أو حادث.
لا یقال : الأمر وأنّ کان کما ذکر ، إلّا إنّه حیث کان التفاوت بین الإِیجاب والاستحباب وهکذا بین الکراهة والحرمة ، لیس إلّا بشدة الطلب بینهما وضعفه ، کان تبدل أحدهما بالآخر مع عدم تخلل العدم غیر موجب لتعدد وجود الطبیعی بینهما ، لمساوقة الاتصال مع الوحدة ، فالشک فی التبدل حقیقة شک فی بقاء الطلب وارتفاعه ، لا فی حدوث وجود آخر.
فإنّه یقال : الأمر وأنّ کان کذلک ، إلّا أن العرف حیث یرى الإِیجاب والاستحباب المتبادلین فردین متباینین ، لا واحداً مختلف الوصف فی زمانین ، لم یکن مجال للاستصحاب ، لما مرت (1) الإِشارة إلیه وتأتی (2) ، من أن قضیة إطلاق أخبار الباب ، أن العبرة فیه بما یکون رفع الید عنه مع الشک بنظر العرف نقضاً ، وأنّ لم یکن بنقض بحسب الدقة ، ولذا لو انعکس الأمر ولم یکن نقض عرفاً ، لم یکن الاستصحاب جاریاً وأنّ کان هناک نقض عقلاً.
ومما ذکرنا فی المقام ، یظهر ـ أیضاً ـ حال الاستصحاب فی متعلقات الأحکام فی الشبهات الحکمیة والموضوعیة ، فلا تغفل.
الرابع : إنّه لا فرق فی المتیقن بین أن یکون من الأمور القارّة أو التدریجیة الغیر القارة ، فإن الأمور الغیر القارة وأنّ کان وجودها ینصرم ولا یتحقق
__________________
1 ـ ص 386.
2 ـ ص 427. 
 

کفایة الاصول - قسمت نهم

فصل
لا فرق فی نتیجة دلیل الانسداد ، بین الظن بالحکم من أمارة علیه ، وبین الظن به من أمارة متعلقة بألفاظ الآیة أو الروایة ، کقول اللغوی فیما یورث الظن بمراد الشارع من لفظه ، وهو واضح ، ولا یخفى أن اعتبارٍ ما یورثه لا محیص عنه فیما إذا کان مما ینسد فیه باب العلم ، فقول أهل اللغة حجة فیما یورث الظن بالحکم مع الانسداد ، ولو انفتح باب العلم باللغة فی غیر المورد.
نعم لا یکاد یترتب علیه أثر آخر من تعیین المراد فی وصیة أو إقرار أو غیرهما من الموضوعاًت الخارجیة ، إلّا فیما یثبت فیه حجیة مطلق الظن بالخصوص ، أو ذاک المخصوص ، ومثله الظن الحاصل بحکم شرعی کلی من الظن بموضوع خارجی ، کالظن بأن راوی الخبر هو زرارة بن أعین مثلاً ، لا آخر.
فانقدح أن الظنون الرجالیة مجدیة فی حال الانسداد ، ولو لم یقم دلیل على اعتبارٍ قول الرجالی ، لا من باب الشهادة ولا من باب الروایة.
تنبیه : لا بیعد استقلال العقل بلزوم تقلیل الاحتمالات المتطرقة إلى مثل السند أو الدلالة أو جهة الصدور ، مهما أمکن فی الروایة ، وعدم الاقتصار على (1) الظن الحاصل منها بلا سد بابه فیه بالحجة من علم أو علمی ، وذلک لعدم جواز التنزل فی صورة الانسداد إلى الضعیف مع التمکن من القوی أو ما بحکمه عقلاً ، فتأمل جیداً.
فصل
إنما الثابت بمقدمات دلیل الانسداد فی الأحکام هو حجیة الظن فیها ، لا
__________________
1 ـ فی « أ » : بالظن. 
 
حجیته فی تطبیق المأتیّ به فی الخارج معها ، فیتبع مثلاً فی وجوب صلاة الجمعة یومها ، لا فی إتیإنّها ، بل لابد من علم أو علمی بإتیإنّها ، کما لا یخفى.
نعم ربما یجری نظیر مقدمت الانسداد فی الأحکام فی بعضٍ الموضوعاًت الخارجیة ، من انسداد باب العلم به غالباً ، واهتمام الشارع به بحیث علم بعدم الرضا بمخالفة (1) الواقع بإجراء الأُصول فیه مهما أمکن ، وعدم وجوب الاحتیاط شرعاً أو عدم إمکانه عقلاً ، کما فی موارد الضرر المردّد أمره بین الوجوب والحرمة مثلاً ، فلا محیص عن اتباع الظن حینئذ أیضاً ، فافهم.
خاتمة : یذکر فیها أمراًن استطراداً :
الأول : هل الظن کما یتبع عند الانسداد عقلاً فی الفروع العملیة ، المطلوب فیها أولاً العمل بالجوارح ، یتبع فی الأصول الاعتقادیة المطلوب فیها عمل الجوانح من الاعتقاد به وعقد القلب علیه وتحمله والانقیاد له ، أو لا؟.
الظاهر لا ، فإن الأمر الاعتقادی وأنّ انسد باب القطع به ، إلّا أن باب الاعتقاد إجمالاً بما هو واقعه والانقیاد له وتحمله غیر منسد ، بخلاف العمل بالجوارح ، فإنّه لا یکاد یعلم مطابقته مع ما هو واقعه إلّا بالاحتیاط ، والمفروض عدم وجوبه شرعاً ، أو عدم جوازه عقلاً ، ولا أقرب من العمل على وفق الظن.
وبالجملة : لا موجب مع انسداد باب العلم فی الاعتقادیات لترتیب الأعمال الجوانحیة على الظن فیها ، مع إمکان ترتیبها على ما هو الواقع فیها ، فلا یتحمل إلّا لما هو الواقع ، ولا ینقاد إلّا له ، لا لما هو مظنونه ، وهذا بخلاف العملیات ، فإنّه لا محیص عن العمل بالظن فیها مع مقدمات الانسداد.
نعم یجب تحصیل العلم فی بعضٍ الاعتقادات لو أمکن ، من باب وجوب المعرفة لنفسها ، کمعرفة الواجب تعالى وصفاته أداءً لشکر بعضٍ نعمائه ، ومعرفة
__________________
1 ـ فی « ب » : بمخالفته. 
 
أنبیائه ، فإنّهم وسائط نعمه وآلائه ، بل وکذا معرفة الامام 7 على وجه صحیح (1) ، فالعقل یستقل بوجوب معرفة النبی ووصیه لذلک ، ولاحتمال الضرر فی ترکه ، ولا یجب عقلاً معرفة غیر ما ذکر ، إلّا ما وجب شرعاً معرفته ، کمعرفة الامام 7 على وجه آخر غیر صحیح ، أو أمر آخر مما دلّ الشرع على وجوب معرفته ، وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص ، لا من العقل ولا من النقل ، کان أصالة البراءة من وجوب معرفته محکمة (2).
ولا دلالة لمثل قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ) (3) الآیة ، ولا لقوله 9 : ( وما أعلم شیئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس ) (4) ولا لما دلّ على وجوب التفقه وطلب العلم من الآیات والروایات على وجوب معرفته بالعموم ، ضرورة أن المراد من ( لیعبدون ) هو خصوص عبادة الله ومعرفته ، والنبوی إنّما هو بصدد بیان فضیلة الصلوات لا بیان حکم المعرفة ، فلا إطلاق فیه أصلاً ؛ ومثل آیة النفر (5) ، إنّما هو بصدد بیان الطریق المتوسل به إلى التفقه الواجب ، لا بیان ما یجب فقهه ومعرفته ، کما لا یخفى ، وکذا ما دلّ على وجوب طلب العلم إنّما هو بصدد الحث على طلبه ، لا بصدد بیان ما یجب العلم به.
ثم إنّه لا یجوز الاکتفاء بالظن فیما یجب معرفته عقلاً أو شرعاً ، حیث إنّه لیس بمعرفة قطعاً ، فلا بدّ من تحصیل العلم لو أمکن ، ومع العجز عنه کان معذوراً إن کان عن قصور لغفلة أو لغموضة (6) المطلب مع قلة الاستعداد ، کما هو المشاهد فی
__________________
1 ـ وهو کون الامامة کالنبوة منصباً إلهیاً یحتاج إلى تعیینه ـ تعالى ـ ونصبه ، لا إنّها من الفروع المتعلقة بأفعال المکلفین ، وهو الوجه الآخر منه ( 1 الشریف ).
2 ـ هذا تعریض بما أفاده الشیخ ( قده ) انتصارا للعلامة ، فرائد الأصول / 170.
3 ـ الذاریات : 56.
4 ـ وقریب منه : الکافی 3 / 264 ، والتهذیب 2 / 236.
5 ـ التوبة : 122.
6 ـ فی « ب » : الغموضیة. 
 
کثیر من النساء بل الرجال ، بخلاف ما إذا کان عن تقصیر فی الاجتهاد ، ولو لأجل حب طریقة الآباء والأجداد واتباع سیرة السلف ، فإنّه کالجبلّی للخلف ، وقلما عنه تخلف (1).
والمراد من المجاهدة فی قوله تعالى ( وَالَّذِینَ جَاهَدُوا فِینَا لَنَهْدِیَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (2) هو المجاهدة مع النفس ، بتخلیتها عن الرذائل وتحلیتها بالفضائل ، وهی التی کانت أکبر من الجهاد ، لا النظر والاجتهاد ، وإلأ لادى إلى الهدایة ، مع إنّه یؤدی إلى الجهالة والضلالة ، إلّا إذا کانت هناک منه ـ تعالى ـ عنایة ، فإنّه غالباً بصدد إثبات أن ما وجد آباءه علیه هو الحق ، لا بصدد الحق ، فیکون مقصرا مع اجتهاده ، ومؤاخذا إذا أخطأ على قطعه واعتقاده.
ثم لا استقلال للعقل بوجوب تحصیل الظن مع الیأس عن تحصیل العلم ، فیما یجب تحصیله عقلاً لو أمکن ، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه ، بل بعدم جوازه ، لما أشرنا إلیه (3) من أن الأمور الاعتقادیة مع عدم القطع بها أمکن الاعتقاد بما هو واقعها والانقیاد لها ، فلا إلجاء فیها أصلاً إلى التنزل إلى الظن فیما انسد فیه باب العلم ، بخلاف الفروع العملیة ، کما لا یخفى.
وکذلک لا دلالة من النقل على وجوبه ، فیما یجب معرفته مع الإِمکان شرعاً ، بل الادلة الدالة على النهی عن اتباع الظن ، دلیل على عدم جوازه أیضاً.
وقد انقدح من مطاوی ما ذکرنا ، أن القاصر یکون فی الاعتقادیات للغفلة ، أو عدم الاستعداد للاجتهاد فیها ، لعدم وضوح الأمر فیها بمثابة لا یکون الجهل بها إلّا عن تقصیر ، کما لا یخفى ، فیکون (4) معذوراً عقلاً.
__________________
1 ـ فی « ب » : یتخلف.
2 ـ العنکبوت / 69.
3 ـ أشار إلیه فی الأمر الأوّل من خاتمة دلیل الانسداد / 329.
4 ـ ولا ینافی ذلک عدم استحقاقه درجة ، بل استحقاقه درکة لنقصإنّه بسبب فقدإنّه للإیمان به تعالى أو
 
 
ولا یصغى إلى ما ربما قیل : بعدم وجود القاصر فیها ، لکنه إنّما یکون معذوراً غیر معاقب على عدم معرفة الحق ، إذا لم یکن یعانده ، بل کان ینقاد له على إجماله لو احتمله.
هذا بعضٍ الکلام مما یناسب المقام ، وأما بیان حکم الجاهل من حیث الکفر والإسلام ، فهو مع عدم مناسبته خارج عن وضع الرسالة.
الثانی : الظن الذی لم یقم على حجیته دلیل ، هل یجبر به ضعف السند أو الدلالة بحیث صار حجة ما لولاه لما کان بحجة ، أو یوهن به ما لولاه على خلافه لکان حجة ، أو یرجح به أحد المتعارضین ، بحیث لولاه على وفقه لما کان ترجیح لأحدهما ، أو کان للآخر منهما ؛ أم لا؟
ومجمل القول فی ذلک : إن العبرة فی حصول الجبران أو الرجحان بموافقته ، هو الدخول بذلک تحت دلیل الحجیة ، أو المرجحیة الراجعة إلى دلیل الحجیة ، کما أن العبرة فی الوهن إنّما هو الخروج بالمخالفة عن تحت دلیل الحجیة ، فلا یبعد جبر ضعف السند فی الخبر بالظن بصدوره أو بصحة مضمونه ، ودخوله بذلک تحت ما دلّ على حجیة ما یوثق به ، فراجع أدلة اعتبارها.
وعدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد لاختصاص دلیل الحجیة بحجیة الظهور فی تعیین المراد ، والظن من أمارة خارجیة به لا یوجب ظهور اللفظ فیه کما هو ظاهر ، إلّا فیما أوجب القطع ولو إجمالاً باحتفافه بما کان موجباً لظهوره فیه لولا عروض انتفائه ، وعدم وهن السند بالظن بعدم صدوره ، وکذا عدم وهن دلالته مع ظهوره ، إلّا فیما کشف بنحو معتبر عن ثبوت خلل فی سنده ، أو وجود قرینة مانعة
__________________
برسوله ، أو لعدم معرفة أولیائه ، ضرورة أن نقصان الإنسان لذلک یوجب بعده عن ساحة جلاله تعالى ، وهو یستتبع لا محالة درکة من الدرکات ، وعلیه فلا إشکال فیما هو ظاهر بعضٍ الروایات والآیات ، من خلود الکافر مطلقاً ولو کان قاصراً ، فقصوره إنّما ینفعه فی دفع المؤاخذة عنه بما یتبعها من الدرکات ، لا فیما یستتبعه نقصان ذاته ودنو نفسه وخساسته ، فإذا انتهى إلى اقتضاء الذات لذلک فلا مجال للسؤال عنه ، ب‍ ( لم ذلک؟ ) فافهم منه ( 1 ). 
 
عن انعقاد ظهوره فیما فیه ظاهر لولا تلک القرینة ، لعدم اختصاص دلیل اعتبارٍ خبر الثقة ولا دلیل اعتبارٍ الظهور بما إذا لم یکن ظن بعدم صدوره ، أو ظن بعدم إرادة ظهوره.
وأما الترجیح بالظن ، فهو فرع دلیل على الترجیح به ، بعد سقوط الأمارتین بالتعارض من البین ، وعدم حجیة واحد منهما بخصوصه وعنوإنّه ، وأنّ بقی أحدهما بلا عنوان على حجیته ، ولم یقم دلیل بالخصوص على الترجیح به. وأنّ ادعى شیخنا (1) العلّامة ـ أعلى الله مقامه ـ استفادته من الإخبار الدالة على الترجیح بالمرجحات الخاصة ، على ما فی (2) تفصیله فی التعادل والترجیح (3).
ومقدمات الانسداد فی الأحکام إنّما توجب حجیة الظن بالحکم أو بالحجة ، لا الترجیح به ما لم یوجب ظن بأحدهما ، ومقدماته فی خصوص الترجیح لو جرت إنّما توجب حجیة الظن فی تعیین المرجح ، لا إنّه مرجح إلّا إذا ظن إنّه ـ أیضاً ـ مرجح ، فتأمل جیّداً. هذا فیما لم یقم على المنع عن العمل به بخصوصه دلیل.
وأما ما قام الدلیل على المنع عنه کذلک کالقیاس ، فلا یکاد یکون به جبر أو وهن أو ترجیح ، فیما لا یکون لغیره أیضاً ، وکذا فیما یکون به أحدهما ، لوضوح أن الظن القیاسی إذا کان على خلاف ما لولاه لکان حجة ـ بعد المنع عنه ـ لا یوجب خروجه عن تحت دلیل حجیته (4) ، وإذا کان على وفق ما لولاه لما کان حجة لا یوجب دخوله تحت دلیل الحجیة ، وهکذا لا یوجب ترجیح أحد المتعارضین ، وذلک لدلالة دلیل المنع على إلغائه الشارع رأساً ، وعدم جواز استعماله فی الشرعیات قطعاً ، ودخله فی واحد منها نحو استعمال له فیها ، کما لا یخفى ، فتأمل جیداً.
__________________
1 ـ فرائد الأصول / 187 ، حیث قال الثالث : ما یظهر من بعضٍ الإخبار ... إلخ.
2 ـ فی « ب » : على ما یأتی تفصیله.
3 ـ فی « أ » : التراجیح.
4 ـ فی « ب » : الحجیة.
 
 
 
 

 
 
المقصد السابع : فی الأصول العملیة
وهی التی ینتهی إلیها المجتهد بعد الفحص والیأس عن الظفر بدلیل ، مما دلّ علیه حکم العقل أو عموم النقل ، والمهم منها أربعة ، فإن مثل قاعدة الطهارة فیما اشتبه طهارته بالشبهة الحکمیة (1) ، وأنّ کان مما ینتهی إلیه فیما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته ، إلّا أن البحث عنها لیس بمهم ، حیث إنّها ثابتة بلا کلام ، من دون حاجة إلى نقض وإبرام ، بخلاف الأربعة ، وهی : البراءة والاحتیاط ، والتخییر والاستصحاب : فإنّها محلّ الخلاف بین الأصحاب ، ویحتاج تنقیح مجاریها وتوضیح ما هو حکم العقل أو مقتضى عموم النقل فیها إلى مزید بحث وبیان ومؤونة حجة وبرهان ، هذا مع جریإنّها فی کلّ الابواب ، واختصاص تلک القاعدة ببعضها ، فافهم.
__________________
1 ـ لا یقال : إن قاعدة الطهارة مطلقاً ، تکون قاعدة فی الشبهة الموضوعیة ، فإن الطهارة والنجاسة من الموضوعاًت الخارجیة التی یکشف عنها الشرع.
فإنّه یقال : أولاً : نمنع ذلک ، بل إنّهما من الأحکام الوضعیة الشرعیة ، ولذا اختلفتا فی الشرائع بحسب المصالح الموجبة لشرعهما ، کما لا یخفى.
وثانیاً : إنّهما لو کانتا کذلک ، فالشبهة فیهما فیما کان الاشتباه لعدم الدلیل على أحدهما کانت حکمیة ، فإنّه لا مرجع لرفعها إلّا الشارع ، وما کانت کذلک لیست إلّا حکمیة منه ( 1 ).
 
 
فصل
لو شک فی وجوب (1) شیء أو حرمته ، ولم تنهض علیه حجة جاز شرعاً وعقلاً ترک الأوّل وفعل الثّانی ، وکان مأموناً من عقوبة مخالفته ، کان عدم نهوض الحجة لأجل فقدان النص أو إجماله ، واحتماله الکراهة أو الاستحباب ، أو تعارضه فیما لم یثبت بینهما ترجیح ، بناءً على التوقف فی مسألة تعارض النصین فیما لم یکن ترجیح فی البین.
وأما بناءً على التخییر ـ کما هو المشهور ـ فلا مجال لأصالة البراءة وغیرها ، لمکان وجود الحجة المعتبرة ، وهو أحد النصین فیها ، کما لا یخفى ، وقد استدل على ذلک بالأدلة الأربعة :
__________________
1 ـ لا یخفى أن جمع الوجوب والحرمة فی فصل ، وعدم عقد فصل لکلّ منهما على حدة ، وکذا جمع فقد النص وإجماله فی عنوان عدم الحجة ، إنّما هو لأجل عدم الحاجة إلى ذلک ، بعد الاتحاد فیما هو الملاک ، وما هو العمدة من الدلیل على المهمّ ، واختصاص بعضٍ شقوق المسألة بدلیل أو بقول ، لا یوجب تخصیصه بعنوان على حدة.
وأما ما تعارض فیه النصان فهو خارج عن موارد الأصول العملیة المقررة للشاک على التحقیق فیه من الترجیح أو التخییر ، کما إنّه داخل فیما لا حجة فیه ـ بناءً على سقوط النصین عن الحجیة ـ وأما الشبهة الموضوعیة فلا مساس لها بالمسائل الأصولیة ، بل فقهیة ، فلا وجه لبیان حکمها فی الأصول إلّا استطراداً فلا تغفل ، منه ( 1 ).  

 
أما الکتاب : فبآیات أظهرها قوله تعالى : (وَمَا کُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا) (1).
وفیه : إن نفی التعذیب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله کان منة منه تعالى على عباده ، مع استحقاقهم لذلک ، ولو سلّم اعتراف الخصم بالملازمة بین الاستحقاق والفعلیة ، لما صحّ الاستدلال بها إلّا جدلاً ، مع وضوح منعه ، ضرورة أن ما شک فی وجوبه أو حرمته لیس عنده بأعظم مما علم بحکمه ، ولیس حال الوعید بالعذاب فیه إلّا کالوعید به فیه ، فافهم.
وأما السنة : فبروایات (2) منها : حدیث الرفع (3) ، حیث عدّ ( ما لا یعلمون ) من التسعة المرفوعة فیه ، فالإلزام المجهول ممّا لا یعلمون ، فهو مرفوع فعلاً وأنّ کان ثابتاً واقعاً ، فلا مؤاخذة علیه قطعاً.
لا یقال : لیست المؤاخذة من الآثار الشرعیة ، کی ترتفع بارتفاع التکلیف المجهول ظاهراً ، فلا دلالة له على ارتفاعها (4).
فإنّه یقال : إنّها وأنّ لم تکن بنفسها أثراً شرعیاً ، إلّا إنّها مما یترتب علیه بتوسیط ما هو أثره وباقتضائه ، من إیجاب الاحتیاط شرعاً ، فالدلیل على رفعه دلیل على عدم إیجابه المستتبع لعدم استحقاقه العقوبة على مخالفته.
لا یقال : لا یکاد یکون إیجابه مستتبعاً لاستحقاقها على مخالفة التکلیف
__________________
1 ـ الاسراء : 15.
2 ـ فی « ب » : فروایات.
3 ـ الکافی / 2 کتاب الایمان والکفر ، باب ما رفع عن الأمة ، الحدیث 2 ، الفقیه 1 / 36 ، الباب 14 ، الحدیث 4 ، والخصال 2 / 417 ، باب التسعة.
4 ـ مع أن ارتفاعها وعدم استحقاقها بمخالفة التکلیف المجهول هو المهمّ فی المقام ، والتحقیق فی الجواب أن یقال ـ مضافاً إلى ما قلناه ـ أن الاستحقاق وأنّ کان أثراً عقلّیاً ، إلّا أن عدم الاستحقاق عقلاً ، مترتب على عدم التکلیف شرعاً ولو ظاهراً ، تأمل تعرف ، منه ( 1 ).  

 
المجهول ، بل على مخالفة (1) نفسه ، کما هو قضیة إیجاب غیره.
فإنّه یقال : هذا إذا لم یکن إیجابه طریقیاً ، وإلاّ فهو موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول ، کما هو الحال فی غیره من الإِیجاب والتحریم الطریقیین ، ضرورة إنّه کما یصحّ أن یحتج بهما صحّ أن یحتج به ، ویقال لم أقدمت مع إیجابه؟ ویخرج به عن العقاب بلا بیان والمؤاخذة بلا برهان ، کما یخرج بهما.
وقد انقدح بذلک ، أن رفع التکلیف المجهول کان منّة على الأمة ، حیث کان له تعالى وضعه بما هو قضیته (2) من إیجاب الاحتیاط ، فرفعه ، فافهم.
ثم لا یخفى (3) عدم الحاجة إلى تقدیر المؤاخذة ولا غیرها من الآثار الشرعیة فی ( ما لا یعلمون ) ، فإن ما لا یعلم من التکلیف مطلقاً کان فی الشبهة الحکمیة أو الموضوعیة بنفسه قابل للرفع والوضع شرعاً ، وأنّ کان فی غیره لابد من تقدیر الآثار أو المجاز فی إسناد الرفع إلیه ، فإنّه لیس ما اضطروا وما استکرهوا ... إلى آخر التسعة بمرفوع حقیقة. نعم لو کان المراد من الموصول فی ( ما لا یعلمون ) ما اشتبه حاله ولم یعلم عنوإنّه ، لکان أحد الأمرین مما لا بدّ منه أیضاً.
ثم لا وجه (4) لتقدیر خصوص المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر فی غیر واحد غیرها ، فلا محیص عن أن یکون المقدر هو الأثر الظاهر فی کلّ منها ، أو تمام آثارها التی تقتضی المنة رفعها ، کما أن ما یکون بلحاظه الإِسناد إلیها مجازاً ، هو هذا ، کما لا یخفى. فالخبر دلّ على رفع کلّ أثر تکلیفی أو وضعی کان فی
__________________
1 ـ فی « ب » : مخالفته.
2 ـ فی « ب » : قضیة.
3 ـ خلافاً لما أفاده الشیخ ، فرائد الأصول / 195.
4 ـ المصدر السابق. 
 
رفعه منة على الأمة ، کما استشهد الامام 7 بمثل (1) هذا الخبر فی رفع ما استکره علیه من الطلاق والصدقة والعتاق.
ثم لا یذهب علیک أن المرفوع فیما اضطر إلیه وغیره ، مما أخذ بعنوإنّه الثانوی ، إنّما هو الآثار المترتبة علیه بعنوإنّه الأولی ، ضرورة أن الظاهر أن هذه العناوین صارت موجبة للرفع ، والموضوع للاثر مستدعٍ لوضعه ، فکیف یکون موجباً لرفعه؟
لا یقال کیف؟ وإیجاب الاحتیاط فیما لا یعلم وإیجاب التحفظ فی الخطأ والنسیان ، یکون أثراً لهذه العناوین بعینها وباقتضاء نفسها.
فإنّه یقال : بل إنّما تکون باقتضاء الواقع فی موردها ، ضرورة أن الاهتمام به یوجب إیجابهما ، لئلا یفوت على المکلف ، کما لا یخفى.
ومنها : حدیث الحجب (2) ، وقد انقدح تقریب الاستدلال به مما ذکرنا فی حدیث الرفع ، إلّا إنّه ربما یشکل (3) بمنع ظهوره فی وضع ما لا یعلم من التکلیف ، بدعوى ظهوره فی خصوص ما تعلقت عنایته تعالى بمنع اطلاع العباد علیه ، لعدم أمر رسله بتبلیغه ، حیث إنّه بدونه لما صحّ إسناد الحجب إلیه تعالى.
ومنها : قوله 7 (4) ( کلّ شیء لک حلال حتى تعرف إنّه حرام بعینه ) الحدیث ، حیث دلّ على حلّیة ما لم یعلم حرمته مطلقاً ، ولو کان من جهة عدم الدلیل على حرمته ؛ وبعدم الفصل قطعاً بین إباحته وعدم وجوب الاحتیاط فیه وبین عدم وجوب الاحتیاط فی الشبهة الوجوبیة ، یتم المطلوب.
__________________
1 ـ المحاسن 2 / 339 ، الحدیث 124.
2 ـ التوحید للصدوق (ره) 413 ، باب التعریف والبیان والحجة ، الحدیث 9. والوسائل 18 / 12 ، باب 12 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 28.
3 ـ أورده الشیخ (ره) على الاستدلال بهذا الحدیث ، فرائد الأصول / 199.
4 ـ قریب من هذا المضمون روایات ، الوسائل : 12 / 59 ، باب 4 من أبواب ما یکتسب به الحدیثان 1 و 4 والوسائل : 17 / 90 ، باب 61 من الأطعمة المباحة ، الأحادیث ، 1 و 2 و 7. 
 
مع إمکان أن یقال : ترک ما احتمل وجوبه مما لم یعرف حرمته ، فهو حلال ، تأمل.
ومنها : قوله 7 (1) ( الناس فی سعة ما لا یعلمون ) فهم فی سعة ما لم یعلم ، أو ما دام لم یعلم وجوبه أو حرمته ، ومن الواضح إنّه لو کان الاحتیاط واجباً لما کانوا فی سعة أصلاً ، فیعارض به ما دلّ على وجوبه ، کما لا یخفى.
لا یقال : قد علم به وجوب الاحتیاط.
فإنّه یقال : لم یعلم الوجوب أو الحرمة بعد ، فکیف یقع فی ضیق الاحتیاط من أجله؟ نعم لو کان الاحتیاط واجباً نفسیاً کان وقوعهم فی ضیقه بعد العلم بوجوبه ، لکنه عرفت أن وجوبه کان طریقیاً ، لأجل أن لا یقعوا فی مخالفة الواجب أو الحرام أحیاناً ، فافهم.
ومنها : قوله 7 (2) ( کلّ شیء مطلق حتى یرد فیه نهی ) ودلالته یتوقف على عدم صدق الورود إلّا بعد العلم أو ما بحکمه ، بالنهی عنه وأنّ صدر عن الشارع ووصل إلى غیر واحد ، مع إنّه ممنوع لوضوح صدقه على صدوره عنه سیما بعد بلوغه إلى غیر واحد ، وقد خفی على من لم یعلم بصدوره.
لا یقال : نعم ، ولکن بضمیمة أصالة العدم صحّ الاستدلال به وتم.
فإنّه یقال : وأنّ تم الاستدلال به بضمیمتها ، ویحکم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه ، إلّا إنّه لا بعنوان إنّه مجهول الحرمة شرعاً ، بل بعنوان إنّه مما لم یرد عنه النهی واقعاً.
لا یقال : نعم ، ولکنه لا یتفاوت فیما هو المهمّ من الحکم بالإباحة فی مجهول الحرمة ، کان بهذا العنوان أو بذاک العنوان.
__________________
1 ـ الوسائل : 2 / 1073 ، باب 5 من أبواب النجاسات ، الحدیث 11 بتفاوت یسیر فی العبارة.
2 ـ الوسائل : 18 / 127 ، باب 12 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 60. 
 
فإنّه یقال : حیث إنّه بذاک العنوان لاختص بما لم یعلم ورود النهی عنه أصلاً ، ولا یکاد یعم ما إذا ورد النهی عنه فی زمان ، وإباحته (1) فی آخر ، واشتبها من حیث التقدم والتأخر.
لا یقال : هذا لولا عدم الفصل بین أفراد ما اشتبهت حرمته.
فإنّه یقال : وأنّ لم یکن بینها الفصل ، إلّا إنّه إنّما یجدی فیما کان المثبت للحکم بالإباحة فی بعضها الدلیل ، لا الأصل ، فافهم.
وأما الإجماع : فقد نقل (2) على البراءة ، إلّا إنّه موهون ، ولو قیل باعتبار الإجماع المنقولة فی الجملة ، فإن تحصیله فی مثل هذه المسألة مما للعقل إلیه سبیل ، ومن واضح النقل علیه دلیل ، بعید جدّاً.
وأما العقل : فإنّه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التکلیف المجهول ، بعد الفحص والیأس عن الظفر بما کان حجة علیه ، فإنّهما بدونهما عقاب بلا بیان ومؤاخذة بلا برهان ، وهما قبیحان بشهادة الوجدان.
ولا یخفى إنّه مع استقلاله بذلک ، لا احتمال لضرر العقوبة فی مخالفته ، فلا یکون مجال ها هنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، کی یتوهم إنّها تکون بیاناً ، کما إنّه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة ، بل فی صورة المصادفة استحق العقوبة على المخالفة ولو قیل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل.
وأما ضرر غیر العقوبة ، فهو وأنّ کان محتملاً ، إلّا أن المتیقن منه فضلاً عن محتمله لیس بواجب الدفع شرعاً ولا عقلاً ، ضرورة عدم القبح فی تحمّل بعضٍ المضار ببعض الدواعی عقلاً وجوازه شرعاً ، مع أن احتمال الحرمة أو الوجوب لا
__________________
1 ـ فی « ب » : إباحة.
2 ـ راجع الوجه الثّانی من وجوه التقریر الثّانی للاجماع على حجیة البراءة فی کلام الشیخ ( قده ) فرائد الأصول / 202.  

 
یلازم احتمال المضرة ، وأنّ کان ملازماً لاحتمال المفسدة أو ترک المصلحة ، لوضوح أن المصالح والمفاسد التی تکون مناطات الأحکام ـ وقد استقل العقل بحسن الأفعال التی تکون ذات المصالح وقبح ماکان ذات المفاسد ـ لیست براجعة إلى المنافع والمضار ، وکثیراً ما یکون محتمل التکلیف مأمون الضرر ، نعم ربما تکون المنفعة أو المضرة مناطاً للحکم شرعاً وعقلاً.
إن قلت : نعم ، ولکن العقل یستقل بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته ، وإنّه کالإقدام على ما علم مفسدته ، کما استدل به شیخ الطائفة (1) 1 ، على أن الاشیاء على الحظر أو الوقف.
قلت : استقلاله بذلک ممنوع ، والسند شهادة الوجدان ومراجعة دیدن العقلاء من أهل الملل والادیان ، حیث إنّهم لا یحترزون مما لا تؤمن مفسدته ، ولا یعاملون معه معاملة ما علم مفسدته ، کیف؟ وقد أذن الشارع بالإقدام علیه ، ولا یکاد یأذن بارتکاب القبیح ، فتأمل.
واحتج للقول بوجوب الاحتیاط فیما لم تقم فیه حجة ، بالادلة الثلاثة :
أما الکتاب : فبالآیات الناهیة عن القول بغیر العلم (2) ، وعن الإلقاء فی التهلکة (3) ، والأمرة بالتقوى (4).
والجواب : إن القول بالإباحة شرعاً وبالأمن من العقوبة عقلاً ، لیس قولاً بغیر علم ، لما دلّ على الإِباحة من النقل وعلى البراءة من حکم العقل ، ومعهما لا مهلکة فی اقتحام الشبهة أصلاً ، ولا فیه مخالفة التقوى ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ عدة الأصول 2 / 117 ولکن المتراءى منه غیر هذا.
2 ـ الأعراف : 33 ، الاسراء : 36 ، النور : 15.
3 ـ البقرة : 195.
4 ـ البقرة : 102 ، التغابن : 16. 
 
وأما الأخبار : فبما (1) دلّ على وجوب التوقف عند الشبهة ، معللاً فی بعضها بأن الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی المهلکة ، من الأخبار الکثیرة الدّالة علیه مطابقة أو إلتزاماً ، وبما (2) دلّ على وجوب الاحتیاط من الأخبار الواردة بألسنة مختلفة.
والجواب : إنّه لا مهلکة فی الشبهة البدویة ، مع دلالة النقل على [ الإِباحة ] (3) وحکم العقل بالبراءة کما عرفت.
وما دلّ على وجوب الاحتیاط لو سلّم ، وأنّ کان وارداً على حکم العقل ، فإنّه کفى بیاناً على العقوبة على مخالفة التکلیف المجهول.
ولا یصغى إلى ما قیل (4) : من أن إیجاب الاحتیاط إن کان مقدّمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول فهو قبیح ، وأنّ کان نفسیاً فالعقاب على مخالفته لا على مخالفة الواقع ؛ وذلک لما عرفت من أن إیجابه یکون طریقیّاً ، وهو عقلاً مما یصحّ أن یحتج به على المؤاخذة فی مخالفة الشبهة ، کما هو الحال فی أوامر الطرق والأمارات و الأصول العملیة.
إلا إنّها تعارض بما هو أخص أو (5) وأظهر ؛ ضرورة أن ما دلّ على حلّیّة المشتبه أخص ، بل هو فی الدلالة على الحلّیة نص ، وما دلّ على الاحتیاط غایته إنّه ظاهر فی وجوب الاحتیاط ، مع أن هناک قرائن دالّة على إنّه للإِرشاد ، فیختلف إیجاباً واستحباباً حسب اختلاف ما یرشد إلیه.
__________________
1 ـ الوسائل : 18 / 75 الباب 9 من أبواب صفات القاضی / الحدیث 1 ـ الوسائل 14 / 193 ، الباب 157 من أبواب مقدمات النکاح الحدیث 2.
الوسائل : 18 / 111 الباب 12 من أبواب صفات القاضی / أحادیث : 3 ، 4 ، 10 ، 31 ، 35.
2 ـ الوسائل : 18 / 111 الباب 12 من أبواب صفات القاضی / أحادیث : 1 ، 37 ، 41 ، 54.
3 ـ أثبتناها من « ب ».
4 ـ القائل هو الشیخ الاعظم ، فرائد الأصول / 208.
5 ـ فی « أ » : و.

 
ویؤیده إنّه لو لم یکن للإِرشاد یوجب (1) تخصیصه لا محالة ببعض الشبهات إجماعاً ، مع إنّه آبٍ عن التخصیص قطعاً ، کیف لا یکون قوله : ( قف عند الشبهة فإن الوقوف عند الشبهة خیر من الاقتحام فی الهلکة ) للإِرشاد؟ مع أن المهلکة ظاهرة فی العقوبة ، ولا عقوبة فی الشبهة البدویة قبل إیجاب الوقوف والاحتیاط ، فکیف یعلل إیجابه بإنّه خیر من الاقتحام فی الهلکة؟
لا یقال : نعم ، ولکنه یستکشف منه (2) على نحو الإنّ إیجاب الاحتیاط من قبل ، لیصحّ به العقوبة على المخالفة.
فإنّه یقال : إن مجرد إیجابه واقعاً ما لم یعلم لا یصحح العقوبة ، ولا یخرجها عن إنّها بلا بیان ولا برهان ، فلا محیص عن اختصاص مثله بما یتنجز فیه المشتبه لو کان کالشبهة قبل الفحص مطلقاً ، أو الشبهة المقرونة بالعلم الإِجمالی ، فتأمل جیداً.
وأما العقل : فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترک ما احتمل حرمته ، حیث علم إجمالاً بوجود واجبات ومحرمات کثیرة فیما اشتبه وجوبه أو حرمته ، مما لم یکن هناک حجة على حکمه ، تفریغاً للذمة بعد اشتغالها ، ولا خلاف فی لزوم الاحتیاط فی أطراف العلم الإِجمالی إلّا من بعضٍ الأصحّاب.
والجواب : إن العقل وأنّ استقل بذلک ، إلّا إنّه إذا لم ینحل العلم الإِجمالی إلى علم تفصیلی وشکّ بدوی ، وقد انحل هاهنا ، فإنّه کما علم بوجود تکالیف إجمالاً ، کذلک علم إجمالاً بثبوت طرق وأُصول معتبرة مثبتة لتکالیف بمقدار تلک التکالیف المعلومة أو أزید ، وحینئذ لا علم بتکالیف أخر غیر التکالیف الفعلیة فی موارد (3) المثبتة من الطرق و الأصول العملیة.
__________________
1 ـ فی « ب » : یوجب.  2 ـ فی « ب » : عنه.
3 ـ فی « أ » : الموارد.
 
إن قلت : نعم ، لکنه إذا لم یکن العلم بها مسبوقاً بالعلم بالتکالیف (1).
قلت : إنّما یضر السبق إذا کان المعلوم اللاحق حادثاً ، وأما إذا لم یکن کذلک بل مما ینطبق علیه ما علم أولاً ، فلا محالة قد انحل العلم الإِجمالی إلى التفصیلی والشک البدوی.
إن قلت : إنّما یوجب العلم بقیام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالإِجمال ذلک إذا کان قضیة قیام الطریق على تکلیف موجباً لثبوته فعلاً ، وأما بناءً على أن قضیة حجیته واعتباره شرعاً لیس إلّا ترتیب ما للطریق المعتبر عقلاً ، وهو تنجز ما أصابه والعذر عما أخطأ عنه ، فلا انحلال لما علم بالإِجمال أولاً ، کما لا یخفى.
قلت : قضیة الاعتبار شرعاً ـ على اختلاف ألسنة أدلته ـ وأنّ کان ذلک على ما قوینا فی البحث ، إلّا أن نهوض الحجة على ما ینطبق علیه المعلوم بالإِجمال فی بعضٍ الأطراف یکون عقلاً بحکم الانحلال ، وصرف تنجزه إلى ما إذا کان فی ذاک الطرف ، والعذر عما إذا کان فی سائر الأطراف ، مثلاً إذا علم إجمالاً بحرمة إناء زید بین الإِناءین وقامت البینة على أن هذا إناؤه ، فلا ینبغی الشک فی إنّه کما إذا علم إنّه إناؤه فی عدم لزوم الاجتناب إلّا عن خصوصه دون الآخر ، ولولا ذلک لما کان یجدی القول بأن قضیة اعتبارٍ الأمارات هو کون المؤدیات أحکاماً شرعیة فعلیة ، ضرورة إنّها تکون کذلک بسبب حادث ، وهو کونها مؤدیات الأمارات الشرعیة.
هذا إذا لم یعلم بثبوت التکالیف الواقعیة فی موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالإِجمال ، وإلاّ فالانحلال إلى العلم بما فی الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلک الطرق بلا إشکال. کما لا یخفى.
وربما استدل بما قیل (2) : من استقلال العقل بالحظر فی الأفعال الغیر الضروریة قبل الشرع ، ولا أقل من الوقف وعدم استقلاله ، لا به ولا بالإباحة ،
__________________
1 ـ فی « أ » : بالواجبات.
2 ـ قرر الشیخ ( قده ) هذا الوجه العقلی بقوله : « الوجه الثّانی » ، فرائد الأُصول / 214.  

 
ولم یثبت شرعاً إباحة ما اشتبه حرمته ، فإن ما دلّ على الإِباحة معارض بما دلّ على وجوب التوقف أو الاحتیاط.
وفیه أولاً : إنّه لا وجه للاستدلال بما هو محلّ الخلاف والاشکال ، وإلاّ لصحّ الاستدلال على البراءة بما قیل من کون تلک الأفعال على الإِباحة.
وثانیاً : إنّه ثبت الإِباحة شرعاً ، لما عرفت من عدم صلاحیة ما دلّ على التوقف أو الاحتیاط ، للمعارضة لما دلّ علیها.
وثالثاً : إنّه لا یستلزم القول بالوقف فی تلک المسألة ، للقول بالاحتیاط فی هذه المسألة ، لاحتمال أن یقال معه بالبراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بیان ، وما قیل (1) ـ من أن الإقدام على ما لا یؤمن المفسدة فیه کالإقدام على ما یعلم فیه المفسدة ـ ممنوع ، ولو قیل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فإن المفسدة المحتملة فی المشتبه لیس بضرر غالباً ، ضرورة أن المصالح والمفاسد التی هی مناطات الأحکام لیست براجعة إلى المنافع والمضار ، بل ربما یکون المصلحة فیما فیه الضرر ، والمفسدة فیما فیه المنفعة ، واحتمال أن یکون فی المشتبه ضرر ضعیف غالباً لا یعتنى به قطعاً مع أن الضرر لیس دائماً مما یجب التحرز عنه عقلاً ، بل یجب ارتکابه أحیاناً فیما کان المترتب علیه أهم فی نظره مما فی الاحتراز عن ضرره ، مع القطع به فضلاً عن احتماله.
بقی أمور مهمة لا بأس بالإشارة إلیها :
الأول : إنّه إنّما تجری أصالة البراءة شرعاً وعقلاً فیما لم یکن هناک أصل موضوعی مطلقاً ولو کان موافقاً لها ، فإنّه معه لا مجال لها أصلاً ، لوروده علیها کما یأتی تحقیقه (2) فلا تجری مثلاً أصالة الإِباحة فی حیوان شک فی حلیته مع الشک فی
__________________
1 ـ القائل هو شیخ الطائفة ، عدة الأصول / 117.
2 ـ یأتی تحقیق الورود فی خاتمة الاستصحاب ـ ص 430. 
 
قبوله التذکیة ، فإنّه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة فی التذکیة ، فأصالة عدم التذکیة تدرجه (1) فیما لم یذک وهو حرام إجماعاً ، کما إذا مات حتف أنفه ، فلا حاجة إلى إثبات أن المیتة تعم غیر المذکى شرعاً ، ضرورة کفایة کونه مثله حکماً ، وذلک بأن التذکیة إنّما هی عبارة عن فری الأوداج [ الأربعة ] (2) مع سائر شرائطها ، عن خصوصیة فی الحیوان التی بها یؤثر فیه الطهارة وحدها أو مع الحلیّة ، ومع الشک فی تلک الخصوصیة فالأصل عدم تحقق التذکیة بمجرد الفری بسائر شرائطها ، کما لا یخفى.
نعم لو علم بقبوله التذکیة وشک فی الحلّیة ، فأصالة الإِباحة فیه محکمة ، فإنّه حینئذ إنّما یشک فی أن هذا الحیوان المذکّى حلال أو حرام ، ولا أصل فیه إلّا أصالة الإِباحة ، کسائر ما شک فی إنّه من الحلال أو الحرام.
هذا إذا لم یکن هناک أصل موضوعی آخر مثبت لقبوله التذکیة ، کما إذا شک ـ مثلاً ـ فی أن الجلل فی الحیوان هل یوجب ارتفاع قابلیته لها ، أم لا؟ فأصالة قبوله لها معه محکمة ، ومعها لا مجال لأصالة عدم تحققها ، فهو قبل الجلل کان یطهر ویحل بالفری بسائر شرائطها ، فالأصل إنّه کذلک بعده.
ومما ذکرنا ظهر الحال فیما اشتبهت حلیته وحرمته بالشبهة الموضوعیة من الحیوان ، وأنّ أصالة عدم التذکیة محکمة فیما شک فیها لأجل الشک فی تحقق ما اعتبر فی التذکیة شرعاً ، کما أن أصالة قبول التذکیة محکمة إذا شک فی طروء ما یمنع عنه ، فیحکم بها فیما أحرز الفری بسائر شرائطها عداه ، کما لا یخفى ، فتأمل جیّداً.
الثانی : إنّه لا شبهة فی حسن الاحتیاط شرعاً وعقلاً فی الشبهة الوجوبیة أو (3) التحریمیة فی العبادات وغیرها ، کما لا ینبغی الارتیاب فی استحقاق الثواب فیما
__________________
1 ـ فی « أ » : تدرجها.
2 ـ أثبتناها من « ب ».
3 ـ فی « أ » : و. 
 
إذا احتاط وأتى أو ترک بداعی احتمال الأمر أو النهی.
وربما یشکل (1) فی جریان الاحتیاط فی العبادات عند دوران الأمر بین الوجوب وغیر الاستحباب ، من جهة أن العبادة لابد فیها من نیة القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصیلاً أو إجمالاً.
وحسن الاحتیاط عقلاً لا یکاد یجدی فی رفع الإِشکال ، ولو قیل بکونه موجباً لتعلق الأمر به شرعاً ، بداهة توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه ، فکیف یعقل أن یکون من مبادىء ثبوته؟
وانقدح بذلک إنّه لا یکاد یجدی فی رفعه أیضاً القول بتعلق الأمر به من جهة ترتب الثواب علیه ، ضرورة إنّه فرع إمکانه ، فکیف یکون من مبادىء جریإنّه؟
هذا مع أن حسن الاحتیاط لا یکون بکاشف عن تعلق الأمر به بنحو اللّم ، ولا ترتب الثواب علیه بکاشف عنه بنحو الإنّ ، بل یکون حاله فی ذلک حال الإطاعة ، بإنّه نحو من الانقیاد والطاعة.
وما قیل (2) فی دفعه : من کون المراد بالاحتیاط فی العبادات هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جمیع الجهات عدا نیة القربة.
فیه : مضافاً إلى عدم مساعدة دلیل حینئذ على حسنه بهذا المعنى فیها ، بداهة إنّه لیس باحتیاط حقیقة ، بل هو أمر لو دلّ علیه دلیل کان مطلوباً مولویاً نفسیاً عبادیاً ، والعقل لا یستقل إلّا بحسن الاحتیاط ، والنقل لا یکاد یرشد إلّا إلیه.
نعم ، لو کان هناک دلیل على الترغیب فی الاحتیاط فی خصوص العبادة ، لما
__________________
1 ـ ذکر الشیخ هذا الإِشکال فی التنبیه الثّانی من مسألة دوران الحکم بین الوجوب وغیر الحرمة من جهة عدم النص ، فرائد الأصول / 228.
2 ـ ذکره الشیخ فی التنبیه الثّانی من مسألة دوران الحکم بین الوجوب وغیر الحرمة ، فرائد الأصول / 229.
 
کان محیص عن دلالته اقتضاءً على أن المراد به ذاک المعنى ، بناءً على عدم إمکانه فیها بمعناه حقیقة ، کما لا یخفى إنّه التزام بالاشکال وعدم جریإنّه فیها ، وهو کما ترى.
قلت : لا یخفى أن منشأ الإِشکال هو تخیل کون القربة المعتبرة فی العبادة مثل سائر الشروط المعتبرة فیها ، مما یتعلق بها الأمر المتعلق بها ، فیشکل جریإنّه حینئذ ، لعدم التمکن من قصد القربة المعتبر فیها (1) ، وقد عرفت (2) إنّه فاسد (3) ، وإنما اعتبر قصد القربة فیها عقلاً لأجل أن الغرض منها لا یکاد یحصل بدونه.
وعلیه کان جریان الاحتیاط فیه بمکان من الإِمکان ، ضرورة التمکن من الإِتیان بما احتمل وجوبه بتمامه وکماله ، غایة الأمر إنّه لابد أن یؤتى به على نحو لو کان مأموراً به لکان مقرباً ، بأن یؤتى به بداعی احتمال الأمر أو احتمال کونه محبوباً له تعالى ، فیقع حینئذ على تقدیر الأمر به امتثالاً لامره تعالى ، وعلى تقدیر عدمه انقیاداً لجنابه تبارک وتعالى ، ویستحق الثواب على کلّ حال امّا على الطاعة أو الانقیاد.
وقد انقدح بذلک إنّه لا حاجة فی جریإنّه فی العبادات إلى تعلق أمر بها (4) ،
__________________
1 ـ هکذا صححه فی « ب » ، وفی « أ » : لعدم التمکن من إتیان جمیع ما اعتبر فیها ... إلخ.
2 ـ راجع ص 72 فی المقدّمة الثانیة من مبحث التعبدی والتوصلی.
3 ـ هذا مع إنّه لو أغمض عن فساده ، لما کان فی الاحتیاط فی العبادات إشکال غیر الإِشکال فیها ، فکما یلتزم فی دفعه بتعدد الأمر فیها ، لیتعلق أحدهما بنفس الفعل والآخر بإتیإنّه بداعی أمره ، کذلک فیما احتمل وجوبه منها ، کان على هذا احتمال أمرین کذلک ، أیّ أحدهما کان متعلقاً بنفسه والآخر بإتیإنّه بداعی ذاک الأمر ، فیتمکن من الاحتیاط فیها بإتیان ما احتمل وجوبه بداعی رجاء أمره واحتماله ، فیقع عبادة وإطاعة لو کان واجباً ، وانقیاداً لو لم یکن کذلک.
نعم کان بین الاحتیاط ها هنا وفی التوصلیات فرق ، وهو أن المأتیّ به فیها قطعاً کان موافقاً لما احتمل وجوبه مطلقاً ، بخلافه هاهنا ، فإنّه لا یوافق إلّا على تقدیر وجوبه واقعاً ؛ لما عرفت من عدم کونه عبادة إلّا على هذا التقدیر ، ولکنه لیس بفارق لکونه عبادة على تقدیر الحاجة إلیه ، وکونه واجبا. ودعوى عدم کفایة الإِتیان برجاء الأمر فی صیرورته عبادة أصلاً ـ ولو على هذا التقدیر ـ مجازفة ، ضرورة استقلال العقل بکونه امتثالاً لامره على نحو العبادة لو کان ، وهو الحاکم فی باب الإطاعة والعصیان ، فتأمل جیداً منه ( 1 ).
4 ـ خلافاً لما یظهر من الشیخ فی بدایة کلامه ، فرائد الأصول / 228.
 
بل لو فرض تعلقه بها لما کان من الاحتیاط بشیء ، بل کسائر ما علم وجوبه أو استحبابه منها ، کما لا یخفى.
فظهر إنّه لو قیل (1) بدلالة أخبار (2) ( من بلغه ثواب ) على استحباب العمل الذی بلغ علیه الثواب ولو بخبر ضعیف ، لما کان یجدی فی جریإنّه فی خصوص ما دلّ على وجوبه أو استحبابه خبر ضعیف ، بل کان علیه مستحباً کسائر ما دلّ الدلیل على استحبابه.
لا یقال : هذا لو قیل بدلالتها على استحباب نفس العمل الذی بلغ علیه الثواب بعنوإنّه ، وأما لو دلّ على استحبابه لا بهذا العنوان ، بل بعنوان إنّه محتمل الثواب ، لکانت دالّة على استحباب الإِتیان به بعنوان الاحتیاط ، کأوامر الاحتیاط ، لو قیل بإنّها للطلب المولوی لا الارشادی.
فإنّه یقال : إن الأمر بعنوان الاحتیاط ولو کان مولویاً لکان توصلیاً ، مع إنّه لو کان عبادیاً لما کان مصححاً للاحتیاط ، ومجدیاً فی جریإنّه فی العبادات کما أشرنا إلیه آنفا.
ثم إنّه لا یبعد دلالة بعضٍ تلک الأخبار على استحباب ما بلغ علیه الثواب ، فإن صحیحة (3) هشام بن سالم المحکیة عن المحاسن ، عن أبی عبدالله 7 قال : ( من بلغه عن النبی 9 شیء من الثواب فعمله ، کان أجر ذلک له ، وأنّ کان رسول الله 9 لم یقله ) ظاهرة فی أن الاجر کان مترتباً على نفس العمل الذی بلغه عنه 9 ) إنّه ذو ثواب.
__________________
1 ـ هذا ردّ للشیخ فی التنبیه الثّانی من مسألة دوران الحکم بین الوجوب وغیره ، فرائد الأصول / 229.
2 ـ الوسائل : 1 / 59 ب 18 من أبواب مقدّمة العبادات ، أحادیث الباب.
3 ـ المحاسن / 25 ، وکتاب ثواب الأعمال الباب 1 ، الحدیث 2. 
 
وکون العمل متفرعاً على البلوغ ، وکونه الداعی إلى العمل غیر موجب (1) لأن یکون الثواب إنّما یکون مترتباً علیه ، فیما إذا أتى برجاء إنّه مأمور به وبعنوان الاحتیاط ، بداهة أن الداعی إلى العمل لا یوجب له وجهاً وعنواناً یؤتى به بذاک الوجه والعنوان. وإتیان (2) العمل بداعی طلب قول النبی 6 کما قید به فی بعض الأخبار ـ (3) ، وأنّ کان انقیاداً ، إلّا أن الثواب فی الصحیحة إنّما رتب على نفس العمل ، ولا موجب لتقییدها به ، لعدم المنافاة بینهما ، بل لو أتى به کذلک أو إلتماسا للثواب الموعود ، کما قید به فی بعضها الآخر (4) ، لاوتی الاجر والثواب على نفس العمل ، لا بما هو احتیاط وانقیاد ، فیکشف عن کونه بنفسه مطلوباً وإطاعة ، فیکون وزإنّه وزان ( من سرح لحیته ) (5) أو ( من صلّى أو صام فله کذا ) ولعله لذلک أفتى المشهور بالاستحباب ، فافهم وتأمل.
الثالث : إنّه لا یخفى أن النهی عن شیء ، إذا کان بمعنى طلب ترکه فی زمان أو مکان ، بحیث لو وجد فی ذاک الزمان أو المکان ولو دفعة لما امتثل أصلاً ، کان اللازم على المکلف إحراز إنّه ترکه بالمرة ولو بالأصل ، فلا یجوز الإِتیان بشیء یشک معه فی ترکه ، إلّا إذا کان مسبوقاً به لیستصحب مع الإِتیان به.
نعم ، لو کان بمعنى طلب ترکه کلّ فرد منه على حدة ، لما وجب إلّا ترک ما علم إنّه فرد ، وحیث لم یعلم تعلق النهی إلّا بما علم إنّه مصداقه ، فأصالة البراءة فی المصادیق المشتبهة محکمة.
فانقدح بذلک أن مجرد العلم بتحریم شیء لا یوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة ، فیما کان المطلوب بالنهی طلب ترک کلّ فرد على حدة ، أو کان
__________________
1 و 2 ـ تعریض بالشیخ فی أخبار من بلغ ، فرائد الأصول / 230.
3 ـ الوسائل : 1 / 60 ، الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحدیث 4.
4 ـ المصدر السابق ، الحدیث 7.
5 ـ الوسائل : 1 / 429 ، الباب 76 من أبواب آداب الحمام.  

 
الشئ مسبوقاً بالترک ، وإلاّ لوجب الاجتناب عنها عقلاً لتحصیل الفراغ قطعاً. فکما یجب فیما علم وجوب شیء إحراز إتیإنّه إطاعة لأمره ، فکذلک یجب فیما علم حرمته إحراز ترکه وعدم إتیإنّه امتثالاً لنهیه ، غایة الأمر کما یحرز وجود الواجب بالأصل ، کذلک یحرز ترک الحرام به ، والفرد المشتبه وأنّ کان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فیه ، إلّا أن قضیة لزوم إحراز الترک اللازم وجوب التحرز عنه ، ولا یکاد یحرز إلّا بترک المشتبه أیضاً ، فتفطن.
الرابع : إنّه قد عرفت حسن الاحتیاط عقلاً ونقلاً ، ولا یخفى إنّه مطلقاً کذلک ، حتى فیما کان هناک حجة على عدم الوجوب أو الحرمة ، أو أمارة معتبرة على إنّه لیس فرداً للواجب أو الحرام ، ما لم یخل بالنظام فعلاً ، فالاحتیاط قبل ذلک مطلقاً یقع حسناً ، کان فی الأمور المهمة کالدماء والفروج أو غیرها ، وکان احتمال التکلیف قویاً أو ضعیفاً ، کانت الحجة على خلافه أو لا ، کما أن الاحتیاط الموجب لذلک لا یکون حسناً کذلک ، وأنّ کان الراجح لمن التفت إلى ذلک من أول الأمر ترجیح بعضٍ الاحتیاطات احتمالاً أو محتملاً ، فافهم. 
 
فصل
إذا دار الأمر بین وجوب شیء وحرمته ، لعدم نهوض حجة على أحدهما تفصیلاً بعد نهوضها علیه إجمالاً ، ففیه وجوه :
الحکم بالبراءة عقلاً ونقلاً لعموم النقل ، وحکم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به ، ووجوب الأخذ بأحدهما تعییناً أو تخییراً ، والتخییر بین الترک والفعل عقلاً ، مع التوقف عن الحکم به رأساً ، أو مع الحکم علیه بالإباحة شرعاً.
أوجهها الأخیر ؛ لعدم الترجیح بین الفعل والترک ، وشمول مثل ( کلّ شیء لک حلال حتى تعرف إنّه حرام ) له ، ولا مانع عنه عقلاً ولا نقلاً.
وقد عرفت إنّه لا یجب موافقة الأحکام إلتزاماً ، ولو وجب لکان الالتزام إجمالاً بما هو الواقع معه ممکناً ، والالتزام التفصیلی بأحدهما لو لم یکن تشریعاً محرماً لما نهض على وجوبه دلیل قطعاً. وقیاسه بتعارض الخبرین ـ الدالّ أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب ـ باطل ، فإن التخییر بینهما على تقدیر کون الأخبار حجة من باب السببیة یکون على القاعدة ، ومن جهة التخییر بین الواجبین المتزاحمین ، وعلى تقدیر إنّها من باب الطریقیة فإنّه وأنّ کان على خلاف القاعدة ، إلّا أن أحدهما ـ تعییناً أو تخییراً ـ حیث کان واجداً لما هو المناط للطریقیة من احتمال الإصابة مع  

 
اجتماع سائر الشرائط ، صار (1) حجة فی هذه الصورة بأدلة الترجیح تعییناً ، أو التخییر تخییراً ، وأین ذلک مما إذا لم یکن المطلوب إلّا الأخذ بخصوص ما صدر واقعاً؟ وهو حاصل ، والأخذ بخصوص أحدهما ربما لا یکون إلیه بموصل.
نعم ، لو کان التخییر بین الخبرین لأجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة ، وإحداثهما التردید بینهما ، لکان القیاس فی محله ، لدلالة الدلیل على التخییر بینهما على التخییر ها هنا ، فتأمل جیّداً.
ولا مجال ـ ها هنا ـ لقاعدة قبح العقاب بلا بیان ، فإنّه لا قصور فیه ـ ها هنا ـ وإنما یکون عدم تنجز التکلیف لعدم التمکن من الموافقة القطعیة کمخالفتها ، والموافقة الاحتمالیة حاصلة لا محالة ، کما لا یخفى.
ثم إن مورد هذه الوجوه ، وأنّ کان ما [ إذا ] (2) لم یکن واحدٌ من الوجوب والحرمة على التعیین تعبدیاً ، إذ لو کانا تعبدیین أو کان أحدهما المعینّ کذلک ، لم یکن إشکال فی عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإِباحة ، لأنّها مخالفة عملیة قطعیة على ما أفاد شیخنا الأستاذ (3) 1 ، إلّا أن الحکم أیضاً فیهما إذا کانا کذلک هو التخییر عقلاً بین إتیإنّه على وجه قربی ، بأن یؤتى به بداعی احتمال طلبه ، وترکه کذلک ، لعدم الترجیح وقبحه بلا مرجح.
فانقدح إنّه لا وجه لتخصیص المورد بالتوصلیین بالنسبة إلى ما هو المهمّ فی المقام ، وأنّ اختصّ بعضٍ الوجوه بهما ، کما لا یخفى.
ولا یذهب علیک أن استقلال العقل بالتخییر إنّما هو فیما لا یحتمل الترجیح فی أحدهما على التعیین ، ومع احتماله لا یبعد دعوى استقلاله بتعیّنه کما هو الحال
__________________
1 ـ کذا صححه فی « ب » ، وفی « أ » : جعل.
2 ـ أثبتناها من « ب ».
3 ـ راجع فرائد الأصول / 236.

 
فی دوران الأمر بین التخییر والتعیین فی غیر المقام ، ولکن الترجیح إنّما یکون لشدة الطلب فی أحدهما ، وزیادته على الطلب فی الآخر بما لا یجوز الإِخلال بها فی صورة المزاحمة ، ووجب الترجیح بها ، وکذا وجب ترجیح احتمال ذی المزیة فی صورة الدوران.
ولا وجه لترجیح احتمال الحرمة مطلقاً ، لأجل أن دفع المفسدة أولى من ترک المصلحة ، ضرورة إنّه رب واجب یکون مقدماً على الحرام فی صورة المزاحمة بلا کلام ، فکیف یقدم على احتماله احتماله فی صورة الدوران بین مثلیهما؟ فافهم.  

 
فصل
لو شک فی المکلف به مع العلم بالتکلیف من الإِیجاب أو التحریم ، فتارة لتردده بین المتابینین ، وأخرى بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین ، فیقع الکلام فی مقامین :
المقام الأوّل : فی دوران الأمر بین المتابینین.
لا یخفى أن التکلیف المعلوم بینهما مطلقاً ـ ولو کانا فعل أمر وترک آخر ـ إن کان فعلّیاً من جمیع الجهات ، بأن یکون واجداً لما هو العلة التامة للبعث أو الزجر الفعلّی ، مع ما هو [ علیه ] (1) من الإِجمال والتردد والاحتمال ، فلا محیص عن تنجزه وصحة العقوبة على مخالفته ، وحینئذ لا محالة یکون ما دلّ بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإِباحة مما یعم أطراف العلم مخصصاً عقلاً ، لأجل مناقضتها معه.
وإن لم یکن فعلّیاً کذلک ـ ولو کان بحیث لو علم تفصیلاً لوجب امتثاله وصحّ العقاب على مخالفته ، لم یکن هناک مانع عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلة البراءة الشرعیة للأطراف.
ومن هنا انقدح إنّه لا فرق بین العلم التفصیلی والإِجمالی ، إلّا إنّه لا مجال
__________________
1 ـ زیادة یقتضیها السیاق. 
 
للحکم الظاهری مع التفصیلی ، فإذا کان الحکم الواقعی فعلیاً من سائر الجهات ، لا محالة یصیر فعلیاً معه من جمیع الجهات ، وله مجال مع الإِجمالی ، فیمکن أن لا یصیر فعلّیاً معه ، لإمکان جعل الظاهری فی أطرافه ، وإن کان فعلّیاً من غیر هذه الجهة ، فافهم.
ثم إن الظاهر إنّه لو فرض أن المعلوم بالإِجمال کان فعلیاً من جمیع الجهات لوجب عقلاً موافقته مطلقاً ولو کانت أطرافه غیر محصورة. وإنما التفاوت بین المحصورة وغیرها هو أن عدم الحصر ربما یلازم ما یمنع عن فعلیة المعلوم ، مع کونه فعلّیاً لولاه من سائر الجهات.
وبالجملة لا یکاد یرى العقل تفاوتاً بین المحصورة وغیرها ، فی التنجز وعدمه ، فیما کان المعلوم إجمالاً فعلّیاً ، یبعث المولى نحوه فعلاً أو یزجر عنه کذلک مع ما هو علیه من کثرة أطرافه.
والحاصل أن اختلاف الأطراف فی الحصر وعدمه لا یوجب تفاوتاً فی ناحیة العلم. ولو أوجب تفاوتاً فإنما هو فی ناحیة المعلوم فی فعلیة البعث أو الزجر مع الحصر ، وعدمها مع عدمه ، فلا یکاد یختلف العلم الإِجمالی باختلاف الأطراف قلة وکثرة فی التنجیز وعدمه ما لم یختلف المعلوم فی الفعلیة وعدمها بذلک ، وقد عرفت آنفا إنّه لا تفاوت بین التفصیلی والإِجمالی فی ذلک ، ما لم یکن تفاوت فی طرف المعلوم أیضاً ، فتأمل تعرف.
وقد انقدح إنّه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعیة مع حرمة مخالفتها ، ضرروة أن التکلیف المعلوم إجمالاً لو کان فعلیاً لوجب موافقته قطعاً ، وإلاّ لم یحرم مخالفته کذلک أیضاً.
ومنه ظهر إنّه لو لم یعلم فعلیة التکلیف مع العلم به إجمالاً ، امّا من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه ، أو من جهة الاضطرار إلى بعضها معیناً أو مردداً ، أو من جهة تعلقه بموضوع یقطع بتحققه إجمالاً فی هذا الشهر ، کأیام حیض المستحاضة 
 
مثلاً ، لما وجب موافقته بل جاز مخالفته ، وإنّه لو علم فعلیته ولو کان بین أطراف تدریجیة ، لکان منجزاً ووجب موافقته. فإن التدرج لا یمنع عن الفعلیة ، ضرورة إنّه کما یصحّ التکلیف بأمر حالی کذلک یصحّ بأمر استقبالی ، کالحج فی الموسم للمستطیع ، فافهم.
تنبیهات
الأول : إن الاضطرار کما یکون مانعاً عن العلم بفعلیة التکلیف لو کان إلى واحد معیّن ، کذلک یکون مانعاً لو کان إلى غیر معیّن ، ضرورة إنّه مطلقاً موجب لجواز ارتکاب أحد الأطراف أو ترکه ، تعییناً أو تخییراً ، وهو ینافی العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بینها فعلاً. وکذلک لا فرق بین أن یکون الاضطرار کذلک سابقاً على حدوث العلم أو لاحقا ؛ وذلک لأن (1) التکلیف المعلوم بینها من أول الأمر کان محدوداً بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقة ، فلو عرض على بعضٍ أطرافه لما کان التکلیف به معلوماً ، لاحتمال أن یکون هو المضطر إلیه فیما کان الاضطرار إلى المعینّ ، أو یکون هو المختار فیما کان إلى بعضٍ الأطراف بلا تعیین.
لا یقال : الاضطرار إلى بعضٍ الأطراف لیس إلّا کفقد بعضها ، فکما لا إشکال فی لزوم رعایة الاحتیاط فی الباقی مع الفقدان ، کذلک لا ینبغی الإِشکال فی لزوم رعایته مع الاضطرار ، فیجب الاجتناب عن الباقی أو ارتکابه خروجاً عن
__________________
1 ـ لا یخفى أن ذلک إنّما یتم فیما کان الاضطرار إلى أحدهما لا بعینه ، وأما لو کان إلى أحدهما المعینّ ، فلا یکون بمانع عن تأثیر العلم للتنجز ، لعدم منعه عن العلم بفعلیة التکلیف المعلوم إجمالاً ، المردّد بین أن یکون التکلیف المحدود فی ذلک الطرف أو المطلق فی الطرف الآخر ؛ ضرورة عدم ما یوجب عدم فعلیة مثل هذا المعلوم أصلاً ، وعروض الاضطرار إنّما یمنع عن فعلیة التکلیف لو کان فی طرف معروضه بعد عروضه ، لا عن فعلیة المعلوم بالإِجمال المردّد بین التکلیف المحدود فی طرف المعروض ، والمطلق فی الآخر بعد العروض ، وهذا بخلاف ما إذا عرض الاضطرار إلى أحدهما لا بعینه ، فإنّه یمنع عن فعلیة التکلیف فی البین مطلقاً ، فافهم وتأملّ منه ( 1 ). 
 
عهدة ما تنجز علیه قبل عروضه.
فإنّه یقال : حیث أن فقد المکلف به لیس من حدود التکلیف به وقیوده ، کان التکلیف المتعلق به مطلقاً ، فإذا اشتغلت الذمة به ، کان قضیة الإِشتغال به یقیناً الفراغ عنه کذلک ، وهذا بخلاف الاضطرار إلى ترکه ، فإنّه من حدود التکلیف به وقیوده ، ولا یکون الإِشتغال به من الأوّل إلّا مقیداً بعدم عروضه ، فلا یقین باشتغال الذمة بالتکلیف به إلّا إلى هذا الحد ، فلا یجب رعایته فیما بعده ، ولا یکون إلّا من باب الاحتیاط فی الشبهة البدویة ، فافهم وتأملّ فإنّه دقیق جدّاً.
الثانی : إنّه لما کان النهی عن الشیء (1) إنّما هو لأجل أن یصیر داعیاً للمکلف نحو ترکه ، لو لم یکن له داع آخر ـ ولا یکاد یکون ذلک إلّا فیما یمکن عادةً ابتلاؤه به ، وأما ما لا ابتلاء به بحسبها ، فلیس للنهی عنه موقع أصلاً ، ضرورة إنّه بلا فائدة ولا طائل ، بل یکون من قبیل طلب الحاصل ـ کان الابتلاء بجمیع الأطراف مما لابد منه فی تأثیر العلم ، فإنّه بدونه لا علم بتکلیف فعلیّ ، لاحتمال تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به.
ومنه قد انقدح أن الملاک فی الابتلاء المصحح لفعلیة الزجر وانقداح طلب ترکه فی نفس المولى فعلاً ، هو ما إذا صحّ انقداح الداعی إلى فعله فی نفس العبد مع اطلاعه على ما هو علیه من الحال ، ولو شک فی ذلک کان المرجع هو البراءة ، لعدم القطع بالاشتغال ، لا إطلاق الخطاب (2) ، ضرورة إنّه لا مجال للتشبث به إلّا فیما إذا شک فی التقیید بشیء (3) بعد الفراغ عن صحة الإِطلاق بدونه ، لا فیما شک فی اعتباره فی صحته ، تأمل (4) لعلک تعرف إن شاء الله تعالى.
__________________
1 ـ کما إنّه إذا کان فعل الشیء الذی کان متعلقاً لغرض المولى مما لا یکاد عادةً أن یترکه العبد ، وأنّ لا یکون له داع إلیه ، لم یکن للأمر به والبعث إلیه موقع أصلاً ، کما لا یخفى ، منه ( 1 ).
2 ـ تعریض بما قد یظهر من الشیخ ، فرائد الأصول / 252.
3 ـ هکذا صححه المصنف فی « ب » ، وفی « أ » : به.
4 ـ نعم لو کان الإِطلاق فی مقام یقتضی بیان التقیید بالابتلاء ـ لو لم یکن هناک ابتلاء مصحح للتکلیف ـ  

 
الثالث : إنّه قد عرفت إنّه مع فعلیة التکلیف المعلوم ، لا تفاوت بین أن تکون أطرافه محصورة وأنّ تکون غیر محصورة.
نعم ربما تکون کثرة الأطراف فی مورد موجبة لعسر موافقته القطعیة باجتناب کلها أو ارتکابه ، أو ضرر فیها أو غیرهما مما لا یکون معه التکلیف فعلّیاً بعثاً أو زجراً فعلاً ، ولیس بموجبة لذلک فی غیره. کما أن نفسها ربما یکون موجبة لذلک ولو کانت قلیلة فی مورد آخر ، فلابد من ملاحظة ذاک الموجب لرفع فعلیة التکلیف المعلوم بالإِجمال إنّه یکون أو لا یکون فی هذا المورد ، أو یکون مع کثرة أطرافه وملاحظة إنّه مع أیة مرتبة من کثرتها کما لا یخفى.
ولو شک فی عروض الموجب ، فالمتبع هو إطلاق دلیل التکلیف لو کان ، وإلاّ فالبراءة لأجل الشک فی التکلیف الفعلیّ ، هذا هو حق القول فی المقام ، وما قیل (1) فی ضبط المحصور وغیره لا یخلو من الجزاف.
الرابع : إنّه إنّما یجب عقلاً رعایة الاحتیاط فی خصوص الأطراف ، مما یتوقف على اجتنابه أو ارتکابه حصول العلم بإتیان الواجب أو ترک الحرام المعلومین فی البین دون غیرها ، وأنّ کان حاله حال بعضها فی کونه محکوماً بحکمه واقعاً.
ومنه ینقدح الحال فی المسألة ملاقاة شیء مع أحد أطراف النجس المعلوم بالإِجمال ، وإنّه تارةً یجب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقیه ، فیما کانت الملاقاة بعد العلم إجمالاً بالنجس بینها ، فإنّه إذا اجتنب عنه وطرفه اجتنب عن النجس فی البین قطعاً ، ولو لم یجتنب عما یلاقیه ، فإنّه على تقدیر نجاسته لنجاسته کان فرداً آخر من النجس ، قد شک فی وجوده ، کشیء آخر شک فی نجاسته بسبب آخر.
__________________
کان الإِطلاق وعدم بیان التقیید د إلّا على فعلیته ، ووجود الابتلاء المصحح لهما ، کما لا یخفى ، فافهم منه ( 1 ).
1 ـ راجع فرائد الأصول / 260 ـ 262. 
 
ومنه ظهر إنّه لا مجال لتوهم (1) أن قضیة الاجتناب عن المعلوم هو الاجتناب عنه أیضاً ، ضرورة أن العلم به إنّما یوجب تنجز الاجتناب عنه ، لا تنجز الاجتناب عن فرد آخر لم یعلم حدوثه وأنّ احتمل.
وأُخرى یجب الاجتناب عما لاقاه دونه ، فیما لو علم إجمالاً نجاسته أو نجاسة شیء آخر ثم حدث [ العلم بـ ] (2) الملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى أو ذاک الشیء أیضاً ، فإن حال (3) الملاقى فی هذه الصورة بعینها حال ما لاقاه فی الصورة السابقة فی عدم کونه طرفاً للعلم الإِجمالی ، وإنّه فرد آخر على تقدیر نجاسته واقعاً غیر معلوم النجاسة أصلاً ، لا إجمالاً ولا تفصیلاً ، وکذا لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم الإِجمالی ، ولکن کان الملاقى خارجاً عن محلّ الابتلاء فی حال حدوثه وصار مبتلى به بعده.
وثالثة یجب الاجتناب عنهما ، فیما لو حصل العلم الإِجمالی بعد العلم بالملاقاة ؛ ضرورة إنّه حینئذ نعلم إجمالاً : امّا بنجاسة الملاقی والملاقى أو بنجاسة الآخر کما لا یخفى ، فیتنجز التکلیف بالاجتناب عن النجس فی البین ، وهو الواحد أو الإثنان (4).
المقام الثّانی : ( فی دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین ).
والحق أن العلم الإِجمالی بثبوت التکلیف بینهما ـ أیضاً ـ یوجب الاحتیاط عقلاً بإتیان الأکثر ، لتنجزه به حیث تعلق بثبوته فعلا.
__________________
1 ـ جعل الشیخ هذا التوهم أحد الاحتمالین فی المسألة ، مستشهداً له بکلام السید أبی المکارم فی الغنیة ولم نعثر علیه فی الغنیة ، نعم استدل أبو المکارم بایتی تحریم الخبائت وتحریم المیتة ، ولکن یظهر ما ذکره الشیخ من کلام السید المرتضى فی الناصریات ، للمزید راجع فرائد الأصول 252 والغنیة ( الجوامع الفقهیة 489 ) والناصریات ( الجوامع الفقهیة 214 ).
2 ـ أثبتناها من « ب ».
3 ـ وأنّ لم یکن احتمال نجاسة ما لاقاه إلّا من ملاقاته ، منه ( 1 ).
4 ـ فی نسختی « أ و ب » الاثنین. 
 
وتوهم (1) انحلاله إلى العلم بوجوب الأقل تفصیلاً والشک فی وجوب الأکثر بدواً ـ ضرورة لزوم الإِتیان بالاقل لنفسه شرعاً ، أو لغیره کذلک أو عقلاً ، ومعه لا یوجب تنجزه لو کان متعلقاً بالأکثر ـ فاسد قطعاً ، لاستلزام الانحلال المحال ، بداهة توقف لزوم الأقلّ فعلاً امّا لنفسه أو لغیره على تنجزه إلّا إذا کان متعلقاً بالاقل کان خلفاً ، مع إنّه یلزم من وجوده عدمه ، لاستلزامه عدم تنجز التکلیف على کلّ حال المستلزم لعدم لزوم الأقلّ مطلقاً ، المستلزم لعدم الانحلال ، وما یلزم من وجوده عدمه محال.
نعم إنّما ینحل إذا کان الأقل ذا مصلحة ملزمة ، فإن وجوبه حینئذ یکون معلوماً له ، وإنما کان التردید لاحتمال أن یکون الأکثر ذا مصلحتین ، أو مصلحة أقوى من مصلحة الأقلّ ، فالعقل فی مثله وأنّ استقل بالبراءة بلا کلام ، إلّا إنّه خارج عما هو محلّ النقض والأبرام فی المقام. هذا.
مع أن الغرض الداعی إلى الأمر لا یکاد یحرز إلّا بالأکثر ، بناءً على ما ذهب إلیه المشهور من العدلیة من تبعیة الأوامر والنواهی للمصالح والمفاسد فی المأمور به والمنهی عنه ، وکون الواجبات الشرعیة ألطافاً فی الواجبات العقلیة ، وقد مرّ (2) اعتبارٍ موافقة الغرض وحصوله عقلاً فی إطاعة الأمر وسقوطه ، فلابد من إحرازه فی إحرازها ، کما لا یخفى.
ولا وجه للتفصی عنه (3) : تارةً بعدم ابتناء مسألة البراءة والاحتیاط على ما ذهب إلیه مشهور العدلیة ، وجریإنّها على ما ذهب إلیه الأشاعرة المنکرین (4) لذلک ، أو
__________________
1 ـ تعریض بالشیخ 1 ، راجع فرائد الأصول / 274.
2 ـ فی المبحث الخامس من الفصل الثّانی من المقصد الأوّل فی الأوامر حیث قال : وأنّ لم یکد یسقط بذلک فلا یکاد له وجه إلّا عدم حصول غرضه .. إلخ.
3 ـ ردّ على الشیخ ، أنظر فرائد الأصول / 273.
4 ـ فی نسخ « أ » و « ب ». المنکرین ... المکتفین ، والصحیح ما اثبتناه. 
 
بعض العدلیة المکتفین بکون المصلحة فی نفس الأمر دون المأمور به.
وأُخرى بأن حصول المصلحة واللطف فی العبادات لا یکاد یکون إلّا بإتیإنّها على وجه الامتثال ، وحینئذ کان لاحتمال اعتبارٍ معرفة أجزائها تفصیلاً ـ لیؤتى بها مع قصد الوجه ـ مجال ، ومعه لا یکاد یقطع بحصول اللطف والمصلحة الداعیة إلى الأمر ، فلم یبق إلّا التخلص عن تبعة مخالفته بإتیان ما علم تعلقه به ، فإنّه واجب عقلاً وأنّ لم یکن فی المأمور به مصلحة ولطف رأساً ، لتنجزه بالعلم به إجمالا. وأما الزائد علیه لو کان فلا تبعة على مخالفته من جهته ، فإن العقوبة علیه بلا بیان.
وذلک ضرورة أن حکم العقل بالبراءة ـ على مذهب الاشعری ـ لا یجدی من ذهب إلى ما علیه المشهور من العدلیة ، بل من ذهب إلى ما علیه غیر المشهور ، لاحتمال أن یکون الداعی إلى الأمر ومصلحته ـ على هذا المذهب أیضاً ـ هو ما فی الواجبات من المصلحة وکونها ألطافاً ، فافهم.
وحصول اللطف والمصلحة فی العبادة ، وأنّ کان یتوقف على الإِتیان بها على وجه الامتثال ، إلّا إنّه لا مجال لاحتمال اعتبارٍ معرفة الإِجزاء وإتیإنّها على وجهها ، کیف؟ ولا إشکال فی إمکان الاحتیاط هاهنا کما فی المتباینین ، ولا یکاد یمکن مع اعتباره. هذا مع وضوح بطلان احتمال اعتبارٍ قصد الوجه کذلک ، والمراد بالوجه فی کلام من صرح بوجوب إیقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترإنّه به ، هو وجه نفسه من وجوبه النفسی ، لا وجه أجزائه من وجوبها الغیری أو وجوبها العرضی ، وإتیان الواجب مقترناً بوجهه غایة ووصفا بإتیان الأکثر بمکان من الإِمکان ؛ لانطباق الواجب علیه ولو کان هو الأقلّ ، فیتأتى من المکلف معه قصد الوجه.
واحتمال اشتماله على ما لیس من أجزائه لیس بضائر ، إذا قصد وجوب المأتیّ على إجماله ، بلا تمییز ماله دخل فی الواجب من أجزائه ، لاسیما إذا دار الزائد بین کونه جزءاً لماهیته وجزءاً لفرده ، حیث ینطبق الواجب على المأتیّ 
 
حینئذ بتمامه وکماله ، لأن الطبیعی یصدق على الفرد بمشخصاته.
نعم ، لو دار بین کونه جزءاً أو مقارناً لما کان منطبقا علیه بتمامه لو لم یکن جزءاً ، لکنه غیر ضائر لانطباقه علیه أیضاً فیما لم یکن ذاک الزائد جزء غایته ، لا بتمامه بل بسائر أجزائه هذا.
مضافاً إلى أن اعتبارٍ قصد الوجه من رأس مما یقطع بخلافه ، مع أن الکلام فی هذه المسألة لا یختص بما لابد أن یؤتى به على وجه الامتثال من العبادات ، مع إنّه لو قیل باعتبار قصد الوجه فی الامتثال فیها على وجه ینافیه التردد والاحتمال ، فلا وجه معه للزوم مراعاة الأمر المعلوم أصلاً ، ولو بإتیان الأقلّ لو لم یحصل الغرض ، وللزم الاحتیاط بإتیان الأکثر مع حصوله ، لیحصل القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال ، لاحتمال بقائه مع الأقلّ بسبب بقاء غرضه ، فافهم.
هذا بحسب حکم العقل.
وأما النقل (1) فالظاهر أن عموم مثل حدیث الرفع قاضٍ برفع جزئیة ما شک فی جزئیته ، فبمثله یرتفع الإِجمال والتردد عما تردد أمره بین الأقل والأکثر ، ویعیّنه فی الأول.
لا یقال (2) : إن جزئیة السورة المجهولة (3) ـ مثلاً ـ لیست بمجعولة ولیس لها أثر مجعول ، والمرفوع بحدیث رافع إنّما هو المجعول بنفسه أو أثره ، ووجوب الإِعادة
__________________
1 ـ لکنه لا یخفى إنّه لا مجال للنقل فیما هو مورد حکم العقل بالاحتیاط ، وهو ما إذا علم إجمالاً بالتکلیف الفعلّی ، ضرورة إنّه ینافیه دفع الجزئیة المجهولة ، وإنما یکون مورده ما إذا لم یعلم به کذلک ، بل علم مجرد ثبوته واقعاً ، وبالجملة الشک فی الجزئیة والشرطیة وأنّ کان جامعاً بین الموردین ، إلّا أن مورد حکم العقل مع القطع بالفعلیة ، ومورد النقل هو مجرد الخطاب بالإِیجاب ، فافهم منه ( 1 ).
2 ـ القائل هو الشیخ الانصاری 1 ، فرائد الأصول / 278.
3 ـ هکذا صححه فی « ب » وفی « أ » : المنسیة. 
 
إنما هو أثر بقاء الأمر الأوّل بعد العلم (1) مع إنّه عقلی ، ولیس إلّا من باب وجوب الإطاعة عقلاً.
لإنّه یقال : إن الجزئیة وأنّ کانت غیر مجعولة بنفسها ، إلّا إنّها مجعولة بمنشأ انتزاعها ، وهذا کافٍ فی صحة رفعها.
لا یقال : إنّما یکون ارتفاع الأمر الانتزاعی برفع منشأ انتزاعه ، إلّا أن نسبة حدیث الرفع ـ الناظر إلى الادلة الدالة على بیان الإِجزاء ـ إلیها نسبة الاستثناء ، وهو معها یکون دالّة على جزئیتها إلّا مع الجهل بها (2) ، کما لا یخفى ، فتدبر جیّداً.
وینبغی التنبیه على أمور :
الأول : إنّه ظهر مما مرّ حال دوران الأمر بین المشروط بشیء ومطلقه ، وبین الخاص کالإنسان وعامه کالحیوان ، وإنّه لا مجال ها هنا للبراءة عقلاً ، بل کان الأمر فیهما أظهر ، فإن الانحلال المتوهم فی الأقلّ والأکثر لا یکاد یتوهم هاهنا ، بداهة أن الأجزاء التحلیلیة لا یکاد یتصف باللزوم من باب المقدمة عقلاً ، فالصلاة ـ مثلاً ـ فی ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصة موجودة بعین وجودها ، وفی ضمن صلاة أُخرى فاقدة لشرطها وخصوصیتها تکون متباینة للمأمور بها ، کما لا یخفى.
نعم لا بأس بجریان البراءة النقلیة فی خصوص دوران الأمر بین المشروط وغیره ، دون دوران الأمر (3) بین الخاص وغیره ، لدلالة مثل حدیث الرفع على عدم شرطیة ما شک فی شرطیته ، ولیس کذلک خصوصیة الخاص ، فإنّها إنّما تکون منتزعة عن نفس الخاص ، فیکون الدوران بینه و [ بین ] (4) غیره من قبیل الدوران بین
__________________
1 ـ فی « أ » : التذکر.
2 ـ فی « أ » : مع نسیإنّها.
3 ـ فی « أ » : دون الدوران بین ... إلخ.
4 ـ اثبتناها من « ب ». 
 
المتباینین ، فتأمل جیّداً.
الثانی : إنّه لا یخفى أن الأصل فیما إذا شک فی جزئیة شیء أو شرطیته فی حال نسیإنّه عقلاً ونقلا ، ما ذکر فی الشک فی أصل الجزئیة أو الشرطیّة ، فلولا مثل حدیث الرفع (1) مطلقاً و ( لا تعاد ) (2) فی الصلاة لحکم (3) عقلاً بلزوم إعادة ما أخلّ بجزئه أو شرطه نسیاناً ، کما هو الحال فیما ثبت شرعاً جزئیته أو شرطیته مطلقاً نصاً أو إجماعاً.
ثم لا یذهب علیک إنّه کما یمکن رفع الجزئیة أو الشرطیّة فی هذا الحال بمثل حدیث الرفع ، کذلک یمکن تخصیصهما (4) بهذا الحال بحسب الأدلة الاجتهادیة ، کما إذا وجه الخطاب على نحو یعم الذاکر والناسی بالخالی عما شک فی دخله مطلقاً ، وقد دلّ دلیل آخر على دخله فی حق الذاکر ، أو وجّه إلى الناسی خطاب یخصه بوجوب الخالی بعنوان آخر عام أو خاص ، لا بعنوان الناسی کی یلزم استحالة إیجاب ذلک علیه بهذا العنوان ؛ لخروجه عنه بتوجیه الخطاب إلیه لا محالة. کما توهّم (5) لذلک استحالة تخصیص الجزئیة أو الشرطیّة بحال الذکر وإیجاب العمل الخالی عن المنسی على الناسی ، فلا تغفل.
الثالث : إنّه ظهر ـ ممّا مرّ ـ حال زیادة الجزء إذا شک فی اعتبارٍ عدمها شرطاً أو شطراً فی الواجب ـ مع عدم اعتباره فی جزئیته ، وإلاّ لم یکن من زیادته بل من نقصإنّه ـ وذلک لاندراجه فی الشک فی دخل شیء فیه جزءاً أو شرطاً ، فیصحّ لو أتى به مع الزیادة عمداً تشریعاً أو جهلاً قصوراً أو تقصیراً أو سهواً ، وأنّ استقل العقل
__________________
1 ـ الخصال 2 / 417 ، الحدیث 9 والفقیه 1 / 36 الحدیث 4.
2 ـ الفقیه 1 / 225 ، أحکام السهو الحدیث 8 ، الفقیه 1 / 181 ، فی القبلة / الحدیث 17 ، والتهذیب 2 / 52 ، ب 9 / الحدیث 55.
3 ـ فی « ب » : یحکم.
4 ـ فی « ب » : تخصیصها.
5 ـ المتوهم هو الشیخ 1 ، فرائد الأصول / 286. 
 
لولا النقل بلزوم الاحتیاط ، لقاعدة الاشتغال.
نعم لو کان عبادة وأتى به کذلک ، على نحو لو لم یکن للزائد دخل فیه لما یدعو إلیه وجوبه ، لکان باطلاً مطلقاً أو فی صورة عدم دخله فیه ، لعدم قصد الامتثال فی هذه الصورة ، مع استقلال العقل بلزوم الإِعادة مع اشتباه الحال لقاعدة الاشتغال.
وأما لو أتى به على نحو یدعوه إلیه على أیّ حال کان صحیحاً ، ولو کان مشرّعاً فی دخله الزائد فیه بنحو ، مع عدم علمه بدخله ، فإن تشریعه فی تطبیق المأتیّ مع المأمور به ، وهو لا ینافی قصده الامتثال والتقرب به على کلّ حال.
ثم إنّه ربما تمسک لصحة ما أتى به مع الزیادة باستصحاب الصحة ، وهو لا یخلو من کلام ونقض وإبرام خارج عما هو المهمّ فی المقام ، ویأتی (1) تحقیقه فی مبحث الاستصحاب ، إن شاء الله تعالى.
الرابع : إنّه لو علم بجزئیة شیء أو شرطیته فی الجملة ، ودار [ الأمر ] (2) بین أن یکون جزءاً أو شرطاً مطلقاً ولو فی حال العجز عنه ، وبین أن یکون جزءا أو شرطاً فی خصوص حال التمکن منه ، فیسقط الأمر بالعجز عنه على الأوّل ، لعدم القدرة حینئذ على المأمور به ، لا على الثّانی فیبقى متعلقاً بالباقی ، ولم یکن هناک ما یعین أحد الأمرین ، من إطلاق دلیل اعتباره جزءاً أو شرطاً ، أو إطلاق دلیل المأمور به مع إجمال دلیل اعتباره أو إهماله ، لاستقل العقل بالبراءة عن الباقی ، فإن العقاب على ترکه بلا بیان والمؤاخذة علیه بلا برهان.
لا یقال : نعم ولکن قضیة مثل حدیث الرفع عدم الجزئیة أو الشرطیّة إلّا فی حال التمکن منه.
فإنّه یقال : إنّه لا مجال ها هنا لمثله ، بداهة إنّه ورد فی مقام الامتنان ،
__________________
1 ـ الظاهر إنّه 1 نسی وعده ، وللمزید راجع نهایة الدرایة 2 / 288.
2 ـ اثبتناها من « ب ».

کفایة الاصول - قسمت هشتم

وکیف کان ، فالمحکی عن السید (1) والقاضی (2) وابن زهرة (3) والطبرسی (4) وابن إدریس (5) عدم حجیة الخبر ، واستدل (6) لهم بالآیات الناهیة (7) عن اتباع غیر العلم ، والروایات (8) الدالة على ردّ ما لم یعلم إنّه قولهم ( علیهم
__________________
1 ـ الذریعة 2 : 528 ، فی التعبد بخبر الواحد ورسالة السیّد فی إبطال العمل بالخبر الواحد ، المطبوعة فی رسائل السید المرتضى 3 : 309 وأجوبته عن مسائل التبانیات المطبوعة فی ضمن رسائله 1 : 21 ، الفصل الثانی. علم الهدى أبو القاسم علی بن الحسین المشهور بالسید المرتضى ، تولد سنة 355 ، حاز من الفضائل ما تفرد به ، له تصانیف مشهورة منها « الشافی » فی الامامة و « الذخیرة » و « الذریعة » وغیرها ، خلف بعد وفاته ثمانین الف مجلد من مقرواته ومصنفاته ، توفی لخمس بقین من شهر ربیع الأوّل سنة 436 ه‍. ( الکنى والالقاب 2 / 483 ).
2 ـ الشیخ عبد العزیز بن نحریر بن عبد العزیز بن البراج ، وجه الأصحاب وفقیههم ، لقب بالقاضی لکونه قاضیاً فی طرابلس ، قرأ على السید والشیخ فترة ویروی عنهما وعن الکراجکی وأبی الصلاح الحلبی. له « المهذب » و « الموجز » و « الکامل » و « الجواهر ». توفی فی 9 شعبان سنة 481 ( الکنى والالقاب 1 / 224 ).
3 ـ الغنیة : 475 ، ( المطبوعة فی الجوامع الفقهیة ).
أبو المکارم حمزة بن علی بن زهرة الحسینی الحلبی العالم الفاضل الفقیه ، یروی عن والده وغیره ، له « غنیة النزوع إلى علمی الأصول والفروع » و « قبس الانوار فی نصرة العترة الأطهار » توفی سنة 585 فی سن اربع وسبعین ، قبره بحلب بسفح جبل جوشن عند مشهد السقط. ( الکنى والالقاب 1 / 299 ).
4 ـ کذا یظهر من تفسیره آیة النبأ ، مجمع البیان 5 : 133.
أمین الاسلام أبو علی الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسی المشهدی مفسر فقیه صاحب کتاب مجمع البیان وجوامع الجامع ، کان معاصراً لصاحب الکشاف ، یروی عنه جماعة من أفاضل العلماء ، منهم ولده الحسن بن الفضل وابن شهر آشوب والقطب الراوندی ، انتقل من المشهد الرضوی إلى سبزوار سنة 523 وانتقل منها إلى دار الخلود سنة 548 وحمل نعشه إلى المشهد المقدس وقبره معروف ( ریاض العلماء 4 / 340 ).
5 ـ السرائر : 5.
6 ـ المعتمد 2 : 124.
7 ـ الاسراء : 36 ، النجم : 28.
8 ـ مستدرک الوسائل 3 : 186 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 10.
 
السلام ) ، أو لم یکن علیه شاهد من کتاب الله أو شاهدان (1) ، أو لم یکن موافقاً للقرآن إلیهم (2) ، أو على بطلان ما لا یصدقه کتاب الله (3) ، أو على أن ما لا یوافق کتاب الله زخرف (4) ، أو على النهی عن قبول حدیث إلّا ما وافق الکتاب أو السنة (5) ، إلى غیر ذلک (6). والإجماع المحکی (7) عن السید فی مواضع من کلامه ، بل حکی (8) عنه إنّه جعله بمنزلة القیاس ، فی کون ترکه معروفاً من مذهب الشیعة.
والجواب : امّا عن الآیات ، فبأن الظاهر منها أو المتیقن من إطلاقاًتها هو اتباع غیر العلم فی الأُصول الاعتقادیة ، لا ما یعم الفروع الشرعیة ، ولو سلّم عمومها لها ، فهی مخصصة بالأدلة الآتیة على اعتبارٍ الأخبار.
وأما عن الروایات ، فبأن الاستدلال بها خال عن السداد ، فإنّها أخبار آحاد.
لا یقال : إنّها وأنّ لم تکن متواترة لفظاً ولا معنى ، إلّا إنّها متواترة إجمالاً ، للعلم الإِجمالی بصدور بعضها لا محالة.
فإنّه یقال : إنّها وأنّ کانت کذلک ، إلّا إنّها لا تفید إلّا فیما توافقت علیه ، وهو غیر مفید فی إثبات السلب کلیّاً ، کما هو محلّ الکلام ومورد النقض والإبرام ، وإنما تفید عدم حجیة الخبر المخالف للکتاب والسنة ، والالتزام به لیس بضائر ، بل
__________________
1 ـ وسائل الشیعة 18 : 80 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 18.
2 ـ مستدرک الوسائل 3 : 186 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 5.
3 ـ المحاسن 1 : 221.
4 ـ وسائل الشیعة 18 : 78 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 12.
5 ـ وسائل الشیعة 18 : 78 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 11.
6 ـ راجع وسائل الشیعة 18 : 75 : أحادیث باب 9 من أبواب صفات القاضی.
7 ـ أجوبة المسائل التبانیات 1 : 24 ، الفصل الثانی.
8 ـ رسائل السید المرتضى 3 : 309 ، رسالة إبطال العمل بالخبر الواحد.  

 
لا محیص عنه فی مقام المعارضة.
وأما عن الإجماع ، فبأن المحصّل منه غیر حاصل ، والمنقول منه للاستدلال به غیر قابل ، خصوصاً فی المسألة ، کما یظهر وجهه للمتأمل ، مع إنّه معارض بمثله ، وموهون بذهاب المشهور إلى خلافه.
وقد استدل للمشهور بالادلّة الأربعة :
فصل
فی الآیات التی استدل بها :
فمنها : آیة النبأ ، قال الله تبارک وتعالى : ( إِن جَاءَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا ) (1). ویمکن تقریب الاستدلال بها من وجوه (2) : أظهرها إنّه من جهة مفهوم الشرط ، وأنّ تعلیق الحکم بإیجاب التبین عن النبأ الذی جیء به على کون الجائی به الفاسق (3) ، یقتضی انتفاءه عند انتفائه.
ولا یخفى إنّه على هذا التقریر لا یرد : أن الشرط فی القضیة لبیان تحقق الموضوع فلا مفهوم له ، أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع ، فافهم.
نعم لو کان الشرط هو نفس تحقق النبأ ومجیء الفاسق به ، کانت القضیة الشرطیّة مسوقة لبیان تحقق الموضوع ، مع إنّه یمکن أن یقال : إن القفضیة ولو کانت مسوقة لذلک ، إلّا إنّها ظاهرة فی انحصار موضوع وجوب التبین فی النبأ الذی جاء به الفاسق ، فیقتضی انتفاء وجوب التبین عند انتفائه ووجود موضوع آخر ، فتدبر.
ولکنه یشکل (4) بإنّه لیس لها هاهنا ملهوم ، ولو سلّم أن أمثالها ظاهرة فی
__________________
1 ـ الحجرات : 6.
2 ـ ذکر الوجوه فی حاشیة الفرائد / 60.
3 ـ فی منتهى الدرایة 4 / 441 : فاسقا.
4 ـ وللمزید راجع فرائد الأصول / 72 ، وعدة الأصول / 1 / 44 ، ومعارج الأصول / 145. 
 
المفهوم ، لأن التعلیل بإصابة القوم بالجهالة المشترک بین المفهوم والمنطوق ، یکون قرینة على إنّه لیس لها مفهوم.
ولا یخفى أن الإِشکال إنّما یبتنی على کون الجهالة بمعنى عدم العلم ، مع أن دعوى إنّها بمعنى السفاهة وفعل مالا ینبغی صدوره من العاقل غیر بعیدة.
ثم إنّه لو سلّم تمامیة دلالة الآیة على حجیة خبر العدل ، ربما أشکل شمول مثلها للروایات الحاکیة لقول الإمام 7 بواسطة أو وسائط ، فإنّه کیف یمکن الحکم بوجوب التصدیق الذی لیس إلّا بمعنى وجوب ترتیب ما للمخبر به من الأثر الشرعی بلحاظ نفس هذا الوجوب ، فیما کان المخبر به خبر العدل أو عدالة المخبر ؛ لإنّه وأنّ کان أثراً شرعیاً لهما ، إلّا إنّه بنفس الحکم فی مثل الآیة بوجوب تصدیق خبر العدل حسب الفرض.
نعم لو اُنشىء هذا الحکم ثانیاً ، فلا بأس فی أن یکون بلحاظه أیضاً ، حیث إنّه صار أثراً بجعل آخر ، فلا یلزم اتحاد الحکم والموضوع ، بخلاف ما إذا لم یکن هناک إلّا جعل واحد ، فتدبّر.
ویمکن ذب الإِشکال (1) ، بإنّه إنّما یلزم إذا لم یکن القضیة طبیعیة ، والحکم فیها بلحاظ طبیعة الأثر ، بل بلحاظ أفراده ، وإلاّ فالحکم بوجوب التصدیق یسری إلیه سرایة حکم الطبیعة إلى أفراده ، بلا محذور لزوم اتحاد الحکم والموضوع. هذا مضافاً إلى القطع بتحقق ما هو المناط فی سائر الآثار فی هذا الأثر ـ أیّ وجوب التصدیق ـ بعد تحققه بهذا الخطاب ، وأنّ کان لا یمکن أن یکون ملحوظاً (2) لأجل المحذور ، وإلى عدم القول بالفصل بینه وبین سائر الآثار ، فی وجوب الترتیب لدى الإخبار بموضوع ، صار أثره الشرعی وجوب التصدیق ، وهو خبر العدل ، ولو بنفس الحکم فی الآیة به ، فافهم.
__________________
1 و 2 ـ الصحیح ما أثبتناه وما فی النسخ المطبوعة خطأ ظاهر. 
 
ولا یخفى إنّه لا مجال بعد اندفاع الإِشکال بذلک للاشکال فی خصوص الوسائط من الأخبار ، کخبر الصفار المحکی بخبر المفید مثلاً ، بإنّه لا یکاد یکون خبراً تعبداً إلّا بنفس الحکم بوجوب تصدیق العادل الشامل للمفید ، فکیف یکون هذا الحکم المحقق لخبر الصفار تعبداً مثلاً حکماً له أیضاً ؛ وذلک لأنّه إذا کان خبر العدل ذا أثر شرعی حقیقة بحکم الآیة وجب ترتیب أثره علیه عند إخبار العدل به ، کسائر ذوات الآثار من الموضوعاًت ، لما عرفت من شمول مثل الآیة للخبر الحاکی للخبر بنحو القضیة الطبیعیة ، أو لشمول الحکم فیها له مناطاً ، وأنّ لم یشمله لفظاً ، أو لعدم القول بالفصل ، فتأمل جیداً.
ومنها : آیة النفر ، قال الله تبارک وتعالى : ( فَلَوْلَا نَفَرَ مِن کلّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ ) (1) الآیة ، وربما یستدل بها من وجوه :
أحدها : إن کلمة ( لعل ) وأنّ کانت مستعملة على التحقیق فی معناه الحقیقی ، وهو الترجی الإِیقاعی الإنشائی ، إلّا أن الداعی إلیه حیث یستحیل فی حقه تعالى أن یکون هو الترجی الحقیقی ، کان هو محبوبیة التحذر عند الإنذار ، وإذا ثبت محبوبیّته ثبت وجوبه شرعاً ، لعدم الفصل ، وعقلاً لوجوبه مع وجود ما یقتضیه ، وعدم حسنه ، بل عدم إمکانه بدونه.
ثانیها : إنّه لما وجب الإنذار لکونه غایة للنفر الواجب ، کما هو قضیة کلمة ( لولا ) التحضیضیة ، وجب التحذر ، وإلاّ لغا وجوبه.
ثالثها : إنّه جعل غایة للإنذار الواجب ، وغایة الواجب واجب.
ویشکل الوجه الأوّل ، بأن التحذر لرجاء إدراک الواقع وعدم الوقوع فی محذور مخالفته ، من فوت المصلحة أو الوقوع فی المفسدة ، حسن ، ولیس بواجب فیما لم یکن هناک حجة على التکلیف ، ولم یثبت ها هنا عدم الفصل ، غایته عدم
__________________
1 ـ التوبة : 122. 
 
القول بالفصل.
والوجه الثّانی والثالث بعدم انحصار فائدة الانذار ب‍ [ إیجاب ] (1) التحذر تعبداً ، لعدم إطلاق یقتضی وجوبه على الإِطلاق ، ضرورة أن الآیة مسوقة لبیان وجوب النفر ، لا لبیان غایتیة التحذر ، ولعل وجوبه کان مشروطاً بما إذا أفاد العلم لو لم نقل بکونه مشروطاً به ، فإن النفر إنّما یکون لأجل التفقه وتعلم معالم الدین ، ومعرفة ما جاء به سید المرسلین 9 ، کی ینذروا بها المتخلفین أو النافرین ، على الوجهین فی تفسیر الآیة ، لکی یحذروا إذا أنذروا بها ، وقضیته إنّما هو وجوب الحذر عند إحراز أن الإنذار بها ، کما لا یخفى.
ثم إنّه أشکل أیضاً ، بأن الآیة لو سلّم دلالتها على وجوب الحذر مطلقاً فلا دلالة لها على حجیة الخبر بما هو خبر ، حیث إنّه لیس شأن الراوی إلّا الإخبار بما تحمله ، لا التخویف والإنذار ، وإنما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلد.
قلت : لا یذهب علیک إنّه لیس حال الرواة فی الصدر الأوّل فی نقل ما تحملوا من النبی ( صلّى الله علیه وعلى أهل بیته الکرام ) أو الإمام 7 من الأحکام إلى الأنام ، إلّا کحال نقلة الفتاوى إلى العوام ؛ ولا شبهة فی إنّه یصحّ منهم التخویف فی مقام الإبلاغ والإنذار والتحذیر بالبلاغ ، فکذا من الرواة ، فالآیة لو فرض دلالتها على حجیة نقل الراوی إذا کان مع التخویف ، کان نقله حجة بدونه أیضاً ، لعدم الفصل بینهما جزماً ، فافهم.
ومنها : آیة الکتمان ، ( إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا ) (2) الآیة.
وتقریب الاستدلال بها : إن حرمة الکتمان تستلزم وجوب (3) القبول عقلاً ،
__________________
1 ـ اثبتناها من « ب ».
2 ـ البقرة : 159.
3 ـ أثبتناها من « أ ».  

 
للزوم لغویته بدونه ، ولا یخفى إنّه لو سلمت هذه الملازمة لا مجال (1) للایراد على هذه الآیة بما أورد على آیة النفر ، من دعوى الإِهمال أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم ، فإنّها تنافیهما ، کما لا یخفى ، لکنها ممنوعة ، فإن اللغویة غیر لازمة ، لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبداً ، وإمکان أن تکون حرمة الکتمان لأجل وضوح الحق بسبب کثرة من أفشاه وبینه ، لئلا یکون للناس على الله حجة ، بل کان له علهیم الحجة البالغة.
ومنها : آیة السؤال عن أهل الذکر ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِن کُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (2). وتقریب الاستدلال بها ما فی آیة الکتمان.
وفیه : إن الظاهر منها إیجاب السؤال لتحصیل العلم ، لا للتعبد بالجواب.
وقد أورد (3) علیها : بإنّه لو سلّم دلالتها على التعبد بما أجاب أهل الذکر ، فلا دلالة لها على التعبد بما یروی الراوی ، فإنّه بما هو راو لا یکون من أهل الذکر والعلم ، فالمناسب إنّما هو الاستدلال بها على حجیة الفتوى لا الروایة.
وفیه : إن کثیراً من الرواة یصدق علیهم إنّهم أهل الذکر والاطلاع على رأی الامام 7 کزرارة ومحمد بن مسلم ومثلهما ، ویصدق على السؤال عنهم إنّه السؤال عن [ أهل ] (4) الذکر والعلم ، ولو کان السائل من أضرابهم ، فإذا وجب قبول روایتهم فی مقام الجواب بمقتضى هذه الآیة ، وجب قبول روایتهم وروایة غیرهم من العدول مطلقاً ، لعدم الفصل جزماً فی وجوب القبول بین المبتدأ والمسبوق بالسؤال ، ولا بین أضراب زرارة وغیرهم ممن لا یکون من أهل
__________________
1 ـ دفع لما أورده الشیخ ـ من الاشکالین الأولین فی آیة النفر ـ على الاستدلال بهذه الآیة ، فرائد الأصول / 81.
2 ـ النحل : 43 ، الأنبیاء : 7.
3 ـ هذا هو الایراد الثالث للشیخ على الاستدلال بالآیة ، فرائد الأصول / 82.
4 ـ أثبتناها من « ب ». 
 
الذکر ، وإنما یروی ما سمعه أو رآه ، فافهم.
ومنها : آیة الأذن ( وَمِنْهُمُ الَّذِینَ یُؤْذُونَ النَّبِیَّ وَیَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَیْرٍ لَّکُمْ یُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَیُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ ) (1) فإنّه تبارک وتعالى مدح نبیه بإنّه یصدق المؤمنین ، وقرنه بتصدیقه تعالى.
وفیه : أوّلاً : إنّه إنّما مدحه بإنّه أذن ، وهو سریع القطع ، لا الآخذُ بقول الغیر تعبدا.
وثانیاً : إنّه إنّما المراد بتصدیقه للمؤمنین ، هو ترتیب خصوص الآثار التی تنفعهم ولا تضر غیرهم ، لا التصدیق بترتیب جمیع الآثار ، کما هو المطلوب فی باب حجیة الخبر ، ویظهر ذلک من تصدیقه للنمّام بإنّه ما نمّه ، وتصدیقه لله تعالى بإنّه نمّه ، کما هو المراد من التصدیق فی قوله 7 : ( فصدقه وکذبهم ) ، حیث قال ـ على ما فی الخبر (2) ـ : ( یا محمد (3) کذب سمعک وبصرک عن أخیک : فإن شهد عندک خمسون قسامة إنّه قال قولاً ، وقال : لم أقله ، فصدّقه وکذّبهم ) فیکون مراده تصدیقه بما ینفعه ولا یضرّهم ، وتکذیبهم فیما یضرّه ولا ینفعهم ، وإلاّ فکیف یحکم بتصدیق الواحد وتکذیب خمسین؟ وهکذا المراد بتصدیق المؤمنین فی قصة إسماعیل (4) ، فتأمل جیداً.
فصل
فی الأخبار التی دلت على اعتبارٍ أخبار الآحاد.
وهی وأنّ کانت طوائف کثیرة ، کما یظهر من مراجعة الوسائل (5) وغیرها ،
__________________
1 ـ التوبة : 61.
2 ـ عقاب الأعمال / 295 ، الحدیث 1 ، الکافی 8 / 147 ، الحدیث 125.
3 ـ فی « أ و ب » : یا أبا محمد والصحیح ما أثبتناه ، لإنّه خطاب لمحمد بن فضیل المکنى بأبی جعفر.
4 ـ الکافی 5 / 299 ، باب حفظ المال وکراهة الاضاعة من کتاب المعیشة ، الحدیث 1.
5 ـ الوسائل 18 : 72 الباب 8 من أبواب صفات القاضی والباب 9 ، الحدیث 5 والباب 11 ،  

 
إلا إنّه یشکل الاستدلال بها على حجیة أخبار الآحاد بإنّها أخبار آحاد ، فإنّها غیر متفقة على لفظ ولا على معنى ، فتکون متواترة لفظاً أو معنى.
ولکنه مندفع بإنّها وأنّ کانت کذلک ، إلّا إنّها متواترة إجمالاً ، ضرورة إنّه یعلم إجمالاً بصدور بعضها منهم : ، وقضیته وأنّ کان حجیة خبر دلّ على حجیته أخصها مضموناً (1) إلّا إنّه یتعدى عنه فیما إذا کان بینها ما کان بهذه الخصوصیة ، وقد دلّ على حجیة ما کان أعم ، فافهم.
فصل
فی الاجماع على حجیة الخبر.
وتقریره من وجوه :
أحدها : دعوى الإجماع من تتبع فتاوى الأصحاب على الحجیة من زماننا إلى زمان الشیخ ، فیکشف رضاه 7 بذلک ، ویقطع به ، أو من تتبع الإجماعات المنقولة على الحجیة.
ولا یخفى مجازفة هذه الدعوى ؛ لاختلاف الفتاوى فیما أخذ فی اعتباره من الخصوصیات ، ومعه لا مجال لتحصیل القطع برضاه 7 من تتبعها ، وهکذا حال تتبع الإجماعات المنقولة ، اللهم إلّا أن یَّدعى تواطؤها على الحجیة فی الجملة ، وإنما الاختلاف فی الخصوصیات المعتبرة فیها ، ولکن دون إثباته خرط القتاد.
ثانیها : دعوى اتفاق العلماء عملاً ـ بل کافة المسلمین ـ على العمل بخبر الواحد فی أُمورهم الشرعیة ، کما یظهر من أخذ فتاوى المجتهدین من الناقلین لها.
__________________
الحدیث 4 و 40.
1 ـ فی الحقائق 2 : 132 ، وأنّ کان حجیة خبر أخصها مضموناً ... الخ. 
 
وفیه : مضافاً إلى ما عرفت مما یرد على الوجه الأوّل ، إنّه لو سلّم اتفاقهم على ذلک ، لم یحرز أنّهم اتفقوا بما همّ مسلمون ومتدیّنون بهذا الدین ، أو بما همّ عقلاًء ولو لم یلتزموا بدین ، کما هو لا یزالون یعملون بها فی غیر الأمور الدینیة من الأمور العادیة ، فیرجع إلى ثالث الوجوه ، وهو دعوى استقرار سیرة العقلاء من ذوی الادیان وغیرهم على العمل بخبر الثقة ، واستمرت إلى زماننا ، ولم یردع عنه نبی ولا وصیّ نبی ، ضرورة إنّه لو کان لاشتهر وبان ، ومن الواضح إنّه یکشف عن رضا الشارع به فی الشرعیات أیضاً.
إن قلت : یکفی فی الردع الآیات الناهیة ، والروایات المانعة عن اتباع غیر العلم ، وناهیک قوله تعالى : ( ولا تقف ما لیس لک به علم ) (1) ، وقوله تعالى : ( وأنّ الظَّنَّ لَا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شیئاً ) (2).
قلت : لا یکاد یکفی تلک الآیات فی ذلک ، فإنّه ـ مضافاً إلى إنّها وردت إرشاداً إلى عدم کفایة الظن فی أُصول الدین ، ولو سلّم فإنما المتیقن لو لا إنّه المنصرف إلیه إطلاقها هو خصوص الظن الذی لم یقم على اعتباره حجة ـ لا یکاد یکون الردع بها إلّا على وجه دائر ، وذلک لأن الردع بها یتوقف على عدم تخصیص عمومها ، أو تقیید إطلاقها بالسیرة على اعتبارٍ خبر الثقة ، وهو یتوقف على الردع عنها بها ، وإلاّ لکانت مخصصة أو مقیدة لها ، کما لا یخفى.
لا یقال : على هذا لا یکون اعتبارٍ خبر الثقة بالسیرة أیضاً ، إلّا على وجه دائر ، فإنّ اعتباره بها فعلاً یتوقف على عدم الردع بها عنها ، وهو یتوقف على تخصیصها بها ، وهو یتوقف على عدم الردع بها عنها.
فإنّه یقال : إنّما یکفی فی حجیته بها عدم ثبوت الردع عنها ، لعدم نهوض ما یصلح لردعها ، کما یکفی فی تخصیصها لها ذلک ، کما لا یخفى ، ضرورة أن ما
__________________
1 ـ الاسراء : 36.
2 ـ النجم : 28.  

 
جرت علیه السیرة المستمرة فی مقام الإطاعة والمعصیة ، وفی استحقاق العقوبة بالمخالفة ، وعدم استحقاقها مع الموافقة ، ولو فی صورة المخالفة عن الواقع (1) ، یکون عقلاً فی الشرع متّبعاً ما لم ینهض دلیل على المنع عن اتباعه فی الشرعیات ، فافهم وتأملّ (2).
فصل
فی الوجوه العقلیة التی أقیمت على حجیة الخبر الواحد.
أحدها : إنّه یعلم إجمالاً بصدور کثیر مما بأیدینا من الأخبار من الأئمة الأطهار : بمقدار وافٍ بمعظم الفقه ، بحیث لو علم تفصیلاً ذاک المقدار لا نحل علمنا الإِجمالی بثبوت التکالیف بین الروایات وسائر الأمارات إلى
__________________
1 ـ لعل الانسب : المخالفة للواقع.
2 ـ قولنا : ( فافهم وتأملّ ) إشارة إلى کون خبر الثقة متبعاً ، ولو قیل بسقوط کلّ من السیرة والإِطلاق عن الاعتبار ، بسبب دوران الأمر بین ردعها به وتقییده بها ، وذلک لأجل استصحاب حجّیته الثابتة قبل نزول الآیتین.
فان قلت : لا مجال لاحتمال التقیید بها ، فإن دلیل اعتبارها مغیىّ بعدم الردع به عنها ، ومعه لا تکون صالحة لتقیید الإِطلاق مع صلاحیته للردع عنها ، کما لا یخفى.
قلت : الدلیل لیس إلّا إمضاءً الشارع لها ورضاه بها ، المستکشف بعدم الردع عنها فی زمان مع إمکانه ، وهو غیر مغیى ، نعم یمکن أن یکون له واقعاً ، وفی علمه تعالى أمد خاص ، کحکمه الابتدائی ، حیث إنّه ربما یکون له أمر فینسخ ، فالردع فی الحکم الامضائی لیس إلّا کالنسخ فی الابتدائی وذلک غیر کونه بحسب الدلیل مغیاً ، کما لا یخفى.
وبالجملة : لیس حال السیرة مع الآیات الناهیة إلّا کحال الخاص المقدّم ، والعام المؤخر ، فی دوران الأمر بین التخصیص بالخاص ، أو النسخ بالعام ، ففیهما یدور الأمر أیضاً بین التخصیص بالسیرة أو الردع بالآیات فافهم منه ( 1 ).

 
العلم التفصیلی بالتکالیف فی مضامین الأخبار الصادرة المعلومة تفصیلاً ، والشک البدوی فی ثبوت التکلیف فی مورد سائر الأمارات الغیر المعتبرة ، ولازم ذلک لزوم العمل على وفق جمیع الأخبار المثبتة ، وجواز العمل على طبق النافی منها فیما إذا لم یکن فی المسألة أصل مثبت له ، من قاعدة الإِشتغال أو الاستصحاب ، بناءً على جریإنّه فی أطراف [ ما ] (1) علم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة فی بعضها ، أو قیام أمارة معتبرة على انتقاضها فیه ، وإلاّ لاختص عدم جواز العمل على وفق النافی بما إذا کان على خلاف قاعدة الاشتغال.
وفیه : إنّه لا یکاد ینهض على حجیة الخبر ، بحیث یقدم تخصیصاً أو تقییداً أو ترجیحاً على غیره ، من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم ، وأنّ کان یسلم عما أورد علیه (2) من أن لازمه الاحتیاط فی سائر الأمارات ، لا فی خصوص الروایات ، لما عرفت من انحلال العلم الإِجمالی بینهما بما علم بین الأخبار بالخصوص ولو بالإِجمال فتأمل جیّداً.
ثانیها : ما ذکره فی الوافیة (3) ، مستدلّاً على حجیة الإخبار الموجودة فی الکتب المعتمدة للشیعة ، کالکتب الأربعة ، مع عمل جمع به من غیر ردّ ظاهر ، وهو :
( إنا نقطع ببقاء التکلیف إلى یوم القیامة ، سیما بالأُصول الضروریة ، کالصلاة والزکاة والصوم والحج والمتاجر والأنکحة ونحوها ، مع أن جل أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما یثبت بالخبر الغیر القطعی ، بحیث نقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن کونها هذه الأمور عند ترک العمل بخبر الواحد ، ومن أنکر فإنما ینکره باللسان وقلبه مطمئن بالإِیمان ). انتهى.
وأُورد (4) علیه : أولاً : بأن العلم الإِجمالی حاصل بوجود الإِجزاء والشرائط
__________________
1 ـ الزیادة من « ب ».
2 ـ أورده الشیخ على الوجه الأوّل بتقریره فلیلاحظ ، فرائد الأصول / 103.
3 ـ الوافیة / 57.
4 ـ إشارة إلى ما أورده الشیخ ( قده ) ، فرائد الأُصول / 105 ، فی جوابه عن التقریر الثّانی من 
 
بین جمیع الأخبار ، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذکره ، فاللازم حینئذ : امّا الاحتیاط ، أو العمل بکل ما دلّ على جزئیة شیء أو شرطیته (1).
قلت : یمکن أن یقال : إن العلم الإِجمالی وأنّ کان حاصلاً بین جمیع الأخبار ، إلّا أن العلم بوجود الإخبار الصادرة عنهم : بقدر الکفایة بین تلک الطائفة ، أو العلم باعتبار طائفة کذلک بینها ، یوجب انحلال ذاک العلم الإِجمالی ، وصیرورة غیره خارجةً عن طرف العلم ، کما مرت إلیه الإِشارة فی تقریب الوجه الأوّل ، اللهم إلّا أن یمنع عن ذلک ، وادعی (2) عدم الکفایة فیما علم بصدوره أو اعتباره ، أو ادعی (3) العلم بصدور أخبار أخر بین غیرها ، فتأمل.
وثانیاً : بأن قضیته إنّما هو العمل بالإخبار المثبتة للجزئیة أو الشرطیّة ، دون الأخبار النافیة لهما.
والأولى أن یورد علیه : بأن قضیته إنّما هو الاحتیاط بالأخبار المثبتة فیما لم تقم حجة معتبرة على نفیهما ، من عموم دلیل أو إطلاقه ، لا الحجیة بحیث یخصص أو یقید بالمثبت منهما ، أو یعمل بالنافی فی قبال حجة على الثبوت ولو کان أصلاً ، کما لا یخفى.
ثالثها : ما أفاده بعضٍ المحققین (4) بما ملخصه : إنا نعلم بکوننا مکلفین بالرجوع إلى الکتاب والسنة إلى یوم القیامة ، فإن تمکنا من الرجوع إلیهما على نحو یحصل العلم بالحکم أو ما بحکمه ، فلابد من الرجوع إلیهما کذلک ، وإلاّ فلا
__________________
دلیل العقل.
1 ـ کذا فی النسختین ، والموجود فی الرسائل : ( فاللازم حینئذٍ امّا الاحتیاط ، والعمل بکل خبر دلّ على جزئیة شیء أو شرطیته ، وإما العمل بکل خبر ظن صدوره مما دلّ على الجزئیة أو الشرطیّة ) ، راجع فرائد الأصول / 105.
2 و 3 ـ الأولى فی الموردین : یدعى.
4 ـ هو العلّامة الشیخ محمد تقی الاصفهانی فی هدایة المسترشدین / 397 ، السادس من وجوه حجیة الخبر.
 
 
محیص عن الرجوع على نحو یحصل الظن به فی الخروج عن عهدة هذا التکلیف ، فلو لم یتمکن من القطع بالصدور أو الاعتبار ، فلابد من التنزل إلى الظن بأحدهما.
وفیه : إن قضیة بقاء التکلیف فعلاً بالرجوع إلى الأخبار الحاکیة للسنة ـ کما صرح بإنّها المراد منها فی ذیل کلامه ، زید فی علو مقامه ـ إنّما هی الاقتصار فی الرجوع إلى الأخبار المتیقن الاعتبار ، فإن وفى ، وإلاّ أضیف إلیه الرجوع إلى ما هو المتیقن اعتباره بالإضافة لو کان ، وإلاّ فالاحتیاط بنحو عرفت ، لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره ، وذلک للتمکن من الرجوع علماً تفصیلاً أو إجمالاً ، فلا وجه معه من الاکتفاء بالرجوع إلى ما ظن اعتباره.
هذا مع أنّ مجال المنع عن ثبوت التکلیف بالرجوع إلى السنة ـ بذاک المعنى ـ فیما لم یعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع.
وأما الإیراد (1) علیه : برجوعه امّا إلى دلیل الانسداد لو کان ملاکه دعوى العلم الإِجمالی بتکالیف واقعیة ، وإما إلى الدلیل الأوّل ، لو کان ملاکه دعوى العلم بصدور أخبار کثیرة بین ما بأیدینا من الأخبار.
ففیه : إن ملاکه إنّما هو دعوى العلم بالتکلیف ، بالرجوع إلى الروایات فی الجملة إلى یوم القیامة ، فراجع تمام کلامه تعرف حقیقة مرامه.
__________________
1 ـ المستشکل علیه هو الشیخ ( قده ) ، فرائد الأصول / 106.  

 
فصل
فی الوجوه (1) التی أقاموها على حجیة الظن ، وهی أربعة :
الأول : إن فی مخالفة المجتهد لما ظنه من الحکم الوجوبی أو التحریمی مظنة للضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم.
أما الصغرى ، فلان الظن بوجوب شیء أو حرمته یلازم الظن بالعقوبة على مخالفته أو الظن بالمفسدة فیها ، بناءً على تبعیة الأحکام للمصالح والمفاسد.
وأما الکبرى ، فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون ، ولو لم نقل بالتحسین والتقبیح (2) ، لوضوح عدم انحصار ملاک حکمه بهما ، بل یکون التزامه بدفع الضرر المظنون بل المحتمل بما هو کذلک ولو لم یستقل بالتحسین والتقبیح ، مثل الالتزام بفعل ما استقل بحسنه ، إذا قیل باستقلاله ، ولذا أطبق العقلاء علیه ، مع خلافهم فی استقلاله بالتحسین والتقبیح ، فتدبرّ جیداً.
والصواب فی الجواب : هو منع الصغرى ، امّا العقوبة فلضرورة عدم الملازمة بین الظن بالتکلیف والظن بالعقوبة على مخالفته ، لعدم الملازمة بینه والعقوبة على مخالفته ، وإنما الملازمة بین خصوص معصیته واستحقاق العقوبة علیها ، لا بین
__________________
1 ـ ذکر الشیخ ( قده ) هذه الوجوه أیضاً ، فرائد الأصول / 106.
2 ـ هذا ردّ على الحاجبی : العضدی فی شرحه ، شرح العضدی على مختصر الأصول : 1 / 163.
 
 
مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها ، وبمجرد (1) الظن به بدون دلیل على اعتباره لا یتنجز به ، کی یکون مخالفته عصیإنّه.
إلا أن یقال : إن العقل وأنّ لم یستقل بتنجزه بمجرده ، بحیث یحکم باستحقاق العقوبة على مخالفته ، إلّا إنّه لا یستقل أیضاً بعدم استحقاقها معه ، فیحتمل العقوبة حینئذ على المخالفة ، ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشکوک کالمظنون قریبة جداً ، لا سیما إذا کان هو العقوبة الأُخرویة ، کما لا یخفى.
وأما المفسدة فلأنّها وأنّ کان الظن بالتکلیف یوجب الظن بالوقوع فیها لو خالفه ، إلّا إنّها لیست بضرر على کلّ حال ، ضرورة أن کلّ ما یوجب قبح الفعل من المفاسد لا یلزم أن یکون من الضرر على فاعله ، بل ربما یوجب حزازة ومنقصة فی الفعل ، بحیث یذم علیه فاعله بلا ضرر علیه أصلاً ، کما لا یخفى.
وأما تفویت المصلحة ، فلا شبهة فی إنّه لیس فیه مضرة ، بل ربما یکون فی استیفائها المضرة ، کما فی الإحسان بالمال. هذا.
مع منع کون الأحکام تابعة للمصالح والمفاسد فی المأمور به (2) والمنهی عنه (3) ، بل إنّما هی تابعة لمصالح فیها ، کما حققناه فی بعضٍ فوائدنا (4).
وبالجملة : لیست المفسدة ولا المنفعة الفائتة اللتان فی الأفعال وأنیط بهما الأحکام بمضرة ، ولیس مناط حکم العقل بقبح ما فیه المفسدة أو حسن ما فیه المصلحة من الأفعال على القول باستقلاله بذلک ، هو کونه ذا ضرر وارد على فاعله أو نفع عائد إلیه ، ولعمری هذا أوضح من أن یخفى ، فلا مجال لقاعدة رفع
__________________
1 ـ فی « ب » : ومجرد.
2 و 3 ـ أنث الضمیر فی النسخ ، والصواب ما أثبتناه.
4 ـ الفوائد : 337 ، فائدة فی اقتضاء الأفعال للمدح والذم ، عند قوله : فیمکن أن یکون صوریة ... ویمکن أن یکون حقیقیة. وراجع ما ذکره فی حاشیته على الرسائل : 76 ، عند قوله : مع احتمال عدم کون الأحکام تابعة لهما ، بل تابعة لما فی انفسهما من المصلحة ... الخ.  

 
الضرر المظنون ها هنا أصلاً ، ولا استقلال للعقل بقبح فعل ما فیه احتمال المفسدة أو ترک ما فیه احتمال المصلحة ، فافهم.
الثانی : إنّه لو لم یؤخذ بالظن لزم ترجیح المرجوح على الراجح وهو قبیح.
وفیه : إنّه لا یکاد یلزم منه ذلک إلّا فیما إذا کان الأخذ بالظن أو بطرفه لازماً ، مع عدم إمکان الجمع بینهما عقلاً ، أو عدم وجوبه شرعاً ، لیدور الأمر بین ترجیحه وترجیح طرفه ، ولا یکاد یدور الأمر بینهما إلّا بمقدمات دلیل الانسداد ، وإلاّ کان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلمی أو الاحتیاط أو البراءة أو غیرهما على حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال فی اختلاف المقدّمات ، على ما ستطلع على حقیقة الحال.
الثالث : ما عن السید الطباطبائی (1) 1 ، من :
إنّه لا ریب فی وجود واجبات ومحرمات کثیرة بین المشتبهات ، ومقتضى ذلک وجوب الاحتیاط بالإتیان بکل ما یحتمل الوجوب ولو موهوماً ، وترک ما یحتمل الحرمة کذلک ، ولکن مقتضى قاعدة نفی الحرج عدم وجوب ذلک کله ، لإنّه عسر أکید وحرج شدید ، فمقتضى الجمع بین قاعدتی الاحتیاط وانتفاء الحرج العمل بالاحتیاط فی المظنونات دون المشکوکات والموهومات ، لأن الجمع على غیر هذا الوجه بإخراج بعضٍ المظنونات وإدخال بعضٍ المشکوکات والموهومات باطل
__________________
1 ـ هو السید علی بن السید محمد علی الطباطبائی الحائری ، ولد فی الکاظمیة عام 1161 ه‍ اشتغل على ولد الأستاذ العلّامة ثم اشتغل عند خاله الأستاذ العلامة « وحید البهبهانی » وبعد مدة قلیلة اشتغل بالتصنیف والتدریس والتألیف ، له شرحان معروفان على النافع کبیر موسوم ب‍ « ریاض المسائل » وصغیر وغیرهما ، ونقل عنه أیضاً إنّه کان یحضر درس صاحب الحدائق ، وکتب جمیع مجلدات الحدائق بخطه الشریف ، تخرّج علیه صاحب المقابس وصاحب المطالع وصاحب مفتاح الکرامة وشریف العلماء وأمثالهم من الأجلة. توفی سنة 1231 ه‍ ودفن قریبا من قبر خاله العلامة ( روضات الجنات 4 / 399 الرقم 422 ). 
 
إجماعاً (1).
ولا یخفى ما فیه من القدح والفساد ، فإنّه بعضٍ مقدمات دلیل الانسداد ، ولا یکاد ینتج بدون سائر مقدماته ، ومعه لا یکون دلیل آخر ، بل ذاک الدلیل.
الرابع : دلیل الانسداد ، وهو مؤلف من مقدمات ، یستقل العقل مع تحققها بکفایة الإطاعة الظنیة حکومة أو کشفاً على ما تعرف ، ولا یکاد یستقل بها بدونها ، وهی خمس (2).
أولها : إنّه یعلم إجمالاً بثبوت تکالیف کثیرة فعلیة فی الشریعة.
ثانیها : إنّه قد انسد علینا باب العلم والعلمی إلى کثیر منها.
ثالثها : إنّه لا یجوز لنا إهمالها وعدم التعرض لامتثالها أصلاً.
رابعها : إنّه لا یجب علینا الاحتیاط فی أطراف علمنا ، بل لا یجوز فی الجملة ، کما لا یجوز الرجوع إلى الأصل فی المسألة ، من استصحاب وتخییر وبراءة واحتیاط ، ولا إلى فتوى العالم بحکمها.
خامسها : إنّه کان ترجیح المرجوح على الراجح قبیحاً.
فیستقل العقل حینئذٍ بلزوم الإطاعة الظنیة لتلک التکالیف المعلومة ، و إلّا لزم ـ بعد انسداد باب العلم والعلمی بها ـ امّا إهمالها ، وإما لزوم الاحتیاط فی أطرافها ، وإما الرجوع إلى الأصل الجاری فی کلّ مسألة ، مع قطع النظر عن العلم بها ، أو التقلید فیها ، أو الاکتفاء بالاطاعة الشکیة أو الوهمیة مع التمکن من الظنیة.
__________________
1 ـ حکى هذا القول الشیخ الانصاری 1 فی فرائد الأصول / 111 ، نقلاً عن أستاذه شریف العلماء عن أستاذه السید الاجل الاقا میرزا سید علی الطباطبائی 1 « صاحب الریاض » فی مجلس المذاکرة ، کما صرح بذلک العلامة المرحوم المیرزا محمد حسن الاشتیانی 1 راجع بحر الفوائد 189.
2 ـ الصواب ما أثبتناه وفی النسخ : خمسة. 
 
والفرض بطلان کلّ واحد منها.
أما المقدمة الأولى : فهی وأنّ کانت بدیهیة إلّا إنّه قد عرفت انحلال العلم الإِجمالی بما فی الإخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرین : التی تکون فیما بأیدینا ، من الروایات فی الکتب المعتبرة ، ومعه لا موجب للاحتیاط إلّا فی خصوص ما فی الروایات ، وهو غیر مستلزم للعسر فضلاً عما یوجب الاختلال ، ولا إجماع على عدم وجوبه ، ولو سلّم الإجماع على عدم وجوبه لو لم یکن هناک انحلال.
وأما المقدمة الثانیة : امّا بالنسبة إلى العلم ، فهی بالنسبة إلى أمثال زماننا بیّنة وجدانیة ، یعرف الانسداد کلّ من تعرض للاستنباط والاجتهاد.
وأما بالنسبة إلى العلمی ، فالظاهر إنّها غیر ثابتة ، لما عرفت من نهوض الأدلة على حجیة خبر یوثق بصدقه ، وهو بحمد الله وافٍ بمعظم الفقه ، لا سیما بضمیمة ما علم تفصیلاً منها ، کما لا یخفى.
وأما الثالثة : فهی قطعیة ، ولو لم نقل بکون العلم الإِجمالی منجّزاً مطلقاً أو فیما جاز ، أو وجب الاقتحام فی بعضٍ أطرافه ، کما فی المقام حسب ما یأتی ، وذلک لأن إهمال معظم الأحکام وعدم الاجتناب کثیراً عن الحرام ، مما یقطع بإنّه مرغوب عنه شرعاً ومما یلزم ترکه إجماعاً.
إن قلت : إذا لم یکن العلم بها منجّزاً لها للزوم الاقتحام فی بعضٍ الأطراف ـ کما أشیر إلیه ـ فهل کان العقاب على المخالفة فی سائر الأطراف ـ حینئذ ـ على تقدیر المصادفة إلّا عقاباً بلا بیان؟ والمؤاخذة علیها إلّا مؤاخذة بلا برهان؟!
قلت : هذا إنّما یلزم ، لو لم یعلم بإیجاب الاحتیاط ، وقد علم به بنحو اللّم ، حیث علم اهتمام الشارع بمراعاة تکالیفه ، بحیث ینافیه عدم إیجابه الاحتیاط الموجب للزوم المراعاة ، ولو کان بالالتزام ببعض المحتملات ، مع صحة دعوى الاجماع على عدم جواز الإِهمال فی هذا الحال ، وإنّه مرغوب عنه شرعاً قطعاً ، [ وأما 
 
مع استکشافه ] (1) فلا یکون المؤاخذة والعقاب حینئذ بلا بیان وبلا برهان ، کما حققناه فی البحث وغیره.
وأما المقدمة الرابعة : فهی بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتیاط التام بلا کلام ، فیما یوجب عسره اختلال النظام ، وأما فیما لا یوجب ، فمحل نظر بل منع ، لعدم حکومة قاعدة نفی العسر والحرج على قاعدة الاحتیاط ، وذلک لما حققناه (2) فی معنى ما دلّ على نفی الضرر والعسر ، من أن التوفیق بین دلیلهما ودلیل التکلیف أو الوضع المتعلقین بما یعمهما ، هو نفیهما عنهما بلسان نفیهما ، فلا یکون له حکومة على الاحتیاط العسر إذا کان بحکم العقل ، لعدم العسر فی متعلق التکلیف ، وإنما هو فی الجمع بین محتملاته احتیاطاً.
نعم ، لو کان معناه نفی الحکم الناشىء من قبله العسر ـ کما قیل (3) ـ لکانت قاعدة نفیه محکمة على قاعدة الاحتیاط ، لأن العسر حینئذ یکون من قبل التکالیف المجهولة ، فتکون منفیة بنفیه.
ولا یخفى إنّه على هذا لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتیاط فی بعضٍ الأطراف بعد رفع الید عن الاحتیاط فی تمامها ، بل لابد من دعوى وجوبه شرعاً ، کما أشرنا إلیه فی بیان المقدمة الثالثة ، فافهم وتأمل جیّداً.
وأما الرجوع إلى الأُصول ، فبالنسبة إلى الأُصول المثبتة من احتیاط أو استصحاب مثبت للتکلیف ، فلا مانع عن إجرائها عقلاً مع حکم العقل وعموم النقل. هذا ، ولو قیل بعدم جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإِجمالی ،
__________________
1 ـ هکذا فی « أ » وشطب علیها فی « ب ».
2 ـ تعرض المصنف لقاعدة لا ضرر فی ص 72 ( الکتاب ) فلیراجع عند قوله أن الظاهر أن یکون لا لنفی الحقیقة ادعاءً .. وقوله بعد أسطر ثم الحکم الذی أُرید نفیه بنفی الضرر ... الخ.
3 ـ القائل هو الشیخ الأنصاری 1 انظر ، فرائد الأصول / 314 ورسالة قاعدة نفی الضرر فی مکاسبه ، المکاسب / 372.
 
لاستلزام شمول دلیله لها التناقض فی مدلوله ، بداهة تناقض حرمة النقض فی کلّ منها بمقتضى ( لا تنقض ) لوجوبه فی البعض ، کما هو قضیة ( ولکن تنقضه بیقین آخر ) وذلک لإنّه إنّما یلزم فیما إذا کان الشک فی أطرافه فعلیاً. وأما إذا لم یکن کذلک ، بل لم یکن الشک فعلاً إلّا فی بعضٍ أطرافه ، وکان بعضٍ أطرافه الآخر غیر ملتفت إلیه فعلاً أصلاً ، کما هو حال المجتهد فی مقام استنباط الأحکام ، کما لا یخفى ، فلا یکاد یلزم ذلک ، فإن قضیة ( لا تنقض ) لیس حینئذٍ إلّا حرمة النقض فی خصوص الطرف المشکوک ، ولیس فیه علم بالانتقاض کی یلزم التناقض فی مدلول دلیله من شموله له ، فافهم.
ومنه قد انقدح ثبوت حکم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الأصول النافیة أیضاً ، وإنّه لا یلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدلیل لها لو لم یکن هناک مانع عقلاً أو شرعاً من إجرائها ، ولا مانع کذلک لو کانت موارد الأصول المثبتة بضمیمة ما علم تفصیلا ، أو نهض علیه علمی بمقدار المعلوم إجمالاً ، بل بمقدار لم یکن معه مجال لاستکشاف إیجاب الاحتیاط ، وأنّ لم یکن بذاک المقدار ، ومن الواضح إنّه یختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.
وقد ظهر بذلک أن العلم الإِجمالی بالتکالیف ربما ینحل ببرکة جریان الأُصول المثبتة وتلک الضمیمة ، فلا موجب حینئذ للاحتیاط عقلاً ولا شرعاً أصلاً ، کما لا یخفى.
کما ظهر إنّه لو لم ینحل بذلک ، کان خصوص موارد أصول النافیة مطلقاً ـ ولو من مظنونات [ عدم ] (1) التکلیف ـ محلاً للاحتیاط فعلاً ، ویرفع الید عنه فیها کلاً أو بعضا ، بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر ـ على ما عرفت ـ لا محتملات التکلیف مطلقاً.
__________________
1 ـ أثبتناها من « ب ». 
 
وأما الرجوع إلى فتوى العالم فلا یکاد یجوز ، ضرورة إنّه لا یجوز إلّا للجاهل لا للفاضل الذی یرى خطأ من یدعی انفتاح باب العلم أو العلمی ، فهل یکون رجوعه إلیه بنظره إلّا من قبیل رجوع الفاضل إلى الجاهل؟
وأما المقدمة الخامسة : فلاستقلال العقل بها ، وإنّه لا یجوز التنزل ـ بعد عدم التمکن من الإطاعة العلمیة أو عدم وجوبها ـ إلّا إلى الإطاعة الظنیة دون الشکیة أو الوهمیة ، لبداهة مرجوحیتها بالإضافة إلیها ، وقبح ترجیح المرجوح على الراجح.
لکنک عرفت عدم وصول النوبة إلى الإطاعة الاحتمالیة ، مع دوران الأمر بین الظنیة والشکیة أو الوهمیة ، من جهة ما أوردناه على المقدمة الأولى من انحلال العلم الإِجمالی بما فی أخبار الکتب المعتبرة ، وقضیته الاحتیاط بالالتزام عملاً بما فیها من التکالیف ، ولا بأس به حیث لا یلزم منه عسر فضلاً عما یوجب اختلال النظام ؛ وما أوردنا على المقدمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الأُصول مطلقاً ، ولو کانت نافیة ، لوجود المقتضی وفقد المانع لو کان التکلیف فی موارد الأُصول المثبتة وما علم منه تفصیلاً ، أو نهض علیه دلیل معتبر بمقدار المعلوم بالإِجمال ، و إلّا فإلى الأصول المثبتة وحدها ، وحینئذ کان خصوص موارد الأصول النافیة محلاً لحکومة العقل ، وترجیح مظنونات التکلیف فیها على غیرها ، ولو بعد استکشاف وجوب الاحتیاط فی الجملة شرعاً ، بعد عدم وجوب الاحتیاط التام شرعاً أو عقلاً ـ على ما عرفت تفصیله ـ هذا هو التحقیق على ما یساعد علیه النظر الدقیق ، فافهم وتدبر جیداً.
فصل
هل قضیة المقدّمات على تقدیر سلامتها هی حجیة الظن بالواقع ، أو بالطریق ، أو بهما؟ أقوال.
والتحقیق أن یقال : إنّه لا شبهة فی أن همّ العقل فی کلّ حال إنّما هو  

 
تحصیل الامن من تبعة التکالیف المعلومة ، من العقوبة على مخالفتها ، کما لا شبهة فی استقلاله فی تعیین ما هو المؤمّن منها ، وفی أن کلما کان القطع به مؤمّناً فی حال الانفتاح کان الظن به مؤمّناً حال الانسداد جزماً ، وأنّ المؤمّن فی حال الانفتاح هو القطع بإتیان المکلف به الواقعی بما هو کذلک ، لا بما هو معلوم ومؤدى الطریق ومتعلق العلم ، وهو طریق شرعاً وعقلاً ، أو بإتیإنّه الجعلی ؛ وذلک لأن العقل قد استقل بأن الإِتیان بالمکلف به الحقیقی بما هو هو ، لا بما هو مؤدى الطریق مبریء للذمة قطعاً ، کیف؟ وقد عرفت أن القطع بنفسه طریق لا یکاد تناله ید الجعل إحداثاً وإمضاءً ، إثباتاً ونفیاً. ولا یخفى أن قضیة ذلک هو التنزل إلى الظن بکل واحد من الواقع والطریق.
ولا منشأ لتوهم الاختصاص بالظن بالواقع إلّا توهّم إنّه قضیة اختصاص المقدّمات بالفروع ، لعدم انسداد باب العلم فی الأُصول ، وعدم إلجاء فی التنزل إلى الظن فیها ، والغفلة عن أن جریإنّها فی الفروع موجب لکفایة الظن بالطریق فی مقام یحصل الأمن من عقوبة التکالیف ، وأنّ کان باب العلم فی غالب الأصول مفتوحاً ، وذلک لعدم التفاوت فی نظر العقل فی ذلک بین الظنین.
کما أن منشأ توهّم الاختصاص بالظن بالطریق وجهان :
أحدهما : ما أفاده بعضٍ الفحول (1) وتبعه فی الفصول (2) ، قال فیها :
إنا کما نقطع بأنا مکلفون فی زماننا هذا تکلیفا فعلیاً بأحکام فرعیة کثیرة ، لا سبیل لنا بحکم العیان وشهادة الوجدان إلى تحصیل کثیر منها بالقطع ، ولا بطریق معیّن یقطع من السمع بحکم الشارع بقیامه ، أو قیام طریقه مقام القطع ولو عند تعذره ، کذلک نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلک الأحکام طریقاً مخصوصاً ،
__________________
1 ـ هو العلامة المحقق الشیخ اسد الله الشوشتری ، کشف القناع عن وجوه حجیة الإجماع / 460.
2 ـ الفصول / 277 ، مع اختلاف فی الالفاظ. 
 
وکلفنا تکلیفاً فعلّیاً بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة ، وحیث إنّه لا سبیل غالباً إلى تعیینها بالقطع ، ولا بطریق یقطع من السمع بقیامه بالخصوص ، أو قیام طریقه کذلک مقام القطع ولو بعد تعذره ، فلا ریب أن الوظیفة فی مثل ذلک بحکم العقل إنّما هو الرجوع فی تعیین ذلک الطریق إلى الظن الفعلّی الذی لا دلیل على [ عدم ] (1) حجیته ، لإنّه أقرب إلى العلم ، وإلى إصابة الواقع مما عداه.
وفیه : أولاً ـ بعد تسلیم العلم بنصب طرق خاصة باقیة فیما بأیدینا من الطرق الغیر العلمیة ، وعدم وجود المتیقن بینها أصلاً ـ أن قضیة ذلک هو الاحتیاط فی أطراف هذه الطرق المعلومة بالإِجمال لا تعیینها بالظن.
لا یقال (2) : الفرض هو عدم وجوب الاحتیاط ، بل عدم جوازه ، لأنّ الفرض إنّما هو عدم وجوب الاحتیاط التام فی أطراف الأحکام ، مما یوجب العسر المخل بالنظام ، لا الاحتیاط فی خصوص ما بأیدینا من الطرق. فإن قضیة هذا الاحتیاط هو جواز رفع الید عنه فی غیر مواردها ، والرجوع إلى الأصل فیها ولو کان نافیاً للتکلیف ، وکذا فیما إذا نهض الکلّ على نفیه ، وکذا فیما إذا تعارض فردان من بعضٍ الأطراف فیه نفیاً وإثباتاً مع ثبوت المرجح للنافی ، بل مع عدم رجحان المثبت فی خصوص الخبر منها ، ومطلقاً فی غیره بناءً على عدم ثبوت الترجیح على تقدیر الاعتبار فی غیر الأخبار ، وکذا لو تعارض إثنان منها فی الوجوب والتحریم ، فإن المرجع فی جمیع ما ذکر من موارد التعارض هو الأصل الجاری فیها ولو کان نافیاً ، لعدم نهوض طریق معتبر ولا ما هو من أطراف العلم به على خلافه ، فافهم.
وکذا کلّ مورد لم یجر فیه الأصل المثبت ، للعمل بانتقاض الحالة السابقة فیه
__________________
1 ـ أثبتنا الزیادة من الفصول.
2 ـ إیراد ذکره الشیخ 1 وأمر بالتأمل فیه ، فرائد الأصول / 132 ، عند قوله : أللهم إلّا أن یقال إنّه یلزم الحرج ... الخ. 
 
إجمالاً بسبب العلم به ، أو بقیام أمارة معتبرة علیه فی بعضٍ أطرافه ، بناءً على عدم جریإنّه بذلک.
وثانیاً : لو سلّم أن قضیته (1) لزوم التنزّل إلى الظن ، فتوهّم أن الوظیفة حینئذ هو خصوص الظن بالطریق فاسد قطعاً ، وذلک لعدم کونه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع من الظن ، بکونه مؤدى طریق معتبر من دون الظن بحجیة طریق أصلاً ، ومن الظن بالواقع ، کما لا یخفى.
لا یقال : إنّما لا یکون أقرب من الظن بالواقع ، إذا لم یصرف التکلیف الفعلّی عنه إلى مؤدیّات الطرق ولو بنحو التقیید ، فإن الالتزام به بعید ، إذ الصرف لو لم یکن تصویبا محالاً ، فلا أقل من کونه مجمعاً على بطلإنّه ، ضرورة أنّ القطع بالواقع یجدی فی الإِجزاء بما هو واقع ، لا بما هو مؤدى طریق القطع ، کما عرفت.
ومن هنا انقدح أن التقیید أیضاً غیر سدید ، مع أن الالتزام بذلک غیر مفید ، فإن الظن بالواقع فیما ابتلی به من التکالیف لا یکاد ینفکّ عن الظن بإنّه مؤدى طریق معتبر ، والظن بالطریق ما لم یظن بإصابته (2) الواقع غیر مجد بناءً على التقیید ، لعدم استلزامه الظن بالواقع المقید به بدونه هذا.
مع عدم مساعدة نصب الطریق على الصرف ولا على التقیید ، غایته أن العلم الإِجمالی بنصب طرق وافیة یوجب انحلال العلم بالتکالیف الواقعیة إلى العلم بما هو مضامین الطرق المنصوبة من التکالیف الفعلیة ، والانحلال وأنّ کان یوجب عدم تنجز ما لم یؤد إلیه الطریق من التکالیف الواقعیة ، إلّا إنّه إذا کان رعایة العلم بالنصب لازماً ، والفرض عدم اللزوم ، بل عدم الجواز.
وعلیه یکون التکالیف الواقعیة ، کما إذا لم یکن هناک علم بالنصب فی کفایة
__________________
1 ـ فی « ب » : قضیة.
2 ـ فی « ب » : بإصابة. 
 
الظن بها حال انسداد باب العلم ، کما لا یخفى ؛ ولابد حینئذ من عنایة أُخرى (1) فی لزوم رعایة الواقعیات بنحو من الإطاعة ، وعدم إهمالها رأساً کما أشرنا إلیه (2) ، ولا شبهة فی أن الظن بالواقع لو لم یکن أولى حینئذ لکونه أقرب فی التوسل به إلى ما به الاهتمام من فعل الواجب وترک الحرام ، من الظن بالطریق ، فلا أقل من کونه مساویاً فیما یهم العقل من تحصیل الأمن من العقوبة فی کلّ حال ، هذا مع ما عرفت من إنّه عادةً یلازم الظن بإنّه مؤدى طریق ، وهو بلا شبهة یکفی ، ولو لم یکن هناک ظن بالطریق ، فافهم فإنّه دقیق.
ثانیهما : ما اختصّ به بعضٍ المحققین (3) ، قال :
( لا ریب فی کوننا مکلفین بالأحکام الشرعیة ، ولم یسقط عنا التکلیف بالأحکام الشرعیة ، وأنّ الواجب علینا أولاً هو تحصیل العلم بتفریغ الذمة فی حکم المکلف ، بأن یقطع معه بحکمه بتفریغ ذمتنا عما کلفنا به ، وسقوط تکلیفنا عنا ، سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا ، حسبما مرّ تفصیل القول فیه.
فحینئذ نقول : إن صحّ لنا تحصیل العلم بتفریغ ذمتنا فی حکم الشارع ، فلا إشکال فی وجوبه وحصول البراءة به ، وأنّ انسد علینا سبیل العلم کان الواجب
__________________
1 ـ وهی إیجاب الاحتیاط فی الجملة المستکشف بنحو اللّم ، من عدم الإِهمال فی حال الانسداد قطعاً إجماعا بل ضرورة ، وهو یقتضی التنزل إلى الطن بالواقع حقیقة أو تعبداً ، إذا کان استکشافه فی التکالیف المعلومة إجمالاً ، لما عرفت من وجوب التنزل عن القطع بکل ما یجب تحصیل القطع به فی حال الانفتاح إلى الظن به فی هذا الحال ، وإلى الظن بخصوص الواقعیات التی تکون مؤدیات الطرق المعتبرة ، أو بمطلق المؤدیات لو کان استکشافه فی خصوصها أو فی مطلقها ، فلا یکاد أن تصل النوبة إلى الظن بالطریق بما هو کذلک وأنّ کان یکفی ، لکونه مستلزماً للظن بکون مؤداه مؤدى طریق معتبر ، کما یکفی الظن بکونه کذلک ، ولو لم یکن ظن باعتبار طریق أصلاً کما لا یخفى ، وأنت خبیر بإنّه لا وجه لاحتمال ذلک ، وإنما المتیقن هو لزوم رعایة الواقعیات فی کلّ حال ، بعد عدم لزوم رعایة الطرق المعلومة بالإِجمال بین أطراف کثیرة ، فافهم منه ( 1 ).
2 ـ راجع صفحة / 312.
3 ـ وهو العلامة المحقق الشیخ محمد تقی الأصفهانی ، هدایة المسترشدین / 391.
 
 
علینا تحصیل الظن بالبراءة فی حکمه ، إذ هو الأقرب إلى العلم به ، فیتعین الأخذ به عند التنزل من العلم فی حکم العقل ، بعد انسداد سبیل العلم والقطع ببقاء التکلیف ؛ دون ما یحصل معه الظن بأداء الواقع ، کما یدعیه القائل بأصالة حجیة الظن ). انتهى موضع الحاجة من کلامه ، زید فی علو مقامه.
وفیه أولاً : إن الحاکم على الاستقلال فی باب تفریغ الذمة بالإطاعة والامتثال إنّما هو العقل ، ولیس للشاعر فی هذا الباب حکم مولوی یتبعه حکم العقل ، ولو حکم فی هذا الباب کان بتبع حکمه إرشاداً إلیه ، وقد عرفت استقلاله بکون الواقع بما هو هو مفرغاً (1) ، وأنّ القطع به حقیقة أو تعبداً مؤمن جزماً ، وأنّ المؤمّن فی حال الانسداد هو الظن بما کان القطع به مؤمّناً حال الانفتاح ، فیکون الظن بالواقع أیضاً مؤمّناً حال الانسداد.
وثانیاً : سلّمنا ذلک ، لکن حکمه بتفریغ الذمة ـ فیما إذا أتى المکلف بمؤدى الطریق المنصوب ـ لیس إلّا بدعوى أن النصب یستلزمه ، مع أن دعوى أن التکلیف بالواقع یستلزم حکمه بالتفریغ فیما إذا أتى به أولى ، کما لا یخفى ، فیکون الظن به ظناً بالحکم بالتفریغ أیضاً.
إن قلت : کیف یستلزمه (2) الظن بالواقع؟ مع إنّه ربما یقطع بعدم حکمه به معه ، کما إذا کان من القیاس ، وهذا بخلاف الظن بالطریق ، فإنّه یستلزمه ولو کان من القیاس.
قلت : الظن بالواقع أیضاً یستلزم (3) الظن بحکمه بالتفریغ (4) ، ولا ینافی
__________________
1 ـ فی « أ »و « ب » : مفرغ.
2 ـ فی « ب » : یستلزم.
3 ـ وذلک لضرورة الملازمة بین الإِتیان بما کلف به واقعاً وحکمه بالفراغ ویشهد به عدم جواز الحکم بعدمه ، لو سئل عن أن الإِتیان بالمأمور به على وجهه ، هل هو مفرغ؟ ولزوم حکمه بإنّه مفرغ ، وإلاّ لزم عدم إجزاء الأمر الواقعی ، وهو واضح البطلان منه ( 1 ).
4 ـ کذا فی النسخة المصححة ، وفی « أ » : الظن بهما على الأقوى یستلزم الحکم بالتفریغ. 
 
القطع بعدم حجیته لدى الشارع ، وعدم کون المکلف معذوراً ـ إذا عمل به فیهما ـ فیما أخطأ ، بل کان مستحقاً للعقاب ـ ولو فیما أصاب ـ لو بنى على حجیته والاقتصار علیه لتجریه ، فافهم.
وثالثاً : سلمنا أن الظن بالواقع لا یستلزم الظن به ، لکن قضیته لیس إلّا التنزل إلى الظن بإنّه مؤدى طریق معتبر ، لا خصوص الظن بالطریق ، وقد عرفت أن الظن بالواقع لا یکاد ینفک عن الظن بإنّه مؤدى الطریق غالبا.
فصل
لا یخفى عدم مساعدة مقدمات الانسداد على الدلالة على کون الظن طریقاً منصوباً شرعاً ، ضرورة إنّه معها لا یجب عقلاً على الشارع أن ینصب طریقاً ، لجواز اجتزائه بما استقل به العقل فی هذا الحال ، ولا مجال لاستکشاف نصب الشارع من حکم العقل ، لقاعدة الملازمة ، ضرورة إنّها إنّما تکون فی مورد قابل للحکم الشرعی ، والمورد هاهنا غیر قابل له ، فإن الإطاعة الظنیة التی یستقل العقل بکفایتها فی حال الانسداد إنّما هی بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزید منها ، وعدم جواز اقتصار المکلف بدونها ، ومؤاخذة الشارع غیر قابلة لحکمه ، وهو واضح.
واقتصار المکلف بما دونها ، لما کان بنفسه موجباً للعقاب مطلقاً ، أو فیما أصاب الظن ، کما إنّها بنفسها موجبة للثواب أخطأ أو أصاب من دون حاجة إلى أمر بها أو نهی عن مخالفتها ، کان حکم الشارع فیه مولویاً بلا ملاک یوجبه ، کما لا یخفى ، ولا بأس به إرشادیاً ، کما هو شإنّه فی حکمه بوجوب الإطاعة وحرمة المعصیة.
وصحة نصبه الطریق وجعله فی کلّ حال بملاک یوجب نصبه وحکمة داعیة إلیه ، لا تنافی استقلال العقل بلزوم الإطاعة بنحو حال الانسداد ، کما یحکم بلزومها بنحو آخر حال الانفتاح ، من دون استکشاف حکم الشارع بلزومها 
 
مولویاً ، لما عرفت.
فانقدح بذلک عدم صحة تقریر المقدّمات إلّا على نحو الحکومة دون الکشف ، وعلیها فلا إهمال فی النتیجة أصلاً ، سبباً ومورداً ومرتبة ، لعدم تطرق الإِهمال والإِجمال فی حکم العقل ، کما لا یخفى.
أما بحسب الأسباب فلا تفاوت بنظره فیها.
وأما بحسب الموارد ، فیمکن أن یقال بعدم استقلاله بکفایة الإطاعة الظنیة ، إلّا فیما لیس للشارع مزید اهتمام فیه بفعل الواجب وترک الحرام ، واستقلاله بوجوب الاحتیاط فیما فیه مزید الاهتمام ، کما فی الفروج والدماء بل وسائر حقوق الناس مما لا یلزم من الاحتیاط فیها العسر.
وأما بحسب المرتبة ، فکذلک لا یستقل إلّا بلزوم التنزل إلى مرتبة الاطمئنان من الظن بعدم التکلیف (1) ، إلّا على تقدیر عدم کفایتها فی دفع محذور العسر.
وأما على تقریر الکشف ، فلو قیل بکون النتیجة هو نصب الطریق الواصل بنفسه ، فلا إهمال فیها أیضاً بحسب الأسباب ، بل یستکشف حینئذ أن الکلّ حجة لو لم یکن بینها ما هو المتیق ، و إلّا فلا مجال لاستکشاف حجیة (2) غیره ، ولا بحسب الموارد ، بل یحکم بحجیته فی جمیعها ، وإلاّ لزم عدم وصول الحجة ، ولو لأجل التردد فی مواردها ، کما لا یخفى.
ودعوى الإجماع (3) على التعمیم بحسبها فی مثل هذه المسألة المستحدثة مجازفة جدّاً.
__________________
1 ـ کذا صححه فی « ب » ، وفی « أ » : فکذلک لا یستقل إلّا بکفایة مرتبة الاطمئنان من الظن إلّا على ... إلخ.
2 ـ فی « ب » : حجة.
3 ـ ادعاه الشیخ ( قده ) فرائد الأصول / 139. 
 
وأما بحسب المرتبة ، ففیها إهمال ، لأجل احتمال حجیة خصوص الاطمئنانی منه إذا کان وافیاً ، فلابد من الاقتصار علیه.
ولو قیل بأن النتیجة هو نصب الطریق الواصل ولو بطریقه ، فلا إهمال فیها بحسب الأسباب ، لو لم یکن فیها تفاوت أصلاً ، أو لم یکن بینها إلّا واحد ، و إلّا فلابدّ من الاقتصار على متیقن الاعتبار منها أو مظنونه ، بإجراء مقدمات دلیل الانسداد حینئذٍ مرة أو مرّات فی تعیین الطریق المنصوب ، حتى ینتهی إلى ظن واحد أو إلى ظنون متعددة لا تفاوت بینها ، فیحکم بحجیة کلها ، أو متفاوتة یکون بعضها الوافی متیقن الاعتبار ، فیقتصر علیه.
وأما بحسب الموارد والمرتبة ، فکما إذا کانت النتیجة هی الطریق الواصل بنفسه ، فتدبرّ جیداً.
ولو قیل بأن النتیجة هو الطریق ولو لم یصل أصلاً ، فالإهمال فیها یکون من الجهات ، ولا محیص حینئذ إلّا من الاحتیاط فی الطریق بمراعاة اطراف الاحتمال لو لم یکن بینها متیقن الاعتبار ، لو لم یلزم منه محذور ، وإلاّ لزم التنزل إلى حکومة العقل بالاستقلال ، فتأمل فإن المقام من مزال الأقدام.
وهم ودفع : لعلک تقول : إن القدر المتیقن الوافی لو کان فی البین لما کان مجال لدلیل الانسداد ، ضرورة إنّه من مقدماته انسداد باب العلمی أیضاً.
لکنک غفلت عن أن المراد ما إذا کان الیقین بالاعتبار من قبله ، لأجل الیقین بإنّه لو کان شیء حجة شرعاً کان هذا الشیء حجة قطعاً ، بداهة أن الدلیل على أحد المتلازمین إنّما هو الدلیل على الآخر ، لا الدلیل على الملازمة.
ثم لا یخفى أن الظن باعتبار ظن (1) بالخصوص ، یوجب الیقین باعتباره من باب دلیل الانسداد على تقریر الکشف بناءً على کون النتیجة هو الطریق الواصل
__________________
1 ـ فی « ب » : الظن.
 
 
بنفسه ، فإنّه حینئذ یقطع بکونه حجة ، کان غیره حجة أو لا ، واحتمال عدم حجیته بالخصوص (1) لا ینافی القطع بحجیته بملاحظة الانسداد ، ضرورة إنّه على الفرض لا یحتمل أن یکون غیره حجة بلا نصب قرینة ، ولکنه من المحتمل أن یکون هو الحجة دون غیره ، لما فیه من خصوصیة الظن بالاعتبار ، وبالجملة الأمر یدور بین حجیة الکلّ وحجیته ، فیکون مقطوع الاعتبار.
ومن هنا ظهر حال القوة ، ولعل نظر من رجح بهما (2) إلى هذا الفرض ، وکان منع شیخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ عن الترجیح بهما (3) ، بناءً على کون النتیجة هو الطریق الواصل ولو بطریقه ، أو الطریق ولو لم یصل أصلاً ، وبذلک ربما یوفق بین کلمات الأعلام فی المقام ، وعلیک بالتأمل التام.
ثم لا یذهب علیک أن الترجیح بهما إنّما هو على تقدیر کفایة الراجح ، وإلاّ فلا بدّ من التعدی إلى غیره بمقدار الکفایة ، فیختلف الحال باختلاف الأنظار بل الأحوال.
وأما تعمیم النتیجة (4) بأن قضیة العلم الإِجمالی بالطریق هو الاحتیاط فی أطرافه ، فهو لا یکاد یتم إلّا على تقدیر کون النتیجة هو نصب الطریق ولو لم یصل أصلاً ، مع أن التعمیم بذلک لا یوجب العمل إلّا على وفق المثبتات من الأطراف دون النافیات ، إلّا فیما إذا کان هناک نافٍ من جمیع الأصناف ، ضرورة أن الاحتیاط فیها لا یقتضی رفع الید عن الاحتیاط فی المسألة الفرعیة إذا لزم ، حیث لا ینافیه ، کیف؟ ویجوز الاحتیاط فیها مع قیام الحجة النافیة ، کما لا یخفى ، فما ظنک بما لا یجب الأخذ بموجبه إلّا من باب الاحتیاط؟ فافهم.
__________________
1 ـ فی « أ » : بخصوصه.
2 ـ فرائد الأصول / 142 ، وأما المرجح الثانی.
3 ـ فی « ب » : بها.
4 ـ هذا ثالث طرق « تعمیم النتیجة » الذی نقله الشیخ ( قده ) عن شیخه المحقق شریف العلماء ( قده ) ، واستشکل علیه ، فرائد الأصول 150. 
 
فصل
قد اشتهر الإِشکال بالقطع بخروج القیاس عن عموم نتیجة دلیل الانسداد بتقریر الحکومة ، وتقریره على ما فی الرسائل (1) إنّه :
( کیف یجامع حکم العقل بکون الظن کالعلم مناطاً للاطاعة والمعصیة ، ویقبح على الأمر والمأمور التعدی عنه ، ومع ذلک یحصل الظن أو خصوص الاطمئنان من القیاس ، ولا یجوّز الشارع العمل به؟ فإن المنع عن العمل بما یقتضیه العقل من الظن ، أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممکناً ، جرى فی غیر القیاس ، فلا یکون العقل مستقلاً ، إذ لعله نهى عن أمارة مثل ما نهى عن القیاس [ بل وأزید ] (2) واختفى علینا ، ولا دافع لهذا الاحتمال إلّا قبح ذلک على الشارع ، إذ احتمال صدور ممکن بالذات عن الحکیم لا یرتفع إلّا بقبحه ، وهذا من أفراد ما اشتهر من أن الدلیل العقلی لا یقبل التخصیص ). انتهى موضع الحاجة من کلامه ، زید فی علو مقامه.
وأنت خبیر بإنّه لا وقع لهذا الإِشکال ، بعد وضوح کون حکم العقل بذلک معلّقاً على عدم نصب الشارع طریقاً واصلاً ، وعدم حکمه به فیما کان هناک منصوب ولو کان أصلاً ، بداهة أن من مقدمات حکمه عدم وجود علم ولا علمی ، فلا موضوع لحکمه مع أحدهما ، والنهی عن ظن حاصل من سبب لیس إلّا کنصب شیء ، بل هو یستلزمه فیما کان فی مورده أصل شرعی ، فلا یکون نهیه عنه رفعاً لحکمه عن موضوعه ، بل به یرتفع موضوعه ، ولیس حال النهی عن سبب مفید للظن إلّا کالأمر بما لا یفیده ، وکما لا حکومة معه للعقل لا حکومة له معه ، وکما لا یصحّ بلحاظ حکمه الإِشکال فیه ، لا یصحّ الإِشکال فیه بلحاظه.
__________________
1 ـ فرائد الأصول / 156.
2 ـ أثبتناها من فرائد الأُصول.  

 

کفایة الاصول - قسمت هفتم

المقصد السادس :
فی بیان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً
وقبل الخوض فی ذلک ، لا بأس بصرف الکلام إلى بیان بعضٍ ما للقطع من الأحکام ، وأنّ کان خارجاً من مسائل الفن ، وکان أشبه بمسائل الکلام ، لشدة مناسبته مع المقام.
فاعلم : أن البالغ الذی وضع علیه القلم ، إذا التفت إلى حکم فعلّی واقعی أو ظاهری ، متعلق به أو بمقلدیه ، فإما أن یحصل له القطع به ، أو لا ، وعلى الثّانی ، لا بد من انتهائه إلى ما استقل به العقل ، من اتباع الظن لو حصل له ، وقد تمت مقدمات الانسداد ـ على تقدیر الحکومة وإلاّ فالرجوع إلى الأُصول العقلیة : من البراءة والاشتغال والتخییر ، على تفصیل یأتی فی محله إن شاء الله تعالى.
وإنما عممنا متعلق القطع ، لعدم اختصاصه أحکامه بما إذا کان متعلقاً بالأحکام الواقعیة ، وخصصنا بالفعلی ؛ لاختصاصها بما إذا کان متعلقاً به ـ على ما ستطلع علیه ـ ولذلک عدلنا عما فی رسالة (1) شیخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ من تثلیث الاقسام.
وإن أبیت إلّا عن ذلک ، فالأولى أن یقال : إن المکلف امّا أن یحصل له
__________________
1 ـ فرائد الأصول / 2.  

 
القطع أولاً ، وعلى الثّانی امّا أن یقوم عنده طریق معتبر أو لا ؛ لئلا تتداخل الأقسام فیما یذکر لها من الأحکام ، ومرجعه على الأخیر إلى القواعد المقررة عقلاً أو نقلاً لغیر القاطع ، ومن یقوم عنده الطریق ، على تفصیل یأتی فی محله ـ إن شاء الله تعالى ـ حسبما یقتضی دلیلها.
وکیف کان فبیان أحکام القطع وأقسامه ، یستدعی رسم أمور :
الأمر الأوّل : لا شبهة فی وجوب العمل على وفق القطع عقلاً ، ولزوم الحرکة على طبقه جزماً ، وکونه موجباً لتنجز التکلیف الفعلّی فیما أصاب باستحقاق الذم والعقاب على مخالفته ، وعذراً فیما أخطأ قصوراً ، وتأثیره فی ذلک لازم ، وصریح الوجدان به شاهد وحاکم ، فلا حاجة إلى مزید بیان وإقامة برهان.
ولا یخفى أن ذلک لا یکون بجعل جاعل ، لعدم جعل تألیفی حقیقة بین الشیء ولوازمه ، بل عرضاً بتبع جعله بسیطاً.
وبذلک انقدح امتناع المنع عن تأثیره أیضاً ، مع إنّه یلزم منه اجتماع الضدین اعتقاداً مطلقاً ، وحقیقة فی صورة الإصابة ، کما لا یخفى.
ثم لا یذهب علیک أن التکلیف ما لم یبلغ مرتبة البعث والزجر لم یصر فعلیاً ، وما لم یصر فعلّیاً لم یکد یبلغ مرتبة التنجز ، واستحقاق العقوبة على المخالفة ، وأنّ کان ربما یوجب موافقته استحقاق المثوبة ؛ وذلک لأن الحکم ما لم یبلغ تلک المرتبة لم یکن حقیقة بأمر ولا نهی ، ولا مخالفته عن عمد بعصیان ، بل کان مما سکت الله عنه ، کما فی الخبر (1) ، فلاحظ وتدبر.
نعم ، فی کونه بهذه المرتبة مورداً للوظائف المقررة شرعاً للجاهل إشکال لزوم اجتماع الضدین أو المثلین ، على ما یأتی (2) تفصیله إن شاء الله تعالى ، مع ما هو
__________________
1 ـ الفقیه 4 / 53 ، باب نوادر الحدود ، الحدیث 15.
2 ـ فی بدایة مبحث الأمارات ص 277. 
 
التحقیق فی دفعه ، فی التوفیق بین الحکم الواقعی والظاهری ، فانتظر.
الأمر الثانی : قد عرفت إنّه لا شبهة فی أن القطع یوجب استحقاق العقوبة على المخالفة ، والمثوبة على الموافقة فی صورة الإصابة ، فهل یوجب استحقاقها فی صورة عدم الإصابة على التجری بمخالفته ، واستحقاق المثوبة على الانقیاد بموافقته ، أو لا یوجب شیئاً؟  الحق إنّه یوجبه ؛ لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته ، وذمه على تجریه ، وهتکه لحرمة مولاه (1) وخروجه عن رسوم عبودیته ، وکونه بصدد الطغیان ، وعزمه على العصیان ، وصحة مثوبته ، ومدحه على قیامه (2) بما هو قضیة عبودیته ، من العزم على موافقته والبناء على إطاعته ، وأنّ قلنا بإنّه لا یستحق مؤاخذة أو مثوبة ، ما لم یعزم على المخالفة أو الموافقة ، بمجرد سوء سریرته أو حسنها ، وأنّ کان مستحقا للذّم (3) أو المدح بما یستتبعإنّه ، کسائر الصفات والاخلاق الذمیمة أو الحسنة.
وبالجملة : ما دامت فیه صفة کامنة لا یستحق بها إلّا مدحاً أو ذماً (4) ، وإنما یستحق الجزاء بالمثوبة أو العقوبة _ مضافاً إلى أحدهما ، إذا صار بصدد الجری على طبقها والعمل على وفقها وجزم وعزم ، وذلک لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء سریرته من دون ذلک ، وحسنها معه ، کما یشهد به مراجعة الوجدان الحاکم بالاستقلال فی مثل باب الإطاعة والعصیان ، وما یستتبعان من استحقاق النیران أو الجنان.
ولکن ذلک مع بقاء الفعل المتجرى [ به ] أو المنقاد به على ما هو علیه من الحسن
__________________
1 ـ فی «أ» : وهتک حرمته لمولاه ، والصحیح ما أثبتناه.
2 ـ فی «أ» و «ب» : إقامته ، والصحیح ما أثبتناه.
3 ـ فی «أ» و «ب» : للّوم :
4 ـ اثبتناها من « ب ».
 
أو القبح ، والوجوب أو الحرمة واقعاً ، بلا حدوث تفاوت فیه بسبب تعلق القطع بغیر ما هو علیه من الحکم والصفة ، ولا یغیر جهة حسنه أو قبحه بجهته (1) أصلاً ، ضرورة أن القطع بالحسن أو القبح لا یکون من الوجوه والاعتبارات التی بها یکون الحسن والقبح عقلاً ولا ملاکا للمحبوبیة والمبغوضیة شرعاً ، ضرورة عدم تغیر الفعل عما هو علیه من المبغوضیة والمحبوبیة للمولى ، بسبب قطع العبد بکونه محبوبا أو مبغوضاً له. فقتل ابن المولى لا یکاد یخرج عن کونه مبغوضاً له ، ولو اعتقد العبد بإنّه عدّوه ، وکذا قتل عدّوه ، مع القطع بإنّه إبنه ، لا یخرج عن کونه محبوباً أبداً. هذا.
مع أن الفعل المتجرئ به أو المنقاد به _ بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب _ لا یکون اختیاریاً ، فإن القاطع لا یقصده إلّا بما قطع إنّه علیه من عنوإنّه الواقعی الاستقلالی لا بعنوإنّه الطارىء الآلی ، بل لا یکون غالباً بهذا العنوان مما یلتفت إلیه ، فکیف یکون من جهات الحسن أو القبح عقلاً؟ ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً؟ ولا یکاد یکون صفة موجبة لذلک إلّا إذا کانت اختیاریة.
إن قلت : إذا لم یکن الفعل کذلک ، فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع ، وهل کان العقاب علیها إلّا عقاباً على ما لیس بالاختیار؟
قلت : العقاب إنّما یکون على قصد العصیان والعزم على الطغیان ، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختیار.
إن قلت : إن القصد والعزم إنّما یکون من مبادىء الاختیار ، وهی لیست باختیاریة ، وإلاّ لتسلسل.
قلت : ـ مضافاً إلى أن الاختیار وأنّ لم یکن بالاختیار ، إلّا أن بعضٍ مبادیه غالباً یکون وجوده بالاختیار ، للتمکن من عدمه بالتأمل فیما یترتب على ما عزم علیه
__________________
1 ـ فی هامش ( ب ) من نسخة أُخرى : بجهة.
 
من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة ـ یمکن أن یقال : إن حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما یکون من تبعة بعده عن سیّده بتجریّه علیه ، کما کان من تبعته بالعصیان فی صورة المصادفة ، فکما إنّه یوجب البعد عنه ، کذلک لا غرو فی أن یوجب حسن العقوبة ، وأنّ لم یکن باختیاره (1) إلّا إنّه بسوء سریرته وخبث باطنه ، بحسب نقصإنّه واقتضاء استعداده ذاتاً وإمکإنّه (2) ، وإذا انتهى الأمر إلیه یرتفع الإِشکال وینقطع السؤال ب‍ ( لِمَ ) فإن الذاتیات ضرورّیة الثبوت للذات. وبذلک أیضاً ینقطع السؤال عن إنّه لم اختار الکافر والعاصی الکفر والعصیان؟ والمطیع والمؤمن الإطاعة والإِیمان؟ فإنّه یساوق السؤال عن أن الحمار لم یکون ناهقا؟ والانسان لم یکون ناطقاً؟
وبالجملة : تفاوت أفراد الإانسان فی القرب منه تعالى (3) والبعد عنه ، سبب لاختلافها فی استحقاق الجنة ودرجاتها ، والنار ودرکاتها ، [ وموجب لتفاوتها فی نیل الشفاعة وعدم نیلها ] ، وتفاوتها فی ذلک بالاخرة یکون ذاتیا ، والذاتی لا یعلل.
إن قلت : على هذا ، فلا فائدة فی بعث الرسل وإنزال الکتب والوعظ والانذار.
قلت : ذلک لینتفع به من حسنت سریرته وطابت طینته ، لتکمل به نفسه ، ویخلص مع ربه أنسه ( مَا کُنَّا لِنَهْتَدِیَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ) (5) ، قال الله تبارک وتعالى :
__________________
1 ـ کیف لا ، وکانت المعصیة الموجبة لاستحقاق العقوبة غیر اختیاریة ، فإنّها هی المخالفة العمدیة ، وهی لا تکون بالاختیار ، ضرورة أن العمد إلیها لیس باختیاری ، وإنما تکون نفس المخالفة اختیاریة ، وهی غیر موجبة للاستحقاق ، وإنما الموجبة له هی العمدیة منها ، کما لا یخفى على أولى النهى منه (1 ).
2 ـ المطبوع فی « ب » إمکاناً ، ولکن صححه المصنف ( قده ) بما فی المتن.
3 ـ فی « ب » : جل شإنّه وعظمت کبریاؤه.
4 ـ أثبتناها من « ب ».
5 ـ الأعراف : 43. 
 
( وذکر فإن الذکرى تنفع المؤمنین ) (1) ولیکون حجة على من ساءت سریرته وخبثت طینته ( لِّیَهْلِکَ مَنْ هَلَکَ عَن بَیِّنَةٍ وَیَحْیَىٰ مَنْ حَیَّ عَن بَیِّنَة ٍ) (2) کی لا یکون للناس على الله حجة ، بل کان له حجة بالغة.
ولا یخفى أن فی الآیات (3) والروایات (4) ، شهادة على صحة ما حکم به الوجدان الحاکم على الإِطلاق فی باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة ، ومعه لا حاجة إلى ما استدل (5) على استحقاق المتجرئ للعقاب بما حاصله : إنّه لولاه مع استحقاق العاصی له یلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختیار ، من مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته واختیاره ؛ مع بطلإنّه وفساده ، إذ للخصم أن یقول بأن استحقاق العاصی دونه ، إنّما هو لتحقق سبب الاستحقاق فیه ، وهو مخالفته عن عمد واختیار ، وعدم تحققه فیه لعدم مخالفته أصلاً ، ولو بلا اختیار ، بل عدم صدور فعل منه فی بعضٍ افراده بالاختیار ، کما فی التجری بارتکاب ما قطع إنّه من مصادیق الحرام ، کما إذا قطع مثلاً بأن مائعاً خمر ، مع إنّه لم یکن بالخمر ، فیحتاج إلى إثبات أن المخالفة الاعتقادیة سبب کالواقعیة الاختیاریة ، کما عرفت بما لا مزید علیه.
ثم لا یذهب علیک : إنّه لیس فی المعصیة الحقیقیة إلّا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة ، وهو هتک واحد ، فلا وجه لاستحقاق عقابین متداخلین کما توهّم (6) ، مع ضرورة أن المعصیة الواحدة لا توجب إلّا عقوبة واحدة ، کما لا وجه لتداخلهما على تقدیر استحقاقهما ، کما لا یخفى ؛ ولا منشأ لتوهمه ، إلّا بداهة أنه لیس فی
__________________
1 ـ الذاریات : 55.
2 ـ الانقال : 42.
3 ـ الاسراء : 36. والبقرة : 225 و 284. والاحزاب : 5.
4 ـ الکافی 2 / 69 باب النیة من کتاب الإیمان والکفر. وللمزید راجع وسائل الشیعة 1 / 35 ، الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات ، الحدیث 3 و 4 و 6 و 7 و 8 و 10.
5 ـ استدل به المحقق السبزواری ، ذخیرة المعاد / 209 ـ 210.
6 ـ راجع الفصول / 87 ، التنبیه الرابع من مقدّمة الواجب. 
 
معصیة واحدة إلّا عقوبة واحدة ، مع الغفلة عن أن وحدة المسبب تکشف بنحو الإنّ عن وحدة السبب.
الأمر الثالث : إنّه قد عرفت (1) أن القطع بالتکلیف أخطأ أو أصاب ، یوجب عقلاً استحقاق المدح والثواب ، أو الذم والعقاب ، من دون أن یؤخذ شرعاً فی خطاب ، وقد یؤخذ فی موضوع حکم آخر یخالف متعلقه ، لا یماثله ولا یضاده ، کما إذا ورد مثلاً فی الخطاب إنّه ( إذا قطعت بوجوب شیء یجب علیک التصدق بکذا ) تارةً بنحو یکون تمام الموضوع ، بأن یکون القطع بالوجوب مطلقاً ولو أخطأ موجباً لذلک ، وأخرى بنحو یکون جزأه وقیده ، بأن یکون القطع به فی خصوص ما أصاب موجباً له ، وفی کلّ منهما یؤخذ طوراً بما هو کاشف وحاکٍ عن متعلقه ، وآخر بما هو صفة خاصة للقاطع أو المقطوع به ؛ وذلک لأن القطع لما کان من الصفات الحقیقیة ذات الاضافة ـ ولذا کان العلم نوراً لنفسه ونورا لغیره ـ صحّ أن یؤخذ فیه بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة ، بإلغاء جهة کشفه ، أو اعتبارٍ خصوصیة أُخرى فیه معها ؛ کما صحّ أن یؤخذ بما هو کاشف عن متعلقه وحاکٍ عنه ، فتکون أقسامه أربعة ، مضافاً إلى ما هو طریق محض عقلاً غیر مأخوذ فی الموضوع شرعاً.
ثم لا ریب فی قیام الطرق والأمارات المعتبرة ـ بدلیل حجیتها واعتبارها ـ مقام هذا القسم ، کما لا ریب فی عدم قیامها بمجرد ذلک الدلیل مقام ما أُخذ فی الموضوع على نحو الصفتیة من تلک الأقسام ، بل لابد من دلیل آخر على التنزیل ، فإن قضیة الحجیة والاعتبار ترتیب ما للقطع بما هو حجة من الآثار ، لا له بما هو صفة وموضوع ، ضرورة إنّه کذلک یکون کسائر الموضوعاًت والصفات.
ومنه قد انقدح عدم قیامها بذاک الدلیل مقام ما أُخذ فی الموضوع على نحو
__________________
1 ـ فی الأمر الأوّل صفحة 258.
 
الکشف ، فإن القطع المأخوذ بهذا النحو فی الموضوع شرعاً ، کسائر مالها (1) دخل فی الموضوعاًت أیضاً ، فلا یقوم مقامه شیء بمجرد حجیته ، وقیام (2) دلیل على اعتباره ، ما لم یقم دلیل على تنزیله ، ودخله فی الموضوع کدخله.
وتوهمّ (3) کفایة دلیل الاعتبار الدالّ على إلغاء احتمال خلافه وجعله بمنزلة القطع ، من جهة کونه موضوعاً ومن جهة کونه طریقاً فیقوم مقامه طریقاً کان أو موضوعاً ، فاسد جدّاً. فإن الدلیل الدالّ على إلغاء الاحتمال ، لا یکاد یکفی إلّا بأحد التنزیلین ، حیث لا بدّ فی کلّ تنزیل منهما من لحاظ المنزَّل والمنزّل علیه ، ولحاظهما فی أحدهما آلیّ ، وفی الآخر استقلالی ، بداهة أن النظر فی حجیته وتنزیله منزلة القطع فی طریقیته فی الحقیقة إلى الواقع ومؤدى الطریق ، وفی کونه بمنزلته فی دخله فی الموضوع إلى أنفسهما ، ولا یکاد یمکن الجمع بینهما.
نعم لو کان فی البین ما بمفهومه جامع بینهما ، یمکن أن یکون دلیلاً على التنزیلین ، والمفروض إنّه لیس ؛ فلا یکون دلیلاً على التنزیل إلّا بذاک اللحاظ الآلیّ ، فیکون حجة موجبة لتنجز متعلقه ، وصحة العقوبة على مخالفته فی صورتی إصابته وخطئه بناءً على استحقاق المتجری ، أو بذلک اللحاظ الآخر الاستقلالی ، فیکون مثله فی دخله فی الموضوع ، وترتیب ما له علیه من الحکم الشرعی.
لا یقال : على هذا لا یکون دلیلاً على أحد التنزیلین ، ما لم یکن هناک قرینة فی البین.
فإنّه یقال : لا إشکال فی کونه دلیلاً على حجیته ، فإن ظهوره فی إنّه بحسب اللحاظ الآلیّ مما لا ریب فیه ولا شبهة تعتریه ، وإنما یحتاج تنزیله بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالی من نصب دلالة علیه ، فتأمل فی المقام فإنّه دقیق ومزالّ الأقدام
__________________
1 ـ فی حقائق الأصول : ماله ، الحقائق 2 : 24.
2 ـ فی « ب » : أو قیام دلیل ... الخ.
3 ـ تعریض بما ذکره الشیخ الانصاری ( قده ) فرائد الأصول / 4. 
 
للاعلام.
ولا یخفى إنّه لو لا ذلک ، لأمکن أن یقوم الطریق بدلیل واحد ـ دالّ على إلغاء احتمال خلافه ـ مقام القطع بتمام أقسامه ، ولو فیما (1) أُخذ فی الموضوع على نحو الصفتیة ؛ کان تمامه أو قیده وبه قوامه.
فتلخص ممّا ذکرنا : إن الأمارة لا تقوم بدلیل اعتبارها إلّا مقام ما لیس بمأخوذ (2) فی الموضوع أصلاً.
وأما الأصول فلا معنى لقیامها مقامه بأدلتها ـ أیضاً ـ غیر الاستصحاب ؛ لوضوح أن المراد من قیام المقام ترتیب ما له من الآثار والأحکام ، من تنجز التکلیف وغیره ـ کما مرت (3) إلیه الإِشارة ـ وهی لیست إلّا وظائف مقررة للجاهل فی مقام العمل شرعاً أو عقلاً.
لا یقال : إن الاحتیاط لا بأس بالقول بقیامه مقامه فی تنجز التکلیف لو کان.
فإنّه یقال : امّا الاحتیاط العقلی ، فلیس إلّا لأجل حکم العقل بتنجز التکلیف ، وصحة العقوبة على مخالفته ، لا شیء یقوم مقامه فی هذا الحکم.
وأما النقلی ، فإلزام الشارع به ، وأنّ کان مما یوجب التنجز وصحة العقوبة على المخالفة کالقطع ، إلّا إنّه لا نقول به فی الشبهة البدویة ، ولا یکون بنقلی فی المقرونة بالعلم الإِجمالی ، فافهم.
ثم لا یخفى أنَّ دلیل الاستصحاب أیضاً لا یفی بقیامه مقام القطع المأخوذ
__________________
1 ـ الظاهر أنّه ردّ على الشیخ حیث فصّل بین القطع الموضوعی الطریقی وبین القطع الموضوعی الصفتی ، من جهة قیام الأمارة مقامه وعدم قیامها مقامه ، فرائد الأصول / 3.
2 ـ فی « ب » : مأخوذاً.
3 ـ فی ص 264 عند قوله : ( فیکون حجة موجبة لتنجز متعلقه ... ). 
 
فی الموضوع مطلقاً ، وأنّ مثل ( لا تنقض الیقین ) لا بدّ من أن یکون مسوقاً امّا بلحاظ المتیقن ، أو بلحاظ نفس الیقین.
وما ذکرنا فی الحاشیة (1) ـ فی وجه تصحیح لحاظ واحد فی التنزیل منزلة الواقع والقطع ، وأنّ دلیل الاعتبار إنّما یوجب تنزیل المستصحب والمؤدى منزلة الواقع ، وإنما کان تنزیل القطع فیما له دخل فی الموضوع بالملازمة بین تنزیلهما ، وتنزیل القطع بالواقع تنزیلاً وتعبداً منزلة القطع بالواقع حقیقة ـ لا یخلو من تکلف بل تعسف. فإنّه لا یکاد یصحّ تنزیل جزء الموضوع أو قیده ، بما هو کذلک بلحاظ أثره ، إلّا فیما کان جزؤه الآخر أو ذاته محرزاً بالوجدان ، أو تنزیله فی عرضه ، فلا یکاد یکون دلیل الأمارة أو الاستصحاب دلیلاً على تنزیل جزء الموضوع ، ما لم یکن هناک دلیل على تنزیل جزئه الآخر ، فیما لم یکن محرزاً حقیقة ، وفیما لم یکن دلیل على تنزیلهما بالمطابقة ـ کما فی ما نحن فیه ، على ما عرفت (2) ـ لم یکن دلیل الأمارة دلیلاً علیه أصلاً ، فإن دلالته على تنزیل المؤدى تتوقف على دلالته على تنزیل القطع بالملازمة ، ولا دلالة له کذلک إلّا بعد دلالته على تنزیل المؤدى ، فإن الملازمة (3) إنّما تکون بین تنزیل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقیقی ، وتنزیل المؤدى منزلة الواقع کما لا یخفى ، فتأمل جیّداً ، فإنّه لا یخلو عن دقة.
ثم لا یذهب علیک أن (4) هذا لو تم لعم ، ولا اختصاص له بما إذا کان القطع مأخوذاً على نحو الکشف.
الأمر الرابع : لا یکاد یمکن أن یؤخذ القطع بحکم فی موضوع نفس هذا
__________________
1 ـ حاشیة المصنف على الفرائد / 8 فی کیفیة تنزیل الأمارة مقام القطع.
2 ـ فی عدم إمکان الجمع بین اللحاظین / 264.
3 ـ فی بعضٍ النسخ المطبوعة زیادة هنا حذفها المصنف من نسختی « أ » و « ب ».
4 ـ فی « أ » و « ب » : إنّه. 
 
الحکم للزوم الدور ، ولا مثله للزوم اجتماع المثلین ، ولاضده للزوم اجتماع الضدین ، نعم یصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحکم فی مرتبة أُخرى منه أو مثله أو ضده.
وأما الظن بالحکم ، فهو وأنّ کان کالقطع فی عدم جواز أخذه فی موضوع نفس ذاک الحکم المظنون ، إلّا إنّه لما کان معه مرتبة الحکم الظاهری محفوظة ، کان جعل حکم آخر فی مورده ـ مثل الحکم المظنون أو ضدّه ـ بمکان من الامکان.
إن قلت : إن کان الحکم المتعلق به الظن فعلّیاً أیضاً ، بأن یکون الظن متعلقاً بالحکم الفعلّی ، لا یمکن أخذه فی موضوع حکم فعلّی آخر مثله ضدّه ، لاستلزامه الظن باجتماع الضدین أو المثلین ، وإنما یصحّ أخذه فی موضوع حکم آخر ، کما فی القطع ، طابق النعل بالنعل.
قلت : یمکن أن یکون الحکم فعلّیاً ، بمعنى إنّه لو تعلق به القطع ـ على ما هو علیه من الحال ـ لتنجز واستحق على مخالفته العقوبة ، ومع ذلک لا یجب على الحاکم رفع عذر المکلف ، برفع جهله لو أمکن ، أو بجعل لزوم الاحتیاط علیه فیما أمکن ، بل یجوز جعل أصل أو أمارة مؤدیة إلیه تارةً ، وإلى ضدّه أُخرى ، ولا یکاد یمکن مع القطع به جعل حکم آخر مثله أو ضدّه ، کما لا یخفى ، فافهم.
إن قلت : کیف یمکن ذلک؟ وهل هو إلّا إنّه یکون مستلزماً لاجتماع المثلین أو الضدین؟.
قلت : لا بأس بإجتماع الحکم الواقعی الفعلّی بذاک المعنى ـ أیّ لو قطع به من باب الاتفاق لتنجز ـ مع حکم آخر فعلّی فی مورده بمقتضى الأصل أو الأمارة ، أو دلیل أخذ فی موضوعه الظن بالحکم بالخصوص ، على ما سیأتی (1) من التحقیق فی التوفیق بین الحکم الظاهری والواقعی.
__________________
1 ـ فی بحث الأمارات / 278 ، عند قوله : لأن أحدهما طریقی عن مصلحة فی نفسه ... إلخ. 
 
الأمر الخامس : هل تنجز التکلیف بالقطع ـ کما یقتضی موافقته عملاً ـ یقتضی موافقته إلتزاماً ، والتسلیم له اعتقاداً وانقیاداً؟ کما هو اللازم فی الأُصول الدینیة والامور الاعتقادیة ، بحیث کان له امتثالان وطاعتان ، إحداهما بحسب القلب والجنان ، والأخرى بحسب العمل بالارکان ، فیستحق العقوبة على عدم الموافقة التزاما ولو مع الموافقة عملاً ، أو لا یقتضی؟ فلا یستحق العقوبة علیه ، بل إنّما یستحقها على المخالفة العملیة.
الحق هو الثّانی ، لشهادة الوجدان الحاکم فی باب الإطاعة والعصیان بذلک ، واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل الأمر سیده إلّا المثوبة دون العقوبة ، ولو لم یکن متسلماً وملتزما به ومعتقداً ومنقاداً له ، وأنّ کان ذلک یوجب تنقیصه وانحطاط درجته لدى سیده ، لعدم اتصافه بما یلیق أن یتصف العبد به من الاعتقاد بأحکام مولاه والانقیاد لها ، وهذا غیر استحقاق العقوبة على مخالفته لامره أو نهیه التزاماً مع موافقته عملاً ، کما لا یخفى.
ثم لا یذهب علیک ، إنّه على تقدیر لزوم الموافقة الالتزامیة ، لو کان المکلف متمکناً منها لوجب ، ولو فیما لا یجب علیه الموافقة القطعیة عملاً ، ولا یحرم المخالفة القطعیة علیه کذلک أیضاً لامتناعهما ، کما إذا علم إجمالاً بوجوب شیء أو حرمته ، للتمکن من الالتزام بما هو الثابت واقعاً ، والانقیاد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت ، وأنّ لم یعلم إنّه الوجوب أو الحرمة.
وإن أبیت إلّا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوإنّه ، لما کانت موافقته القطعیة الالتزامیة حینئذ ممکنة ، ولما وجب علیه الالتزام بواحد قطعاً ، فإن محذور الالتزام بضد التکلیف عقلاً لیس بأقل من محذور عدم الالتزام به بداهة ، مع ضرورة أن التکلیف لو قیل باقتضائه للالتزام ، لم یکد یقتضی إلّا الالتزام بنفسه عیناً ، لا الالتزام به أو بضده تخییراً.
ومن هنا قد انقدح إنّه لا یکون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الأُصول 
 
الحکمیة أو الموضوعیة فی أطراف العلم لو کانت جاریة ، مع قطع النظر عنه ، کما لا یدفع (1) بها محذور عدم الالتزام به (2). إلّا أن یقال : إن استقلال العقل بالمحذور فیه إنّما یکون فیما إذا لم یکن هناک ترخیص فی الإقدام والاقتحام فی الأطراف ، ومعه لا محذور فیه ؛ بل ولا فی الالتزام بحکم آخر.
إلا أن الشأن حینئذ فی جواز جریان الأُصول فی أطراف العلم الإِجمالی ، مع عدم ترتب أثر علمی علیها ، مع إنّها أحکام عملیة کسائر الأحکام الفرعیة ، مضافاً إلى عدم شمول أدلتها لأطرافه ، للزوم التناقض فی مدلولها على تقدیر شمولها ، کما ادعاه (3) شیخنا العلامة أعلى الله مقامه ، وأنّ کان محلّ تأمل ونظر ، فتدبرّ جیّداً.
الأمر السادس : لا تفاوت فی نظر العقل أصلاً فیما یترتب على القطع من الآثار عقلاً ، بین أن یکون حاصلاً بنحو متعارف ، ومن سبب ینبغی حصوله منه ، أو غیر متعارف لا ینبغی حصوله منه ، کما هو الحال غالباً فی القطّاع ، ضرورة أن العقل یرى تنجز التکلیف بالقطع الحاصل مما لا ینبغی حصوله ، وصحة مؤاخذة قاطعه على مخالفته ، وعدم صحة الاعتذار عنها بإنّه حصل کذلک ، وعدم صحة المؤاخذة مع القطع بخلافه ، وعدم حسن الاحتجاج علیه بذلک ، ولو مع التفاته إلى کیفیة حصوله.
نعم (4) ربما یتفاوت الحال فی القطع المأخوذ فی الموضوع شرعاً ، والمتبع فی عمومه وخصوصه دلالة دلیله فی کلّ مورد ، فربما یدلّ على اختصاصه بقسم فی
__________________
1 ـ إشارة إلى ما فی فرائد الأصول / 19 ، عند قوله : وأما المخالفة الغیر العملیة ... الخ.
2 ـ هنا زیادة فی بعضٍ النسخ المطبوعة حذفها المصنف من نسختی « أ » و « ب ».
3 ـ فرائد الأصول / 429 ، عند قوله : بل لأن العلم الإِجمالی هنا بانتقاض ... الخ.
4 ـ قد نبه الشیخ فی فرائد الأصول / 3 ، على هذا الاستدراک. 
 
مورد ، وعدم اختصاصه به فی آخر ، على اختلاف الأدلة واختلاف المقامات ، بحسب مناسبات الأحکام والموضوعاًت ، وغیرها من الامارات.
وبالجملة القطع فیما کان موضوعاً عقلاً لا یکاد یتفاوت من حیث القاطع ، ولا من حیث المورد ، ولا من حیث السبب ، لا عقلاً ـ وهو واضح ـ ولا شرعاً ، لما عرفت (1) من إنّه لا تناله ید الجعل نفیاً ولا إثباتاً ؛ وأنّ نسب إلى بعضٍ الإخباریین إنّه لا اعتبارٍ بما إذا کان بمقدمات عقلیة ، إلّا أن مراجعة کلماتهم لا تساعد على هذه النسبة ، بل تشهد بکذبها ، وإنّها إنّما تکون امّا فی مقام منع الملازمة بین حکم العقل بوجوب شیء وحکم الشرع بوجوبه ، کما ینادی به بأعلى صوته ما حکی (2) عن السید الصدر (3) فی باب الملازمة ، فراجع.
وإما فی مقام عدم جواز الاعتماد على المقدّمات العقلیة ، لأنّها لا تفید إلّا الظن ، کما هو صریح الشیخ المحدث الامین الاسترآبادی ; حیث قال ـ فی جملة ما استدل به فی فوائده (4) على انحصار مدرک ما لیس من ضروریات الدین فی السماع عن الصادقین ::
الرابع : أن کلّ مسلک غیر ذلک المسلک ـ یعنی التمسک بکلامهم ( علیهم الصلاة والسلام ) ـ إنّما یعتبر من حیث إفادته الظن بحکم الله تعالى ، وقد أثبتنا
__________________
1 ـ تقدم فی الأمر الأوّل : 258.
2 ـ راجع ما حکاه الشیخ عن السید الصدر : فرائد الأصول : 11 ، وکلام السید الصدر فی شرح الوافیة.
3 ـ السید صدر الدین بن محمد باقر الرضوی القمی ، أخذ من أفاضل علماء إصفهان ، کالمدقق الشیروانی والاقا جمال الدین الخونساری والشیخ جعفر القاضی ، ثم إرتحل إلى قُم ، فأخذ فی التدریس إلى أن اشتعلت نائرة فتنة الافغان ، فانتقل منها إلى موطن أخیه الفاضل بهمدان ثم منها إلى النجف الاشرف ، فاشتغل فیها على المولى الشریف أبی الحسن العاملی والشیخ أحمد الجزائری ، تلمذ علیه الأستاذ الاکبر المحقق البهبهانی ، له کتاب « شرح الوافیة » توفی فی عشر الستین بعد المئة والألف وهو ابن خمس وستین سنة ( الکنى والألقاب 2 / 375 ).
4 ـ الفوائد المدنیة : 129.
 
سابقاً إنّه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحکامه تعالى أو بنفیها ) وقال فی جملتها أیضاً ـ بعد ذکر ما تفطن بزعمه من الدقیقة ـ ما هذا لفظه (1) :
« وإذا عرفت ما مهدناه من الدقیقة الشریفة ، فنقول : إن تمسکنا بکلامهم : فقد عصمنا من الخطأ ، وأنّ تمسکنا بغیره لم یعصم عنه ، ومن المعلوم أن العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فیه شرعاً وعقلاً ، إلّا ترى أن الامامیة استدلوا على وجوب العصمة بإنّه لولا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتباع الخطأ ، وذلک الأمر محلّ ، لإنّه قبیح ، وأنت إذا تأملت فی هذا الدلیل علمت أن مقتضاه إنّه لا یجوز الاعتماد على الدلیل الظنی فی أحکامه تعالى » ، انتهى موضع الحاجة من کلامه.
وما مهده من الدقیقة هو الذی نقله شیخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ فی الرسالة (2).
وقال فی فهرست فصولها (3) أیضاً :
( الأوّل : فی إبطال جواز التمسک بالاستنباطات الظنیة فی نفس أحکامه تعالى شإنّه ، ووجوب التوقف عند فقد القطع بحکم الله ، أو بحکم ورد عنهم : ) ، انتهى.
وأنت ترى أن محلّ کلامه ومورد نقضه وإبرامه ، هو العقلی الغیر المفید للقطع ، وإنما همّه إثبات عدم جواز اتباع غیر النقل فیما لا قطع.
وکیف کان ، فلزوم اتباع القطع مطلقاً ، وصحة المؤاخذة على مخالفته عند إصابته ، وکذا ترتب سائر آثاره علیه عقلاً ، مما لا یکاد یخفى على عاقل فضلاً عن
__________________
1 ـ المصدر السابق : 130 ، مع اختلاف یسیر.
2 ـ فرائد الأصول / 9 مبحث القطع.
3 ـ الفوائد المدنیة / 90 ، باختلاف غیر قادح فی العبارة.  

 
فاضل ، فلابد فیما یوهم (1) خلاف ذلک فی الشریعة من المنع عن حصول العلم التفصیلی بالحکم الفعلّی (2) لأجل منع بعضٍ مقدماته الموجبة له ، ولو إجمالاً ، فتدبرّ جیّداً.
الأمر السابع : إنّه قد عرفت کون القطع التفصیلی بالتکلیف الفعلّی علّة تامة لتنجزه ، لا تکاد تناله ید الجعل إثباتاً أو نفیاً ، فهل القطع الإِجمالی کذلک؟
فیه إشکال ، ربما یقال : إن التکلیف حیث لم ینکشف به تمام الانکشاف ، وکانت مرتبة الحکم الظاهری معه محفوظة ، جاز الإذن من الشارع بمخالفته احتمالاً بل قطعاً ، ولیس محذور مناقضته مع المقطوع إجمالاً [ إلّا ] (3) محذور مناقضة الحکم الظاهری مع الواقعی فی الشبهة الغیر المحصورة ، بل الشبهة البدویة (4) ، ضرورة عدم تفاوت فی المناقضة بین التکلیف الواقعی والإذن بالاقتحام فی مخالفته بین الشبهات أصلاً ، فما به التفصی عن المحذور فیهما کان به التفصّی عنه فی القطع به فی الأطراف المحصورة أیضاً ، کما لا یخفى ، [ وقد أشرنا إلیه سابقاً ، ویأتی (5) إن شاء الله مفصلاً ] (6).
نعم کان العلم الإِجمالی کالتفصیلی فی مجرد الاقتضاء ، لا فی العلّیة التامة (7) ، فیوجب تنجز التکلیف أیضاً لو لم یمنع عنه مانع عقلاً ، کما کان فی أطراف کثیرة غیر
__________________
1 ـ المحاسن / 286 ، الحدیث 430 ـ الکافی : 2 / 16 ، الحدیث 5. الوسائل : 18 / الباب 6 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 37.
2 ـ فی هامش « ب » عن نسخة أُخرى : العقلی.
3 ـ أثبتناه من « ب ».
4 ـ کان هنا اشکال آخر ضرب علیه المصنف فی نسختی « أ » و « ب ».
5 ـ تقدم فی الأمر الرابع / 267 ، عند قوله : قلت : لا بأس باجتماع ... الخ ، ویأتی فی أوائل البحث عن حجیة الامارات.
6 ـ شطب المصنف على هذه العبارة فی ( ب ).
7 ـ لکنه لا یخفى أن التفصی عن المناقضة ـ على ما یأتی ـ لما کان بعدم المنافاة بین الحکم الواقعی ما لم یصر فعلّیاً والحکم الظاهری الفعلّی ، کان الحکم الواقعی فی موارد الأصول والأمارات المؤدیة
 
محصورة ، أو شرعاً کما فی ما أذن الشارع فی الاقتحام فیها ، کما هو ظاهر ( کلّ شیء فیه حلال وحرام ، فهو لک حلال ، حتى تعرف الحرام منه بعینه ) (1).
وبالجملة : قضیة صحة المؤاخذة على مخالفته ، مع القطع به بین أطراف محصورة وعدم صحتها مع عدم حصرها ، أو مع الإذن فی الاقتحام فیها ، هو کون القطع الإِجمالی مقتضیاً للتنجز لا علّة تامة.
وأما احتمال (2) إنّه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعیة ، وبنحو العلّیة بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالیة وترک المخالفة القطعیة ، فضعیف جداً. ضرورة أن احتمال ثبوت المتناقضین کالقطع بثبوتهما فی الاستحالة ، فلا یکون عدم القطع بذلک معها موجباً لجواز الاذن فی الاقتحام ، بل لو صحّ الإذن فی المخالفة الاحتمالیة صحّ فی القطعیة أیضاً ، فافهم.
ولا یخفى أن المناسب للمقام هو البحث عن ذلک ، کما أن المناسب فی باب البراءة والاشتغال ـ بعد الفراغ هاهنا عن أن تأثیره فی التنجز بنحو الاقتضاء لا العلّیة ـ هو البحث عن ثبوت المانع شرعاً أو عقلاً وعدم ثبوته ، کما لا مجال بعد
__________________
إلى خلافه لا محالة غیر فعلّی ، فحینئذ فلا یجوّز العقل مع القطع بالحکم الفعلّی الإذن فی مخالفته ، بل یستقل مع قطعه ببعث المولى أو زجره ولو إجمالاً بلزوم موافقته وإطاعته.
نعم لو عرض بذلک عسر موجب لارتفاع فعلیته شرعاً أو عقلاً ، کما إذا کان مخلّاً بالنظام ، فلا تنجز حینئذ ، لکنه لأجل عروض الخلل فی المعلوم لا لقصور العلم عن ذلک ، کان الأمر کذلک فیما إذا أذن الشارع فی الاقتحام ، فإنّه أیضاً موجب للخلل فی المعلوم ، لا المنع عن تأثیر العلم شرعاً ، وقد انقدح بذلک إنّه لا مانع عن تأثیره شرعاً أیضاً ، فتأمل جیداً ( منه 1 ).
1 ـ باختلاف یسیر فی العبارة : الکافی 5 / 313 باب النوادر من کتاب المعیشة ، الحدیث 39. التهذیب 7 / 226 ، الباب 21 من الزیادات ، الحدیث 8 ، الفقیه 3 / 216 ، الباب 96 الصید والذبایح الحدیث 92.
2 ـ هذه إشارة إلى التفصیل فی حجیة العلم الإِجمالی کما یستفاد من کلمات الشیخ الانصاری فی مبحث العلم الإِجمالی / 21 ، عند قوله : ( وأمّا المخالفة العملیة فإن کانت ... ) ، ومبحث الإِشتغال / 242 ، عند قوله : ( نعم لو أذن الشارع ... ).  

 
البناء على إنّه بنحو العلّیة للبحث عنه هناک أصلاً ، کما لا یخفى.
هذا بالنسبة إلى إثبات التکلیف وتنجزه به ، وأما سقوطه به بأن یوافقه إجمالاً ، فلا إشکال فیه فی التوصلیات. وأما [ فی ] (1) العبادیات فکذلک فیما لا یحتاج إلى التکرار ، کما إذا تردد أمر عبادة بین الأقلّ والأکثر ، لعدم الإِخلال بشیء مما یعتبر أو یحتمل اعتباره فی حصول الغرض منها ، مما لا یمکن أن یؤخذ فیها ، فإنّه نشأ من قبل الأمر بها ، کقصد الإطاعة والوجه والتمییز فیما إذا أتى بالاکثر ، ولا یکون إخلال حینئذ إلّا بعدم إتیان ما احتمل جزئیته على تقدیرها بقصدها ، واحتمال دخل قصدها فی حصول الغرض ضعیف فی الغایة وسخیف إلى النهایة.
وأما فیما احتاج إلى التکرار ، فربما یشکل (2) من جهة الإِخلال بالوجه تارةً ، وبالتمییز أُخرى ، وکونه لعباً وعبثاً ثالثة.
وأنت خبیر بعدم الإِخلال بالوجه بوجه فی الإِتیان مثلاً بالصلاتین المشتملتین على الواجب لوجوبه ، غایة الأمر إنّه لا تعیین له ولا تمییز فالاخلال إنّما یکون به ، واحتمال اعتباره أیضاً فی غایة الضعف ، لعدم عین منه ولا أثر فی الأخبار ، مع إنّه مما یغفل عنه غالباً ، وفی مثله لا بدّ من التنبیه على اعتباره ودخله فی الغرض ، وإلاّ لأخل بالغرض ، کما نبهنا علیه سابقاً (3).
وأما کون التکرار لعباً وعبثاً ، فمع إنّه ربما یکون لداع عقلاًئی ، إنّما یضر إذا کان لعباً بأمر المولى ، لا فی کیفیة إطاعته بعد حصول الداعی إلیها ، کما لا یخفى ، هذا کله فی قبال ما إذا تمکن من القطع تفصیلاً بالامتثال.
وأما إذا لم یتمکن إلّا من الظن به کذلک ، فلا إشکال فی تقدیمه على الامتثال الظنی لو لم یقم دلیل على اعتباره ، إلّا فیما إذا لم یتمکن منه ، وأما لو قام على اعتباره
__________________
1 ـ من هامش ( ب ) عن نسخة أُخرى.
2 ـ راجع کلام الشیخ قدس فرائد الأصول / 299 ، فی الخاتمة فی شرائط الأُصول.
3 ـ فی مبحث التعبدی والتوصلی ، 76. 
 
مطلقاً ، فلا إشکال فی الاجتزاء بالظنی ، کما لا إشکال فی الاجتزاء بالامتثال الإِجمالی فی قبال الظنی ، بالظن المطلق المعتبر بدلیل الانسداد ، بناءً على أن یکون من مقدماته عدم وجوب الاحتیاط ، وأما لو کان من مقدماته بطلإنّه لاستلزامه العسر المخل بالنظام ، أو لأنّه لیس من وجوه الطاعة والعبادة ، بل هو نحو لعب وعبث بأمر المولى فیما إذا کان بالتکرار ، کما توهّم ، فالمتعین هو التنزل عن القطع تفصیلاً إلى الظن کذلک.
وعلیه : فلا مناص عن الذهاب إلى بطلان عبادة تارک طریقی التقلید والاجتهاد ، وأنّ احتاط فیها ، کما لا یخفى.
هذا بعضٍ الکلام فی القطع مما یناسب المقام ، ویأتی بعضه الآخر فی مبحث البراءة والاشتغال.
فیقع المقام فیما هو المهمّ من عقد هذا المقصد ، وهو بیان ما قیل باعتباره من الأمارات ، أو صحّ أن یقال ، وقبل الخوض فی ذلک ینبغی تقدیم أمور :
أحدها : إنّه لا ریب فی أن الامارة الغیر العلمیة ، لیس کالقطع فی کون الحجیة من لوازمها ومقتضیاتها بنحو العلّیة ، بل مطلقاً ، وأنّ ثبوتها لها محتاج إلى جعل أو ثبوت مقدمات وطروء حالات موجبة لاقتضائها الحجیّة عقلاً ، بناءً على تقریر مقدمات الانسداد بنحو الحکومة ، وذلک لوضوح عدم اقتضاء غیر القطع للحجیة بدون ذلک ثبوتاً بلا خلاف ، ولا سقوطاً وأنّ کان ربما یظهر فیه من بعضٍ المحققین (1) الخلاف والاکتفاء بالظن بالفراغ ، ولعله لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل ، فتأمل.
ثانیها : فی بیان إمکان التعبد بالأمارة الغیر العلمیة شرعاً ، وعدم لزوم
__________________
1 ـ لعلّه المحقق الخوانساری (ره) کما قد یستظهر من بعضٍ کلماته فی مسألة ما لو تعدَّد الوضوء ولم یعلم محلّ المتروک ( الخلل ) ، راجع مشارق الشموس / 147.  

 
محال منه عقلاً ، فی قبال دعوى استحالته للزومه ، ولیس (1) الإِمکان بهذا المعنى ، بل مطلقاً أصلاً متّبعاً (2) عند العقلاء ، فی مقام احتمال ما یقابله من الامتناع ، لمنع کون سیرتهم على ترتیب آثار الإِمکان عند الشک فیه ، ومنع حجیتها ـ لو سلّم ثبوتها ـ لعدم قیام دلیل قطعی على اعتبارها ، والظن به لو کان فالکلام الآن فی إمکان التعبد بها وامتناعه ، فما ظنک به؟ لکن دلیل وقوع التعبد بها من طرق إثبات إمکانه ، حیث یستکشف به عدم ترتب محال من تالٍ باطل فیمتنع مطلقاً ، أو على الحکیم تعالى ، فلا حاجة معه فی دعوى الوقوع إلى إثبات الإِمکان ، وبدونه لا فائدة فی إثباته ، کما هو واضح.
وقد انقدح بذلک ما فی دعوى شیخنا العلامة (3) ـ أعلى الله مقامه ـ من کون الإِمکان عند العقلاء مع احتمال الامتناع أصلاً ، والإِمکان فی کلام الشیخ الرئیس (4) : ( کلّ ما قرع سمعک من الغرائب فذره فی بقعة الإِمکان ، ما لم یذدک عنه واضح البرهان ) ، بمعنى الاحتمال المقابل للقطع والإیقان ، ومن الواضح أن لا موطن له إلّا الوجدان ، فهو المرجع فیه بلا بینة وبرهان.
وکیف کان ، فما قیل أو یمکن أن یقال فی بیان ما یلزم التعبد بغیر العلم من المحال ، أو الباطل ولو لم یکن بمحال أُمور :
أحدها : إجتماع المثلین من إیجابین أو تحریمین مثلاً فیما أصاب ، أو ضدین من إیجاب وتحریم ومن إرادة وکراهة ومصلحة ومفسدة ملزمتین بلا کسر وانکسار فی البین فیما أخطأ ، أو التصویب وأنّ لا یکون هناک غیر مؤدیات الأمارات أحکام.
__________________
1 ـ هذا تعریض بالشیخ (ره) حیث اعترض على المشهور بما لفظه : ( وفی هذا التقریر نظر ... ) ، فرائد الأصول / 24 ، فی إمکان التعبد بالظن.
2 ـ فی « أ » : بأصل متبع.
3 ـ فرائد الأصول / 24 ، فی إمکان التعبّد بالظن.
4 ـ راجع الإشارات والتنبیهات : 3 / 418 ، النمط العاشر فی أسرار الآیات ، نصیحة. 
 
ثانیها : طلب الضدین فیما إذا أخطأ وأدى إلى وجوب ضد الواجب.
ثالثها : تفویت المصلحة أو الإلقاء فی المفسدة فیما أدى إلى عدم وجوب ما هو واجب ، أو عدم حرمة ما هو حرام ، وکونه محکوماً بسائر الأًحکام.
والجواب : إن ما ادعی لزومه ، امّا غیر لازم ، أو غیر باطل ، وذلک لأن التعبد بطریق غیر علمی إنّما هو بجعل حجیته ، والحجیة المجعولة غیر مستتبعة لإِنشاء أحکام تکلیفیة بحسب ما أدى إلیه الطریق ، بل إنّما تکون موجبة لتنجز التکلیف به إذا أصاب ، وصحته الاعتذار به إذا أخطأ ، ولکون مخالفته وموافقته تجریاً وانقیاداً مع عدم إصابته ، کما هو شأن الحجة الغیر المجعولة ، فلا یلزم اجتماع حکمین مثلین أو ضدین ، ولا طلب الضدین ولا اجتماع المفسدة والمصلحة ولا الکراهة والإرادة ، کما لا یخفى.
وأما تفویت مصلحة الواقع ، أو الإلقاء فی مفسدته فلا محذور فیه أصلاً ، إذا کانت فی التعبد به مصلحة غالبة على مفسدة التفویت أو الإلقاء.
نعم لو قیل باستتباع جعل الحجیة للأحکام التکلیفیة ، أو بإنّه لا معنى لجعلها إلّا جعل تلک الأحکام ، فاجتماع حکمین وأنّ کان یلزم ، إلّا إنّهما لیسا بمثلین أو ضدین ، لأن احدهما طریقی عن مصلحة فی نفسه موجبة لإِنشائه الموجب للتنجز ، أو لصحة الاعتذار بمجرده من دون إرادة نفسانیة أو کراهة کذلک متعلقة بمتعلقه فیما یمکن هناک انقداحهما ، حیث إنّه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتین فی فعل ، وأنّ لم یحدث بسببها إرادة أو کراهة فی المبدأ الأعلى ، إلّا إنّه إذا أوحى بالحکم الناشىء (1) من قبل تلک المصلحة أو المفسدة إلى النبی ، أو ألهم به الولیّ ، فلا محالة ینقدح فی نفسه الشریفة بسببهما (2) ، الإرادة أو الکراهة الموجبة للإنشاء بعثاً أو زجراً ، بخلاف ما لیس هناک مصلحة أو مفسدة فی المتعلق ، بل إنّما کانت فی نفس
__________________
1 ـ فی « ب » : الشانی.
2 ـ أثبتناها من « أ ».  

 
إنشاء الأمر به طریقیاً. والآخر واقعی حقیقی عن مصلحة أو مفسدة فی متعلقه ، موجبة لإِرادته أو کراهته ، الموجبة لإِنشائه بعثاً أو زجراً فی بعضٍ المبادئ العالیة ، وأنّ لم یکن فی المبدأ الأعلى إلّا العلم بالمصلحة أو المفسدة ـ کما أشرنا ـ فلا یلزم أیضاً اجتماع إرادة وکراهة ، وإنما لزم إنشاءً حکم واقعی حقیقی بعثاً وزجراً ، وإنشاء حکم آخر طریقی ، ولا مضادة بین الإنشاءین فیما إذا اختلفا ، ولا یکون من اجتماع المثلین فیما اتفقا ، ولا إرادة ولا کراهة أصلاً إلّا بالنسبة إلى متعلق الحکم الواقعی ، فافهم.
نعم یشکل الأمر فی بعضٍ الأُصول العملیة ، کأصالة الإِباحة الشرعیة ، فإن الإذن فی الاقدام والاقتحام ینافی المنع فعلاً ، کما فیما صادف الحرام ، وأنّ کان الاذن فیه لأجل مصلحة فیه ، لا لأجل عدم مصلحة ومفسدة ملزمة فی المأذون فیه ؛ فلا محیص فی مثله إلّا عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أو الکراهة فی بعضٍ المبادئ العالیة أیضاً ، کما فی المبدأ الأعلى ، لکنه لا یوجب الالتزام بعدم کون التکلیف الواقعی بفعلّی ، بمعنى کونه على صفة ونحو لو علم به المکلف لتنجز علیه ، کسائر التکالیف الفعلیة التی تتنجز بسبب القطع بها ، وکونه فعلّیاً إنّما یوجب البعث أو الزجر فی النفس النبویّة أو الولویّة ، فیما إذا لم ینقدح فیها الإذن لأجل مصلحة فیه.
فانقدح بما ذکرنا إنّه لا یلزم الالتزام بعدم کون الحکم الواقعی فی مورد الأُصول والأمارات فعلّیاً ، کی یشکل تارةً بعدم لزوم الإِتیان حینئذ بما قامت الأمارة على وجوبه ، ضرورة عدم لزوم امتثال الأحکام الإنشائیة ما لم تصر فعلیة ولم تبلغ مرتبة البعث والزجر ، ولزوم الإِتیان به مما لا یحتاج إلى مزید بیان أو إقامة برهان.
لا یقال : لا مجال لهذا الإِشکال ، لو قیل بإنّها کانت قبل أداءً الأمارة إلیها إنشائیة ، لإنّها بذلک تصیر فعلیة ، تبلغ تلک المرتبة.
فإنّه یقال : لا یکاد یحرز بسبب قیام الأمارة المعتبرة على حکم إنشائی لا حقیقة ولا تعبداً ، إلّا حکم إنشائی تعبداً ، لا حکم إنشائی أدّت إلیه الأمارة ؛ امّا 
 
حقیقة فواضح ، وأما تعبداً فلأنّ قصارى ما هو قضیة حجیة الامارة کون مؤدّاها (1) هو الواقع تعبداً ، لا الواقع الذی أدّت إلیه الامارة ، فافهم.
أللهم إلّا أن یقال : إن الدلیل على تنزیل المؤدّى منزلة الواقع ـ الذی صار مؤدّى لها ـ هو دلیل الحجیة بدلالة الاقتضاء ، لکنه لا یکاد یتم إلّا إذا لم یکن للأحکام بمرتبتها الإنشائیة أثر أصلاً ، وإلاّ لم تکن لتلک الدلالة مجال ، کما لا یخفى.
وأخرى بإنّه کیف یکون التوفیق بذلک؟ مع احتمال أحکام فعلیة بعثیّة أو زجریة فی موارد الطرق و الأُصول العملیة المتکلفة لأَحکام فعلیة ، ضرورة إنّه کما لا یمکن القطع بثبوت المتنافیین ، کذلک لا یمکن احتماله.
فلا یصحّ التوفیق بین الحکمین ، بالتزام کون الحکم الواقعی الذی یکون مورد الطرق ـ إنشائیاً غیر فعلّی ، کما لا یصحّ بأن الحکمین لیسا فی مرتبة واحدة بل فی مرتبتین ، ضرورة تأخر الحکم الظاهری عن الواقعی بمرتبتین ؛ وذلک لا یکاد یجدی ، فإن الظاهری وأنّ لم یکن فی تمام مراتب الواقعی ، إلّا إنّه یکون فی مرتبته أیضاً.
وعلى تقدیر المنافاة لزم اجتماع المتنافیین فی هذه المرتبة ؛ فتأمل فیما ذکرنا من التحقیق فی التوفیق ، فإنّه دقیق وبالتأمل حقیق.
ثالثها : إن الأصل فیما لا یعلم اعتباره بالخصوص شرعاً ولا یحرز التعبد به واقعاً ، عدم حجیته جزماً ، بمعنى عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة علیه قطعاً ، فإنّها لا تکاد تترتب إلّا على ما اتصف بالحجیة فعلاً ، ولا یکاد یکون الاتصاف بها ، إلّا إذا أحرز التعبد به وجعله طریقاً متّبعاً ، ضرورة إنّه بدونه لا یصحّ المؤاخذة على مخالفة التکلیف بمجرد إصابته ، ولا یکون عذراً لدى مخالفته مع عدمها ، ولا یکون
__________________
1 ـ فی « أ » : مؤداه.
 
 
مخالفته تجریاً ، ولا یکون موافقته بما هی موافقة انقیاداً ، وأنّ کانت بما هی محتملة لموافقة الواقع کذلک إذا وقعت برجاء إصابته ، فمع الشک فی التعبد به یقطع بعدم حجیته وعدم ترتیب شیء من الآثار علیه ، للقطع بانتفاء الموضوع معه ، ولعمری هذا واضح لا یحتاج إلى مزید بیان أو إقامة برهان.
وأما صحة الالتزام (1) بما أدى إلیه من الأحکام ، وصحة نسبته إلیه تعالى ، فلیسا من آثارها ، ضرورة أن حجیة الظن عقلاً ـ على تقریر الحکومة فی حال الانسداد ـ لا توجب صحتهما ، فلو فرض صحتهما شرعاً مع الشک فی التعبد به لما کان یجدی فی الحجیة شیئاً ما لم یترتب علیه ما ذکر من آثارها ، ومعه لما کان یضر عدم صحتهما أصلاً ، کما أشرنا إلیه آنفاً.
فبیان عدم صحة الالتزام مع الشک فی التعبد ، وعدم جواز إسناده (2) إلیه تعالى غیر مرتبط بالمقام ، فلا یکون الاستدلال علیه بمهم ، کما أتعب به شیخنا العلامة (3) ـ أعلى الله مقامه ـ نفسه الزکیة ، بما أطنب من النقض والإبرام ، فراجعه بما علقناه (4) علیه ، وتأمل. 
وقد انقدح ـ بما ذکرنا ـ أن الصواب فیما هو المهمّ فی الباب ما ذکرنا فی تقریر الأصل ، فتدبرّ جیداً.
إذا عرفت ذلک ، فما خرج موضوعاً عن تحت هذا الأصل أو قیل بخروجه یذکر فی ذیل فصول.
__________________
1 ـ هذا تعرض بالشیخ ، فرائد الأصول / 30 فی المقام الثانی.
2 ـ فی « ب » : الاستناد.
3 ـ راجع فرائد الأصول / 30.
4 ـ حاشیة فرائد الأصول / 44 ، عند قوله : ولا یخفى أن التعبد ... الخ. 
 
فصل
لا شبهة فی لزوم اتباع ظاهر کلام الشارع فی تعیین مراده فی الجملة ؛ لاستقرار طریقة العقلاء على اتباع الظهورات فی تعیین المرادات ، مع القطع بعدم الردع عنها ، لوضوح عدم اختراع طریقة أُخرى فی مقام الإِفادة لمرامه من کلامه ، کما هو واضح.
والظاهر (1) أن سیرتهم على اتباعها ، من غیر تقیید بإفادتها للظن فعلاً ، ولا بعدم الظن کذلک على خلافها قطعاً ، ضرورة إنّه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها ، بعدم إفادتها للظن بالوفاق ، ولا بوجود الظن بالخلاف.
کما أن الظاهر عدم اختصاص ذلک بمن قصد إفهامه ؛ ولذا لا یسمع اعتذار من لا یقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر کلام المولى ، من تکلیف یعمه أو یخصه ، ویصحّ به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج ، کما تشهد به صحة الشهادة بالإقرار من کلّ من سمعه ولو قصد عدم إفهامه ، فضلاً عما إذا لم یکن بصدد إفهامه.
ولا فرق فی ذلک بین الکتاب المبین وأحادیث سید المرسلین والأئمة الطاهرین ، وأنّ ذهب بعضٍ الأصحاب إلى عدم حجیة ظاهر الکتاب.
__________________
1 ـ إشارة إلى التفصیلین أشار إلیهما الشیخ فی رسائله. فرائد الأصول / 44.  

 
إما بدعوى اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به ، کما یشهد به ما (1) ورد فی ردع أبی حنیفة وقتادة (2) عن الفتوى به.
أو بدعوى (3) إنّه لأجل احتوائه على مضامین شامخة ومطالب غامضة عالیة ، لا یکاد تصل إلیه أیدی أفکار أولی الأنظار الغیر الراسخین العالمین بتأویله ، کیف؟ ولا یکاد یصل إلى فهم کلمات الاوائل إلّا الأوحدی من الأفاضل ، فما ظنک بکلامه تعالى مع اشتماله على علم ما کان وما یکون وحکم کلّ شئ.
أو بدعوى (4) شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر ، لا أقل من احتمال شموله لتشابه المتشابه وإجماله.
أو بدعوى إنّه وأنّ لم یکن منه ذاتاً ، إلّا إنّه صار منه عرضاً ، للعلم الإِجمالی بطروء التخصیص والتقیید والتجوز فی غیر واحد من ظواهره ، کما هو الظاهر.
أو بدعوى شمول الإخبار الناهیة (5) عن تفسیر القرآن بالرأی ، لحمل الکلام الظاهر فی معنى على إرادة هذا المعنى.
ولا یخفى أن النزاع یختلف صغرویاً وکبرویاً بحسب الوجوه ، فبحسب غیر الوجه الأخیر والثالث یکون صغرویاً ، وأما بحسبهما فالظاهر إنّه کبروی ، ویکون
__________________
1 ـ وسائل الشیعة 18 : 29 ، الباب 6 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 527 ، الکافی 8 : 311 ، الحدیث 485.
2 ـ هو قتادة بن دعامة بن عزیز أبو الخطاب السدوسی البصری ، مفسر حافط ضریر أکمه ، قال أحمد بن حنبل : قتادة أحفظ أهل البصرة ، کان مع علمه بالحدیث رأساً فی العربیة ومفردات اللغة وأیام العرب والنسب ، وکان یرى القدر وقد یدلّس فی الحدیث ، مات بواسط فی الطاعون سنة 118 ه‍ ، وهو ابن ست وخمسین سنة. ( تذکرة الحفاظ 1 : 122 الرقم 107 ).
3 ـ حکی عن الإخباریین ، راجع فرائد الأصول / 34.
4 ـ حکاه الشیخ 1 عن السید الصدر ، فرائد الأصول / 38 ، شرح الوافیة.
5 ـ تفسیر العیاشی : 1 / 17 ـ 18 ، عیون أخبار الرضا : 1 / 59 ، الباب 11 ، الحدیث 4 ، أمالی الصدوق : 155 / الحدیث 3 ، التوحید : 905 ، الحدیث 5.
 
المنع عن الظاهر ، امّا لإنّه من المتشابه قطعاً أو احتمالاً ، أو لکون حمل الظاهر على ظاهره من التفسیر بالرأی.
وکل هذه الدعاوی فاسدة :
أما الأُولى ، فإنما المراد مما دلّ على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحکماته ؛ بداهة أن فیه ما لا یختص به ، کما لا یخفى. وردع أبی حنیفة وقتادة عن الفتوى به إنّما هو لأجل الاستقلال فی الفتوى بالرجوع إلیه من دون مراجعة أهله ، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقاً ولو مع الرجوع إلى روایاتهم والفحص عما ینافیه ، والفتوى به مع الیأس عن الظفر به ، کیف؟ وقد وقع فی غیر واحد من الروایات (1) الإرجاع إلى الکتاب والاستدلال بغیر واحد من آیاته (2).
وأما الثانیة ، فلأن احتواءه على المضامین العالیة الغامضة لا یمنع عن فهم ظواهره المتضمنة للأحکام وحجیتها ، کما هو محلّ الکلام.
وأما الثالثة ، فللمنع عن کون الظاهر من المتشابه ، فإن الظاهر کون المتشابه هو خصوص المجمل ، ولیس بمتشابه ومجمل.
وأما الرابعة ، فلان العلم إجمالاً بطروء إرادة خلاف الظاهر ، إنّما یوجب الإِجمال فیما إذا لم ینحل بالظفر فی الروایات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالإِجمال.
مع أن دعوى اختصاص أطرافه بما إذا تفحص عما یخالفه لظفر به ، غیر بعیدة ، فتأمل جیداً.
__________________
1 ـ مثل روایة الثقلین ، راجع الخصال : 1 / 65 ، الحدیث 98 ، معانی الإخبار / 90 ، التهذیب : 1 / 363 ، الحدیث 27 من باب صفة الوضوء ، الوسائل : 1 / 290 الباب 23 من أبواب الوضوء ، الحدیث 1.
2 ـ فی « ب » : الآیات.
 
وأما الخامسة ، فیمنع کون حمل الظاهر على ظاهره من التفسیر ، فإنّه کشف القناع ولا قناع للظاهر ، ولو سلّم ، فلیس من التفسیر بالرأی ، إذ الظاهر أن المراد بالرأی هو الاعتبار الظنی الذی لا اعتبارٍ به ، وإنما کان منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره ، لرجحإنّه بنظره ، أو حمل المجمل على محتمله بمجرد مساعدته ذاک الاعتبار ، من دون السؤال عن الأوصیاء ، وفی بعضٍ الإخبار (1) ( إنّما هلک الناس فی المتشابه ، لإنّهم لم یقفوا على معناه ، ولم یعرفوا حقیقته ، فوضعوا له تأویلا من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلک عن مسألة الأوصیاء فیعرفونهم ). هذا مع إنّه لا محیص عن حمل هذه الروایات الناهیة عن التفسیر به على ذلک ، ولو سلّم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره ، ضرورة إنّه قضیة التوفیق بینها وبین مادل على جواز التمسک بالقرآن ، مثل خبر الثقلین (2) ، وما دلّ على التمسک به ، والعمل بما فیه (3) ، وعرض الإخبار المتعارضة علیه (4) ، ورد الشروط المخالفة له (5) ، وغیر ذلک (6) ، مما لا محیص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره لا خصوص نصوصه ، ضرورة أن الآیات التی یمکن أن تکون مرجعاً فی باب تعارض الروایات أو الشروط ، أو یمکن أن یتمسک بها ویعمل بما فیها ، لیست إلّا ظاهرة فی معانیها ، لیس فیها ما کان نصاً ، کما لا یخفى.
ودعوى العلم الإِجمالی بوقوع التحریف فیه بنحو : امّا بإسقاط ، أو
__________________
1 ـ وسائل الشیعة 18 / 148 ، الباب 13 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 62.
2 ـ الخصال : 1 / 65 الحدیث 98 ، ومعانی الأخبار / 90 ، الحدیث 1.
3 ـ نهج البلاغة : باب الخطب ، الخطبة 176.
4 ـ الوسائل 18 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث : 12 ، 15 ، 29.
5 ـ الوسائل 12 ، الباب 6 من أبواب الخیار ، الحدیث : 1.
6 ـ التهذیب : 1 / 363 ، الحدیث 27 من باب صفة الوضوء. الوسائل : 1 / 290 الباب 23 من أبواب الوضوء ، الحدیث : 1. الوسائل : 1 / 327 الباب 39 من أبواب الوضوء ، الحدیث : 
 
تصحیف (1) ، وأنّ کانت غیر بعیدة ، کما یشهد به بعضٍ الأخبار (2) ویساعده الاعتبار ، إلّا إنّه لا یمنع عن حجیة ظواهره ، لعدم العلم بوقوع خلل (3) فیها بذلک أصلاً. ولو سلّم ، فلا علم بوقوعه فی آیات الأحکام ، والعلم بوقوعه فیها أو فی غیرها من الآیات غیر ضائر بحجیة آیاتها ، لعدم حجیة ظاهر سائر الآیات ، والعلم الإِجمالی بوقوع الخلل فی الظواهر إنّما یمنع عن حجیتها إذا کانت کلها حجة ، وإلاّ لا یکاد ینفک ظاهر عن ذلک ، کما لا یخفى ، فافهم.
نعم لو کان الخلل المحتمل فیه أو فی غیره بما اتصل به ، لأخل بحجیته ؛ لعدم انعقاد ظهور له حینئذ ، وأنّ انعقد له الظهور لولا اتصاله.
ثم إن التحقیق أن الاختلاف فی القراءة بما یوجب الاختلاف فی الظهور مثل ( یطهرن ) بالتشدید والتخفیف ، یوجب الإِخلال بجواز التمسک والاستدلال ، لعدم إحراز ما هو القرآن ، ولم یثبت تواتر القراءات ، ولا جواز الاستدلال بها ، وأنّ نسب (4) إلى المشهور تواترها ، لکنه مما لا أصل له ، وإنما الثابث جواز القراءة بها ، ولا ملازمة بینهما ، کما لا یخفى.
ولو فرض جواز الاستدلال بها ، فلا وجه لملاحظة الترجیح بینها بعد کون الأصل فی تعارض الأمارات هو سقوطها عن الحجیة فی خصوص المؤدى ، بناءً على اعتبارها من باب الطریقیة ، والتخییر بینها بناءً على السببیة ، مع عدم دلیل على الترجیح فی غیر الروایات من سائر الأمارات ، فلابد من الرجوع حینئذ إلى الأصل أو العموم ، حسب اختلاف المقامات.
__________________
1 ـ فی « ب » : بتصحیف.
2 ـ الاتقان : 1 / 101 ، 121. مسند أحمد : 1 / 47. صحیح مسلم : 4 / 167.
3 ـ فی « ب » : الخلل.
4 ـ نسبة الشیخ ( قده ) راجع فرائد الأصول / 40.  

 

کفایة الاصول - قسمت ششم

المقصد الرابع : فی العام والخاص
فصل
قد عرفّ (1) العام بتعاریف ، وقد وقع من الأعلام فیها النقض بعدم الاطراد تارةً والانعکاس أُخرى بما لا یلیق بالمقام ، فإنّها تعاریف لفظیة ، تقع فی جواب السؤال عنه ب‍ ( ما ) (2) الشارحة ، لا واقعة فی جواب السؤال عنه ب‍ ( ما ) (3) الحقیقیة ، کیف؟ وکان المعنى المرکوز منه فی الأذهان أوضح مما عرفّ به مفهوماً و مصداقاً ، ولذا یجعل صدق ذاک المعنى على فرد وعدم صدقه ، المقیاس فی الإِشکال علیها بعدم الاطراد أو الانعکاس بلا ریب فیه ولا شبهة تعتریه من أحد ، والتعریف لابد أن یکون بالاجلى ، کما هو أوضح من أن یخفى.
فالظاهر أن الغرض من تعریفه ، إنّما هو بیان ما یکون بمفهومه جامعاً بین ما لا شبهة فی إنّها أفراد العام ، لیشار به إلیه فی مقام إثبات ما له من الأحکام ، لا بیان ما هو حقیقته (4) وماهیته ، لعدم تعلق غرض به بعد وضوح ما هو محلّ الکلام بحسب الأحکام من أفراده ومصادیقه ، حیث لا یکون بمفهومه العام محلاً لحکم من الأًحکام.
__________________
1 ـ راجع معارج الأصول / 81 ، وزبدة الأصول / 95 ، والمستصفى 2 / 32.
2 و 3 ـ فی « أ » : بالما ، وفی « ب » : بالماء.
4 ـ فی « ب » حقیقة.  

 
ثم الظاهر أن ما ذکر له من الأقسام : من الاستغراقی (1) والمجموعی والبدلی إنّما هو باختلاف کیفیة تعلق الأحکام به ، وإلاّ فالعموم فی الجمیع بمعنى واحد ، وهو شمول المفهوم لجمیع ما یصلح أن ینطبق علیه ، غایة الأمر أن تعلق الحکم به تارةً بنحو یکون کلّ فرد موضوعاً على حدة للحکم ، وأخرى بنحو یکون الجمیع موضوعاً واحداً ، بحیث لو أخلّ بإکرام واحد فی ( أَکرم کلّ فقیه ) مثلاً ، لما امتثل أصلاً ، بخلاف الصورة الأولى ، فإنّه أطاع وعصى ، وثالثة بنحو یکون کلّ واحد موضوعاً على البدل ، بحیث لو أَکرم واحداً منهم ، لقد أطاع وامتثل ، کما یظهر لمن أمعن النظر وتأمل.
وقد انقدح أن مثل شمول عشرة وغیرها لآحادها المندرجة تحتها لیس من العموم ، لعدم صلاحیتها بمفهومها للانطباق على کلّ واحد منها ، فافهم.
فصل
لا شبهة فی أن للعموم صیغة تخصه ـ لغةً وشرعا ـ کالخصوص کما یکون ما یشترک بینهما ویعمهما ، ضرورة أن مثل لفظ ( کلّ ) وما یرادفه فی أیّ لغةً کان یخصه ، ولا یخص الخصوص ولا یعمه ، ولا ینافی اختصاصه به استعماله فی الخصوص عنایة ، بادعاء إنّه العموم ، أو بعلاقة العموم والخصوص.
ومعه لا یصغى إلى أن إرادة الخصوص متیقنة ، ولو فی ضمنه بخلافه ، وجعل اللفظ حقیقة فی المتیقن أولى ، ولا إلى أن التخصیص قد اشتهر وشاع ، حتى قیل : ( ما من عام إلّا وقد خص ) ، والظاهر یقتضی کونه حقیقة ، لما هو الغالب تقلیلاً للمجاز ؛ مع أن تیقن إرادته لا یوجب اختصاص الوضع به ، مع
__________________
1 ـ إن قلت : کیف ذلک؟ ولکل واحد منها لفظ غیر ما للآخر ، مثل ( أیّ رجل ) للبدلی ، و ( کلّ رجل ) للاستغراقی.
قلت : نعم ، ولکنه لا یقتضی أن تکون هذه الأقسام له بملاحظة إختلاف کیفیة تعلق الأحکام ، لعدم إمکان تطرق هذه الأقسام إلّا بهذه الملاحظة ، فتأمل جیداً منه ( 1 ). 
 
کون العموم کثیراً ، ما یراد ، واشتهار التخصیص لا یوجب کثرة المجاز ، لعدم الملازمة بین التخصیص والمجازیة ، کما یأتی توضیحه ، ولو سلّم فلا محذور فیه أصلاً إذا کان بالقرینة ، کما لا یخفى.
فصل
ربما عد من الألفاظ الدالة على العموم ، النکرة فی سیاق النفی أو النهی ، ودلالتها علیه لا ینبغی أن تنکر عقلاً ، لضرورة إنّه لا یکاد یکون طبیعة معدومة ، إلّا إذا لم یکن فرد منها بموجود ، وإلاّ کانت موجودة ، لکن لا یخفى إنّها تفیده إذا أخذت مرسلة (1) لا مبهمة قابلة للتقید ، وإلاّ فسلبها لا یقتضی إلّا استیعاب السلب ، لما أُرید منها یقیناً ، لا استیعاب ما یصلح انطباقها علیه من أفرادها. وهذا لا ینافی کون دلالتها علیه عقلیة ، فإنّها بالإضافة إلى أفراد ما یراد منها ، لا الأفراد التی یصلح لانطباقها علیها ، کما لا ینافی دلالة مثل لفظ ( کلّ ) على العموم وضعاً کون عمومه بحسب ما یراد من مدخوله ، ولذا لا ینافیه تقیید المدخول بقیود کثیرة.
نعم لا یبعد أن یکون ظاهراً عند إطلاقها فی استیعاب جمیع أفرادها ، وهذا هو الحال فی المحلى باللام جمعاً کان أو مفرداً ـ بناءً على إفادته للعموم ـ ولذا لا ینافیه تقیید المدخول بالوصف وغیره ، وإطلاق التخصیص على تقییده ، لیس إلّا من قبیل ( ضیّق فم الرکیة ) ، لکن دلالته على العموم وضعاً محلّ منع ، بل إنّما یفیده فیما إذا اقتضته الحکمة أو قرینة أُخرى ، وذلک لعدم اقتضائه وضع اللام ولا مدخوله ولا وضع آخر للمرکب منهما ، کما لا یخفى ، وربما یأتی فی المطلق والمقید بعضٍ الکلام مما یناسب المقام.
__________________
1 ـ وإحراز الإرسال فیما اضیفت [ إلیه ] إنّما هو بمقدمات الحکمة ، فلولاها کانت مهملة ، وهی لیست إلّا بحکم الجزئیة ، فلا تفید إلّا نفی هذه الطبیعة فی الجملة ولو فی ضمن صنف منها ، فافهم فإنّه لا یخلو من دقة منه ( 1 ).  

 
فصل
لا شبهة فی أن العام المخصص بالمتصل أو المنفصل حجة فیما بقى فیما علم عدم دخوله فی المخصص مطلقاً ولو کان متصلاً ، وما احتمل دخوله فیه أیضاً إذا کان منفصلاً ، کما هو المشهور (1) بین الأصحاب ، بل لا ینسب الخلاف إلّا إلى بعضٍ (2) أهل الخلاف. وربما فصل (3) بین المخصص المتصل فقیل بحجیته فیه ، وبین المنفصل فقیل بعدم حجیته.
واحتج النافی بالإِجمال ، لتعدد المجازات حسب مراتب الخصوصیات ، وتعیین (4) الباقی من بینها بلا معیّن ترجیح بلا مرجح.
والتحقیق فی الجواب أن یقال : إنّه لا یلزم من التخصیص کون العام مجازاً ، امّا فی التخصیص بالمتصل ، فلما عرفت من إنّه لا تخصیص أصلاً ، وأنّ أدوات العموم قد استعملت فیه ، وأنّ کان دائرته سعة وضیقاً تختلف باختلاف ذوی الأدوات ، فلفظة ( کلّ ) فی مثل ( کلّ رجل ) و ( کلّ رجل عالم ) قد استعملت فی العموم ، وأنّ کان أفراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر بل فی نفسها فی غایة القلة.
واما فی المنفصل ، فلان إرادة الخصوص واقعاً لا تستلزم استعماله فیه وکون الخاص قرینة علیه ، بل من الممکن قطعاً استعماله معه فی العموم قاعدة ، وکون الخاص مانعاً عن حجیة ظهوره تحکیما للنص ، أو الأظهر على الظاهر ، لامصادما لاصل ظهوره ، ومعه لا مجال للمصیر إلى إنّه قد استعمل فیه مجازاً ، کی یلزم الإِجمال.
__________________
1 ـ أنظر مطارح الأنظار / 192.
2 ـ کأبی ثور وعیسى بن أبان ، راجع الإِحکام فی أصول الأحکام ، الجزء الثّانی / 443.
3 ـ کالبلخی ، راجع المصدر المتقدم / 444.
4 ـ فی « ب » تعیّن. 
 
لا یقال : هذا مجرد احتمال ، ولا یرتفع به الإِجمال ، لاحتمال الاستعمال فی خصوص مرتبة من مراتبه.
فإنّه یقال : مجرد احتمال استعماله فیه لا یوجب إجماله بعد استقرار ظهوره فی العموم ، والثابت من مزاحمته بالخاص أنما هو بحسب الحجیة تحکیما لما هو الأقوى ، کما أشرنا إلیه آنفا.
وبالجملة : الفرق بین المتصل والمنفصل ، وأنّ کان بعدم انعقاد الظهور فی الأوّل إلّا فی الخصوص ، وفی الثّانی إلّا فی العموم ، إلّا إنّه لا وجه لتوهم استعماله مجازاً فی واحد منهما أصلاً ، وإنما اللازم الالتزام بحجیة الظهور فی الخصوص فی الأوّل ، وعدم حجیة ظهوره فی خصوص ما کان الخاص حجة فیه فی الثّانی ، فتفطن.
وقد أجیب عن الاحتجاج (1) ، بأن الباقی أقرب المجازات.
وفیه : لا اعتبارٍ فی الاقربیة بحسب المقدار ، وإنما المدار على الاقربیة بحسب زیادة الانس الناشئة من کثرة الاستعمال.
وفی تقریرات بحث شیخنا الأستاذ (2) 1 فی مقام الجواب عن الاحتجاج ، ما هذا لفظه : ( والاُولى أن یجاب بعد تسلیم مجازیة الباقی ، بأن دلالة العام على کلّ فرد من أفراده غیر منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده ، ولو کانت دلالة مجازیة ، إذ هی بواسطة عدم شموله للافراد المخصوصة ، لا بواسطة دخول غیرها فی مدلوله ، فالمقتضی للحمل على الباقی موجود والمانع مفقود ، لأن المانع فی مثل المقام إنّما هو ما یوجب صرف اللفظ عن مدلوله ، والمفروض انتفاؤه بالنسبة إلى الباقی لاختصاص المخصص بغیره ، فلو شک فالأصل عدمه ) ، انتهى موضع الحاجة.
__________________
1 ـ الجواب للمحقق القمی والمحقق الحائری ، القوانین 1 / 266 الفصول / 200
2 ـ مطارح الأنظار / 192 ، فی العموم والخصوص.  

 
قلت : لا یخفى أن دلالته على کلّ فرد إنّما کانت لأجل دلالته على العموم والشمول ، فإذا لم یستعمل فیه واستعمل فی الخصوص ـ کما هو المفروض ـ مجازاً ، وکان إرادة کلّ واحد من مراتب الخصوصیات مما جاز انتهاء التخصیص إلیه ، واستعمال العام فیه مجازاً ممکناً ، کان تعیّن (1) بعضها بلا معیّن ترجیحاً بلا مرجح ، ولا مقتضی لظهوره فیه ، ضرورة أن الظهور امّا بالوضع وإما بالقرینة ، والمفروض إنّه لیس بموضوع له ، ولم یکن هناک قرینة ، ولیس له موجب آخر ، ودلالته على کلّ فرد على حدة حیث کانت فی ضمن دلالته على العموم ، لا یوجب ظهوره فی تمام الباقی بعد عدم استعماله فی العموم ، إذا لم تکن هناک قرینة على تعیینه ، فالمانع عنه وأنّ کان مدفوعاً بالأصل ، إلّا إنّه لا مقتضی له بعد رفع الید عن الوضع ، نعم إنّما یجدی إذا لم یکن مستعملاً إلّا فی العموم ، کما فیما حققناه فی الجواب ، فتأمل جیداً.
فصل
إذا کان الخاص بحسب المفهوم مجملاً ، بأن کان دائراً بین الأقلّ والأکثر وکان منفصلاً ، فلا یسری إجماله إلى العام ، لا حقیقة ولا حکماً ، بل کان العام متّبعاً فیما لا یتبع فیه الخاص ، لوضوح إنّه حجة فیه بلا مزاحم أصلاً ، ضرورة أن الخاص إنّما یزاحمه فیما هو حجة على خلافه ، تحکیما للنص أو الأظهر على الظاهر ، لا فیما لا یکون کذلک ، کما لا یخفى.
وإن لم یکن کذلک بأن کان دائراً بین المتباینین مطلقاً ، أو بین الأقلّ والأکثر فیما کان متصلاً ، فیسری إجماله إلیه حکماً فی المنفصل المردّد بین المتباینین ، وحقیقة فی غیره :
__________________
1 ـ فی « أ » : تعیین. 
 
أما الأوّل : فلان العام ـ على ما حققناه (1) ـ کان ظاهراً فی عمومه ، إلّا إنّه یتبع ظهوره فی واحد من المتباینین اللذین علم تخصیصه بأحدهما.
وأما الثّانی : فلعدم (2) انعقاد ظهور من رأس للعام ، لاحتفاف الکلام بما یوجب احتماله لکلّ واحد من الأقل والأکثر ، أو لکلّ واحد من المتباینین ، لکنه حجة فی الأقل ، لإنّه المتیقن فی البین.
فانقدح بذلک الفرق بین المتصل والمنفصل ، وکذا فی المجمل بین المتباینین والأکثر والاقل ، فلا تغفل.
وأما إذا کان مجملاً بحسب المصداق ، بأن اشتبه فرد وتردد بین أن یکون فرداً له أو باقیا تحت العام ، فلا کلام فی عدم جواز التمسک بالعام لو کان متصلاً به ، ضرورة عدم انعقاد ظهور للکلام إلّا فی الخصوص ، کما عرفت.
وأما إذا کان منفصلاً عنه ، ففی جواز التمسک به خلاف ، والتحقیق عدم جوازه ، إذ غایة ما یمکن أن یقال فی وجه جوازه ، أن الخاص إنّما یزاحم العام فیما کان فعلاً حجة ، ولا یکون حجة فیما اشتبه إنّه من أفراده ، فخطاب ( لا تکرم فساق العلماء ) لا یکون دلیلاً على حرمة إکرام من شک فی فسقه من العلماء ، فلا یزاحم مثل ( أَکرم العلماء ) ولا یعارضه ، فإنّه یکون من قبیل مزاحمة الحجة بغیر الحجة ، وهو فی غایة الفساد ، فإن الخاص وأنّ لم یکن دلیلاً فی الفرد المشتبه فعلاً ، إلّا إنّه یوجب اختصاص حجیة العام فی غیر عنوإنّه من الأفراد ، فیکون ( أَکرم العلماء ) دلیلاً وحجة فی العالم الغیر الفاسق ، فالمصداق المشتبه وأنّ کان مصداقاً للعام بلا کلام ، إلّا إنّه لم یعلم إنّه من مصادیقه بما هو حجة ، لاختصاص حجیته بغیر الفاسق.
وبالجملة العام المخصص بالمنفصل ، وأنّ کان ظهوره فی العموم ، کما إذا
__________________
1 ـ فی صفحة 219.
2 ـ فی « ب » : ولعدم. 
 
لم یکن مخصصاً ، بخلاف المخصص بالمتصل کما عرفت ، إلّا إنّه فی عدم الحجیة إلّا فی غیر عنوان الخاص مثله ، فحینئذ یکون الفرد المشتبه غیر معلوم الاندراج تحت إحدى الحجتین ، فلابد من الرجوع إلى ما هو الأصل فی البین ، هذا إذا کان المخصص لفظیاً.
وأما إذا کان لبیّاً ، فإن کان مما یصحّ أن یتّکل علیه المتکلم ، إذا کان بصدد البیان فی مقام التخاطب ، فهو کالمتصل ، حیث لا یکاد ینعقد معه ظهور للعام إلّا فی الخصوص ، وأنّ لم یکن کذلک ، فالظاهر بقاء العام فی المصداق المشتبه على حجیته کظهوره فیه.
والسّر فی ذلک ، أن الکلام الملقى من السید حجة ، لیس إلّا ما اشتمل على العام الکاشف بظهوره عن إرادته للعموم ، فلابد من اتباعه ما لم یقطع بخلافه ، مثلاً إذا قال المولى : ( أَکرم جیرانی ) وقطع بإنّه لا یرید إکرام من کان عدوّاً له منهم ، کان أصالة العموم باقیة على الحجیة بالنسبة إلى من لم یعلم بخروجه عن عموم الکلام ، للعلم بعدواته ، لعدم حجة أُخرى بدون ذلک على خلافه ، بخلاف ما إذا کان المخصص لفظیاً ، فإن قضیة تقدیمه علیه ، هو کون الملقى إلیه کإنّه کان من رأس لا یعم الخاص ، کما کان کذلک حقیقة فیما کان الخاص متصلاً ، والقطع بعدم إرادة العدوّ لا یوجب انقطاع حجیته ، إلّا فیما قطع إنّه عدّوه ، لا فیما شک فیه ، کما یظهر صدق هذا من صحة مؤاخذة المولى له لو لم یکرم واحداً من جیرإنّه لاحتمال عداوته له ، وحسن عقوبته على مخالفته ، وعدم صحة الاعتذار عنه بمجرد احتمال العداوة ، کما لا یخفى على من راجع الطریقة المعروفة ، والسیرة المستمرة المألوفة بین العقلاء التی هی ملاک حجیة أصالة الظهور.
وبالجملة :کان بناءً العقلاء على حجیتها بالنسبة إلى المشتبه هاهنا بخلاف هناک ، ولعله لما أشرنا إلیه من التفاوت بینهما ، بإلقاء حجتین هناک ، تکون قضیتهما بعد تحکیم الخاص وتقدیمه على العام ، کإنّه لم یعمه حکماً من رأس ، 
 
وکأنه لم یکن بعام ، بخلاف هاهنا ، فإن الحجة الملقاة لیست إلّا واحدة ، والقطع بعدم إرادة إکرام العدوّ فی ( أَکرم جیرانی ) مثلاً ، لا یوجب رفع الید عن عمومه إلّا فیما قطع بخروجه من تحته ، فإنّه على الحکیم إلقاء کلامه على وفق غرضه ومرامه ، فلابد من اتباعه ما لم تقم حجة أقوى على خلافه.
بل یمکن أن یقال : إن قضیة عمومه للمشکوک ، إنّه لیس فرداً لما علم بخروجه من حکمه بمفهومه ، فیقال فی مثل ( لعن الله بنی أمیة قاطبة ) (1) : إن فلاناً وأنّ شک فی إیمإنّه یجوز لعنه لمکان العموم ، وکل من جاز لعنه لا یکون مؤمناً ، فینتج إنّه لیس بمؤمن ، فتأمل جیداً.
إیقاظ : لا یخفى أن الباقی تحت العام بعد تخصیصه بالمنفصل أو کالاستثناء من المتصل ، لما کان غیر معنون بعنوان خاص ، بل بکل عنوان لم یکن ذاک بعنوان الخاص ، کان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعی فی غالب الموارد ـ إلّا ما شذ ـ ممکناً ، فبذلک یحکم علیه بحکم العام وأنّ لم یجز التمسک به بلا کلام ، ضرورة إنّه قلَّما لا یوجد (2) عنوان یجری فیه أصل ینقح به أنّه مما بقی تحته ، مثلاً إذا شک أن أمراًة تکون قرشیة ، فهی وأنّ کانت وجدت امّا قرشیة أو غیرها ، فلا أصل یحرز إنّها قرشیة أو غیرها ، إلّا أن أصالة عدم تحقق الانتساب بینها وبین قریش (3) تجدی فی تنقیح إنّها ممن لا تحیض إلّا إلى خمسین ، لأن المرأة التی لا یکون بینها وبین قریش (4) انتساب أیضاً باقیة تحت ما دلّ على أن المرأة إنّما ترى الحمرة إلى خمسین ، والخارج عن تحته هی القرشیة ، فتأمل تعرف.
وهم وإزاحة : ربما یظهر عن بعضهم التمسک بالعمومات فیما إذا شک
__________________
1 ـ کامل الزیارات / 176 ، الباب 71.
2 ـ فی « ب » : لم یوجد.
3 و 4 ـ فی « أ و ب » القریش. 
 
فی فرد ، لا من جهة احتمال التخصیص ، بل من جهة أُخرى ، کما إذا شک فی صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف ، فیستکشف صحته بعموم مثل ( أوفوا بالنذور ) فیما إذا وقع متعلقاً للنذر ، بأن یقال : وجب الإِتیان بهذا الوضوء وفاء للنذر للعموم ، وکل ما یجب الوفاء به لا محالة یکون صحیحاً ، للقطع بإنّه لولا صحته لما وجب الوفاء به ، وربما یؤید ذلک بما ورد من صحة الإِحرام والصیام قبل المیقات (1) وفی السفر (2) إذا تعلق بهما النذر کذلک.
والتحقیق أن یقال : إنّه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعمومات المتکلفة لأَحکام العناوین الثانویة فیما شک من غیر جهة تخصیصها ، إذا أخذ فی موضوعاًتها أحد الأحکام المتعلقة بالافعال بعناوینها الأولیة (3) ، کما هو الحال فی وجوب إطاعة الوالد ، والوفاء بالنذر وشبهه فی الأمور المباحة أو الراجحة ، ضرورة إنّه معه لا یکاد یتوهم عاقل إنّه إذا شک فی رجحان شیء أو حلیته جواز التمسک بعموم دلیل وجوب الإطاعة أو الوفاء فی رجحإنّه أو حلیته.
نعم لا بأس بالتمسک به فی جوازه بعد إحراز التمکن منه والقدرة علیه _ فیما لم یؤخذ فی موضوعاًتها حکم أصلاً ، فإذا شک فی جوازه صحّ (4) التمسک بعموم دلیلها فی الحکم بجوازها ، وإذا کانت محکومة بعناوینها الأولیة بغیر حکمها بعناوینها الثانویة ، وقع (5) المزاحمة بین المقتضیین ، ویؤثر الأقوى منهما لو
__________________
1 ـ التهذیب 5 / 53 ، الأحادیث 8 إلى 10 من باب 6 المواقیت.
الاستبصار 2 / 161 الأحادیث 8 إلى 10 من باب 93 من أحرم قبل المیقات ، وللمزید راجع وسائل الشیعة 8 / 236 الباب 13 من ابواب المواقیت.
2 ـ التهذیب 4 / 235 الحدیث 63 و 64 من باب 57 حکم المسافر والمریض فی الصیام وللمزید راجع وسائل الشیعة 7 / 139 الباب 10 من ابواب من یصحّ منه الصوم الحدیث 1 و 7.
3 ـ فی « أ » : الأولویة.
4 ـ فی « أ » : فصح.
5 ـ فی « أ » : فتقع. 
 
کان فی البین ، وإلاّ لم یؤثر أحدهما ، وإلاّ لزم الترجیح بلا مرجح ، فلیحکم علیه حینئذ بحکم آخر ، کالاباحة إذا کان أحدهما مقتضیاً للوجوب والآخر للحرمة مثلاً.
وأما صحة الصوم فی السفر بنذره فیه ـ بناءً على عدم صحته فیه بدونه ـ وکذا الإِحرام قبل المیقات ، فإنما هو لدلیل خاص ، کاشف عن رجحإنّهما ذاتاً فی السفر وقبل المیقات ، وإنما لم یأمر بهما استحباباً أو وجوباً لمانع یرتفع مع النذر ، وإما لصیرورتهما راجحین بتعلق النذر بهما بعد ما لم یکونا کذلک ، کما ربما یدلّ علیه ما فی الخبر من کون الإِحرام قبل المیقات کالصلاة قبل الوقت (1).
لا یقال : لا یجدی صیرورتهما راجحین بذلک فی عبادیتهما ، ضرورة کون وجوب الوفاء توصلیاً لا یعتبر فی سقوطه إلّا الإِتیان بالمنذور بأی داع کان.
فإنّه یقال : عبادیتهما إنّما تکون لأجل کشف دلیل صحتهما عن عروض عنوان راجح علیهما ، ملازم لتعلق النذر بهما ، هذا لو لم نقل بتخصیص عموم دلیل اعتبارٍ الرجحان فی متعلق النذر بهذا الدلیل ، وإلاّ أمکن أن یقال بکفایة الرجحان الطارىء علیهما من قبل النذر فی عبادیتهما ، بعد تعلق النذر بإتیإنّهما عبادیاً ومتقرباً بهما منه تعالى ، فإنّه وأنّ لم یتمکن من إتیإنّهما کذلک قبله ، إلّا إنّه یتمکن منه بعده ، ولا یعتبر فی حصة النذر إلّا التمکن من الوفاء ولو بسببه ، فتأمل جیداً.
بقی شیء ، وهو إنّه هل یجوز التمسک بأصالة عدم التخصیص؟ فی إحراز عدم کون ما شک فی إنّه من مصادیق العام ، مع العلم بعدم کونه محکوماً
__________________
1 ـ لم نعثر على الخبر المشار إلیه فی المتن ، ولکن ورد إنّه کمن صلّى فی السفر اربعاً وترک الثنتین.
راجع الکافی 4 / 321 الحدیث 2 ، 6 من باب من احرم دون الوقت.  

 
بحکمه ، مصداقاً له؟ مثل ما إذا علم أن زیداً یحرم إکرامه ، وشک فی إنّه عالم ، فیحکم علیه بأصالة عدم تخصیص ( أَکرم العلماء ) إنّه لیس بعالم ، بحیث یحکم علیه بسائر ما لغیر العالم من الأًحکام.
فیه إشکال ، لاحتمال اختصاص حجیتها بما إذا شک فی کون فرد العام محکوماً بحکمه ، کما هو قضیة عمومه ، والمثبت من الأصول اللفظیة وأنّ کان حجة ، إلّا إنّه لابد من الاقتصار على ما یساعد علیه الدلیل ، ولا دلیل هاهنا إلّا السیرة وبناء العقلاء ، ولم یعلم استقرار بنائهم على ذلک ، فلا تغفل.
فصل
هل یجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص؟ فیه خلاف ، وربما نفی (1) الخلاف عن عدم جوازه ، بل ادعی الاجماع (2) علیه ، والذی ینبغی أن یکون محلّ الکلام فی المقام ، إنّه هل یکون أصالة العموم متبعة مطلقاً؟ أو بعد الفحص عن المخصص والیأس عن الظفر به؟ بعد الفراغ عن (3) اعتبارها بالخصوص فی الجملة ، من باب الظن النوعی للمشافه وغیره ، ما لم یعلم بتخصیصه تفصیلا ، ولم یکن من أطراف ما علم تخصیصه إجمالاً ، وعلیه فلا مجال لغیر واحد مما استدل به على عدم جواز العمل به قبل الفحص والیاس.
فالتحقیق عدم جواز التمسک به قبل الفحص ، فیما إذا کان فی معرض التخصیص کما هو الحال فی عمومات الکتاب والسنة ، وذلک لأجل إنّه لولا القطع باستقرار سیرة العقلاء على عدم العمل به قبله ، فلا أقل من الشک ،
__________________
1 ـ الغزالی فی المستصفى 2 / 157.
2 ـ مطارح الأنظار / 197 ، قال : « بل ادعى علیه الاجماع کما عن النهایة » ولم نعثر علیه فی مظإنّه من النهایة ، راجع نهایة الأصول / 139. ونقل الاجماع عن الغزالی والامدی ، راجع فواتح الرحموت 1 / 267.
3 ـ فی « ب » : من. 
 
کیف؟ وقد ادعی الاجماع على عدم جوازه ، فضلاً عن نفی الخلاف عنه ، وهو کافٍ فی عدم الجواز ، کما لا یخفى.
وأما إذا لم یکن العام کذلک ، کما هو الحال فی غالب العمومات الواقعة فی السنة أهل المحاورات ، فلا شبهة فی أن السیرة على العمل به بلا فحص عن مخصص ، وقد ظهر لک بذلک أن مقدار الفحص اللازم ما به یخرج عن المعرضیة له ، کما أن مقداره اللازم منه بحسب سائر الوجوه التی استدل بها من العلم الإِجمالی به (1) أو حصول الظن بما هو التکلیف (2) ، أو غیر ذلک رعایتها ، فیختلف مقداره بحسبها ، کما لا یخفى.
ثم إن الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصص المتصل ، باحتمال إنّه کان ولم یصل ، بل حاله حال احتمال قرینة المجاز ، وقد اتفقت کلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقاً ، ولو قبل الفحص عنها ، کما لا یخفى.
إیقاظ : لا یذهب علیک الفرق بین الفحص هاهنا ، وبینه فی الأصول العملیة ، حیث إنه هاهنا عما یزاحم الحجة (3) ، بخلافه هناک ، فإنّه بدونه لا حجة ، ضرورة أن العقل بدونه یستقل باستحقاق المؤاخذة على المخالفة ، فلا یکون العقاب بدونه بلا بیان والمؤاخذة علیها من غیر برهان ، والنقل وأنّ دلّ على البراءة أو الاستصحاب فی موردهما مطلقاً ، إلّا أن الاجماع بقسمیه على تقییده به ، فافهم.
فصل
هل الخطابات الشفاهیة مثل : ( یا أیها المؤمنون ) تختص بالحاضر مجلس التخاطب ، أو تعم غیره من الغائبین ، بل المعدومین؟
__________________
1 ـ استدل بهذا الوجه الشیخ ( قده ) مطارح الأنظار / 202 ، رابعها.
2 ـ راجع زبدة الأصول / 97.
3 ـ فی « ب » : الحجیة.  

 
فیه خلاف ، ولابد قبل الخوض فی تحقیق المقام ، من بیان ما یمکن أن یکون محلاً للنقض والأبرام بین الأعلام.
فاعلم إنّه یمکن أن یکون النزاع فی أن التکلیف المتکفل له الخطاب هل یصحّ تعلقه بالمعدومین ، کما صحّ تعلقه بالموجودین ، أم لا؟ أو فی صحة المخاطبة معهم ، بل مع الغائبین عن مجلس الخطاب بالالفاظ الموضوعة للخطاب ، أو بنفس توجیه الکلام إلیهم ، وعدم صحتها ، أو فی عموم الألفاظ الواقعة عقیب أداة الخطاب ، للغائبین بل المعدومین ، وعدم عمومها لهما ، بقرینة تلک الاداة.
ولا یخفى أن النزاع على الوجهین الأولین یکون عقلّیاً ، وعلى الوجه الأخیر لغویاً.
إذا عرفت هذا ، فلا ریب فی عدم صحة تکلیف المعدوم عقلاً ، بمعنى بعثه أو زجره فعلاً ، ضرورة إنّه بهذا المعنى یستلزم الطلب منه حقیقة ، ولا یکاد یکون الطلب کذلک إلّا من الموجود ضرورة ، نعم هو بمعنى إنشاءً الطلب بلا بعث ولا زجر ، لا استحالة فیه أصلاً ، فإن الانشاء خفیف المؤونة ، فالحکیم تبارک وتعالى نیشىء على وفق الحکمة والمصلحة ، طلب شیء قانوناً من الموجود والمعدوم حین الخطاب ، لیصیر فعلّیاً بعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع بلا حاجة إلى إنشاءً آخر ، فتدبر.
ونظیره من غیر الطلب إنشاءً التملیک فی الوقف على البطون ، فإن المعدوم منهم یصیر مالکا للعین الموقوفة ، بعد وجوده بإنشائه ، ویتلقى لها من الواقف بعقده ، فیؤثر فی حق الموجود منهم الملکیة الفعلیة ، ولا یؤثر فی حق المعدوم فعلاً ، إلّا استعدادها لأن تصیر ملکا له بعد وجوده ، هذا إذا اُنشىء الطلب مطلقاً.
وأما إذا اُنشىء مقیداً بوجود المکلف ووجد إنّه الشرائط ، فإمکإنّه بمکان 
 
من الإِمکان.
وکذلک لا ریب فی عدم صحة خطاب المعدوم بل الغائب حقیقة ، وعدم إمکانه ، ضرورة عدم تحقق توجیه الکلام نحو الغیر حقیقة إلّا إذا کان موجوداً ، وکان بحیث یتوجه إلى الکلام ، ویلتفت إلیه.
ومنه قد انقدح أن ما وضع للخطاب ، مثل أدوات النداء ، لو کان موضوعاً للخطاب الحقیقی ، لأوجب استعماله فیه تخصیص ما یقع فی تلوه بالحاضرین ، کما أن قضیة إرادة العموم منه لغیرهم استعماله فی غیره ، لکن الظاهر أن مثل أدوات النداء لم یکن موضوعاً لذلک ، بل للخطاب الإِیقاعی الإنشائی ، فالمتکلم ربما یوقع الخطاب بها تحسّراً وتأسفاً وحزناً مثل :
یا کوکباً ما کان أقصر عمره (1)
         .................
 
أو شوقاً ، ونحو ذلک ، کما یوقعه مخاطباً لمن ینادیه حقیقة ، فلا یوجب استعماله فی معناه الحقیقی ـ حینئذ ـ التخصیص بمن یصحّ مخاطبته ، نعم لا یبعد دعوى الظهور ، انصرافاً فی الخطاب الحقیقی ، کما هو الحال فی حروف الاستفهام والترجی والتمنی وغیرها ، على ما حققناه فی بعضٍ المباحث السابقة (2) ، من کونها موضوعة للإِیقاعی منها بدواع مختلفة مع ظهورها فی
__________________
1 ـ وعجزه .... وکذاک عمر کواکب الاسحار.
وهو من رائیة ابو الحسن التهامی فی رثاء ولده الذی مات صغیرا ، وهی فی غایة الحسن والجزالة وفخامة المعنى وجودة السرد وصدرها :
حکم المنیة فی البریة جاری
         ما هذه الدنیا بدار قرار
 
سجن بالقاهرة سنة 416 ثم قتل سرا. رأه بعضٍ اصحابه بعد موته فی المنام وساله عن حاله قال : غفر لی ربی ، فقال : بای الأعمال. قال : بقولی فی مرثیة ولدی الصغیر :
جاورت اعدائی وجاور ربه
         شتان بین جواره وجواری
 
( شهداء الفضیلة : 24 )
2 ـ فی مبحث الأوامر / 64.
 
الواقعی منها انصرافاً ، إذا لم یکن هناک ما یمنع عنه ، کما یمکن دعوى وجوده غالباً فی کلام الشارع ، ضرورة وضوح عدم اختصاص الحکم فی مثل : ( یا أیها الناس اتقوا ) و ( یا أیها المؤمنون ) بمن حضر مجلس الخطاب ، بلا شبهة ولا ارتیاب.
ویشهد لما ذکرنا صحة النداء بالأدوات ، مع إرادة العموم من العام الواقع تلوها بلا عنایة ، ولا للتنزیل والعلاقة رعایة.
وتوهمّ کونه ارتکازیاً ، یدفعه عدم العلم به مع الالتفات إلیه ، والتفتیش عن حاله مع حصوله بذلک لو کان مرتکزاً ، وإلاّ فمن أین یعلم بثبوته کذلک؟ کما هو واضح.
وإن أبیت إلّا عن وضع الأدوات للخطاب الحقیقی ، فلا مناص عن التزام اختصاص الخطابات الإلهیة بأداة الخطاب ، أو بنفس توجیه الکلام بدون الاداة کغیرها بالمشافهین ، فیما لم یکن هناک قرینة على التعمیم.
وتوهمّ صحة التزام التعمیم فی خطاباته تعالى لغیر الموجودین ، فضلاً عن الغائبین ، لإِحاطته بالموجود فی الحال والموجود فی الاستقبال ، فاسد ، ضرورة أن إحاطته لا توجب صلاحیة المعدوم بل الغائب للخطاب ، وعدم صحة المخاطبة معهما لقصورهما لا یوجب نقصا فی ناحیته تعالى ، کما لا یخفى ، کما أن خطابه اللفظی لکونه تدریجیاً ومتصرم الوجود ، کان قاصراً عن أن یکون موجهاً نحو غیر من کان بمسمع منه ضرورة ، هذا لو قلنا بأن الخطاب بمثل یا ( أیها الناس اتقوا ) فی الکتاب حقیقة إلى غیر النبی 9 بلسإنّه.
وأما إذا قیل بإنّه المخاطب والموجه إلیه الکلام حقیقة وحیاً أو الهاماً ، فلا محیص إلّا عن کون الاداة فی مثله للخطاب الإِیقاعی ولو مجازاً ، وعلیه لا مجال لتوهم اختصاص الحکم المتکفل له الخطاب بالحاضرین ، بل یعم المعدومین ، فضلاً عن الغائبین. 
 
فصل
ربما قیل : إنّه یظهر لعموم الخطابات الشفاهیة للمعدومین ثمرتان :
الأولى (1) : حجیة ظهور خطابات (2) الکتاب لهم کالمشافهین.
وفیه : إنّه مبنی على اختصاص حجیة الظواهر بالمقصودین بالإِفهام ، وقد حقق عدم الاختصاص بهم. ولو سلّم ، فاختصاص المشافهین بکونهم مقصودین بذلک ممنوع ، بل الظاهر أن الناس کلهم إلى یوم القیامة یکونون کذلک ، وأنّ لم یعمهم الخطاب ، کما یومئ إلیه غیر واحد من الإخبار.
الثانیة (3) : صحة التمسک بإطلاقاًت الخطابات القرآنیّة بناءً على التعمیم ، لثبوت الأحکام لمن وجد وبلغ من المعدومین ، وأنّ لم یکن متحداً مع المشافهین فی الصنف ، وعدم صحته على عدمه ، لعدم کونها حینئذ متکفلة لأَحکام غیر المشافهین ، فلابد من إثبات اتحاده معهم فی الصنف ، حتى یحکم بالاشتراک مع المشافهین فی الأحکام ، وحیث لا دلیل علیه حینئذ إلّا الاجماع ، ولا إجماع علیه إلّا فیما اتحد الصنف ، کما لا یخفى.
ولا یذهب علیک ، إنّه یمکن إثبات الاتحاد ، وعدم دخل ما کان البالغ الآن فاقداً له مما کان المشافهون واجدین له ، بإطلاق الخطاب إلیهم من دون التقیید به ، وکونهم کذلک لا یوجب صحة الإِطلاق ، مع إرادة المقید معه فیما یمکن أن یتطرق الفقدان ، وأنّ صحّ فیما لا یتطرق إلیه ذلک. ولیس المراد بالاتحاد فی الصنف إلّا الاتحاد فیما اعتبر قیداً فی الأحکام ، لا الاتحاد فیما کثر
__________________
1 ـ ذکرها المحقق القمی (ره) فی القوانین 1 / 233 ، فی الخطابات المشافهة.
2 ـ فی « ب » : الخطابات.
3 ـ راجع کلام المحقق الوحید البهبهانی ( قده ) فی کتاب ملاحظات الفرید على فوائد الوحید / 55. 
 
 
الاختلاف بحسبه ، والتفاوت بسببه بین الأنام ، بل فی شخص واحد بمرور الدهور والایام ، وإلاّ لما ثبت بقاعدة الاشتراک للغائبین ـ فضلاً عن المعدومین ـ حکم من الأًحکام.
ودلیل الاشتراک إنّما یجدی فی عدم اختصاص التکالیف بأشخاص المشافهین ، فیما لم یکونوا مختصین بخصوص عنوان ، لو [ لم ] (1) یکونوا معنونین به لشک فی شمولها لهم أیضاً ، فلولا الإِطلاق وإثبات عدم دخل ذاک العنوان فی الحکم ، لما أفاد دلیل الاشتراک ، ومعه کان الحکم یعم غیر المشافهین ولو قیل باختصاص الخطابات بهم ، فتأمل جیداً.
فتلخص : إنّه لا یکاد تظهر الثمرة إلّا على القول باختصاص حجیة الظواهر لمن قصد إفهامه ، مع کون غیر المشافهین غیر مقصودین بالإِفهام ، وقد حقق عدم الاختصاص به فی غیر المقام ، وأُشیر (2) إلى منع کونهم غیر مقصودین به فی خطاباته تبارک وتعالى فی المقام.
فصل
هل تعقب العام بضمیر یرجع إلى بعضٍ أفراده ، یوجب تخصیصه به أو لا؟ فیه خلاف بین الأعلام.
ولیکن محلّ الخلاف ما إذا وقعا فی کلامین ، أو فی کلام واحد مع استقلال العام بما حکم علیه فی الکلام ، کما فی قوله تبارک وتعالى : ( والمطلقات یتربصن ) إلى قوله ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ) (3) وأما ما إذا کان مثل : والمطلقات ازواجهن احق بردهن ، فلا شبهة فی تخصیصه به.
__________________
1 ـ اثبتناه من « ب ».
2 ـ فی رده للثمرة الأولى / 231.
3 ـ البقرة : 228. 
 
والتحقیق أن یقال : إنّه حیث دار الأمر بین التصرف فی العام ، بإرادة خصوص ما أُرید من الضمیر الراجع إلیه ، أو التصرف فی ناحیة الضمیر : امّا بإرجاعه إلى بعضٍ ما هو المراد من مرجعه ، أو إلى تمامه مع التوسع فی الإِسناد ، بإسناد الحکم المسند إلى البعض حقیقة إلى الکلّ توسعاً وتجوزاً ؛ کانت أصالة الظهور فی طرف العام سالمة عنها فی جانب الضمیر ، وذلک لأن المتیقن من بناءً العقلاء هو اتباع الظهور فی تعیین المراد ، لا فی تعیین کیفیة الاستعمال ، وأنه على نحو الحقیقة أو المجاز فی الکلمة أو الإِسناد مع القطع بما یراد ، کما هو الحال فی ناحیة الضمیر.
وبالجملة : أصالة الظهور إنّما یکون حجة فیما إذا شک فیما أُرید ، لا فیما إذا شک فی إنّه کیف أُرید ، فافهم ، لکنه إذا انعقد للکلام ظهور فی العموم ، بأن لا یعد ما اشتمل على الضمیر مما یکتنف به عرفاً ، وإلاّ فیحکم علیه بالإِجمال ، ویرجع إلى ما یقتضیه الأصول ، إلّا أن یقال باعتبار اصالة الحقیقة تعبداً ، حتى فیما إذا احتفّ بالکلام ما لا یکون ظاهراً معه فی معناه الحقیقی کما عن بعضٍ الفحول.
فصل
قد اختلفوا فی جواز التخصیص بالمفهوم المخالف ، مع الاتفاق على الجواز بالمفهوم الموافق ، على قولین ، وقد استدل لکلّ منهما بما لا یخلو عن قصور.
وتحقیق المقام : إنّه إذا ورد العام وما له المفهوم فی کلام أو کلامین ، ولکن على نحو یصلح أن یکون کلّ منهما قرینة متصلة للتصرف فی الآخر ، ودار الأمر بین تخصیص العموم أو إلغاء المفهوم ، فالدلالة على کلّ منهما إن کانت  

 
بالإِطلاق بمعونة مقدمات الحکمة ، أو بالوضع ، فلا یکون هناک عموم ، ولا مفهوم ، لعدم تمامیة مقدمات الحکمة فی واحد منهما لأجل المزاحمة ، کما فی مزاحمة ظهور أحدهما وضعاً لظهور الآخر کذلک ، فلا بدّ من العمل ب الأصول العملیة فیما دار فیه بین العموم والمفهوم ، إذا لم یکن مع ذلک أحدهما أظهر ، وإلاّ کان مانعاً عن انعقاد الظهور ، أو استقراره فی الآخر.
ومنه قد انقدح الحال فیما إذا لم یکن بین ما دلّ على العموم وما له المفهوم ، ذاک الارتباط والاتصال ، وإنّه لا بدّ أن یعامل مع کلّ منهما معاملة المجمل ، لو لم یکن فی البین أظهر ، وإلاّ فهو المعول ، والقرینة على التصرف فی الآخر بما لا یخالفه بحسب العمل.
فصل
الاستثناء المتعقب لجمل متعددة ، هل الظاهر هو رجوعه إلى الکلّ (1) أو خصوص الأخیرة (2) ، أو لا ظهور له فی واحد منهما (3) ، بل لابد فی التعیین من قرینة؟ أقوال.
والظاهر إنّه لا خلاف ولا إشکال فی رجوعه إلى الأخیرة على أیّ حال ، ضرورة أن رجوعه إلى غیرها بلا قرینة خارج عن طریقة أهل المحاورة ، وکذا فی صحة رجوعه إلى الکلّ ، وأنّ کان المتراءى من کلام صاحب المعالم (4) ; حیث مهّد مقدّمة لصحة رجوعه إلیه ، إنّه محلّ الإِشکال والتأمل.
__________________
1 ـ نسبه السید المرتضى (ره) إلى مذهب الشافعی وأصحابه ، الذریعة إلى أصول الشریعة : 1 / 249 ، راجع المعتمد فی أصول الفقه : 1 / 245 ، وشرح المختصر للعضدی : 1 / 260.
2 ـ فی المصدرین المتقدّمین إنّه مذهب أبی حنیفة وأصحابه.
3 ـ الذریعة إلى اصول الشریعة 1 / 249.
4 ـ معالم الدین / 127 ، حیث قال : ولنقدم على توجیه المختار مقدّمة ... الخ. 
 
وذلک ضرورة أن تعدَّد المستثنى منه ، کتعدد المستثنى ، لا یوجب تفاوتاً أصلاً فی ناحیة الاداة بحسب المعنى ، کان الموضوع له فی الحروف عاماً أو خاصاً ، وکان المستعمل فیه الاداة فیما کان المستثنى منه متعدداً هو المستعمل فیه فیما کان واحداً ، کما هو الحال فی المستثنى بلا ریب ولا إشکال ، وتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجاً لا یوجب تعدَّد ما استعمل فیه أداة الاخراج مفهوماً.
وبذلک یظهر إنّه لا ظهور لها فی الرجوع إلى الجمیع ، أو خصوص الأخیرة ، وأنّ کان الرجوع إلیها متیقنا على کلّ تقدیر ، نعم غیر الأخیرة أیضاً من الجمل لا یکون ظاهراً فی العموم لاکتنافه بما لا یکون معه ظاهراً فیه ، فلابد فی مورد الاستثناء فیه من الرجوع إلى الأصول.
اللهم إلّا أن یقال بحجیة أصالة الحقیقة تعبداً ، لا من باب الظهور ، فیکون المرجع (1) علیه أصالة العموم إذا کان وضعیا ، لا ما إذا کان بالإِطلاق ومقدمات الحکمة ، فإنّه لا یکاد یتم تلک المقدّمات مع صلوح الاستثناء للرجوع إلى الجمیع ، فتأمل (2).
فصل
الحق جواز تخصیص الکتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص کما جاز بالکتاب ، أو بالخبر المتواتر ، أو المحفوف بالقرینة القطعیة من خبر الواحد ، بلا ارتیاب ، لما هو الواضح من سیرة الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد فی قبال عمومات الکتاب إلى زمن الأئمة : ، واحتمال أن یکون ذلک
__________________
1 ـ فی « ب » : مرجع.
2 ـ إشارة إلى إنّه یکفی فی منع جریان المقدّمات ، صلوح الاستثناء لذلک ، لاحتمال اعتماد المطلق حینئذ فی التقیید علیه ، لاعتقاد إنّه کافٍ فیه ، اللهم إلّا أن یقال : إن مجرد صلوحه لذلک بدون قرینة علیه ، غیر صالح للاعتماد ما لم یکن بحسب متفاهم العرف ظاهراً فی الرجوع إلى الجمیع ، فأصالة الإِطلاق مع عدم القرینة محکمة ، لتمامیة مقدمات الحکمة ، فافهم منه ( 1 ).  

 
بواسطة القرینة واضح البطلان.
مع إنّه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرة أو ما بحکمه ، ضرورة ندرة خبر لم یکن على خلافه عموم الکتاب ، لو سلّم وجود ما لم یکن کذلک.
وکون العام الکتابیّ قطعیاً صدوراً ، وخبر الواحد ظنیا سنداً (1) ، لا یمنع عن التصرف فی دلالته الغیر القطعیة قطعاً ، وإلاّ لما جاز تخصیص المتواتر به أیضاً ، مع إنّه جائ جزماً.
والسّر : أن الدوران فی الحقیقة بین أصالة العموم ودلیل سند الخبر ، مع أن الخبر بدلالته وسنده صالح للقرینیة (2) على التصرف فیها ، بخلافها ، فإنّها غیر صالحة لرفع الید عن دلیل اعتباره ، ولا ینحصر (3) الدلیل على الخبر بالإِجماع ، کی یقال بإنّه فیما لا یوجد على خلافه دلالة ، ومع وجود الدلالة القرآنیّة (4) یسقط وجوب العمل به. کیف؟ وقد عرفت أن سیرتهم مستمرة على العمل به فی قبال العمومات الکتابیة.
والإخبار الدالة على أن الإخبار المخالفة للقرآن یجب طرحها (5) أو ضربها على الجدار ، أو إنّها زخرف (6) ، أو إنّها مما لم یقل به الامام 7 (7) ، وأنّ کانت کثیرة جداً ، وصریحة الدلالة على طرح المخالف ، إلّا
__________________
1 ـ انظر معالم الدین / 147 ، فی جواز تخصیص الکتاب بالخبر ..
2 ـ فی « ب » : للقرینة.
3 ـ ردّ على ما أجاب به المحقق عن استدلال المجّوزین لتخصیص الکتاب بالخبر الواحد ، معارج الأصول / 96.
4 ـ فی « ب » دلالة القرائنة.
5 ـ أصول الکافی : 1 / 69 باب الأخذ بالسنة وشواهد الکتاب. وسائل الشیعة 18 / 78 الباب 9 من أبواب صفات القاضی الحدیث 10.
6 ـ اصول الکافی : 1 / 69 الحدیث 3 ، 4 ، وسائل الشیعة 18 / 78 الحدیث 12 و 14.
7 ـ اصول الکافی 1 / 69 الحدیث 5 ، وسائل الشیعة 18 / 79 الحدیث 15. 
 
إنّه لا محیص عن أن یکون المراد من المخالفة فی هذه الإخبار غیر مخالفة العموم ، إن لم نقل بإنّها لیست من المخالفة عرفاً ، کیف؟ وصدور الأخبار المخالفة للکتاب بهذه المخالفة منهم : کثیرة جداً ، مع قوة احتمال أن یکون المراد إنّهم لا یقولون بغیر ما هو قول الله تبارک وتعالى واقعاً ـ وأنّ کان هو على خلافه ظاهراً ـ شرحاً لمرامه تعالى وبیاناً لمراده من کلامه ، فافهم.
والملازمة بین جواز التخصیص وجواز النسخ به ممنوعة ، وأنّ کان مقتضى القاعدة جوازهما ، لاختصاص النسخ بالإِجماع على المنع ، مع وضوح الفرق بتوافر الدواعی إلى ضبطه ، ولذا قل الخلاف فی تعیین موارده ، بخلاف التخصیص.
فصل
لا یخفى أن الخاص والعام المتخالفین ، یختلف حالهما ناسخاً ومخصصاً ومنسوخاً ، فیکون الخاص : مخصصاً تارةً ، وناسخاً مرة ، ومنسوخاً أُخرى.
وذلک لأن الخاص إن کان مقارناً مع العام ، أو وارداً بعده قبل حضور وقت العمل به ، فلا محیص عن کونه مخصصاً وبیاناً له.
وإن کان بعد حضوره کان ناسخاً لا مخصصاً ، لئلا یلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة فیما إذا کان العام وارداً لبیان الحکم الواقعی ، وإلاّ لکان الخاص أیضاً مخصصاً له ، کما هو الحال فی غالب العمومات والخصوصات فی الآیات والروایات.
وإن کان العام وارداً بعد حضور وقت العمل بالخاص ، فکما یحتمل أن یکون الخاص مخصصاً للعام ، یحتمل أن یکون العام ناسخاً له ، وأنّ کان الأظهر أن یکون الخاص مخصصاً ، کثرة التخصیص ، حتى اشتهر ( ما من عام إلّا وقد خص ) مع قلة النسخ فی الأحکام جداً ، وبذلک یصیر ظهور الخاص فی 
 
الدوام ـ ولو کان بالإِطلاق ـ أقوى من ظهور العام ولو کان بالوضع ، کما لا یخفى ، هذا فیما علم تاریخهما.
وأما لو جهل وتردد بین أن یکون الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام وقبل حضوره ، فالوجه هو الرجوع إلى الأصول العملیة.
وکثرة التخصیص وندرة النسخ هاهنا ، وأنّ کانا یوجبان الظن بالتخصیص أیضاً ، وإنّه واجد لشرطه إلحاقاً له بالغالب ، إلّا إنّه لا دلیل على اعتباره ، وإنما یوجبان الحمل علیه فیما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، لصیرورة الخاص لذلک فی الدوام اظهر من العام ، کما أشیر إلیه ، فتدبرّ جیداً.
ثم إن تعیّن الخاص للتخصیص ، إذا ورد قبل حضور وقت العمل بالعام ، أو ورد العام قبل حضور وقت العمل به ، إنّما یکون مبنیا على عدم جواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، وإلاّ فلا یتعین له ، بل یدور بین کونه مخصصاً (1) وناسخاً فی الأول ، ومخصصاً ومنسوخاً فی الثّانی ، إلّا أن الأظهر کونه مخصصاً ، وأنّ کان ظهور العام فی عموم الأفراد أقوى من ظهوره وظهور الخاص فی الدوام (2) ، لما أشیر إلیه من تعارف التخصیص وشیوعه ، وندرة النسخ جداً فی الأًحکام.
ولا بأس بصرف (3) الکلام إلى ما هو نخبة القول فی النسخ ، فاعلم أن
__________________
1 ـ لا یخفى أن کونه مخصصاً بمعنى کونه مبیناًبمقدار المرام عن العام ، وناسخاً بمعنى کون حکم العام غیر ثابت فی نفس الأمر فی مورد الخاص ، مع کونه مراداً ومقصوداً بالإِفهام فی مورده بالعام کسائر الأفراد ، وإلاّ فلا تفاوت بینهما عملاً أصلاً ، کما هو واضح لا یکاد یخفى ( منه 1 ).
2 ـ فی « ب » : ولو فیما کان ظهور العام فی عموم الأفراد أقوى من ظهور الخاص فی الخصوص.
3 ـ فی « ب » : لصرف. 
 
النسخ وأنّ کان رفع الحکم الثابت إثباتاً ، إلا إنه فی الحقیقة دفع الحکم ثبوتاً ، وإنما اقتضت الحکمة إظهار دوام الحکم واستمراره ، أو أصل إنشائه وإقراره ، مع إنّه بحسب الواقع لیس له قرار ، أو لیس له دوام واستمرار ، وذلک لأن النبی 9 الصادع للشرع ، ربما یلهم أو یوحى إلیه أن یظهر الحکم أو استمراره مع اطلاعه على حقیقة الحال ، وإنّه ینسخ فی الاستقبال ، أو مع عدم اطلاعه على ذلک ، لعدم إحاطته بتمام ما جرى فی علمه تبارک وتعالى ، ومن هذا القبیل لعله یکون أمر إبراهیم بذبح إسماعیل.
وحیث عرفت أن النسخ بحسب الحقیقة یکون دفعا ، وأنّ کان بحسب الظاهر رفعا ، فلا بأس به مطلقاً ولو کان قبل حضور وقت العلم ، لعدم لزوم البداء المحال فی حقه تبارک وتعالى ، بالمعنى المستلزم لتغیر إرادته تعالى مع اتحاد الفعل ذاتاً وجهة ، ولا لزوم (1) امتناع النسخ أو الحکم المنسوخ ، فإن الفعل إن کان مشتملاً على مصلحة موجبة للأمر به امتنع النهی عنه ، وإلاّ امتنع الأمر به ، وذلک لأن الفعل أو دوامه لم یکن متعلقاً لإِرادته ، فلا یستلزم نسخ أمره بالنهی تغییر إرادته ، ولم یکن الأمر بالفعل من جهة کونه مشتملاً على مصلحة ، وإنما کان إنشاءً الأمر به أو إظهار دوامه عن حکمة ومصلحة.
وأما البداء فی التکوینیات (2) بغى ذاک المعنى ، فهو مما دلّ علیه الروایات المتواترات (3) ، کما لا یخفى. ومجمله أن الله تبارک وتعالى إذا تعلقت مشیته تعالى بإظهار ثبوت ما یمحوه ، لحکمة داعیة إلى إظهاره ، ألهم أو أوحى إلى نبیه أو ولیه أن یخبر به ، مع علمه بإنّه یمحوه ، أو مع عدم علمه به ، لما أشیر إلیه من عدم الاحاطة بتمام ما جرى فی علمه ، وإنما یخبر به لأنه حال الوحی أو الالهام لارتقاء نفسه الزکیة ، واتصاله بعالم لوح المحو والإِثبات اطلع على
__________________
1 ـ فی بعضٍ النسخ المطبوعة : وإلاّ لزم.
2 ـ فی « ب » : التکوینات.
3 ـ الوافی : 1 / 112 ، باب البداء.  

 
ثبوته ، ولم یطلع على کونه معلقاً على [ أمر ] (1) غیر واقع ، أو عدم الموانع ، قال الله تبارک وتعالى : ( یَمْحُو اللَّهُ مَا یَشَاءُ وَیُثْبِتُ ) (2) الآیة ، نعم من شملته العنایة الإلهیة ، واتصلت نفسه الزکیة بعالم اللوح المحفوظ الذی [ هو ] من أعظم العوالم الربوبیة ، وهو أُم الکتاب ، یکشف عنده الواقعیات على ما هی علیها ، کما ربما یتفق لخاتم الأنبیاء ، ولبعض الاوصیاء ، کان عارفا بالکائنات (3) کما کانت وتکون.
نعم مع ذلک ، ربما یوحى إلیه حکم من الأحکام ، تارةً بما یکون ظاهراً فی الاستمرار والدوام ، معه إنّه فی الواقع له غایة وأمد یعینها (4) بخطاب آخر ، وأخرى بما یکون ظاهراً فی الجد ، مع إنّه لا یکون واقعاً بجد ، بل لمجرد الابتلاء والاختبار ، کما إنّه یؤمر وحیاً أو الهاماً بالإخبار بوقوع عذاب أو غیره مما لا یقع ، لأجل حکمة فی هذا الإخبار أو ذاک الإِظهار ، فبدا له تعالى بمعنى إنّه یظهر ما أمر نبیه أو ولیه بعدم إظهاره أولاً ، ویبدی ما خفی ثانیاً.
وإنما نسب إلیه تعالى البداء ، مع إنّه فی الحقیقة الابداء ، لکمال شباهة إبدائه تعالى کذلک بالبداء فی غیره ، وفیما ذکرنا کفایة فیما هو المهمّ فی باب النسخ ، ولا داعی بذکر تمام ما ذکروه فی ذاک الباب کما لا یخفى على أولی الالباب.
ثم لا یخفى ثبوت الثمرة بین التخصیص والنسخ ، ضرورة إنّه على التخصیص یبنى على خروج الخاص عن حکم العام رأساً ، وعلى النسخ ، على ارتفاع حکمه عنه من حینه ، فیما دار الأمر بینهما فی المخصص ، وأما إذا دار بینهما فی الخاص والعام ، فالخاص على التخصیص غیر محکوم بحکم العام أصلاً ، وعلى النسخ کان محکوماً به من حین صدور دلیله ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ أثبتناها من « ب ».
2 ـ الرعد : 39.
3 ـ فی « ب » : على الکائنات.
4 ـ فی « ب » : یتعینها.  

 
 

 
 
 
المقصد الخامس : فی المطلق والمقید والمجمل والمبین
فصل
عرف (1) المطلق بإنّه : ما دلّ على شائع فی جنسه ، وقد أشکل علیه بعضٍ الأعلام (2) ، بعدم الاطراد أو الانعکاس ، وأطال الکلام فی النقض والأبرام ، وقد نبهنا فی غیر مقام على أن مثله شرح الاسم ، وهو مما یجوز أن لا یکون بمطرد ولا بمنعکس ، فالأولى الاعراض عن ذلک ، ببیان ما وضع له بعضٍ الألفاظ التی یطلق علیها المطلق ، أو من غیرها مما یناسب المقام.
فمنها : اسم الجنس ، کإنسان ورجل وفرس وحیوان وسواد وبیاض إلى غیر ذلک من أسماء الکلیات من الجواهر والاعراض بل العرضیات ، ولا ریب إنّها موضوعة لمفاهیمها بما هی هی مبهمة مهملة ، بلا شرط أصلاً ملحوظٍ معها ، حتى لحاظ إنّها کذلک.
وبالجملة : الموضوع له اسم الجنس هو نفس المعنى ، وصرف المفهوم الغیر الملحوظ معه شیء أصلاً الذی هو المعنى بشرط شیء ، ولو کان ذاک الشیء هو الإرسال والعموم البدلی ، ولا الملحوظ معه عدم لحاظ شیء معه الذی هو
__________________
1 ـ هذا التعریف لأکثر الأصولیین على ما ذکره المحقق القمی ، القوانین 1 / 321 ، المطلق والمقید.
2 ـ المستشکل هو صاحب الفصول ، قال فی الفصول / 218 ، فی فصل ( المطلق ) : ویخرج بقولنا شیوعاً حکمیاً ... إلى أن قال : وقد أهملوا هذا القید فیرد ذلک على طردهم ... الخ.  

 
الماهیة اللابشرط القسمی ، وذلک لوضوح صدقها بما لها من المعنى ، بلا عنایة التجرید عما هو قضیة الاشتراط والتقیید فیها ، کما لا یخفى ، مع بداهة عدم صدق المفهوم بشرط العموم على فرد من الأفراد ، وإن کان یعم کلّ واحد منها بدلاً أو استیعاباً ، وکذا المفهوم اللابشرط (1) القسمی ، فإنّه کلّی عقلی لا موطن له إلّا الذهن لا یکاد یمکن صدقه وانطباقه علیها ، بداهة أن مناطه الاتحاد بحسب الوجود خارجاً ، فکیف یمکن أن یتحد معها ما لا وجود له إلّا ذهناً؟
ومنها : علم الجنس (2) کأُسامة ، والمشهور بین أهل العربیة إنّه موضوع للطبیعة لا بما هی هی ، بل بما هی متعینة بالتعین (3) الذهنی ولذا یعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة التعریف.
لکن التحقیق إنّه موضوع لصرف المعنى بلا لحاظ شیء معه أصلاً کاسم الجنس ، والتعریف فیه لفظی ، کما هو الحال فی التأنیث اللفظی ، وإلاّ لما صحّ حمله على الأفراد بلا تصرف وتأویل ، لإنّه على المشهور کلی عقلی ، وقد عرفت إنّه لا یکاد صدقه علیها مع صحة حمله علیها بدون ذلک ، کما لا یخفى ، ضرورة أن التصرف فی المحمول بإرادة نفس المعنى بدون قیده تعسف ، لا یکاد یکون بناءً القضایا المتعارفة علیه ، مع أن وضعه لخصوص معنى یحتاج إلى تجریده عن خصوصیته عند الاستعمال ، لا یکاد یصدر عن جاهل ، فضلاً عن الواضع الحکیم.
ومنها : المفرد المعرف باللام ، والمشهور إنّه على أقسام : المعرف بلام الجنس ، أو الاستغراق ، أو العهد بأقسامه ، على نحو الاشتراک بینها لفظاً أو معنى ، والظاهر أن الخصوصیة فی کلّ واحد من الأقسام من قبل خصوص
__________________
1 ـ فی ( أ ) : لا بالشرط.
2 ـ فی « ب » : للجنس.
3 ـ فی « ب » : بالتعیین. 
 
اللام ، أو من قبل قرائن المقام ، من باب تعدَّد الدالّ والمدلول ، لا باستعمال المدخول لیلزم فیه المجاز أو الاشتراک ، فکان المدخول على کلّ حال مستعملاً فیما یستعمل فیه الغیر المدخول.
والمعروف أن اللام تکون موضوعة للتعریف ، ومفیدة للتعیین فی غیر العهد الذهنی ، وأنت خبیر بإنّه لا تعیّن فی تعریف الجنس إلّا الإِشارة إلى المعنى المتمیز بنفسه من بین المعانی ذهنا ، ولازمه أن لا یصحّ حمل المعرف باللام بما هو معرف على الأفراد ، لما عرفت من امتناع الاتحاد مع ما لا موطن له إلّا الذهن إلّا بالتجرید ، ومعه لا فائدة فی التقیید ، مع أن التأویل والتصرف فی القضایا المتداولة فی العرف غیر خال عن التعسف. هذا.
مضافا إلى أن الوضع لما لا حاجة إلیه ، بل لا بدّ من التجرید عنه وإلغائه فی الاستعمالات المتعارفة المشتملة على حمل المعرف باللام أو الحمل علیه ، کان لغوا ، کما أشرنا إلیه. فالظاهر أن اللام مطلقاً یکون للتزیین ، کما فی الحسن والحسین ، واستفادة الخصوصیات إنّما تکون بالقرائن التی لابد منها لتعینها على کلّ حال ، ولو قیل بإفادة اللام للاشارة إلى المعنى ، ومع الدلالة علیه بتلک الخصوصیات لا حاجة إلى تلک الإِشارة ، لو لم تکن مخلة ، وقد عرفت إخلالها ، فتأمل جیداً.
وأما دلالة الجمع (1) المعرف باللام على العموم مع عدم دلالة المدخول علیه ، فلا دلالة فیها على إنّها تکون لأجل دلالة اللام على التعین (2) ، حیث لا تعیّن إلّا للمرتبة المستغرقة لجمیع الأفراد ، وذلک لتعین المرتبة الأخرى ، وهی أقل مراتب الجمع ، کما لا یخفى.
فلا بدّ أن یکون دلالته علیه مستندة إلى وضعه کذلک لذلک ، لا إلى دلالة
__________________
1 ـ ردّ على صاحب الفصول ، الفصول / 169. التنبیه الأول.
2 ـ فی « ب » : التعیین. 

 
اللام على الإِشارة إلى المعین ، لیکون به التعریف ، وأنّ أبیت إلّا عن استناد الدلالة علیه إلیه ، فلا محیص عن دلالته على الاستغراق بلا توسیط الدلالة على التعیین ، فلا یکون بسببه تعریف إلّا لفظاً ، فتأمل جیداً.
ومنها : النکرة مثل ( رجل ) فی ( وجاء رجل من أقصى المدینة ) أو فی ( جئنی برجل ) ولا إشکال أن المفهوم منها فی الأوّل ، ولو بنحو تعدَّد الدالّ والمدلول ، هو الفرد المعینّ فی الواقع المجهول عند المخاطب المحتمل الانطباق على غیر واحد من أفراد الرجل.
کما إنّه فی الثّانی ، هی الطبیعة المأخوذة مع قید الوحدة ، فیکون حصة من الرجل ، ویکون کلیاً ینطبق على کثیرین ، لا فرداً مرددا بین الأفراد (1).
وبالجملة : النکرة ـ أیّ [ ما ] بالحمل الشائع یکون نکرة عندهم ـ امّا هو فرد معیّن فی الواقع غیر معیّن للمخاطب ، أو حصة کلیة ، لا الفرد المردّد بین الأفراد ، وذلک لبداهة کون لفظ ( رجل ) فی ( جئنی برجل ) نکرة ، مع إنّه یصدق على کلّ من جیء به من الأفراد ولا یکاد یکون واحد منها هذا أو غیره ، کما هو قضیة الفرد المردّد ، لو کان هو المراد منها ، ضرورة أن کلّ واحد هو هو ، لا هو أو غیره ، فلابد أن تکون النکرة الواقعة فی متعلق الأمر ، هو الطبیعی المقید بمثل مفهوم الوحدة ، فیکون کلیاً قابلاً للانطباق ، فتأمل جیداً.
إذا عرفت ذلک ، فالظاهر صحة اطلاق المطلق عندهم حقیقة على اسم الجنس والنکرة بالمعنى الثّانی ، کما یصحّ لغة. وغیر بعید أن یکون جریهم فی هذا الإِطلاق على وفق اللغة ، من دون أن یکون لهم فیه اصطلاح على خلافها ، کما لا یخفى.
نعم لو صحّ ما نسب إلى المشهور ، من کون المطلق عندهم موضوعاً لما
__________________
1 ـ قال به صاحب الفصول ، الفصول / 163 ، فی صیغة العموم ، عند قوله : ومدلولها فرد من الجنس لا بعینه ... الخ. 
 
قید بالارسال والشمول البدلی ، لما کان ما أُرید منه الجنس أو الحصة عندهم بمطلق ، إلّا أن الکلام فی صدق النسبة ، ولا یخفى أن المطلق بهذا المعنى لطروء القید غیر قابل ، فإن ماله من الخصوصیة ینافیه ویعانده ، بل (1) وهذا بخلافه بالمعنیین ، فإن کلاّ منهما له قابل ، لعدم انثلامهما بسببه أصلاً ، کما لا یخفى.
وعلیه لا یستلزم التقیید تجوزاً فی المطلق ، لإمکان إرادة معنى لفظه منه ، وإرادة قیده من قرینة حال أو مقال ، وإنما استلزمه لو کان بذاک المعنى ، نعم لو أُرید من لفظه المعنى المقید ، کان مجازاً مطلقاً ، کان التقیید بمتصل أو منفصل.
فصل
قد ظهر (2) لک إنّه لا دلالة لمثل ( رجل ) إلّا على الماهیة المبهمة وضعاً ، وأنّ الشیاع والسریان کسائر الطوارىء یکون خارجاً عما وضع له ، فلا بدّ فی الدلالة علیه من قرینة حال أو مقال أو حکمة ، وهی تتوقف على مقدمات :
أحدها : کون المتکلم فی مقام بیان تمام المراد ، لا الإِهمال أو الإِجمال.
ثانیتها : انتفاء ما یوجب التعیین.
ثالثتها : انتفاء القدر المتیقن فی مقام التخاطب ، ولو کان المتیقن بملاحظة الخارج عن ذاک المقام فی البین ، فإنّه غیر مؤثر فی رفع الإِخلال بالغرض ، لو کان بصدد البیان ، کما هو الفرض ، فإنّه فیما تحققت لو لم یرد الشیاع لأخلّ بغرضه ، حیث إنّه لم ینبه مع إنّه بصدده ، وبدونها لا یکاد یکون هناک إخلال به ، حیث لم یکن مع انتفاء الأُولى ، إلّا فی مقام الإِهمال أو الإِجمال ، ومع انتفاء الثانیة ، کان البیان بالقرینة ، ومع انتفاء الثالثة ،
__________________
1 ـ أثبتناها من « أ ».
2 ـ تقدم فی المقصد الخامس ، الفصل الأوّل / 243.  

 
لا إخلال بالغرض لو کان المتیقن تمام مراده ، فإن الفرض إنّه بصدد بیان تمامه ، وقد بینه ، لا بصدد بیان إنّه تمامه ، کی أخلّ ببیإنّه ، فافهم (1).
ثم لا یخفى علیک أن المراد بکونه فی مقام بیان تمام مراده ، مجرد بیان ذلک وإظهاره وإفهامه ، ولو لم یکن عن جد ، بل قاعدة وقانوناً ، لتکون حجة فیما لم تکن حجة أقوى على خلافه ، لا البیان فی قاعدة قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة ، فلا یکون الظفر بالمقید ـ ولو کان مخالفا ـ کاشفاً عن عدم کون المتکلم فی مقام البیان ، ولذا لا ینثلم به إطلاقه وصحة التمسک به أصلاً ، فتأمل جیداً.
وقد انقدح بما ذکرنا (2) أن النکرة فی دلالتها على الشیاع والسریان ـ أیضاً ـ تحتاج فیما لا یکون هناک دلالة حال أو مقال إلى (3) من مقدمات الحکمة ، فلا تغفل.
بقى شیء : وهو إنّه لا یبعد أن یکون الأصل فیما إذا شک فی کون المتکلم فی مقام بیان تمام المراد ، هو کونه بصدد بیإنّه ، وذلک لما جرت علیه سیرة أهل المحاورات من التمسک بالإطلاقات فیما إذا لم یکن هناک ما یوجب صرف وجهها إلى جهة خاصة ، ولذا ترى أن المشهور لا یزالون یتمسکون بها ، مع عدم إحراز کون مطلقها بصدد البیان ، وبُعد کونه لأجل ذهابهم إلى إنّها موضوعة للشیاع والسریان ، وأنّ کان ربما نسب ذلک إلیهم ، ولعل وجه النسبة ملاحظة إنّه لا وجه للتمسک بها بدون الاحراز والغفلة عن وجهه ، فتأمل جیداً.
__________________
1 ـ إشارة إلى إنّه لو کان بصدد بیان إنّه تمامه ما أخلّ ببیإنّه ، بعد عدم نصب قرینة على إرادة تمام الأفراد ، فإنّه بملاحظته یفهم أن المتیقن تمام المراد ، وإلاّ کان علیه نصب القرینة على إرادة تمامها ، وإلاّ قد أخلّ بغرضه ، نعم لا یفهم ذلک إذا لم یکن إلّا بصدد بیان أن المتیقن مراد ، لا بصدد بیان أن غیره مراد أو لیس بمراد ، قبالاً للاجمال والاهمال المطلقین ، فافهم فإنّه لا یخلو عن دقة ( منه أعلى الله مقامه ).
2 ـ فی صفحة 247 من هذا الکتاب.
3 ـ فی « أ » و « ب » : من.
 
ثم إنّه قد انقدح بما عرفت ـ من توقف حمل المطلق على الإِطلاق ، فیما لم یکن هناک قرینة حالیة أو مقالیة على قرینة الحکمة المتوقفة على المقدّمات المذکورة ـ إنّه لا إطلاق له فیما کان له الانصراف إلى خصوص بعضٍ الأفراد أو الأصناف ، لظهوره فیه ، أو کونه متیقنا منه ، ولو لم یکن ظاهراً فیه بخصوصه ، حسب اختلاف مراتب الانصراف ، کما إنّه منها ما لا یوجب ذا ولا ذاک ، بل یکون بدویاً زائلاً بالتأمل ، کما إنّه منها ما یوجب الاشتراک أو النقل.
لا یقال : کیف یکون ذلک ، وقد تقدم أن التقیید لا یوجب التجوز فی المطلق أصلاً؟
فإنّه یقال : مضافاً إلى إنّه إنّما قیل لعدم استلزامه له ، لا عدم إمکانه ، فإن استعمال المطلق فی المقید بمکان من الإِمکان ، إن کثرة إرادة المقید لدى إطلاق المطلق ولو بدالّ آخر ربما تبلغ بمثابة توجب له مزیة أنس ، کما فی المجاز المشهور ، أو تعیناً (1) واختصاصاً به ، کما فی المنقول بالغلبة ، فافهم.
تنبیه : وهو إنّه یمکن أن یکون للمطلق جهات عدیدة ، کان وارداً فی مقام البیان من جهة منها ، وفی مقام الإِهمال أو الإِجمال من أُخرى ، فلابدّ فی حمله على الإِطلاق بالنسبة إلى جهة من کونه بصدد البیان من تلک الجهة ، ولا یکفی کونه بصدده من جهة أُخرى ، إلّا إذا کان بینهما ملازمة عقلاً أو شرعاً أو عادةً ، کما لا یخفى.
فصل
إذا ورد مطلق ومقید متنافیین ، فإمّا یکونان مختلفین فی الإِثبات والنفی ، وإمّا یکونان متوافقین ، فإن کانا مختلفین مثل ( أَعتق رقبة ) و ( لا
__________________
1 ـ فی « ب » : تعییناً.
 
تعتق رقبة کافرة ) فلا إشکال فی التقیید ، وأنّ کانا متوافقین ، فالمشهور فیهما الحمل والتقیید ، وقد استدل بإنّه جمع بین الدلیلین وهو أولى.
وقد أُورد علیه بإمکان الجمع على وجه آخر ، مثل حمل الأمر فی المقید على الاستحباب.
وأورد علیه بأن التقیید لیس تصرفاً فی معنى اللفظ ، وإنما هو تصرف فی وجه من وجوه المعنى ، اقتضاه تجرده عن القید ، مع تخیل وروده فی مقام بیان تمام المراد ، وبعد الاطلاع على ما یصلح للتقیید نعلم وجوده على وجه الإِجمال ، فلا إطلاق فیه حتى یستلزم تصرفاً ، فلا یعارض ذلک بالتصرف فی المقید ، بحمل أمره على الاستحباب.

 

کفایة الاصول - قسمت پنجم

بحرام بلا کلام ، إلّا إنّه إذا لم یکن الاضطرار إلیه بسوء الاختیار ، بأن یختار ما یؤدی إلیه لا محالة ، فإن الخطاب بالزجر عنه حینئذ ، وأنّ کان ساقطاً ، إلّا إنّه حیث یصدر عنه مبغوضاً علیه وعصیاناً لذاک الخطاب ومستحقاً علیه العقاب ، لا یصلح لأن یتعلق بها الإِیجاب ، وهذا فی الجملة مما لا شبهة فیه ولا ارتیاب.
وإنما الإِشکال فیما إذا کان ما اضطر إلیه بسوء اختیاره ، مما ینحصر به التخلص عن محذور الحرام ، کالخروج عن الدار المغصوبة فیما إذا توسطها بالاختیار فی کونه منهیاً عنه ، أو مأموراً به ، مع جریان حکم المعصیة علیه ، أو بدونه ، فیه أقوال ، هذا على الامتناع.
وأما على القول بالجواز ، فعن أبی هاشم (1) إنّه مأمور به ومنهی عنه ، واختاره الفاضل القمی (2) ، ناسبا له إلى أکثر المتأخرین وظاهر الفقهاء.
والحق إنّه منهی عنه بالنهی السابق الساقط بحدوث الاضطرار إلیه ، وعصیان له بسوء الاختیار ، ولا یکاد یکون مأموراً به ، کما إذا لم یکن هناک توقف (3) علیه ، أو بلا انحصار به ، وذلک ضرورة إنّه حیث کان قادراً على ترک
__________________
1 ـ راجع شرح مختصر الأصول / 94.
هو أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبّائی ، ولد عام 247 ه‍ من أبناء ابان مولى عثمان ، عالم بالکلام ، من کبار المعتزلة ، له آراء انفرد بها وتبعته فرقة سمیّت « البهشمیة » نسبة إلى کنیته أبی هاشم وله مصنفات منها : « الشامل » فی الفقه و « تذکرة العالم » و « العدة » فی الأصول مات سنة 321 ه‍. « الأعلام للزرکلی 4 / 7 ».
2 ـ قوانین الأصول 1 / 153 ، فی التنبیه الثّانی ، من قانون دلالة النهی على الفساد.
3 ـ لا یخفى إنّه لا توقف ها هنا حقیقة ، بداهة أن الخروج إنّما هو مقدّمة للکون فی خارج الدار ، لا مقدّمة لترک الکون فیها الواجب ، لکونه ترک الحرام ، نعم بینهما ملازمة لأجل التضاد بین الکونین ، ووضوح الملازمة بین وجود الشیء وعدم ضدّه ، فیجب الکون فی خارج الدار عرضاً ، لوجوب ملازمه حقیقة ، فیجب مقدمته کذلک ، وهذا هو الوجه فی المماشاة والجری على أن مثل الخروج یکون مقدّمة لما هو الواجب من ترک الحرام ، فافهم. ( منه 1 ). 
 
الحرام رأساً ، لا یکون عقلاً معذوراً فی مخالفته فیما اضطر إلى ارتکابه بسوء اختیاره ، ویکون معاقبا علیه ، کما إذا کان ذلک بلا توقف علیه ، أو مع عدم الانحصار به ، ولا یکاد یجدی توقف انحصار التخلص عن الحرام به ، لکونه بسوء الاختیار.
إن قلت : کیف لا یجدیه ، ومقدمة الواجب واجبة؟
قلت : إنّما تجب المقدمة لو لم تکن محرمة ، ولذا لا یترشح الوجوب من الواجب إلّا على ما هو المباح من المقدّمات دون المحرمة مع اشتراکهما فی المقدمیة.
وإطلاق الوجوب بحیث ربما یترشح منه الوجوب علیها مع انحصار المقدمة بها ، إنّما هو فیما إذا کان الواجب أهم من ترک المقدمة المحرمة ، والمفروض هاهنا وأنّ کان ذلک إلّا إنّه کان بسوء الاختیار ، ومعه لا یتغیر عما هو علهى من الحرمة والمبغوضیة ، وإلاّ لکانت الحرمة معلقة على إرادة المکلف واختیاره لغیره ، وعدم حرمته مع اختیاره له ، وهو کما ترى ، مع إنّه خلاف الفرض ، وأنّ الاضطرار یکون بسوء الاختیار.
إن قلت (1) : إن التصرف فی أرض الغیر بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام ، بلا إشکال ولا کلام ، وأما التصرف بالخروج الذی یترتب علیه رفع الظلم ، ویتوقف علیه التخلص عن التصرف الحرام ، فهو لیس بحرام فی حال من الحالات ، بل حاله حال مثل شرب الخمر ، المتوقف علیه النجاة من الهلاک فی الاتصاف بالوجوب فی جمیع الأوقات.
__________________
1 ـ إشارة إلى مختار الشیخ ( قده ) مطارح الأنظار / 155 ، الهدایة 6 من القول فی جواز اجتماع الأمر والنهی. 
 
ومنه ظهر المنع عن کون جمیع انحاء التصرف فی أرض الغیر مثلاً حراماً قبل الدخول ، وإنّه یتمکن من ترک الجمیع حتى الخروج ، وذلک لإنّه لو لم یدخل لما کان متمکناً من الخروج وترکه ، وترک الخروج بترک الدخول رأساً لیس فی الحقیقة إلّا ترک الدخول ، فمن لم یشرب الخمر ، لعدم وقوعه فی المهلکة التی یعالجها به مثلاً ، لم یصدق علیه إلّا إنّه لم یقع فی المهلکة ، لا إنّه ما شرب الخمر فیها ، إلّا على نحو السالبة المنتفیة بانتفاء الموضوع ، کما لا یخفى.
وبالجملة لا یکون الخروج ـ بملاحظة کونه مصداقاً للتخلص عن الحرام أو سبباً له ـ إلّا مطلوباً ، ویستحیل أن یتصف بغیر المحبوبیة ، ویحکم علیه بغیر المطلوبیة.
قلت : هذا غایة ما یمکن أن یقال فی تقریب الاستدلال على کون ما انحصر به التخلص مأموراً به ، وهو موافق لما أفاده شیخنا العلامة أعلى الله مقامه ، على ما فی تقریرات بعضٍ الاجلة (1) ، لکنه لا یخفى أن ما به التخلص عن فعل الحرام أو ترک الواجب ، إنّما یکون حسناً عقلاً ومطلوباً شرعاً بالفعل ، وأنّ کان قبیحاً ذاتاً إذا لم یتمکن المکلف من التخلص بدونه ، ولم یقع بسوء اختیاره ، امّا فی الاقتحام فی ترک الواجب أو فعل الحرام ، وإما فی الاقدام على ما هو قبیح وحرام ، لولا [ أن ] (2) به التخلص بلا کلام کما هو المفروض فی المقام ، ضرورة تمکنه منه قبل اقتحامه فیه بسوء اختیاره.
وبالجملة کان قبل ذلک متمکناً من التصرف خروجاً ، کما یتمکن منه دخولاً ، غایة الأمر یتمکن منه بلا واسطة ، ومنه بالواسطة ، ومجرد عدم التمکن منه إلّا بواسطة لا یخرجه عن کونه مقدوراً ، کما هو الحال فی البقاء ، فکما یکون ترکه مطلوباً فی جمیع الأوقات ، فکذلک الخروج ، مع إنّه مثله فی
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 155. الهدایة 6 ، من القول فی جواز اجتماع الأمر والنهی.
2 ـ اثبتناها من بعضٍ النسخ المطبوعة. 
 
الفرعیة على الدخول ، فکما لا تکون الفرعیة مانعة عن مطلوبیّته قبله وبعده ، کذلک لم تکن مانعة عن مطلوبیّته ؛ وأنّ کان العقل یحکم بلزومه إرشاداً إلى اختیار أقل المحذورین وأخف القبیحین.
ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجاُ وتخلصاً عن المهلکة ، وإنّه إنّما یکون مطلوباً على کلّ حال لو لم یکن الاضطرار إلیه بسوء الاختیار ، وإلاّ فهو على ما هو علیه من الحرمة ، وأنّ کان العقل یلزمه إرشاداً إلى ما هو أهم وأولى بالرعایة من ترکه ، لکون الغرض فیه أعظم ، [ فـَ ] (1) من ترک الاقتحام فیما یؤدی إلى هلاک النفس ، أو شرب الخمر ، لئلا یقع فی أشد المحذورین منهما ، فیصدق إنّه ترکهما ، ولو بترکه ما لو فعله لادی لا محالة إلى أحدهما ، کسائر الأفعال التولیدیة ، حیث یکون العمد إلیها بالعمد إلى اسبابها ، واختیار ترکها بعدم العمد إلى الأسباب. وهذا یکفی فی استحقاق العقاب على الشرب للعلاج ، وأنّ کان لازماً عقلاً للفرار عما هو أکثر عقوبة.
ولو سلّم عدم الصدق إلّا بنحو السالبة المنتفیة بانتفاء الموضوع ، فهو غیر ضائر بعد تمکنه من الترک ، ولو على نحو هذه السالبة ، ومن الفعل بواسطة تمکنه مما هو من قبیل الموضوع فی هذه السالبة ، فیوقع نفسه بالاختیار فی المهلکة ، أو یدخل الدار فیعالج بشرب الخمر ویتخلص بالخروج ، أو یختار ترک الدخول والوقوع فیهما (2) ، لئلا یحتاج إلى التخلص والعلاج.
إن قلت : کیف یقع مثل الخروج والشرب ممنوعا عنه شرعاً ومعاقباً علیه عقلاً ، مع بقاء ما یتوقف علیه على وجوبه ، و [ وضوح ] (3) سقوط الوجوب مع امتناع المقدمة المنحصرة ، ولو کان بسوء الاختیار ، والعقل قد استقل بان
__________________
1 ـ أثبتناه من بعضٍ النسخ المطبوعة.
2 ـ فی « ب » : فیها.
3 ـ أثبتناها من هامش « ب » المصححة. 
 
الممنوع شرعاً کالممتنع عادةً أو عقلاً.
قلت : أولاً : إنّما کان الممنوع کالممتنع ، إذا لم یحکم العقل بلزومه إرشاداً إلى ما هو أقل المحذورین ، وقد عرفت لزومه بحکمه ، فإنّه مع لزوم الإِتیان بالمقدمة عقلاً ، لا بأس فی بقاء ذی المقدمة على وجوبه ، فإنّه حینئذ لیس من التکلیف بالممتنع ، کما إذا کانت المقدمة ممتنعة.
وثانیاً : لو سلّم ، فالساقط إنّما هو الخطاب فعلاً بالبعث والإِیجاب لا لزوم إتیإنّه عقلاً ، خروجاً عن عهدة ما تنجز علیه سابقاً ، ضرورة إنّه لو لم یأت به لوقع فی المحذور الاشد ونقض الغرض الأهم ، حیث إنّه الآن کما کان علیه من الملاک والمحبوبیة ، بلا حدوث قصور أو طروء فتور فیه أصلاً ، وإنما کان سقوط الخطاب لأجل المانع ، وإلزام العقل به لذلک إرشاداً کافٍ ، لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إلیه والإِیجاب له فعلاً ، فتدبرّ جیداً.
وقد ظهر مما حققناه فساد القول بکونه مأموراً به ، مع إجراء حکم المعصیة علیه نظراً إلى النهی السابق ، مع ما فیه من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة ، ولا یرتفع غائلته باختلاف زمان التحریم والإِیجاب ، قبل الدخول وبعده ، کما فی الفصول (1) ، مع اتحاد زمان الفعل المتعلق لهما ، وإنما المفید اختلاف زمإنّه ولو مع اتحاد زمانهما ، وهذا أوضح من أن یخفى ، کیف؟ ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول ، عصیاناً للنهی السابق ، وإطاعة للأمر اللاحق فعلاً ، ومبغوضاً ومحبوباً کذلک بعنوان واحد ، وهذا مما لا یرضى به القائل بالجواز ، فضلاً عن القائل بالامتناع.
کما لا یجدی فی رفع هذه الغائلة ، کون النهی مطلقاً وعلى کلّ حال ، وکون الأمر مشروطاً بالدخول ، ضرورة منافاة حرمة شیء کذلک ، مع وجوبه
__________________
1 ـ الفصول / 138 ، الفصل الرابع من فصول النهی. 
 
فی بعضٍ الأحوال.
وأما القول (1) بکونه مأموراً به ومنهیا عنه ، ففیه ـ مضافاً إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع فیما إذا کان بعنوانین ، فضلاً عما إذا کان بعنوان واحد کما فی المقام ، حیث کان الخروج بعنوإنّه سبباً للتخلص ، وکان بغیر إذن المالک ، ولیس التخلص إلّا منتزعا عن ترک الحرام المسبب (2) عن الخروج ، لا عنواناً له ـ أن الاجتماع ها هنا لو سلّم إنّه لا یکون بمحال ، لتعدد العنوان ، وکونه مجدیاً فی رفع غائلة التضاد ، کان محالاً لأجل کونه طلب المحال ، حیث لا مندوحة هنا ، وذلک لضرورة عدم صحة تعلق الطلب والبعث حقیقة بما هو واجب أو ممتنع ، ولو کان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختیار ، وما قیل أنَّ الامتناع أو الإِیجاب بالاختیار لا ینافی الاختیار ، إنّما هو فی قبال استدلال الأشاعرة للقول بأن الأفعال غیر اختیاریة ، بقضیة أنَّ الشیء ما لم یجب لم یوجد.
فانقدح بذلک فساد الاستدلال لهذا القول ، بأن الأمر بالتخلص والنهی عن الغصب دلیلان یجب إعمالهما ، ولا موجب للتقیید عقلاً ، لعدم استحالة کون الخروج واجباً وحراماً باعتبارین مختلفین ، إذ منشأ الاستحالة : امّا لزوم اجتماع الضدین وهو غیر لازم ، مع تعدَّد الجهة ، وإما لزوم التکلیف بما لا یطاق وهو لیس بمحال إذا کان مسبباً عن سوء الاختیار ، وذلک لما عرفت من
__________________
1 ـ راجع قوانین الأصول 1 / 140 ، قانون اجتماع الأمر والنهی.
2 ـ قد عرفت ـ مما علقت على الهامش ـ أن ترک الحرام غیر مسبب عن الخروج حقیقة ، وإنما المسبب عنه إنّما هو الملازم له ، وهو الکون فی خارج الدار ، نعم یکون مسبباً عنه مسامحة وعرضاً ، وقد انقدح بذلک إنّه لا دلیل فی البین إلّا على حرمة الغصب المقتضی لاستقلال العقل بلزوم الخروج ، من باب إنّه أقل المحذورین وإنّه لا دلیل على وجوبه بعنوان آخر ، فحینئذ یجب إعماله أیضاً ، بناءً على القول بجواز الاجتماع کاحتمال [ کإعمال ] النهی عن الغصب ، لیکون الخروج مأموراً به ومنهیا عنه ، فافهم ( منه 1 ). 
 
ثبوت الموجب للتقیید عقلاً ولو کانا بعنوانین ، وأن اجتماع الضدین لازم ولو مع تعدَّد الجهة ، مع عدم تعددها هاهنا ، والتکلیف بما لا یطاق محال على کلّ حال ، نعم لو کان بسوء الاختیار لا یسقط العقاب بسقوط التکلیف بالتحریم أو الإِیجاب.
ثم لا یخفى إنّه لا إشکال فی صحة الصلاة مطلقاً فی الدار المغصوبة على القول بالاجتماع ، وأما على القول بالامتناع ، فکذلک ، مع الاضطرار إلى الغصب ، لا بسوء الاختیار أو معه ولکنها وقعت فی حال الخروج ، على القول بکونه مأموراً به بدون إجراء حکم المعصیة (1) علیه ، أو مع غلبة ملاک الأمر على النهی مع ضیق الوقت ، امّا مع السعة فالصحة وعدمها مبنیان على عدم اقتضاء الأمر بالشیء للنهی عن الضد واقتضائه ، فإن الصلاة فی الدار المغصوبة ، وأنّ کانت مصلحتها غالبة على ما فیها من المفسدة ، إلّا إنّه لا شبهة فی أن الصلاة فی غیرها تضادّها ، بناءً على إنّه لا یبقی مجال مع إحداهما للاخرى ، مع کونها أهمّ منها ، لخلوها من المنقصة الناشئة من قبل اتحادها مع الغصب ، لکنه عرفت عدم الاقتضاء بما لا مزید علیه ، فالصلاة فی الغصب اختیاراً فی سعة الوقت صحیحة ، وأنّ لم تکن مأموراً بها.
الأمر الثّانی : قد مرّ (2) ـ فی بعضٍ المقدّمات ـ إنّه لا تعارض بین مثل خطاب ( صلّ ) وخطاب ( لا تغصب ) على الامتناع ، تعارض الدلیلین بما هما دلیلان حاکیان ، کی یقدم الأقوى منهما دلالة أو سنداً ، بل إنّما هو من باب
__________________
1 ـ اختاره الشیخ ( قده ) ، مطارح الأنظار / 153 ، وابن الحاجب ، راجع شرح مختصر الأصول 94.
2 ـ فی الأمر التاسع من المقصد الثّانی فی النواهی / 155. 
 
تزاحم المؤثرین والمقتضیین ، فیقدّم الغالب منهما ، وأنّ کان الدلیل على مقتضى الآخر أقوى من دلیل مقتضاه ، هذا فیما إذا أحرز الغالب منهما ، وإلاّ کان بین الخطابین تعارض ، فیقدّم الأقوى منهما دلالة أو سنداً ، وبطریق الإنّ یحرز به أن مدلوله أقوى مقتضیاً ، هذا لو کان کلّ من الخطابین متکفلاً لحکم فعلّی ، وإلاّ فلا بدّ من الأخذ بالمتکفل لذلک منهما لو کان ، وإلاّ فلا محیص عن الانتهاء إلى ما تقتضیه الأصول العملیة.
ثم لا یخفى (1) أن ترجیح أحد الدلیلین وتخصیص الآخر به فی المسألة لا یوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأساً ، کما هو قضیة التقیید والتخصیص فی غیرها مما لا یحرز فیه المقتضی لکلا الحکمین ، بل قضیته لیس إلّا خروجه فیما کان الحکم الذی هو مفاد الآخر فعلّیاً ، وذلک لثبوت المقتضی فی کلّ واحد من الحکمین فیها ، فإذا لم یکن المقتضی لحرمة الغصب مؤثراً لها ، لاضطرار أو جهل أو نسیان ، کان المقتضی لصحة الصلاة مؤثراً لها فعلاً ، کما إذا لم یکن دلیل الحرمة أقوى ، أو لم یکن واحد من الدلیلین د إلّا على الفعلیة أصلاً.
فانقدح بذلک فساد الإِشکال فی صحة الصلاة فی صورة الجهل أو النسیان ونحوهما ، فیما إذا قدم خطاب ( لا تغصب ) کما هو الحال فیما إذا کان الخطابان من أول الأمر متعارضین ، ولم یکونا من باب الاجتماع أصلاً ؛ وذلک لثبوت المقتضی فی هذا الباب کما إذا لم یقع بینهما تعارض ، ولم یکونا متکلفین للحکم الفعلّی ، فیکون وزان التخصیص فی مورد الاجتماع وزان التخصیص العقلی الناشىء من جهة تقدیم أحد المقتضیین وتأثیره فعلاً المختص بما إذا لم یمنع عن
__________________
1 ـ هذا ردّ على الشیخ (1) ، مطارح الأنظار / 152. 
 
تأثیره مانع ، المقتضی لصحة مورد الاجتماع مع الأمر ، أو بدونه فیما کان هناک مانع عن تأثیر المقتضی للنهی له ، أو عن فعلیته ، کما مرّ تفصیله.
وکیف کان ، فلا بدّ فی ترجیح أحد الحکمین من مرجح ، وقد ذکروا لترجیح النهی وجوها :
منها : إنّه أقوى دلالة ، لاستلزامه انتفاء جمیع الأفراد ، بخلاف الأمر.
وقد أُورد علیه بأن ذلک فیه من جهة إطلاق متعلقه بقرینة الحکمة ، کدلالة الأمر على الاجتزاء بأی فرد کان.
وقد أورد علیه بإنّه لو کان العموم المستفاد من النهی بالإِطلاق بمقدمات الحکمة ، وغیر مستند إلى دلالته علیه بالالتزام ، لکان استعمال مثل ( لا تغصب ) فی بعضٍ أفراد الغصب حقیقة ، وهذا واضح الفساد ، فتکون دلالته على العموم من جهة أن وقوع الطبیعة فی حیز النفی أو النهی ، یقتضی عقلاً سریان الحکم إلى جمیع الأفراد ، ضرورة عدم الانتهاء عنها أو انتفائها ، إلّا بالانتهاء عن الجمیع أو انتفائه.
قلت : دلالتها على العموم والاستیعاب ظاهراً مما لا ینکر ، لکنه من الواضح أن العموم المستفاد منهما کذلک ، إنّما هو بحسب ما یراد من متعلقهما ، فیختلف سعة وضیقاً ، فلا یکاد یدلّ على استیعاب جمیع الأفراد ، إلّا إذا أُرید منه الطبیعة مطلقة وبلا قید ، ولا یکاد یستظهر ذلک مع عدم دلالته (1) علیه بالخصوص ، إلّا بالإِطلاق وقرینة الحکمة ، بحیث لو لم یکن هناک قرینتها بأن یکون الإِطلاق فی غیر مقام البیان ، لم یکد یستفاد استیعاب أفراد الطبیعة ، وذلک لا ینافی دلالتهما على استیعاب أفراد ما یراد من المتعلق ، إذ الفرض عدم الدلالة على إنّه المقید أو المطلق.
__________________
1 ـ الظاهر أن أصل العبارة : عدم دلالة ، ( حقائق الأصول 1 / 412 ). 
 
اللهم إلّا أن یقال : إن فی دلالتهما على الاستیعاب کفایة ودلالة على أن المراد من المتعلق هو المطلق ، کما ربما یَّدعى ذلک فی مثل ( کلّ رجل ) ، وأنّ مثل لفظة ( کلّ ) تدلّ على استیعاب جمیع أفراد الرجل من غیر حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله وقرینة الحکمة ، بل یکفی إرادة ما هو معناه من الطبیعة المهملة ولا بشرط فی دلالته على الاستیعاب وأنّ کان لا یلزم مجاز أصلاً ، لو أُرید منه خاص بالقرینة ، لا فیه لدلالته على استیعاب أفراد ما یراد من المدخول ، ولا فیه إذا کان بنحو تعدَّد الدالّ والمدلول ، لعدم استعماله إلّا فیما وضع له ، والخصوصیة مستفادة من دالً آخر ، فتدبر.
ومنها : إنَّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.
وقد أورد علیه فی القوانین (1) ، بإنّه مطلقاً ممنوع ، لأن فی ترک الواجب أیضاً مفسدة إذا تعیّن.
ولا یخفى ما فیه ، فإن الواجب ولو کان معیناً ، لیس إلّا لأجل أنَّ فی فعله مصلحة یلزم استیفاؤها من دون أن یکون فی ترکه مفسدة ، کما أنَّ الحرام لیس إلّا لأجل المفسدة فی فعله بلا مصلحة فی ترکه.
ولکن یرد علیه أنَّ الأولویة مطلقاً ممنوعة ، بل ربما یکون العکس أولى ، کما یشهد به مقایسة فعل بعضٍ المحرمات مع ترک بعضٍ الواجبات ، خصوصا مثل الصلاة وما یتلو تلوها.
ولو سلّم فهو أجنبی عن المقام (2) ، فإنّه فیما إذا دار بین الواجب والحرام.
__________________
1 ـ قوانین الأصول 1 / 153 ، فی قانون اجتماع الأمر والنهی.
2 ـ فإن الترجیح به إنّما یناسب ترجیح المکلف واختیاره للفعل أو الترک ، بما هو أوفق بغرضه ، لا المقام وهو مقام جعل الأحکام ، فإن المرجح هناک لیس إلّا حسنها أو قبحها العقلیان ، لا موافقة الاغراض ومخالفتها ، کما لا یخفى ، تأمل تعرف ( منه 1 ). 
 
ولو سلّم فإنما یجدی فیما لو حصل به القطع.
ولو سلّم إنّه یجدی ولو لم یحصل ، فإنما یجری فیما لا یکون هناک مجال لأصالة البراءة أو الإِشتغال ، کما فی دوران الأمر بین الوجوب والحرمة التعیینیین ، لا فیما تجری ، کما فی محلّ الاجتماع ، لأصالة البراءة عن حرمته فیحکم بصحته ، ولو قیل بقاعدة الإِشتغال فی الشک فی الإِجزاء والشرائط فإنّه لا مانع عقلاً إلّا فعلیة الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلاً ونقلاً.
نعم لو قیل (1) بأن المفسدة الواقعیة الغالبة مؤثرة فی المبغوضیة ولو لم یکن الغلبة بمحرزة ، فأصالة البراءة غیر جاریة ، بل کانت أصالة الإِشتغال بالواجب لو کان عبادة محکمة ، ولو قیل بأصالة البراءة فی الإِجزاء والشرائط ، لعدم تأتی قصد القربة مع الشک فی المبغوضیة ، فتأمل.
ومنها : الاستقراء ، فإنّه یقتضی ترجیح جانب الحرمة على جانب الوجوب ، کحرمة الصلاة فی أیام الاستظهار ، وعدم جواز الوضوء من الإِناءین المشتبهین.
__________________
1 ـ کما هو غیر بعید کله بتقریب أن إحراز المفسدة والعلم بالحرمة الذاتیة کافٍ فی تأثیرها بما لها من المرتبة ، ولا یتوقف تأثیرها کذلک على إحرازها بمرتبتها ، ولذا کان العلم بمجرد حرمة شیء موجباً لتنجز حرمته ، على ما هی علیه من المرتبة ولو کانت فی أقوى مراتبها ، ولاستحقاق العقوبة الشدیدة على مخالفتها حسب شدتها ، کما لا یخفى. هذا ، لکنه إنّما یکون إذا لم یحرز أیضاً ما یحتمل أن یزاحمها ویمنع عن تأثیرها المبغوضیة ، وأما معه فیکون الفعل کما إذا لم یحرز إنّه ذو مصلحة أو مفسدة مما لا یستقل العقل بحسنه أو قبحه ، وحینئذ یمکن أن یقال بصحته عبادة لو أتى به بداعی الأمر المتعلق بما یصدق علیه من الطبیعة ، بناءً على عدم اعتبارٍ أزید من إتیان العمل قربیّاً فی العبادة ، وامتثالاً للأمر بالطبیعة ، وعدم اعتبارٍ کونه ذاتاً راجحاً ، کیف ویمکن أن لا یکون جل العبادات ذاتاً راجحاً ، بل إنّما یکون کذلک فیما إذا أتى بها على نحو قربی ، نعم المعتبر فی صحته عبادة ، إنّما هو أن لا یقع منه مبغوضاً علیه ، کما لا یخفى ، وقولنا : ( فتأمل ) إشارة إلى ذلک منه (1). 
 
وفیه : إنّه لا دلیل على اعتبارٍ الاستقراء ، ما لم یفد القطع.
ولو سلّم فهو لا یکاد یثبت بهذا المقدار.
ولو سلّم فلیس حرمة الصلاة فی تلک الأیام ، ولا عدم جواز الوضوء منهما مربوطاً بالمقام ، لأن حرمة الصلاة فیها إنّما تکون لقاعدة الإِمکان والاستصحاب المثبتین لکون الدم حیضاً ، فیحکم بجمیع أحکامه ، ومنها حرمة الصلاة علیها لا لأجل تغلیب جانب الحرمة کما هو الُمدَّعى ، هذا لو قیل بحرمتها الذاتیة فی أیام الحیض ، وإلاّ فهو خارج عن محلّ الکلام.
ومن هنا انقدح إنّه لیس منه ترک الوضوء من الإِناءین ، فإن حرمة الوضوء من الماء النجس لیس إلّا تشریعیا ، ولا تشریع فیما لو توضّأ منهما احتیاطاً ، فلا حرمة فی البین غلب جانبها ، فعدم جواز الوضوء منهما ولو کذلک ، بل إراقتهما کما فی النص (1) ، لیس إلّا من باب التعبد ، أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحکم الاستصحاب ، للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضئ من الاناء الثانیة ، امّا بملاقاتها ، أو بملاقاة الأولى ، وعدم استعمال مطهر بعده ، ولو طهر بالثانیة مواضع الملاقاة بالأولى.
نعم لو طهرت على تقدیر نجاستها بمجرد ملاقاتها ، بلا حاجة إلى التعدد وانفصال الغسالة لا یعلم تفصیلا بنجاستها ، وأنّ علم بنجاستها حین ملاقاة الأولى أو الثانیة إجمالاً ، فلا مجال لاستصحابها بل کانت قاعدة الطهارة محکمة.
الأمر الثالث : الظاهر لحوق تعدَّد الإِضافات ، بتعدد العنوانات والجهات ، فی إنّه لو کان تعدَّد الجهة والعنوان کافیاً مع وحدة المعنون وجوداً ، فی جواز الاجتماع ، کان تعدَّد الإِضافات مجدیاً ، ضرورة إنّه یوجب أیضاً
__________________
1 ـ التهذیب 1 / الباب 11 ، باب تطهیر المیاه من النجاسات ، الحدیث 43 ـ 44 ..  

 
اختلاف المضاف بها بحسب المصلحة والمفسدة والحسن والقبح عقلاً ، وبحسب الوجوب والحرمة شرعاً ، فیکون مثل ( أَکرم العلماء ) و ( لا تکرم الفساق ) من باب الاجتماع ک ( صلّ ) و ( لا تغصب ) لا من باب التعارض ، إلّا إذا لم یکن للحکم فی أحد الخطابین فی مورد الاجتماع مقتض ، کما هو الحال أیضاً فی تعدَّد العنوانین ، فما یتراءى منهم من المعاملة مع مثل ( أَکرم العلماء ) و ( لا تکرم الفساق ) معاملة تعارض العموم من وجه ، إنّما یکون بناءً على الامتناع ، أو عدم المقتضی لاحد الحکمین فی مورد الاجتماع.
فصل
فی أن النهی عن الشیء ، هل یقتضی فساده أم لا؟
ولیقدم أمور :
الأول : إنّه قد عرفت فی المسألة السابقة الفرق بینها وبین هذه المسألة ، وإنّه لا دخل للجهة المبحوث عنها فی إحداهما ، بما هو جهة البحث فی الأخرى ، وأنّ البحث فی هذه المسألة فی دلالة النهی بوجه یأتی تفصیله على الفساد بخلاف تلک المسألة ، فإن البحث فیها فی أن تعدَّد الجهة یجدی فی رفع غائلة اجتماع الأمر والنهی فی مورد الاجتماع أم لا؟
الثانی : إنّه لا یخفى أن عد هذه المسألة من مباحث الألفاظ ، إنّما هو لأجل إنّه فی الأقوال قول بدلالته على الفاسد فی المعاملات ، مع إنکار الملازمة بینه وبین الحرمة التی هی مفاده فیها ، ولا ینافی ذلک أن الملازمة على تقدیر ثبوتها فی العبادة إنّما تکون بینه وبین الحرمة ولو لم تکن مدلولة بالصیغة ، وعلى تقدیر عدمها تکون منتفیة بینهما ، لإمکان أن یکون البحث معه فی دلالة الصیغة ، بما تعم دلالتها بالالتزام ، فلا تقاس بتلک المسألة التی لا یکاد یکون لدلالة اللفظ بها مساس ، فتأمل جیداً. 
 
الثالث : ظاهر لفظ النهی وأنّ کان هو النهی التحریمی ، إلّا أن ملاک البحث یعم التنزیهی ، ومعه لا وجه لتخصیص العنوان (1) ، واختصاص عموم ملاکه بالعبادات لا یوجب التخصیص به ، کما لا یخفى.
کما لا وجه لتخصیصه بالنفسی ، فیعم الغیری إذا کان أصلیا ، وأما إذا کان تبعیا ، فهو وأنّ کان خارجاً عن محلّ البحث ، لما عرفت إنّه فی دلالة النهی والتبعی منه من مقولة المعنى ، إلّا إنّه داخل فیما هو ملاکه ، فإن دلالته على الفساد على القول به فیما لم یکن للإِرشاد إلیه ، إنّما یکون لدلالته على الحرمة ، من غیر دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته فی ذلک ، کما توهمه القمی (2) 1 ویؤیّد ذلک إنّه جعل ثمرة النزاع فی أن الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه ، فساده إذا کان عبادة ، فتدبرّ جیداً.
الرابع : ما یتعلق به النهی ، امّا أن یکون عبادة أو غیرها ، والمراد بالعبادة ـ هاهنا ـ ما یکون بنفسه وبعنوإنّه عبادة له تعالى ، موجباً بذاته للتقرب من حضرته لولا حرمته ، کالسجود والخضوع والخشوع له وتسبیحه وتقدیسه ، أو ما لو تعلق الأمر به کان أمره أمراً عبادیاً ، لا یکاد یسقط إلّا إذا أُتى به بنحو قربى ، کسائر أمثاله ، نحو صوم العیدین والصلاة فی أیام العادة ، لا ما أمر به
__________________
1 ـ ذهب إلیه الشیخ ( قده ) ، مطارح الأنظار / 157.
2 ـ قوانین الأصول 1 / 102. فی المقدمة السادسة.
هو ابو القاسم ابن المولى محمد حسن الجیلانی المعروف بالمیرزا القمی. تولد سنة 1151 فی جابلق ، فرغ من تشیید مقدمات الکمال فی قم ، ثم انتقل إلى خونسار فاشتغل على المحقق الامیر سید حسین ثم توجه إلى العتبات العالیات ، تتلمذ عند العلامة المروج فاجاز له فی الروایة والاجتهاد ، له مؤلفات کثیرة منها « القوانین » و « الغنائم » و « المناهج ». توفی سنة 1231 ( روضات الجنات 5 / 369 رقم 547 ). 
 
لاجل التعبد به (1) ، ولا ما یتوقف صحته على النیة (2) ، ولا ما لا یعلم انحصار المصلحة فیها فی شیء (3) ، کما عرفّ بکل منها العبادة ، ضرورة إنّها بواحد منها ، لا یکاد یمکن أن یتعلق بها النهی ، مع ما أورد علیها بالانتقاض طرداً أو عکساً ، أو بغیره ، کما یظهر من مراجعة المطّولات (4) ، وأنّ کان الإِشکال بذلک فیها فی غیر محله ، لأجل کون مثلها من التعریفات ، لیس بحد ولا برسم ، بل من قبیل شرح الاسم ، کما نبهنا علیه غیر مرة ، فلا وجه لإِطالة الکلام بالنقض والإِبرام فی تعریف العبادة ، ولا فی تعریف غیرها کما هو العادة.
الخامس : إنّه لا یدخل فی عنوان النزاع إلّا ما کان قابلاً للاتصاف بالصحة والفساد ، بأن یکون تارةً تاماً یترتب علیه ما یترقب عنه من الأثر ، وأخرى لا کذلک ، لاختلال بعضٍ ما یعتبر فی ترتبه ، امّا ما لا أثر له شرعاً ، أو کان أثره مما لا یکاد ینفک عنه ، کبعض أسباب الضمان ، فلا یدخل فی عنوان النزاع ، لعدم طروء الفساد علیه کی ینازع فی أن النهی عنه یقتضیه أو لا ، فالمراد بالشیء فی العنوان هو العبادة بالمعنى الذی تقدم ، والمعاملة بالمعنى الأعم ، مما یتصف بالصحة والفساد ، عقداً کان أو إیقاعاً أو غیرهما ، فافهم.
السادس : إن الصحة والفساد وصفان إضافیان یختلفان بحسب الآثار والانظار ، فربما یکون شیء واحد صحیحاً بحسب أثر أو نظر ، وفاسداً بحسب آخر ، ومن هنا صحّ أن یقال : إن الصحة فی العبادة والمعاملة لا تختلف ، بل فیهما بمعنى واحد وهو التمامیة ، وإنما الاختلاف فیما هو المرغوب منهما من الآثار
__________________
1 ـ اختاره الشیخ ( قده ) مطارح الأنظار / 158 ، فی الأمر الثالث.
2 ـ مال إلیه المحقق القمی ، قوانین الأصول 1 / 154 ، فی المقدمة الأولى.
3 ـ یزین الرب تلمحقق القمی أیضاً ، المصدر السابق.
4 ـ راجع مطارح الأنظار 158 ، والفصول / 139. 
 
التی بالقیاس علیها تتصف بالتمامیة وعدمها ، وهکذا الاختلاف بین الفقیه والمتکلم فی صحة العبادة ، إنّما یکون لأجل الاختلاف فیما هو المهمّ لکلّ منهما من الأثر ، بعد الاتفاق ظاهراً على إنّها بمعنى التمامیة ، کما هی معناها لغةً وعرفاً. فلما کان غرض الفقیه ، هو وجوب القضاء ، أو الإِعادة ، أو عدم الوجوب ، فسّر صحة العبادة بسقوطهما ، وکان غرض المتکلم هو حصول الامتثال الموجب عقلاً لاستحقاق المثوبة ، فسرها بما یوافق الأمر تارةً ، وبما یوافق الشریعة أُخرى.
وحیث إِنّ الأمر فی الشریعة یکون على أقسام : من الواقعی الأولى ، والثانوی ؛ والظاهری ، والانظار تختلف فی أن الأخیرین یفیدان الإِجزاء أو لا یفیدان ، کان الإِتیان بعبادة موافقة الأمر ومخالفة لآخر ، أو مسقطاً للقضاء والإِعادة بنظر ، وغیر مسقط لهما بنظر آخر ، فالعبادة الموافقة للأمر الظاهری ، تکون صحیحة عند المتکلم والفقیه ، بناءً على أن الأمر فی تفسیر الصحة بموافقة الأمر أعم من الظاهری ، مع اقتضائه للإِجزاء ، وعدم اتصافها بها عند الفقیه بموافقته ، بناءً على عدم الإِجزاء ، وکونه مراعى بموافقة الأمر الواقعی [ و ] (1) عند المتکلم ، بناءً على کون الأمر فی تفسیرها خصوص الواقعی.
تنبیه : وهو إنّه لا شبهة فی أن الصحة والفساد عند المتکلم ، وصفان اعتباریان ینتزعان من مطابقة المأتیّ به مع المأمور به وعدمها ، وأما الصحة بمعنى سقوط القضاء والإِعادة عند الفقیه ، فهی من لوازم الإِتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی الأولی عقلاً ، حیث لا یکاد یعقل ثبوت الإِعادة أو القضاء معه جزماً ، فالصحة بهذا المعنى فیه ، وأنّ کان لیس بحکم وضعی مجعول بنفسه أو بتبع تکلیف ، إلّا إنّه لیس بأمر اعتباری ینتزع کما توهّم (2) ، بل مما یستقل به
__________________
1 ـ اثبتنا الزیادة من طبعة المشکینی.
2 ـ انظر مطارح الأنظار / 160 ، فی تذنیب الهدایة الأولى من القول فی اقتضاء النهی للفساد. 
 
العقل ، کما یستقل باستحقاق المثوبة به وفی غیره ، فالسقوط ربما یکون مجعولاً ، وکان الحکم به تخفیفاً ومنةً على العباد ، مع ثبوت المقتضی لثبوتهما ، کما عرفت فی مسألة الإِجزاء ، کما ربما یحکم بثبوتهما ، فیکون الصحة والفساد فیه حکمین مجعولین لا وصفین انتزاعیین.
نعم ، الصحة والفساد فی الموارد الخاصة ، لا یکاد یکونان مجعولین ، بل إنّما هی تتصف بهما بمجرد الانطباق على ما هو المأمور به ، هذا فی العبادات.
وأما الصحة فی المعاملات ، فهی تکون مجعولة ، حیث کان ترتب الأثر على معاملة إنّما هو بجعل الشارع وترتیبه علیها ولو إمضاءً ، ضرورة إنّه لولا جعله ، لما کان یترتب علیه ، لأصالة الفساد.
نعم صحة کلّ معاملة شخصیة وفسادها ، لیس إلّا لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سبباً وعدمه ، کما هو الحال فی التکلیفیة من الأحکام ، ضرورة أن اتصاف المأتیّ به بالوجوب أو الحرمة أو غیرهما ، لیس إلّا لانطباقه مع ما هو الواجب أو الحرام.
السابع : لا یخفى إنّه لا أصل فی المسألة یعوّل علیه ، لو شک فی دلالة النهی على الفساد. نعم ، کان الأصل فی المسألة الفرعیة الفساد ، لو لم یکن هناک إطلاق أو عموم یقتضی الصحة فی المعاملة.
وأما العبادة فکذلک ، لعدم الأمر بها مع النهی عنها ، کما لا یخفى.
الثامن : إن متعلق النهی امّا أن یکون نفس العبادة ، أو جزأها ، أو شرطها الخارج عنها ، أو وصفها الملازم لها کالجهر والإِخفات (1) للقراءة ، أو وصفها الغیر الملازم کالغصبیة لاکوان الصلاة المنفکة عنها.
__________________
1 ـ فإن کلّ واحد منهما لا یکاد ینفک عن القراءة ، وأنّ کانت هی تنفکّ عن أحدهما ، فالنهی عن أیهما یکون مساوقاً للنهی عنها ، کما لا یخفى. ( منه 1 ). 
 
لا ریب فی دخول القسم الأوّل فی محلّ النزاع ، وکذا القسم الثّانی بلحاظ أن جزء العبادة عبادة ، إلّا أن بطلان الجزء لا یوجب بطلإنّها ، إلّا مع الاقتصار علیه ، لا مع الإِتیان بغیره مما لا نهی عنه ، إلّا أن یستلزم محذوراً آخر.
وأما القسم الثالث ، فلا یکون حرمة الشرط والنهی عنه موجباً لفساد العبادة ، إلّا فیما کان عبادة ، کی تکون حرمته موجبة لفساده المستلزم لفساد المشروط به.
وبالجملة لا یکاد یکون النهی عن الشرط موجباً لفساد العبادة المشروطة به ، لو لم یکن موجباً لفساده ، کما إذا کانت عبادة.
وأما القسم الرابع ، فالنهی عن الوصف اللازم مساوق للنهی عن موصوفه ، فیکون النهی عن الجهر فی القراءة مثلاً مساوقاً للنهی عنها ، لاستحالة کون القراءة التی یجهر بها مأموراً بها ، مع کون الجهر بها منهیاً عنه (1) فعلاً ، کما لا یخفى.
وهذا بخلاف ما إذا کان مفارقاً ، کما فی القسم الخامس ، فإن النهی عنه لا یسری إلى الموصوف ، إلّا فیما إذا اتحد معه وجوداً ، بناءً على امتناع الاجتماع ، وأما بناءً على الجواز فلا یسری إلیه ، کما عرفت فی المسألة السابقة. هذا حال النهی المتعلق بالجزء أو الشرط أو الوصف.
وأما النهی عن العبادة لأجل أحد هذه الأُمور ، فحاله حال النهی عن أحدها إن کان من قبیل الوصف بحال المتعلق. وبعبارة أُخرى : کان النهی عنها بالعرض ، وأنّ کان النهی عنها على نحو الحقیقة ، والوصف بحاله ، وأنّ کان بواسطة أحدها ، إلّا إنّه من قبیل الواسطة فی الثبوت لا العروض ، کان حاله حال النهی فی القسم الأوّل ، فلا تغفل.
__________________
1 ـ فی « ب » : عنها. 
 
 
ومما ذکرنا فی بیان أقسام النهی فی العبادة ، یظهر حال الأقسام فی المعاملة ، فلا یکون بیإنّها على حدة بمهم ، کما أن تفصیل الأقوال فی الدلالة على الفساد وعدمها ، التی ربما تزید على العشرة ـ على ما قیل (1) ـ کذلک ، إنّما المهمّ بیان ما هو الحق فی المسألة ، ولا بدّ فی تحقیقه على نحو یظهر الحال فی الأقوال ، من بسط المقال فی مقامین :
الأول فی العبادات : فنقول وعلى الله الاتکال : إن النهی المتعلق بالعبادة بنفسها ، ولو کانت جزء عبادة بما هو عبادة ـ کما عرفت ـ مقتض (2) لفسادها ، لدلالته على حرمتها ذاتاً ، ولا یکاد یمکن اجتماع الصحة بمعنى موافقة الأمر أو الشریعة مع الحرمة ، وکذا بمعنى سقوط الإِعادة ، فإنّه مترتب على إتیإنّها بقصد القربة ، وکانت مما یصلح لأن یتقرب به (3) ، ومع الحرمة لا تکاد تصلح لذلک ، ویتأتى قصدها من الملتفت إلى حرمتها ، کما لا یخفى.
لا یقال : هذا لو کان النهی عنها د إلّا على الحرمة الذاتیة ، ولا یکاد یتصف بها العبادة ، لعدم الحرمة بدون قصد القربة ، وعدم القدرة علیها مع قصد القربة بها إلّا تشریعاً ، ومعه تکون محرمة بالحرمة التشریعیة لا محالة ، ومعه لا تتصف بحرمة أُخرى ، لامتناع اجتماع المثلین کالضدین.
فإنّه یقال : لا ضیر فی اتصاف ما یقع عبادة ـ لو کان مأموراً به ـ بالحرمة الذاتیة ، مثلاً صوم العیدین کان عبادة منهیاً عنها ، بمعنى إنّه لو أمر به کان عبادة ، لا یسقط الأمر به إلّا إذا أتى به بقصد القربة ، کصوم سائر الأیام ، هذا فیما إذا لم یکن ذاتاً عبادة ، کالسجود لله تعالى ونحوه ، وإلاّ کان محرماً مع
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 162 ، فی الهدایة الثانیة من القول فی اقتضاء النهی للفساد.
2 ـ فی « أ و ب » : مقتضى.
3 ـ هکذا فی « أ و ب » : وفی بعضٍ النسخ المطبوعة « بها ». 
 
کونه فعلاً عبادة ، مثلاً إذا نهی الجنب والحائض عن السجود له تبارک وتعالى ، کان عبادة محرمة ذاتاً حینئذ ، لما فیه من المفسدة والمبغوضیة فی هذا الحال ، مع إنّه لا ضیر فی اتصافه بهذه الحرمة مع الحرمة التشریعیة ، بناءً على أن الفعل فیها لا یکون فی الحقیقة متصفاً بالحرمة ، بل إنّما یکون المتصف بها ما هو من أفعال القلب ، کما هو الحال فی التجری والانقیاد ، فافهم.
هذا مع إنّه لو لم یکن النهی فیها د إلّا على الحرمة ، لکان د إلّا على الفساد ، لدلالته على الحرمة التشریعیة ، فإنّه لا أقل من دلالته على إنّها لیست بمأمور بها ، وأنّ عمها إطلاق دلیل الأمر بها أو عمومه ، نعم لو لم یکن النهی عنها إلّا عرضاً ، کما إذا نهى عنها فیما کانت ضد الواجب مثلاً ، لا یکون مقتضیاً للفساد ، بناءً على عدم اقتضاء الأمر (1) بالشیء للنهی عن الضد إلّا کذلک أیّ عرضاً ، فیخصص به أو یقید.
المقام الثّانی فی المعاملات : ونخبة القول ، أن النهی الدالّ على حرمتها لا یقتضی الفساد ، لعدم الملازمة فیها ـ لغةً ولا عرفاً ـ بین حرمتها وفسادها أصلاً ، کانت الحرمة متعلقة بنفس المعاملة بما هو فعل بالمباشرة ، أو بمضمونها بما هو فعل بالتسبب بها إلیه ، وأنّ لم یکن السبب ولا المسبب بما هو فعل من الأفعال بحرام ، وإنما یقتضی الفساد فیما إذا کان د إلّا على حرمة ما لا یکاد یحرم مع صحتها ، مثل النهی عن أکل الثمن أو المثمن فی بیع أو بیع شئ.
نعم لا یبعد دعوى ظهور النهی عن المعاملة فی الإِرشاد إلى فسادها ، کما أن الأمر بها یکون ظاهراً فی الإِرشاد إلى صحتها من دون دلالته على إیجابها أو استحبابها ، کما لا یخفى ، لکنه فی المعاملات بمعنى العقود والإِیقاعات ، لا المعاملات بالمعنى الأعم المقابل للعبادات ، فالمعول هو ملاحظة القرائن فی
__________________
1 ـ فی « ب » عدم الاقتضاء للأمر بالشیء .. الخ. 
 
خصوص المقامات ، ومع عدمها لا محیص عن الأخذ بما هو قضیة صیغة النهی من الحرمة ، وقد عرفت إنّها غیر مستتبعة للفساد ، لا لغةً ولا عرفاً.
نعم ربما یتوهم استتباعها له شرعاً ، من جهة دلالة غیر واحد من الأخبار علیه ، منها ما رواه فی الکافی والفقیه ، عن زرارة ، عن الباقر 7 (1) : ( سأله عن مملوک تزوج بغیر إذن سیده ، فقال : ذلک إلى سیده ، إن شاء أجازه وأنّ شاء فرق بینهما ، قلت : أصلحک الله تعالى ، إن الحکم بن عتیبة (2) وإبراهیم النخعی وأصحابهما ، یقولون : إن أصل النکاح فاسد ، ولا یحل إجازة السید له ، فقال أبو جعفر 7 : إنّه لم یعص الله ، إنّما عصى سیده ، فإذا أجاز فهو له جائز ) حیث دلّ بظاهره ان النکاح لو کان مما حرمه الله تعالى علیه کان فاسداً. ولا یخفى أنّ الظاهر أن یکون المراد بالمعصیة المنفیة هاهنا ، أن النکاح لیس مما لم یمضه الله ولم یشرعه کی یقع فاسداً ، ومن المعلوم استتباع المعصیة بهذا المعنى للفساد کما لا یخفى ، ولا بأس بإطلاق المعصیة على عمل لم یمضه الله ولم یأذن به ، کما أطلق علیه (3) بمجرد عدم إذن السید فیه إنّه معصیة.
وبالجملة : لو لم یکن ظاهراً فی ذلک ، لما کان ظاهراً فیما توهّم ، وهکذا
__________________
1 ـ الکافی / 478 ، الحدیث 3 ، باب المملوک یتزوّج بغیر إذن مولاه ، الفقیه 3 / 350 الحدیث 4 باب طلاق العبد ـ التهذیب 7 / 351 الحدیث 63 فی العقود على الإماء.
2 ـ فی « أ و ب » : حکم بن عتبة.
3 ـ وجه ذلک أن العبودیة تقتضی عدم صدور العبد إلّا عن أمر سیده وإذنه ، حیث إنّه کلّ علیه لا یقدّر على شیء ، فإذا استقل بأمر کان عاصیاً حیث أتى بما ینافیه مقام عبودیته ، لا سیما مثل التزوج الذی کان خطیراً ، وأما وجه إنّه لم یعص الله فیه ، فلاجل کون التزوج بالنسبة إلیه أیضاً کان مشروعاً ماضیاً ، غایته إنّه یعتبر فی تحققه إذن سیده ورضاه ، ولیس کالنکاح فی العدة غیر مشروع من أصله ، فإذا أجاز ما صدر عنه بدون إذنه فقد وجد شرط نفوذه وارتفع محذور عصیإنّه ، فعصیإنّه لسیده. ( منه 1 ).  

 
حال سائر الأخبار الواردة فی هذا الباب (1) ، فراجع وتأمل.
تذنیب : حکی عن أبی حنیفة (2) والشیبانی (3) دلالة النهی على الصحة ، وعن الفخر (4) إنّه وافقهما فی ذلک ، والتحقیق (5) إنّه فی المعاملات کذلک إذا کان عن المسبب أو التسبیب ، لاعتبار القدرة فی متعلق النهی کالأمر ، ولا یکاد یقدّر علیهما إلّا فیما کانت المعاملة مؤثرة صحیحة ، وأما إذا کان عن السبب ، فلا ، لکونه مقدوراً وأنّ لم یکن صحیحاً ، نعم قد عرفت أن النهی عنه لا ینافیها.
وأما العبادات فما کان منها عبادة ذاتیة کالسجود والرکوع والخشوع والخضوع له تبارک وتعالى ، فمع النهی عنه یکون مقدوراً ، کما إذا کان مأموراً به ، وما کان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فیه لو کان مأموراً به ، فلا یکاد یقدّر علیه إلّا إذا قیل باجتماع الأمر والنهی فی شیء ولو بعنوان واحد ، وهو محال ، وقد عرفت أن النهی فی هذا القسم إنّما یکون نهیاً عن العبادة ، بمعنى إنّه لو کان مأموراً به ، کان الأمر به أمر عبادة لا یسقط إلّا بقصد القربة ، فافهم.
__________________
1 ـ راجع وسائل الشیعة 14 ، الباب 23 إلى 25 من أبواب نکاح العبید والإِماء.
2 و 3 ـ شرح تنقیح الفصول ، 173.
4 ـ أیّ فخر المحققین (ره) نجل العلامة الحلّی (ره). مطارح الانظارءِ 16.
5 ـ ملخصه أن الکبرى وهی : ان النهی ـ حقیقة ـ إذا تعلق بشیء ذی أثر کان د إلّا على صحته وترتب أثره علیه ، لاعتبار القدرة فیما تعلق به النهی کذلک وأنّ کانت مسلمة ، إلّا أن النهی کذلک لا یکاد یتعلق بالعبادات ، ضرورة امتناع تعلق النهی کذلک بما تعلق به الأمر کذلک ، وتعلقه بالعبادات بالمعنى الأوّل وأنّ کان ممکناً ، إلّا أن أثر المرغوب منها عقلاً أو شرعاً غیر مترتب علیها مطلقاً ، بل على خصوص ما لیس بحرام منها وهکذا الحال فی المعاملات ، فإن کان الأثر فی معاملة مترتباً علیها ولازماً لوجودها کان النهی عنها د إلّا على ترتبه علیها ، لما عرفت. ( منه 1 ).
 
 
 
 

 
 
 
المقصد الثالث : فی المفاهیم
مقدمة
وهی : إن المفهوم ـ کما یظهر من موارد إطلاقه ـ هو عبارة عن حکم إنشائی أو إخباری تستتبعه خصوصیة المعنى الذی أُرید من اللفظ ، بتلک الخصوصیة ولو بقرینة الحکمة ، وکان یلزمه لذلک ، وافقه فی الإِیجاب والسلب أو خالفه ، فمفهوم ( إن جاءک زید فأکرمه ) مثلاً ـ لو قیل به ـ قضیة شرطیة سالبة بشرطها وجزائها ، لازمة للقضیة الشرطیّة التی تکون معنى القضیة اللفظیة ، وتکون لها خصوصیة ، بتلک الخصوصیة کانت مستلزمة لها ، فصحّ أن یقال : إن المفهوم إنّما هو حکم غیر مذکور ، لا إنّه حکم لغیر مذکور ، کما فسّر (1) به ، وقد وقع فیه النقض والإِبرام بین الأعلام (2) ، مع إنّه لا موقع له کما أشرنا إلیه فی غیر مقام ، لإنّه من قبیل شرح الاسم ، کما فی التفسیر اللغوی.
ومنه قد انقدح حال غیر هذا التفسیر مما ذکر فی المقام ، فلا یهمنا التصدی لذلک ، کما لا یهمنا بیان إنّه من صفات المدلول أو الدلالة وأنّ کان بصفات
__________________
1 ـ کما عن العضدی ، راجع شرح العضدی على مختصر المنتهى لابن الحاجب / 306 ، فی المنطوق والمفهوم.
2 ـ راجع تقریرات الشیخ مطارح الأنظار / 167 والفصول / 145 والقوانین 1 / 167.  
 
المدلول أشبه ، وتوصیف الدلالة [ به ] (1) أحیاناً کان من باب التوصیف بحال المتعلق.
وقد انقدح من ذلک أن النزاع فی ثبوت المفهوم وعدمه فی الحقیقة ، إنّما یکون فی أن القضیة الشرطیّة أو الوصفیة أو غیرهما هل تدلّ بالوضع أو بالقرینة العامة على تلک الخصوصیة المستتبعة لتلک القضیة الأخرى ، أم لا؟
فصل
الجملة الشرطیّة هل تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء ، کما تدلّ على الثبوت عند الثبوت بلا کلام ، أم لا؟ فیه خلاف بین الأعلام.
لا شبهة فی استعمالها وإرادة الانتفاء عند الانتفاء فی غیر مقام ، إنّما الإِشکال والخلاف فی إنّه بالوضع أو بقرینة عامة ، بحیث لا بد من الحمل علیه لو لم یقم على خلافه قرینة من حال أو مقال. فلا بدّ للقائل بالدلالة من إقامة الدلیل على الدلالة ، بأحد الوجهین على تلک الخصوصیة المستتبعة لترتب الجزاء على الشرط ، نحو ترتب المعلول على علته المنحصرة.
وأما القائل بعدم الدلالة ففی فسحة ، فإن له منع دلالتها على اللزوم ، بل على مجرد الثبوت عند الثبوت ولو من باب الاتفاق ، أو منع دلالتها على الترتب ، أو على نحو الترتب على العلة ، أو العلة المنحصرة بعد تسلیم اللزوم أو العلیة.
لکن منع دلالتها على اللزوم ، ودعوى کونها اتفاقیة ، فی غایة السقوط ، لانسباق اللزوم منها قطعاً ، وأما المنع عن إنّه بنحو الترتب على العلة فضلاً عن کونها منحصرة ، فله مجال واسع.
ودعوى تبادر اللزوم والترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة ـ مع کثرة
__________________
1 ـ أثبتناه من « أ ». 
 
استعمالها فی الترتب على نحو الترتب على الغیر المنحصرة منها بل فی مطلق اللزوم ـ بعیدة ، عهدتها على مدعیها ، کیف؟ ولایرى فی استعمالها فیهما (1) عنایة ، ورعایة علاقة ، بل إنّما تکون إرادته کإرادة الترتب على العلة المنحصرة بلا عنایة ، کما یظهر على من أمعن النظر وأجال البصر (2) فی موارد الاستعمالات ، وفی عدم الإِلزام والأخذ بالمفهوم فی مقام المخاصمات والاحتجاجات ، وصحة الجواب بإنّه لم یکن لکلامه مفهوم ، وعدم صحته لو کان له ظهور فیه معلوم.
وأما دعوى الدلالة ، بادعاء انصراف إطلاق العلاقة اللزومیة إلى ما هو أکمل افرادها ، وهو اللزوم بین العلة المنحصرة ومعلولها ، ففاسدة جداً ، لعدم کون الأکملیة موجبة للانصراف إلى الاکمل ، لاسیما مع کثرة الاستعمال فی غیره ، کما لا یکاد یخفى.
هذا مضافاً إلى منع کون اللزوم بینهما أکمل مما إذا لم تکن العلة بمنحصرة ، فإن الانحصار لا یوجب أن یکون ذاک الربط الخاص الذی لا بدّ منه فی تأثیر العلة فی معلولها آکد وأقوى.
إن قلت : نعم ، ولکنه قضیة الإِطلاق بمقدمات الحکمة ، کما أن قضیة إطلاق صیغة الأمر هو الوجوب النفسی.
قلت : أولاً : هذا فیما تمت هناک مقدمات الحکمة ، ولا تکاد تتم فیما هو مفاد الحرف کما هاهنا ، وإلاّ لما کان معنى حرفیاً ، کما یظهر وجهه بالتأمل.
وثانیاً : تعینه من بین أنحائه بالإِطلاق المسوق فی مقام البیان بلا معیّن ، ومقایسته مع تعیّن الوجوب النفسی بإطلاق صیغة الأمر مع الفارق ، فإن النفسی هو الواجب على کلّ حال بخلاف الغیری ، فإنّه واجب على تقدیر دون
__________________
1 ـ فی « ب » : فیها.
2 ـ فی « ب » : البصیرة. 
 
تقدیر ، فیحتاج بیإنّه إلى مؤونة التقیید بما إذا وجب الغیر ، فیکون الإِطلاق فی الصیغة مع مقدمات الحکمة محمولاً علیه ، وهذا بخلاف اللزوم والترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة ، ضرورة أن کلّ واحد من أنحاء اللزوم والترتب ، محتاج فی تعینه إلى القرینة مثل الآخر ، بلا تفاوت أصلاً ، کما لا یخفى.
ثم إنّه ربما یتمسک للدلالة على المفهوم بإطلاق الشرط ، بتقریب إنّه لو لم یکن بمنحصر یلزم تقییده ، ضرورة إنّه لو قارنه أو سبقه الآخر لما أثر وحده ، وقضیة إطلاقه إنّه یؤثر کذلک مطلقاً.
وفیه إنّه لا تکاد تنکر الدلالة على المفهوم مع إطلاقه کذلک ، إلّا إنّه من المعلوم ندرة تحققه ، لو لم نقل بعدم اتفاقه.
فتلخص بما ذکرناه ، إنّه لم ینهض دلیل على وضع مثل ( إن ) على تلک الخصوصیة المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء ، ولم تقم علیها قرینة عامة ، امّا قیامها أحیاناً کانت مقدمات الحکمة أو غیرها ، مما لا یکاد ینکر ، فلا یجدی القائل بالمفهوم ، إنّه قضیة (1) الإِطلاق فی مقام من باب الاتفاق.
وأما توهّم إنّه قضیة (2) إطلاق الشرط ، بتقریب أن مقتضاه تعینه ، کما أن مقتضى إطلاق الأمر تعیّن الوجوب.
ففیه : أن التعین لیس فی الشرط نحواً یغایر نحوه فیما إذا کان متعدداً ، کما کان فی الوجوب کذلک ، وکان الوجوب فی کلّ منهما متعلقاً بالواجب بنحو آخر ، لابد فی التخییری منهما من العدل ، وهذا بخلاف الشرط فإنّه واحداً کان أو متعدداً ، کان نحوه واحداً ودخله فی المشروط بنحو واحد ، لا تتفاوت الحال فیه ثبوتاً کی تتفاوت عند الإِطلاق إثباتاً ، وکان الإِطلاق مثبتا لنحو لا یکون له عدل لاحتیاج ما له العدل إلى زیادة مؤونة ، وهو ذکره بمثل ( أو کذا )
__________________
1 و 2 ـ فی « ب » : قضیته. 
 
واحتیاج ما إذا کان الشرط متعدداً إلى ذلک إنّما یکون لبیان التعدد ، لا لبیان نحو الشرطیّة ، فنسبة إطلاق الشرط إلیه لا تختلف ، کان هناک شرط آخر أم لا ، حیث کان مسوقاً لبیان شرطیته بلا إهمال ولا إجمال.
بخلاف إطلاق الأمر ، فإنّه لو لم یکن لبیان خصوص الوجوب التعیینی ، فلا محالة یکون فی مقام الإِهمال أو الإِجمال ، تأمل تعرف. هذا مع إنّه لو سلّم لا یجدی القائل بالمفهوم ، لما عرفت إنّه لا یکاد ینکر فیما إذا کان مفاد الإِطلاق من باب الاتفاق.
ثم إنّه ربما استدل المنکرون للمفهوم بوجوه :
أحدها : ما عُزی إلى السید (1) من أن تأثیر الشرط ، إنّما هو تعلیق الحکم به ، ولیس بممتنع أن یخلفه وینوب منابه شرط آخر یجری مجراه ، ولا یخرج عن کونه شرطاً ، فإن قوله تعالى : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِیدَیْنِ مِن رِّجَالِکُمْ ) (2) یمنع من قبول الشاهد الواحد ، حتى ینضم إلیه شاهد آخر ، فانضمام الثّانی إلى الأوّل شرط فی القبول ، ثم علمنا أن ضم أمراًتین إلى الشاهد الأوّل شرط فی القبول ، ثم علمنا أن ضم الیمین یقوم مقامه أیضاً ، فنیابة بعضٍ الشروط عن بعضٍ أکثر من أن تحصى ، مثل الحرارة ، فإن انتفاء الشمس لا یلزم انتفاء الحرارة ، لاحتمال قیام النار مقامها ، والأمثلة لذلک کثیرة شرعاً وعقلا.
والجواب : إنّه 1 إن کان بصدد إثبات إمکان نیابة بعضٍ الشروط عن بعضٍ فی مقام الثبوت وفی الواقع ، فهو مما لا یکاد ینکر ، ضرورة أن الخصم یدعی عدم وقوعه فی مقام الإِثبات ، ودلالة القضیة الشرطیّة علیه ، وأنّ کان بصدد إبداء احتمال وقوعه ، فمجرد الاحتمال لا یضره ، ما لم یکن
__________________
1 ـ الذریعة : 1 / 406 ، فی جوابه عن ثالث وجوه أدلة القول بثبوت المفهوم.
2 ـ البقرة / 282. 
 
بحسب القواعد اللفظیة راجحاً أو مساویاً ، ولیس فیما أفاده ما یثبت ذلک أصلاً ، کما لا یخفى.
ثانیها : إنّه لو دلّ لکان بإحدى الدلالات ، والملازمة _ کبطلان التالی _ ظاهرة. وقد أُجیب عنه بمنع بطلان التالی ، وأنّ الالتزام ثابت ، وقد عرفت بما لا مزید علیه ما قیل أو یمکن أن یقال فی إثباته أو منعه ، فلا تغفل.
ثالثها : قوله تبارک وتعالى (1) : ( وَلَا تُکْرِهُوا فَتَیَاتِکُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا ).
وفیه ما لا یخفى ، ضرورة أن استعمال الجملة الشرطیّة فیما لا مفهوم له أحیاناً وبالقرینة ، لا یکاد ینکر ، کما فی الآیة وغیرها ، وإنما القائل به إنّما یدعی ظهورها فیما له المفهوم وضعاً أو بقرینة عامة ، کما عرفت.
بقى هاهنا أمور :
الأمر الأوّل : إن المفهوم هو انتفاء سنخ الحکم المعلّق على الشرط عند انتفائه ، لا انتفاء شخصه ، ضرورة انتفائه عقلاً بانتفاء موضوعه ولو ببعض قیوده ، فلا (2) یتمشى الکلام ـ فی أن للقضیة الشرطیّة مفهوماً أو لیس لها مفهوم ـ إلّا فی مقام کان هناک ثبوت سنخ الحکم فی الجزاء ، وانتفاؤه عند انتفاء الشرط ممکناً ، وإنما وقع النزاع فی أن النزاع فی أن لها دلالة على الانتفاء عند الانتفاء ، أو لا یکون لها دلالة.
ومن هنا انقدح إنّه لیس من المفهوم دلالة القضیة على الانتفاء عند الانتفاء فی الوصایا والاوقاف والنذور والإِیمان ، کما توهّم (3) ، بل عن الشهید
__________________
1 ـ النور / 33.
2 ـ فی « ب » : ولا.
3 ـ مطارح الأنظار / 173 ، الهدایة الثالثة من القول فی المفهوم والمنطوق. 
 
فی تمهید القواعد (1) ، إنّه لا إشکال فی دلالتها على المفهوم ، وذلک لأن انتفاءها عن غیر ما هو المتعلق لها ، من الأشخاص التی تکون بألقابها أو بوصف شیء أو بشرطه ، مأخوذة فی العقد أو مثل العهد لیس بدلالة الشرط أو الوصف أو اللقب علیه ، بل لأجل إنّه إذا صار شیء وقفا على أحد أو أوصى به أو نذر له ، إلى غیر ذلک ، لا یقبل أن یصیر وقفا على غیره أو وصیة أو نذرا له ، وانتفاء شخص الوقف أو النذر أو الوصیة عن غیر مورد المتعلق ، قد عرفت إنّه عقلی مطلقاً ولو قیل بعدم المفهوم فی مورد صالح له.
إشکال ودفع : لعلک تقول : کیف یکون المناط فی المفهوم هو سنخ الحکم ، لا نفس شخص الحکم فی القضیة؟ وکان الشرط فی الشرطیّة إنّما وقع شرطاً بالنسبة إلى الحکم الحاصل بإنشائه دون غیره ، فغایة قضیتها انتفاء ذاک الحکم بانتفاء شرطه ، لا انتفاء سنخه ، وهکذا الحال فی سائر القضایا التی تکون مفیدة للمفهوم.
ولکنک غفلت عن أن المعلّق على الشرط ، إنّما هو نفس الوجوب الذی هو مفاد الصیغة ومعناها ، وأما الشخص والخصوصیة الناشئة من قبل استعمالها فیه ، لا تکاد تکون من خصوصیات معناها المستعملة فیه ، کما لا یخفى ، کما لا تکون الخصوصیة الحاصلة من قبل الإخبار به ، ، من خصوصیات ما أخبر به
__________________
1 ـ تمهید القواعد / 14 ، القاعدة 25 ، عند قوله : ذهب جماعة من الأصولیین إلى أنّ مفهوم الصفة والشرط حجة ... الخ.
الشهید الثّانی هو الشیخ الاجل زین الدین بن نور الدین العاملی الجبعی ولد عام 911 ه‍ ، قرأ على والده جملة من الکتب العربیة والفقه ، ختم القرآن وعمره تسع سنین. ارتحل إلى بلاد عدیدة وقرأ على کثیر من العلماء منهم الشیخ علی بن عبد العالی المیسی ، ثم انتقل إلى بلده واشتغل بالتدریس والتصنیف ومصنفاته کثیرة مشهورة أولها « الروض » وآخرها « الروضة » ومن تلامذته ابنه صاحب المعالم وصاحب المدارک ووالد البهائی وغیرهم ، استشهد سنة 966 ه‍ () الکنى والالقاب 2 / 344 ).
 
واستعمل فیه إخباراً لا إنشاءً.
وبالجملة : کما لا یکون المخبر به المعلّق على الشرط خاصاً بالخصوصیات الناشئة من قبل الإخبار به ، کذلک المنشأ بالصیغة المعلّق علیه ، وقد عرفت بما حققناه فی معنى الحرف وشبهه ، أن ما استعمل فیه الحرف عام کالموضوع له ، وأنّ خصوصیة لحاظه بنحو الآلیة والحالیة لغیره من خصوصیة الاستعمال ، کما أن خصوصیة لحاظ المعنى بنحو الاستقلال فی الاسم کذلک ، فیکون اللحاظ الآلی کالاستقلالی ، من خصوصیات الاستعمال لا المستعمل فیه.
وبذلک قد انقدح فساد ما یظهر من التقریرات (1) فی مقام التفصی عن هذا الإِشکال ، من التفرقة بین الوجوب الإِخباری والإِنشائی ، بإنّه کلی فی الأوّل ، وخاص فی الثّانی ، حیث دفع الإِشکال بإنّه لا یتوجه فی الأوّل ، لکون الوجوب کلیاً ، وعلى الثّانی بأن ارتفاع مطلق الوجوب فیه من فوائد العلّیة المستفادة من الجملة الشرطیّة ، حیث کان ارتفاع شخص الوجوب لیس مستنداً إلى ارتفاع العلة المأخوذة فیها ، فإنّه یرتفع ولو لم یوجد فی حیال أداة الشرط کما فی اللقب والوصف.
وأورد (2) على ما تفُصّی به عن الإِشکال بما ربما یرجع إلى ما ذکرناه ، بما حاصله : إن التفصی لا یبتنی على کلیة الوجوب ، لما أفاده ، وکون الموضوع له فی الإِنشاء عاماً لم یقم علیه دلیل ، لو لم نقل بقیام الدلیل على خلافه ، حیث إن الخصوصیات بأنفسها مستفادة من الالفاظ.
وذلک لما عرفت من أن الخصوصیات فی الإٍنشاءات والإِخبارات ، إنّما تکون ناشىء ة من الاستعمالات بلا تفاوت أصلاً بینهما. ولعمری ، لا یکاد ینقضی تعجبی ، کیف تجعل خصوصیات الانشاء من خصوصیات المستعمل
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 173 ، فی الهدایة الثالثة من القول فی المنطوق والمفهوم.
2 ـ المصدر المتقدم / 173 فی الهدایة الثالثة من القول فی المفهوم والمنطوق. 
 
فیه. مع إنّها کخصوصیات الإِخبار ، تکون ناشىء ة من الاستعمال ، ولا یکاد یمکن أن یدخل فی المستعمل فیه ما ینشأ من قبل الاستعمال ، کما هو واضح لمن تأمل.
الأمر الثّانی : إنّه إذا تعدَّد الشرط ، مثل ( إذا خفی الأذان فقصر ، وإذا خفی الجدران فقصر ) ، فبناء على ظهور الجملة الشرطیّة فی المفهوم ، لابد من التصرف ورفع الید عن الظهور.
إما بتخصیص مفهوم کلّ منهما بمنطوق الآخر ، فیقال بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطین.
وإما برفع الید عن المفهوم فیهما ، فلا دلالة لهما على عدم مدخلیة شیء آخر فی الجزاء ، بخلاف الوجه الأوّل ، فإن فیهما الدلالة على ذلک.
وإما بتقیید إطلاق الشرط فی کلّ منهما بالآخر ، فیکون الشرط هو خفاء الأذان والجدران معاً ، فإذا خفیا وجب القصر ، ولا یجب عند انتفاء خفائهما ولو خفی أحدهما.
وإما بجعل الشرط هو القدر المشترک بینهما ، بأن یکون تعدَّد الشرط قرینة على أن الشرط فی کلّ منهما لیس بعنوإنّه الخاص ، بل بما هو مصداق لما یعمهما من العنوان.
ولعل العرف یساعد على الوجه الثّانی ، کما أن العقل ربما یعین هذا الوجه ، بملاحظة أن الأمور المتعدِّدة بما هی مختلفة ، لا یمکن أن یکون کلّ منها مؤثراً فی واحد ، فإنّه لا بدّ من الربط الخاص بین العلة والمعلول ، ولا یکاد یکون الواحد بما هو واحد مرتبطاً بالاثنین بما هما اثنان ، ولذلک أیضاً لا یصدر من الواحد إلّا الواحد ، فلا بدّ من المصیر إلى أن الشرط فی الحقیقة واحد ، وهو المشترک بین الشرطین بعد البناء على رفع الید عن المفهوم ، وبقاء إطلاق الشرط فی کلّ منهما على حاله ، وأنّ کان بناءً العرف والاذهان العامیة 
 
على تعدَّد الشرط وتأثیر کلّ شرط بعنوإنّه الخاص ، فافهم.
الأمر الثالث : إذا تعدَّد الشرط واتحد الجزاء ، فلا إشکال على الوجه الثالث ، وأما على سائر الوجوه ، فهل اللازم لزوم الإِتیان بالجزاء متعدداً ، حسب تعدَّد الشروط؟ أو یتداخل ، ویکتفى بإتیإنّه دفعة واحدة؟.
فیه أقوال : والمشهور عدم التداخل ، وعن جماعة ـ منهم المحقق الخوانساری (1) ـ التداخل ، وعن الحلّی (2) التفصیل بین اتحاد جنس الشروط وتعدده.
والتحقیق : إنّه لما کان ظاهر الجملة الشرطیّة ، حدوث الجزاء عند حدوث الشرط بسببه ، أو بکشفه عن سببه ، وکان قضیته تعدَّد الجزاء عند تعدَّد الشرط ، کان الأخذ بظاهرها إذا تعدَّد الشرط حقیقة أو وجوداً محالاً ، ضرورة أن لازمه أن یکون الحقیقة الواحدة ـ مثل الوضوء ـ بما هی واحدة ، فی مثل ( إذا بلت فتوضأ ، وإذا نمت فتوضأ ) ، أو فیما إذا بال مکرراً ، أو (3) نام کذلک ، محکوماً بحکمین متماثلین ، وهو واضح الاستحالة کالمتضادین.
فلابد على القول بالتداخل من التصرف فیه : امّا بالالتزام بعدم دلالتها فی هذا الحال على الحدوث عند الحدوث ، بل على مجرد الثبوت ، أو الالتزام بکون متعلق الجزاء وأنّ کان واحداً صورة ، إلّا إنّه حقائق متعددة حسب تعدَّد الشرط ، متصادقة على واحد ، فالذمة وأنّ اشتغلت بتکالیف متعددة ، حسب
__________________
1 ـ مشارق الشموس 61 ، کتاب الطهارة فی تداخل الاغسال الواجبة ، قال : لأن تداخل الأسباب لا یوجب تعدَّد المسببات.
2 ـ السرائر / 55 ، فی باب أحکام السهو والشک فی الصلاة.
هو محمد بن احمد بن ادریس الحلّی ، فاضل فقیه ومحقق نبیه ، فخر الاجلة وشیخ فقهاء الحلة صاحب کتاب « السرائر » و « مختصر تبیان الشیخ » توفی سنة 598 وهو ابن خمس وخمسین ( الکنى والالقاب 1 / 201 )
3 ـ فی « ب » : و.
 
تعدد الشروط ، إلّا أن الاجتزاء بواحد لکونه مجمعاً لها ، کما فی ( أَکرم هاشمیاً وأضف عالماً ) ، فأکرم العالم الهاشمی بالضیافة ، ضرورة إنّه بضیافته بداعی الأمرین ، یصدق إنّه امتثلهما ، ولا محالة یسقط الأمر بامتثاله وموافقته ، وأنّ کان له امتثال کلّ منهما على حدة ، کما إذا أَکرم الهاشمی بغیر الضیافة ، وأضاف العالم الغیر الهاشمی.
إن قلت : کیف یمکن ذلک ـ أیّ الامتثال بما تصادق (1) علیه العنوانان ـ مع استلزامه محذور اجتماع الحکمین المتماثلین فیه؟
قلت : انطباق عنوانین واجبین على واحد لا یستلزم اتصافه بوجوبین ، بل غایته أن انطباقهما علیه یکون منشأ لاتصافه بالوجوب وانتزاع صفته له ، مع إنّه ـ على القول بجواز الاجتماع ـ لا محذور فی اتصافه بهما ، بخلاف ما إذا کان بعنوان واحد ، فافهم.
أو الالتزام بحدوث الأثر عند وجود کلّ شرط ، إلّا إنّه وجوب الوضوء فی المثال عند الشرط الأوّل ، وتأکد وجوبه عند الآخر.
ولا یخفى إنّه لا وجه لأن یصار إلى واحد منها ، فإنّه رفع الید عن الظاهر بلا وجه ، مع ما فی الأخیرین من الاحتیاج إلى إثبات أن متعلق الجزاء متعدد متصادق على واحد ، وأنّ کان صورة واحداً سمی (2) باسم واحد ، کالغسل ، وإلى إثبات أن الحادث بغیر الشرط الأوّل تؤکدّ ما حدث بالأول ، ومجرد الاحتمال لا یجدی ، ما لم یکن فی البین ما یثبته.
إن قلت : وجه ذلک هو لزوم التصرف فی ظهور الجملة الشرطیّة ، لعدم امکان الأخذ بظهورها ، حیث إنَّ قضیته اجتماع الحکمین فی الوضوء فی
__________________
1 ـ فی « أ و ب » : تصادقا.
2 ـ فی « أ » مسمى. 
 
المثال ، کما مرت الإِشارة إلیه.
قلت : نعم ، إذا لم یکن المراد بالجملة ـ فیما إذا تعدَّد الشرط کما فی المثال ـ هو وجوب وضوء مثلاً بکل شرط غیر ما وجب بالآخر ، ولا ضیر فی کون فرد محکوماً بحکم فرد آخر أصلاً ، کما لا یخفى.
إن قلت : نعم ، لو لم یکن تقدیر تعدَّد الفرد على خلاف الإِطلاق.
قلت : نعم ، لو لم یکن ظهور الجملة [ الشرطیّة ] (1) فی کون الشرط سبباً أو کاشفاً عن السبب ، مقتضیاً لذلک أیّ لتعدد الفرد ، و (2) بیاناً لما هو المراد من الإِطلاق.
وبالجملة : لا دوران بین ظهور الجملة فی حدوث الجزاء وظهور الإِطلاق ضرورة أن ظهور الإِطلاق یکون معلّقاً على عدم البیان ، وظهورها فی ذلک صالح لأن یکون بیاناً ، فلا ظهور له مع ظهورها ، فلا یلزم على القول بعدم التداخل تصرف أصلاً ، بخلاف القول بالتداخل کما لا یخفى (3).
فتلخص بذلک ، أن قضیة ظاهر الجملة الشرطیّة ، هو القول بعدم التداخل عند تعدَّد الشرط.
وقد انقدح مما ذکرناه ، أن المجدی للقول بالتداخل هو أحد الوجوه
__________________
1 ـ أثبتناها من « ب ».
2 ـ فی « أ » : وإلاّ کان بیانا. ولکن شطب علیه المصنف فی « ب ».
3 ـ هذا واضح بناءً على ما یظهر من شیخنا العلامة من کون ظهور الإِطلاق معلّقاً على عدم البیان مطلقاً ، ولو کان منفصلاً ، وأما بناءً على ما اخترناه فی غیر مقام ، من إنّه إنّما یکون معلّقاً على عدم البیان فی مقام التخاطب لا مطلقاً ، فالدوران حقیقة بین الظهورین حینئذ وأنّ کان ، إلّا إنّه لا دوران بینهما حکماً ، لأن العرف لا یکاد یشک بعد الاطلاع على تعدَّد القضیة الشرطیّة أن قضیته تعدَّد الجزاء ، وإنّه فی کلّ قضیة وجوب فرد غیر ما وجب فی الأخرى ، کما إذا اتصلت القضایا وکانت فی کلام واحد ، فافهم ( منه 1 ). 
 
التی ذکرناها ، لا مجرد کون الأسباب الشرعیة معرفات لا مؤثرات ، فلا وجه لما عن الفخر (1) وغیره ، من ابتناء المسألة على إنّها معرفات أو مؤثرات (2) ، مع أن الأسباب الشرعیة حالها حال غیرها ، فی کونها معرفات تارةً ومؤثرات أُخرى ، ضرورة أن الشرط للحکم الشرعی فی الجمل (3) الشرطیّة ، ربما یکون مما له دخل فی ترتب الحکم ، بحیث لولاه لما وجدت له علّة ، کما إنّه فی الحکم الغیر الشرعی ، قد یکون أمارة على حدوثه بسببه ، وأنّ کان ظاهر التعلیق أن له الدخل فیهما ، کما لا یخفى.
نعم ، لو کان المراد بالمعرفیة فی الأسباب الشرعیة إنّها لیست بدواعی الأحکام التی هی فی الحقیقة علل لها ، وأنّ کان لها دخل فی تحقق موضوعاًتها ، بخلاف الأسباب الغیر الشرعیة ، فهو وأنّ کان له وجه ، إلّا إنّه مما لا یکاد یتوهم إنّه یجدی فیما همّ وأراد.
ثم إنّه لا وجه للتفصیل (4) بین اختلاف الشروط بحسب الاجناس وعدمه ، واختیار عدم التداخل فی الأوّل ، والتداخل فی الثّانی ، إلّا توهّم عدم صحة التعلق بعموم اللفظ فی الثّانی ، لإنّه من أسماء الاجناس ، فمع تعدَّد أفراد شرط واحد لم یوجد إلّا السبب الواحد ، بخلاف الأوّل ، لکون کلّ منها سبباً ، فلا وجه لتداخلها ، وهو فاسد.
__________________
1 ـ فخر المحققین ابو طالب محمد بن جمال الدین حسن بن یوسف المطهر الحلّی ، ولد سنة 682 ، فاز بدرجة الاجتهاد فی السنة العاشرة من عمره الشریف کان والده العلامة یعظمه ویثنی علیه ، له کتب منها « غایة السؤل » و « شرح مبادىء الأصول ». توفی سنة 771 ه‍. () روضات الجنات 6 / 230 رقم 591 ).
2 ـ حکى الشیخ الاعظم (ره) نسبته إلى فخر المحققین (ره) واحتمل تبعة النراقی (ره) له فی العوائد / مطارح الأنظار / 175 فی الهدایة 6 من القول فی المفهوم والمنطوق.
3 ـ فی « ب » : الجملة.
4 ـ المفصل هو ابن إدریس فی السرائر / 55 ، عند قوله ( قده ) : فإن سها المصلی فی صلاته بما یوجب سجدتی السهو مرّات کثیرة ... الخ.  

 
فإن قضیة اطلاق الشرط فی مثل ( إذا بلتَ فتوضأ ) هو حدوث الوجوب عند کلّ مرة لو بال مرّات ، وإلاّ فالأجناس المختلفة لا بد من رجوعها إلى واحد ، فیما جعلت شروطا وأسبابا لواحد ، لما مرت إلیه الإِشارة ، من أن الاشیاء المختلفة بما هی مختلفة لا تکون أسبابا لواحد ، هذا کله فیما إذا کان موضوع الحکم فی الجزاء قابلاً للتعدد.
وأما ما لا یکون قابلاً لذلک ، فلابد من تداخل الأسباب ، فیما لا یتأکد المسبب ، ومن التداخل فیه فیما یتأکد.
فصل
الظاهر إنّه لا مفهوم للوصف وما بحکمه مطلقاً ، لعدم ثبوت الوضع ، وعدم لزوم اللغویة بدونه ، لعدم انحصار الفائدة به ، وعدم قرینة أُخرى ملازمة له ، وعلّیته فیما إذا استفیدت غیر مقتضیة له ، کما لا یخفى ، ومع کونها بنحو الانحصار وأنّ کانت مقتضیة له ، إلّا إنّه لم یکن من مفهوم الوصف ، ضرورة إنّه قضیة العلة الکذائیة المستفادة من القرینة علیها فی خصوص مقام ، وهو مما لا إشکال فیه ولا کلام ، فلا وجه لجعله تفصیلا فی محلّ النزاع ، وموردا للنقض والابرام.
ولا ینافی ذلک ما قیل من أن الأصل فی القید أن یکون احترازیا ، لأن الاحترازیة لا توجب إلّا تضییق دائرة موضوع الحکم فی القضیة ، مثل ما إذا کان بهذا الضیق بلفظ واحد ، فلا فرق أن یقال : (جئنی بإنسان ) أو ( بحیوان ناطق ) ، کما إنّه لا یلزم فی حمل المطلق على المقید ، فیما وجد شرائطه إلّا ذلک ، من دون حاجة فیه إلى دلالته على المفهوم ، فإنّه من المعلوم أن قضیة الحمل لیس إلّا أن المراد بالمطلق هو المقید ، وکأنه لا یکون فی البین غیره ، بل ربما قیل (1) :
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 183. 
 
إنّه لا وجه للحمل لو کان بلحاظ المفهوم ، فإن ظهوره فیه لیس بأقوى من ظهور المطلق فی الإِطلاق ، کی یحمل علیه ، لو لم نقل بإنّه الأقوى ، لکونه بالمنطوق ، کما لا یخفى.
وأما الاستدلال على ذلک ـ أیّ عدم الدلالة على المفهوم ـ بآیة ( وَرَبَائِبُکُمُ اللَّاتِی فِی حُجُورِکُم ) (1) ففیه أن الاستعمال فی غیره أحیاناً مع القرینة مما لا یکاد ینکر ، کما فی الآیة قطعاً ، مع إنّه یعتبر فی دلالته علیه عند القائل بالدلالة ، أن لا یکون وارداً مورد الغالب کما فی الآیة ، ووجه الاعتبار واضح ، لعدم دلالته معه على الاختصاص ، وبدونها لا یکاد یتوهم دلالته على المفهوم ، فافهم.
تذنیب : لا یخفى إنّه لا شبهة فی جریان النزاع ، فیما إذا کان الوصف أخص من موصوفه ولو من وجه ، فی مورد الافتراق من جانب الموصوف ، وأما فی غیره ، ففی جریإنّه إشکال أظهره عدم جریإنّه ، وأنّ کان یظهر مما عن بعضٍ الشافعیة (2) ، حیث قال : ( قولنا فی الغنم السائمة زکاة ، یدلّ على عدم الزکاة فی معلوفة الابل ) جریإنّه فیه ، ولعل وجهه استفادة العلّیة المنحصرة منه.
وعلیه فیجری فیما کان الوصف مساویاً أو أعم مطلقاً أیضاً ، فیدل على انتفاء سنخ الحکم عند انتفائه ، فلا وجه فی التفصیل بینهما وبین ما إذا کان أخص من وجه (3) ، فیما إذا کان الافتراق من جانب الوصف ، بإنّه لا وجه للنزاع فیهما ، معللا بعدم الموضوع ، واستظهار جریإنّه من بعضٍ الشافعیة فیه ، کما لا یخفى ، فتأمل جیداً.
__________________
1 ـ النساء / 23.
2 ـ راجع المنخول للغزالی / 222 ، فی مسائل المفهوم ، عند قوله : ( کقوله : فی عوامل الابل زکاة ... الخ ).
3 ـ التفصیل للشیخ ، مطارح الأنظار 182 ، عند قوله قده : ثم إن الوصف قد یکون مساویاً ... الخ. 

 
فصل
هل الغایة فی القضیة تدلّ على ارتفاع الحکم عما بعد الغایة ، بناءً على دخول الغایة فی المغّیا ، أو عنها وبعدها ، بناءً على خروجها ، أو لا؟
فیه خلاف ، وقد نسب (1) إلى المشهور الدلالة على الارتفاع ، وإلى جماعة منهم السید (2) والشیخ (3) ، عدم الدلالة علیه.
والتحقیق : إنّه إذا کانت الغایة بحسب القواعد العربیة قیداً للحکم ، کما فی قوله : ( کلّ شیء حلال حتى تعرف إنّه حرام ) (4) ، و ( کلّ شیء طاهر حتى تعلم إنّه قذر ) (5) ، کانت دالّة على ارتفاعه عند حصولها ، لانسباق ذلک منها ، کما لا یخفى ، وکونه قضیة تقییده بها ، وإلاّ لما کان ما جعل غایة له بغایة ، وهو واضح إلى النهایة.
وأما إذا کانت بحسبها قیداً للموضوع ، مثل ( سر من البصرة إلى
__________________
1 ـ کما فی مطارح الأنظار / 186 ، فی مفهوم الغایة ، المقام الثانی.
2 ـ الذریعة 1 / 407 ، فی عدم الفرق بین الوصف والغایة.
3 ـ راجع عدة الأصول 2 / 24 ، تعلیق الحکم بالغایة.
هو ابو جعفر محمد بن الحسن بن علی الطوسی ، ولد سنة 385 ، قدم العراق سنة 408 ه‍ ، تتلمذ على الشیخ المفید والسید المرتضى وابی الحسین علی بن احمد بن محمد بن ابی الجید القمی ، ثم هاجر إلى مشهد امیر المؤمنین (ع) خوفاً من الفتنة التی تجددت ببغداد واحرقت کتبه وکرسی درسه ، بقی فی النجف إلى ان توفی سنة 460 ه‍ له مصنفات کثیرة منها : « التبیان » و « التهذیب » و « الاستبصار » و « المبسوط » و « الخلاف » و « العدة » فی الأصول. ( الکنى والالقاب 2 / 357 )
4 ـ الکافی : 5 / 313. الحدیث 40 من باب النوادر ، کتاب المعیشة. باختلاف یسیر.
5 ـ التهذیب : 1 / 284. الحدیث 119. باختلاف یسیر. 
 
الکوفة ) ، فحالها حال الوصف فی عدم الدلالة ، وأنّ کان تحدیده بها بملاحظة حکمه وتعلق الطلب به ، وقضیته لیس إلّا عدم الحکم فیها إلّا بالمغیّا ، من دون دلالة لها أصلاً على انتفاء سنخه عن غیره ، لعدم ثبوت وضع لذلک ، وعدم قرینة ملازمة لها ولو غالباً ، دلت على اختصاص الحکم به ، وفائدة التحدید بها کسائر أنحاء التقیید ، غیر منحصرة بإفادته کما مرّ فی الوصف.
ثم إنّه فی الغایة خلاف آخر ، کما أشرنا إلیه ، وهو إنّها هل هی داخلة فی المغیّا بحسب الحکم ، أو خارجة عنه؟ والاظهر خروجها ، لکونها من حدوده ، فلا تکون محکومة بحکمه ، ودخوله فیه فی بعضٍ الموارد إنّما یکون بالقرینة ، وعلیه تکون کما بعدها بالنسبة إلى الخلاف الأوّل ، کما إنّه على القول الآخر تکون محکومة بالحکم منطوقاً ، ثم لا یخفى أن هذا الخلاف لا یکاد یعقل جریإنّه فیما إذا کان قیداً للحکم ، فلا تغفل (1).
فصل
لا شبهة فی دلالة الاستثناء على اختصاص الحکم ـ سلباً أو إیجاباً ـ بالمستثنى منه ولا یعم المستثنى ، ولذلک یکون الاستثناء من النفی إثباتاً ، ومن الإِثبات نفیاً ، وذلک للانسباق عند الإِطلاق قطعاً ، فلا یعبأ بما عن أبی حنیفة (2) من عدم الإِفادة ، محتجاً بمثل ( لا صلاة إلّا بطهور ) ضرورة ضعف احتجاجه :
__________________
1 ـ حیث أن المغیّا حینئذ هو نفس الحکم ، لا المحکوم به لیصحّ أن ینازع فی دخول الغایة فی حکم المغیّا ، أو خارج عنه ، کما لا یخفى ، نعم یعقل أن ینازع فی أن الظاهر هل هو انقطاع الحکم المغیّا بحصول غایته [ فی ] الاصطلاح ، أیّ مدخول إلى أو حتى. أو استمراره فی تلک الحال ، ولکن الأظهر هو انقطاعه ، فافهم واستقم ، ( منه 1 ).
2 ـ راجع شرح مختصر الأصول للعضدی / 265 ، والتقریر والتحبیر 1 / 313.
 
 
أولا : یکون المراد من مثله (1) إنّه لا تکون الصلاة التی کانت واجدة لاجزائها وشرائطها المعتبرة فیها صلاة ، إلّا إذا کانت واجدة للطهارة ، وبدونها لا تکون صلاة على وجه ، وصلاة تامة مأموراً بها على آخر.
وثانیاً : بأن الاستعمال مع القرینة ، کما فی مثل الترکیب ، مما علم فیه الحال لا دلالة له على مدعاه أصلاً ، کما لا یخفى.
ومنه قد انقدح (2) إنّه لا موقع للاستدلال على المدَّعى ، بقبول رسول الله 9 إسلام من قال کلمة التوحید ، لإمکان دعوى أن دلالتها على التوحید کان بقرینة الحال أو المقال.
والاشکال فی دلالتها علیه ـ بأن خبر ( لا ) امّا یقدّر ( ممکن ) أو ( موجود ) وعلى کلّ تقدیر لا دلالة لها علیه ، امّا على الأوّل : فإنّه (3) حینئذ لا دلالة لها إلّا على إثبات إمکان وجوده تبارک وتعالى ، لا وجوده ، وأما على الثّانی : فلأنها وأنّ دلت على وجوده تعالى ، إلّا إنّه لا دلالة لها على عدم إمکان إله آخر ـ مندفع ، بأن المراد من الاله هو واجب الوجود ؛ ونفی ثبوته ووجوده فی الخارج ، وإثبات فرد منه فیه ـ وهو الله ـ یدلّ بالملازمة البینة على امتناع تحققه فی ضمن غیره تبارک وتعالى ، ضرورة إنّه لو لم یکن ممتنعا لوجد ، لکونه من أفراد الواجب.
__________________
أبو حنیفة النعمان بن ثابت بن زوطی الکوفی ولد عام 80 ه‍ ، امام الحنفیة ،ـ احد الأئمة الأربعة عند اهل السنة ، قیل اصله من ابناء فارس ، ولد ونشأ بالکوفة ، وکان یبیع الخز ویطلب العلم فی صباه ثم انقطع للتدریس والافتاء ، توفی ببغداد عام 150 ه‍ ( ) الکنى والالقاب 1 / 50 )
1 ـ بل المراد من مثله فی المستثنى منه نفی الإِمکان ، وإنّه لا یکاد یکون بدون المستثنى ، قضیته لیس إلّا إمکان ثبوته معه لا ثبوته فعلاً ، لما هو واضح لمن راجع أمثاله من القضایا العرفیة ، منه ( 1 ).
2 ـ ردّ على صاحب الفصول والشیخ 1 أنظر الفصول / 195 ، مطارح الأنظار / 187
3 ـ فی « ب » فلإنّه. 
 
ثم إن الظاهر أن دلالة الاستثناء على الحکم فی طرف المستثنى بالمفهوم ، وإنّه لازم خصوصیة الحکم فی جانب المستثنى منه التی دلت علیها الجملة الاستثنائیة ، نعم لو کانت الدلالة فی طرفه بنفس الاستثناء لا بتلک الجملة ، کانت بالمنطوق ، کما هو لیس ببعید ، وأنّ کان تعیین ذلک لا یکاد یفید.
ومما یدلّ على الحصر والاختصاص ( إنّما ) ، وذلک لتصریح أهل اللغة بذلک ، وتبادره منها قطعاً عند أهل العرف والمحاورة.
ودعوى ـ أن الإِنصاف (1) إنّه لا سبیل لنا إلى ذلک ، فإن موارد استعمال هذه اللفظة مختلفة ، ولا یعلم بما هو مرادف لها فی عرفنا ، حتى یستکشف منها (2) ما هو المتبادر منها ـ غیر مسموعة ، فإن السبیل إلى التبادر لا ینحصر بالانسباق إلى أذهاننا ، فإن الانسباق إلى أذهان أهل العرف أیضاً سبیل.
وربما یعد مما دلّ على الحصر ، کلمة ( بل ) الإِضرابیة.
والتحقیق أن الإِضراب على أنحاء :
منها : ماکان لأجل أن المضرب عنه ، إنّما أتى به غفلة أو سبقه به لسإنّه ، فیضرب بها عنه إلى ما قصد بیإنّه ، فلا دلالة له على الحصر أصلاً ، فکإنّه أتى بالمضرب إلیه ابتداء ، کما لا یخفى.
ومنها : ما کان لأجل التأکید ، فیکون ذکر المضرب عنه کالتوطئة والتمهید لذکر المضرب إلیه ، فلا دلالة له علیه أیضاً.
ومنها : ما کان فی مقام الردع ، وإبطال ما أثبت أولاً ، فیدل علیه (3) وهو
__________________
1 ـ المدعی هو الشیخ ( قدس ) مطارح الأنظار / 188.
2 ـ فی « ب » : منه.
3 ـ إذا کان بصدد الردع عنه ثبوتاً ، وأما إذا کان بصدده إثباتاً ، کما إذا کان مثلاً بصدد بیان إنّه إنّما أثبته أولاً بوجه لا یصحّ معه الإِثبات اشتباها ، فلا دلالة له على الحصر أیضاً ، فتأمل جیداً ( منه 1 )  

 
واضح.
ومما یفید الحصر ـ على ما قیل ـ تعریف المسند إلیه باللام.
والتحقیق إنّه لا یفیده إلّا فیما اقتضاه المقام ، لأن الأصل فی اللام أن تکون لتعریف الجنس ، کما أن الأصل فی الحمل فی القضایا المتعارفة ، هو الحمل المتعارف الذی ملاکه مجرد الاتحاد فی الوجود ، فإنّه الشائع فیها ، لا الحمل الذاتی الذی ملاکه الاتحاد بحسب المفهوم ، کما لا یخفى ، وحمل شیء على جنس وماهیة کذلک ، لا یقتضی اختصاص تلک الماهیة به وحصرها علیه ، نعم ، لو قامت قرینة على أن اللام للاستغراق ، أو أن مدخوله أخذ بنحو الإرسال والإِطلاق ، أو على أن الحمل علیه کان ذاتیا لاُفید حصر مدخوله على محموله واختصاصه به.
وقد انقدح بذلک الخلل فی کثیر من کلمات الأعلام فی المقام ، وما وقع منهم من النقض والإبرام ، ولا نطیل بذکرها فإنّه بلا طائل ، کما یظهر للمتأمل ، فتأمل جیداً.
فصل لا دلالة للقب ولا للعدد على المفهوم ، وانتفاء سنخ الحکم عن غیر موردهما أصلاً ، وقد عرفت أن انتفاء شخصه لیس بمفهوم ، کما أن قضیة التقیید بالعدد منطوقاً عدم جواز الاقتصار على ما دونه ، لإنّه لیس بذاک الخاص والمقید ، وأما الزیادة فکالنقیصة إذا کان التقیید به للتحدید بالإضافة إلى کلاّ طرفیه ، نعم لو کان لمجرد التحدید بالنظر إلى طرفه الأقلّ لما کان فی الزیادة ضیر أصلاً ، بل ربما کان فیها فضیلة وزیادة ، کما لا یخفى.
وکیف کان ، فلیس عدم الاجتزاء بغیره من جهة دلالته على المفهوم ، بل إنّما یکون لأجل عدم الموافقة مع ما أخذ فی المنطوق ، کما هو معلوم.
 

کفایة الاصول - قسمت چهارم

المانع من المقدمات.
وهو توهّم فاسد ، وذلک لأن المعاندة والمنافرة بین الشیئین ، لا تقتضی إلّا عدم اجتماعهما فی التحقّق ، وحیث لا منافاة أصلاً بین أحد العینین وما هو نقیض الآخر وبدیله ، بل بینهما کمال الملاءمة ، کان أحد العینین مع نقیض الآخر وما هو بدیله فی مرتبة واحدة من دون أن یکون فی البین ما یقتضی تقدم أحدهما على الآخر ، کما لا یخفى.
فکما أن قضیة المنافاة بین المتناقضین لا تقتضی تقدم ارتفاع أحدهما فی ثبوت الآخر ، کذلک فی المتضادین ، کیف؟ ولو اقتضى التضاد توقف وجود الشیء على عدم ضدّه ، توقف الشیء على عدم مانعه ، لاقتضى توقف عدم الضد على وجود الشیء توقف عدم الشیء على مانعه ، بداهیة ثبوت المانعیة فی الطرفین ، وکون المطاردة من الجانبین ، وهو دور (1) واضح.
وما قیل (2) فی التفصی عن هذا الدور بأن التوقف من طرف الوجود فعلّی ، بخلاف التوقف من طرف العدم ، فإنّه بتوقف على فرض ثبوت المقتضی له ، مع شراشر شرائطه غیر عدم وجود ضدّه ، ولعله کان محالاً ، لأجل انتهاء عدم وجود أحد الضدین مع وجود الآخر إلى عدم تعلق الإرادة الازلیة به ، وتعلقها بالآخر حسب ما اقتضته الحکمة البالغة ، فیکون العدم دائماً مستنداً إلى عدم المقتضی ، فلا یکاد یکون مستنداً إلى وجود المانع ، کی یلزم الدور.
إن قلت : هذا إذا لوحظا منتهیین إلى إرادة شخص واحد ، وأما إذا کان کلّ منهما متعلقاً لارادة شخص ، فأراد مثلاً أحد الشخصین حرکة شیء ، وأراد الآخر سکونه ، فیکون المقتضی لکلّ منهما حینئذ موجوداً ، فالعدم ـ لا محالة ـ یکون فعلاً مستنداً إلى وجود المانع.
__________________
1 ـ راجع هدایة المسترشدین / 230 عند قوله : ثانیها.
2 ـ المتفصی هو المحقق الخوانساری (1 )على ما فی مطارح الأنظار / 109.
 
قلت : هاهنا أیضاً مستند إلى عدم قدرة المغلوب منهما فی إرادته ، وهی مما لابد منه فی وجود المراد ، ولا یکاد یکون بمجرد الإرادة بدونها لا إلى وجود الضد ، لکونه مسبوقاً بعدم قدرته ـ کما لا یخفى ـ غیر سدید ، فإنّه وأنّ کان قد ارتفع به الدور ، إلّا إنّه غائلة لزوم توقف الشیء على ما یصلح أن یتوقف علیه على حالها ، لاستحالة أن یکون الشیء الصالح لأن یکون موقوفاً علیه [ الشیء ] (1) موقوفاً علیه ، ضرورة إنّه لو کان فی مرتبة یصلح لأن یستند إلیه ، لما کاد یصحّ أن یستند فعلاً إلیه.
والمنع عن صلوحه لذلک بدعوى : أن قضیة کون العدم مستنداً إلى وجود الضد ، لو کان مجتمعا مع وجود المقتضی ، وأنّ کانت صادقة ، إلّا أن صدقها لا یقتضی کون الضد صالحا لذلک ، لعدم اقتضاء صدق الشرطیّة صدق طرفیها ، مساوق (2) لمنع مانعیة الضد ، وهو یوجب رفع التوقف رأساً من البین ، ضرورة إنّه لا منشأ لتوهم توقف أحد الضدین على عدم الآخر ، إلا توهّم مانعیة الضد ـ کما أشرنا إلیه ـ وصلوحه لها.
إن قلت : التمانع بین الضدین کالنار على المنار ، بل کالشمس فی رابعة النهار ، وکذا کون عدم المانع مما یتوقف علیه ، مما لا یقبل الإِنکار ، فلیس ما ذکر إلّا شبهة فی مقابل البدیهة.
__________________
1 ـ أثبتناها من « ب ».
2 ـ مع أن حدیث عدم اقتضاء صدق الشرطیّة لصدق طرفیها ، وأنّ کان صحیحاً ، إلّا أن الشرطیّة ـ هاهنا ـ غیر صحیحة ، فإن وجود المقتضی لضد ، لا یستلزم بوجه استناد عدمه إلى ضدّه ، ولا یکون الاستناد مترتباً على وجوده ؛ ضرورة أن المقتضی لا یکاد یقتضی وجود ما یمنع عما یقتضیه أصلاً کما لا یخفى ، فلیکن المقتضی لاستناد عدم الضد إلى وجود ضدّه فعلاً عند ثبوت مقتضی وجوده ، هی الخصوصیة التی فیه الموجبة للمنع عن اقتضاء مقتضیه ، کما هو الحال فی کلّ مانع ، ولیست فی الضد تلک الخصوصیة ، کیف؟ وقد عرفت إنّه لا یکاد یکون مانعاً إلّا على وجه دائر ، نعم إنّما المانع عن الضد هو العلة التامة لضدّه ، لاقتضائها ما یعانده وینافیه ، فیکون عدمه کوجود ضدّه مستنداً إلیها ، فافهم ( منه 1 ).
 
قلت : التمانع بمعنى التنافی والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع مما لا ریب فیه ولا شبهة تعتریه ، إلّا إنّه لا یقتضی إلّا امتناع الاجتماع ، وعدم وجود أحدهما إلّا مع عدم الآخر ، الذی هو بدیل وجوده المعاند له ، فیکون فی مرتبته لا مقدما علیه ولو طبعا ، والمانع الذی یکون موقوفاً على عدمه (1) الوجود هو ماکان ینافی ویزاحم المقتضی فی تأثیره ، لا ما یعاند الشیء ویزاحمه فی وجوده.
نعم العلة التامة لاحد الضدین ، ربما تکون مانعاً عن الآخر ، ومزاحما لمقتضیه فی تأثیره ، مثلاً تکون شدة الشفقة على الولد الغریق وکثرة المحبة له ، تمنع عن أن یؤثر ما فی الأخ الغریق من المحبة والشفقة ، لارادة إنقاذه مع المزاحمة فینقذ به الولد دونه ، فتأمل جیداً.
ومما ذکرنا ظهر إنّه لا فرق بین الضد الموجود والمعدوم ، فی أن عدمه الملائم للشیء المناقض لوجوده المعاند لذاک ، لابد أن یجامع معه من غیر مقتض لسبقه ، بل عرفت ما یقتضی عدم سبقه.
فانقدح بذلک ما فی تفصیل بعضٍ الأعلام (2) ، حیث قال بالتوقف على رفع الضد الموجود ، وعدم التوقف على عدم الضد المعدوم ، فتأمل فی أطراف ما ذکرناه ، فإنّه دقیق وبذلک حقیق.
فقد ظهر عدم حرمة الضد من جهة المقدمیة.
وأما من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمین فی الوجود ، فی الحکم ، فغایته أن لا یکون أحدهما فعلاً محکوماً بغیر ما حکم به الآخر ، لا أن یکون محکوماً بحکمه.
وعدم خلو الواقعة عن الحکم ، فهو إنّما یکون بحسب الحکم الواقعی لا الفعلّی ، فلا حرمة للضد من هذه الجهة أیضاً ، بل على ما هو علیه ، لولا
__________________
1 ـ الصحیح ما اثبتناه و فی « أ » و « ب » موقونا علیه الوجود.
2 ـ هو المحقق الخونساری ، راجع مطارح الأنظار / 109. 
 
الابتلاء بالمضادّة للواجب الفعلّی ، من الحکم الواقعی.
الأمر الثالث : إنّه قیل (1) بدلالة الأمر بالشیء بالتضمن على النهی عن الضد العام ، بمعنى الترک ، حیث إنّه یدلّ على الوجوب المرکب من طلب الفعل والمنع عن الترک. والتحقیق إنّه لا یکون الوجوب إلّا طلباً بسیطاً ، ومرتبة وحیدة أکیدة من الطلب ، لا مرکباً من طلبین ، نعم فی مقام تحدید تلک المرتبة وتعیینها ، ربما یقال : الوجوب یکون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن الترک ، ویتخیل منه إنّه یذکر له حداً ، فالمنع عن الترک لیس من أجزاء الوجوب ومقوماته ، بل من خواصه ولوازمه ، بمعنى إنّه لو التفت الأمر إلى الترک لما کان راضیا به لا محالة ، وکان یبغضه البتة.
ومن هنا انقدح إنّه لا وجه لدعوى العینیة ، ضرورة أن اللزوم یقتضی الاثنینیة ، لا الاتحاد والعینیة.
نعم لا بأس بها ، بأن یکون المراد بها إنّه یکون هناک طلب واحد ، وهو کما یکون حقیقة منسوباً إلى الوجود وبعثاً إلیه ، کذلک یصحّ أن ینسب إلى الترک بالعرض والمجاز ویکون زجراً وردعاً عنه ، فافهم.
الأمر الرابع : تظهر الثمرة فی أن نتیجة المسألة ، وهی النهی عن الضد بناءً على الاقتضاء ، بضمیمة أن النهی فی العبادات یقتضی الفساد ، یتنج فساده إذا کان عبادة.
وعن البهائی ; (2) إنّه أنکر الثمرة ، بدعوى إنّه لا یحتاج فی استنتاج الفساد إلى النهی عن الضد ، بل یکفی عدم الأمر به ، لاحتیاج العبادة إلى الأمر.
__________________
1 ـ القائل هو صاحب المعالم ، المعالم / 63.
2 ـ زبدة الأصول / 82 ، مخطوط. 
 
وفیه : أنّه یکفی مجرد الرجحان والمحبوبیة للمولى ، کی یصحّ أن یتقرب به منه ، کما لا یخفى ، والضد بناءً على عدم حرمته یکون کذلک ، فإن المزاحمة على هذا لا یوجب إلّا ارتفاع الأمر المتعلق به فعلاً ، مع بقائه على ما هو علیه من ملاکه من المصلحة ، کما هو مذهب العدلیة ، أو غیرها أیّ شیء کان ، کما هو مذهب الأشاعرة ، وعدم حدوث ما یوجب مبغوضیته وخروجه عن قابلیة التقرب به کما حدث ، بناءً على الاقتضاء.
ثم إنّه تصدى جماعة من الأفاضل (1) ، لتصحیح الأمر بالضد بنحو الترتب على العصیان ، وعدم إطاعة الأمر بالشیء بنحو الشرط المتأخر ، أو البناء على معصیته (2) بنحو الشرط المتقدم ، أو المقارن ، بدعوى إنّه لا مانع عقلاً عن تعلق الأمر بالضدین کذلک ، أیّ بأن یکون الأمر بالأهم مطلقاً ، والأمر بغیره معلّقاً على عصیان ذاک الأمر ، أو البناء والعزم علیه ، بل هو واقع کثیراً عرفاً.
قلت : ما هو ملاک استحالة طلب الضدین فی عرض واحد ، آت فی طلبهما کذلک ، فإنّه وأنّ لم یکن فی مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما ، إلّا إنّه کان فی مرتبة الأمر بغیره اجتماعهما ، بداهة فعلیة الأمر بالأهم فی هذه المرتبة ، وعدم سقوطه بعد بمجرد المعصیة فیما بعد ما لم یعص أو العزم علیها ، مع فعلیة الأمر بغیره أیضاً ، لتحقق ما هو شرط فعلیته فرضاً.
لا یقال : نعم لکنه بسوء اختیار المکلف حیق یعصی فیما بعد بالاختیار ، فلولاه لما کان متوجهاً إلیه إلّا الطلب بالأهم ، ولا برهان على امتناع الاجتماع ، إذا کان بسوء الاختیار.
فإنّه یقال : استحالة طلب الضدین ، لیس إلّا لأجل استحالة طلب المحال ، واستحالة طلبه من الحکیم الملتفت إلى محالیته ، لا تختص بحال دون
__________________
1 ـ منهم صاحب کشف الغطاء ، کشف الغطاء / 27 ، البحث الثامن عشر.
2 ـ فی « ب » معصیة ، وفی بعضٍ النسخ المطبوعة « المعصیة ». 
 
حال ، وإلاّ لصحّ فیما علق على أمر اختیاری فی عرض واحد ، بلا حاجة فی تصحیحه إلى الترتب ، مع إنّه محال بلا ریب ولا إشکال.
إن قلت : فرق بین الاجتماع فی عرض واحد والاجتماع کذلک ، فإن الطلب فی کلّ منهما فی الأوّل یطارد الآخر ، بخلافه فی الثّانی ، فإن الطلب بغیر الأهم لا یطارد طلب الأهم ، فإنّه یکون على تقدیر عدم الإِتیان بالأهم ، فلا یکاد یرید غیره على تقدیر إتیإنّه ، وعدم عصیان أمره.
قلت : لیت شعری کیف لا یطارده الأمر بغیر الأهم؟ وهل یکون طرده له إلّا من جهة فعلیته ، ومضادة متعلقه للاهم؟ والمفروض فعلیته ، ومضادة متعلقه له. وعدم إرادة غیر الأهم على تقدیر الإِتیان به لا یوجب عدم طرده لطلبه مع تحققه ، على تقدیر عدم الإِتیان به وعصیان أمره ، فیلزم اجتماعهما على هذا التقدیر ، مع ما هما علیه من المطاردة ، من جهة المضادًة بین المتعلقین ، مع إنّه یکفی الطرد من طرف الأمر بالأهم ، فإنّه على هذا الحال یکون طاردا لطلب الضد ، کما کان فی غیر هذا الحال ، فلا یکون له معه أصلاً بمجال.
إن قلت : فما الحیلة فیما وقع کذلک من طلب الضدین فی العرفیات؟
قلت : لا یخلو : امّا أن یکون الأمر بغیر الأهم ، بعد التجاوز عن الأمر به وطلبه حقیقة.
وإما أن یکون الأمر به إرشاداً إلى محبوبیّته وبقائه على ما هو علیه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة ، وأنّ الإِتیان به یوجب استحقاق المثوبة فیذهب بها بعضٍ ما استحقه من العقوبة على مخالفة الأمر بالأهم ، لا إنّه أمر مولوی فعلّی کالأمر به ، فافهم وتأملّ جیداً.
ثم إنّه لا أظن أن یلتزم القائل بالترتب ، بما هو لازمه من الاستحقاق فی  

 
صورة مخالفة الأمرین لعقوبتین ، ضرورة قبح العقاب على ما لا یقدّر علیه العبد ، ولذا کان سیدنا الأستاذ (1) (1) لا یلتزم به ـ على ما هو ببالی ـ وکنا نورد به على الترتب ، وکان بصدد تصحیحه.
فقد ظهر إنّه لا وجه لصحة العبادة ، مع مضادتها لما هو أهم منها ، إلّا ملاک الأمر.
نعم فیما إذا کانت موسعة ، وکانت مزاحمة بالأهم ببعض الوقت ، لا فی تمامه ، یمکن أن یقال : إنّه حیث کان الأمر بها على حاله ، وأنّ صارت مضیقة بخروج ما زاحمه الأهم من أفرادها من تحتها ، أمکن أن یؤتى بما زوحم منها بداعی ذاک الأمر ، فإنّه وأنّ کان خارجاً عن تحتها بما هی مأمور بها ، إلّا إنّه لما کان وافیاً بغرضها کالباقی تحتها ، کان عقلاً مثله فی الإِتیان به فی مقام الامتثال ، والإِتیان به بداعی ذاک الأمر ، بلا تفاوت فی نظره بینهما أصلاً.
ودعوى أن الأمر لا یکاد یدعو إلّا إلى ما هو من أفراد الطبیعة المأمور بها ، وما زوحم منها بالأهم ، وأنّ کان من أفراد الطبیعة ، لکنه لیس من أفرادها بما هی مأمور بها ، فاسدة ، فإنّه إنّما یوجب ذلک ، إذا کان خروجه عنها بما هی کذلک تخصیصا لا مزاحمة ، فإنّه معها وأنّ کان لا تعمه الطبیعة المأمور بها ، إلّا إنّه لیس لقصور فیه ، بل لعدم إمکان تعلق الأمر بما تعمه عقلاً ، وعلى کلّ حال ، فالعقل لا یرى تفاوتاً فی مقام الامتثال وإطاعة الأمر بها ، بین هذا الفرد وسائر الأفراد أصلاً.
__________________
1 ـ هو آیة الله مجدد المذهب الحاج میرزا محمد حسن بن السید میرزا محمود الحسینی الشیرازی ولد فی 15 ج 1230، حضر درس المحقق السید حسن المدرس والمحقق الکلباسی قصد العراق عام 1259 ، حضر الاندیة العلمیة ، اختصّ فی التلمذة والحضور بأبحاث المحقق الانصاری ، عین مرجعاً بعده ، حج سنة 1288 ، وهاجر إلى سأمراًء شعبان سنة 1291 ثم تبعه تلامیذه ، أخذ منه کثیر من فحول العلماء ، منهم : آقا رضا الهمدانی والشیخ فضل الله النوری والآخوند الخراسانی ، توفی لیلة الاربعاء 24 شعبان 1312 ه‍. () الکنى والالقاب 3 / 184 ) 
 
هذا على القول بکون الأوامر متعلقة بالطبائع.
وأما بناءً على تعلقها بالأفراد فکذلک ، وأنّ کان جریإنّه علیه أخفى ، کما لا یخفى ، فتأمل.
ثم لا یخفى إنّه بناءً على إمکان الترتب وصحته ، لا بد من الالتزام بوقوعه ، من دون انتطار دلیل آخر علیه ، وذلک لوضوح أن المزاحمة على صحة الترتب لا تقتضی عقلاً إلّا امتنع الاجتماع فی عرض واحد ، لا کذلک ، فلو قیل بلزوم الأمر فی صحة العبادة : ولم یکن فی الملاک کفایة ، کانت العبادة مع ترک الأهم صحیحة لثبوت الأمر بها فی هذا الحال ، کما إذا لم تکن هناک مضادة.
فصل
لا یجوز أمر الأمر ، مع علمه بانتفاء شرطه ، خلافاً لما نسب (1) إلى أکثر مخالفینا (2) ، ضرورة إنّه لا یکاد یکون الشیء مع عدم علته ، کما هو المفروض ها هنا ، فإن الشرط من أجزائها ، وانحلال المرکب بانحلال بعضٍ أجزائه مما لا یخفى ، وکون الجواز فی العنوان بمعنى الإِمکان الذاتی بعید عن محلّ الخلاف بین الأعلام.
نعم لو کان المراد من لفظ الأمر ، الأمر ببعض مراتبه ، ومن الضمیر الراجع إلیه بعضٍ مراتبه الآخر ، بأن یکون النزاع فی أن أمر الأمر یجوز إنشاءً مع علمه بانتفاء شرطه ، بمرتبة فعلیة.
وبعبارة أُخرى : کان النزاع فی جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعلیة لعدم شرطه ، لکان جائزاً ، وفی وقوعه فی الشرعیات والعرفیات
__________________
1 ـ کما فی معالم الأصول / 85 ، وقوانین الأصول / 125.
2 ـ راجع شرح مختصر الأصول للعضدی / 107 ، وتیسیر التحریر 2 / 240.  

 
غنىً وکفایة ، ولا یحتاج معه إلى مزید بیان أو مؤونة برهان.
وقد عرفت سابقاً (1) أن داعی إنشاءً الطلب ، لا ینحصر بالبعث والتحریک جداً حقیقة ، بل قد یکون صوریا امتحاناً ، وربما یکون غیر ذلک.
ومنع کونه أمراً إذا لم یکن بداعی البعث جداً واقعاً ، وأنّ کان فی محله ، إلّا أن إطلاق الأمر علیه ، إذا کانت هناک قرینة على إنّه بداعٍ آخر غیر البعث توسعاً ، مما لا بأس به أصلاً ، کما لا یخفى.
وقد ظهر بذلک حال ما ذکره الأعلام فی المقام من النقض والأبرام ، وربما یقع به التصالح بین الجانبین ویرتفع النزاع من البین ، فتأمل جداً.
فصل
الحق أن الأوامر والنواهی تکون متعلقة بالطبائع دون الأفراد ، ولا یخفى أن المراد أن متعلق الطلب فی الأوامر هو صرف الایجاد ، کما أن متعلقه فی النواهی هو محض الترک ، ومتعلقهما هو نفس الطبیعة المحدودة بحدود والمقیدة بقیود ، تکون بها موافقة للغرض والمقصود ، من دون تعلق غرض بإحدى الخصوصیات اللازمة للوجودات ، بحیث لو کان الانفکاک عنها بأسرها ممکناً ، لما کان ذلک مما یضر بالمقصود أصلاً ، کما هو الحال فی القضیة الطبیعیة فی غیر الأحکام ، بل فی المحصورة ، على ما حقق فی غیر المقام.
وفی مراجعة الوجدان للانسان غنىً وکفایة عن إقامة البرهان على ذلک ، حیث یرى إذا راجعه إنّه لا غرض له فی مطلوباته إلّا نفس الطبائع ، ولا نظر له إلّا إلیها من دون نظر إلى خصوصیاتها الخارجیة ، وعوارضها العینیة ، وأنّ نفس وجودها السعی بما هو وجودها تمام المطلوب ، وأنّ کان ذاک الوجود
__________________
1 ـ فی المقصد الأوّل ، الفصل الثّانی ، المبحث الأوّل صفحة / 69. 
 
لا یکاد ینفک فی الخارج عن الخصوصیة.
فانقدح بذلک أن المراد بتعلق الأوامر بالطبائع دون الأفراد ، إنّها بوجودها السعی بما هو وجودها قبالاً لخصوص الوجود ، متعلقة للطلب ، لا إنّها بما هی هی کانت متعلقة له ، کما ربما یتوهم ، فإنّها کذلک لیست إلّا هی ، نعم هی کذلک تکون متعلقة للأمر ، فإنّه طلب الوجود ، فافهم.
دفع وهم : لا یخفى أن کون وجود الطبیعة أو الفرد متعلقاً للطلب ، إنّما یکون بمعنى أن الطالب یرید صدور الوجود من العبد ، وجعله بسیطاً الذی هو مفاد کان التامة ، وإفاضته ، لا إنّه یرید ما هو صادر وثابت فی الخارج کی یلزم طلب الحاصل ، کما توهّم ، ولا جعل الطلب متعلقاً بنفس الطبیعة ، وقد جعل وجودها غایة لطلبها.
وقد عرفت أن الطبیعة بما هی هی لیست إلّا هی ، لا یعقل أن یتعلق بها طلب لتوجد أو تترک ، وإنّه لابد فی تعلق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها ، فیلاحظ وجودها فیطلبه ویبعث إلیه ، کی یکون ویصدر منه ، هذا بناءً على أصالة الوجود.
وأما بناءً على أصالة الماهیة ، فمتعلق الطلب لیس هو الطبیعة بما هی أیضاً ، بل بما هی بنفسها فی الخارج ، فیطلبها کذلک لکی یجعلها بنفسها من الخارجیات والاعیان الثابتات ، لا بوجودها کما کان الأمر بالعکس على أصالة الوجود.
وکیف کان فیلحظ الأمر ما هو المقصود من الماهیة الخارجیة أو الوجود ، فیطلبه ویبعث نحوه لیصدر منه ویکون ما لم یکن ، فافهم وتأملّ جیداً.
فصل
إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدلیل الناسخ ولا المنسوخ ، على بقاء الجواز  

 
بالمعنى الأعم ، ولا بالمعنى الأخص ، کما لا دلالة لهما على ثبوت غیره من الأحکام ، ضرورة أن ثبوت کلّ واحد من الأحکام الأربعة الباقیة بعد ارتفاع الوجوب واقعاً ممکن ، ولا دلالة لواحد من دلیلی الناسخ والمنسوخ ـ بإحدى الدلالات ـ على تعیین واحد منها ، کما هو أوضح من أن یخفى ، فلا بد للتعیین من دلیل آخر ، ولا مجال لاستصحاب الجواز ، إلّا بناءً على جریإنّه فی القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلی ، وهو ما إذا شک فی حدوث فرد کلی مقارناً لارتفاع فرده الآخر ، وقد حققنا فی محله (1) ، إنّه لا یجری الاستصحاب فیه ، ما لم یکن الحادث المشکوک من المراتب القویة أو الضعیفة المتصلة بالمرتفع ، بحیث عد عرفاً ـ لو کان ـ إنّه باق ، لا إنّه أمر حادث غیره.
ومن المعلوم أن کلّ واحد من الأحکام مع الآخر عقلاً وعرفاً ، من المباینات والمتضادات ، غیر الوجوب والاستحباب ، فإنّه وأنّ کان بینهما التفاوت بالمرتبة والشدة والضعف عقلاً إلّا إنّهما متباینان عرفاً ، فلا مجال للاستصحاب إذا شک فی تبدل أحدهما بالآخر ، فإن حکم العرف ونظره یکون متّبعاً فی هذا الباب.
فصل
إذا تعلق الأمر بأحد (2) الشیئین أو الاشیاء ، ففی وجوب کلّ واحد على التخییر ، بمعنى عدم جواز ترکه إلّا إلى بدل ، أو وجوب الواحد بعینه ، أو وجوب کلّ منهما مع السقوط بفعل أحدهما ، أو وجوب المعینّ عند الله ، أقوال.
والتحقیق أن یقال : إنّه إن کان الأمر بأحد الشیئین ، بملاک إنّه هناک غرض واحد یقوم به کلّ واحد منهما ، بحیث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام
__________________
1 ـ فی التنبیه الثالث من تنبیهات الاستصحاب / 406.
2 ـ فی « ب » باحدى.
 
الغرض ، ولذا یسقط به الأمر ، کان الواجب فی الحقیقة هو الجامع بینهما ، وکان التخییر بینهما بحسب الواقع عقلّیاً لا شرعیاً ، وذلک لوضوح أن الواحد لا یکاد یصدر من الاثنین بما هما اثنان ، ما لم یکن بینهما جامع فی البین ، لاعتبار نحو من السنخیة بین العلة والمعلول.
وعلیه : فجعلهما متعلقین للخطاب الشرعی ، لبیان أن الواجب هو الجامع بین هذین الاثنین.
وإن کان بملاک إنّه یکون فی کلّ واحد منهما غرض ، لا یکاد یحصل مع حصول الغرض فی الآخر بإتیإنّه ، کان کلّ واحد واجباً بنحو من الوجوب ، یستکشف عنه تبعاته ، من عدم جواز ترکه إلّا إلى الآخر ، وترتب الثواب على فعل الواحد منهما ، والعقاب على ترکهما ، فلا وجه فی مثله للقول بکون الواجب هو (1) أحدهما لا بعینه مصداقاً ولا مفهوماً ، کما هو واضح ، إلّا أن یرجع إلى ما ذکرنا فیما إذا کان الأمر بأحدهما بالملاک الأوّل ، من أن الواجب هو الواحد الجامع بینهما ؛ ولا أحدهما م عیناً ، مع کون کلّ منهما مثل الآخر فی إنّه وافٍ بالغرض [ ولا کلّ واحد منهما تعیناً مع السقوط بفعل أحدهما ، بداهة عدم السقوط مع إمکان استیفاء ما فی کلّ منهما من الغرض ، وعدم جواز الإِیجاب کذلک مع عدم إمکانه ] (2) فتدبر.
بقی الکلام فی إنّه هل یمکن التخییر عقلاً أو شرعاً بین الأقلّ والأکثر ، أولاً؟
__________________
1 ـ فإنّه وأنّ کان مما یصحّ أن یتعلق به بعضٍ الصفات الحقیقیة ذات الاضافة کالعلم ، فضلاً عن الصفات الاعتباریة المحضة کالوجوب والحرمة وغیرهما ، مما کان من خارج المحمول الذی لیس بحذائه فی الخارج شیء غیر ما هو منشأ انتزاعه ، إلّا إنّه لا یکاد یصحّ البعث حقیقة إلیه ، والتحریک نحوه ، کما لا یکاد یتحقق الداعی لإِرادته ، والعزم علیه ، ما لم یکن مائلا إلى إرادة الجامع ، والتحرک نحوه ، فتأمل جیداً ( منه 1 ).
2 ـ أثبتناها من « ب ».  

 
ربما یقال ، بإنّه محال ، فإن الأقلّ إذا وجد کان هو الواجب لا محالة ، ولو کان فی ضمن الأکثر ، لحصول الغرض به ، وکان الزائد علیه من أجزاء الأکثر زائداً على الواجب ، لکنه لیس کذلک ، فإنّه إذا فرض أن المحصل للغرض فیما إذا وجد الأکثر ، هو الأکثر لا الأقلّ الذی فی ضمنه ، بمعنى أن یکون لجمیع أجزائه حینئذ دخل فی حصوله ، وأنّ کان الأقلّ لو لم یکن فی ضمنه کان وافیاً به أیضاً ، فلا محیص عن التخییر بینهما ، إذ تخصیص الأقلّ بالوجوب حینئذ کان بلا مخصص ، فإن الأکثر بحدَّه یکون مثله على الفرض ، مثل أن یکون الغرض الحاصل من رسم الخط مترتباً على الطویل إذا رسم بماله من الحد ، لا على القصیر فی ضمنه ، ومعه کیف یجوز تخصیصه بما لا یعمه؟ ومن الواضح کون هذا الفرض بمکان من الأمکان.
إن قلت : هبه فی مثل ما إذا کان للاکثر وجود واحد ، لم یکن للاقل فی ضمنه وجود على حدة ، کالخط الطویل الذی رسم دفعة بلا تخلل سکون فی البین ، لکنه ممنوع فیما کان له فی ضمنه وجود ، کتسبیحة فی ضمن تسبیحات ثلاث ، أو خط طویل رسم مع تخلل العدم فی رسمه ، فإن الأقلّ قد وجد بحدَّه ، وبه یحصل الغرض على الفرض ، ومعه لا محالة یکون الزائة علیه مما لا دخل له فی حصوله ، فیکون زائداً على الواجب ، لا من أجزائه.
قلت : لا یکاد یختلف الحال بذاک ، فإنّه مع الفرض لا یکاد یترتب الغرض على الأقلّ فی ضمن الأکثر ، وإنما یترتب علیه بشرط عدم الانضمام ، ومعه کان مترتباً على الأکثر بالتمام.
وبالجملة إذا کان کلّ واحد من الأقلّ والأکثر بحدَّه مما یترتب علیه الغرض ، فلا محالة یکون الواجب هو الجامع بینهما ، وکان التخییر بینهما عقلّیاً إن کان هناک غرض واحد ، وتخییرا شرعیاً فیما کان هناک غرضان ، على ما عرفت. 
 
نعم لو کان الغرض مترتباً على الأقلّ ، من دون دخل للزائد ، لما کان الأکثر مثل الأقلّ وعدلاً له ، بل کان فیه اجتماع الواجب وغیره ، مستحباً کان أو غیره ، حسب اختلاف الموارد ، فتدبرّ جیداً.
فصل
فی الوجوب (1) الکفائی :
والتحقیق إنّه سنخ من الوجوب ، وله تعلق بکل واحد ، بحیث لو أخلّ بامتثاله الکلّ لعوقبوا على مخالفته جمیعاً ، وأنّ سقط عنهم لو أتى به بعضهم ، وذلک لإنّه قضیة ما إذا کان هناک غرض واحد ، حصل بفعل واحد ، صادر عن الکلّ أو البعض.
کما أن الظاهر هو امتثال الجمیع لو أتوا به دفعة ، واستحقاقهم للمثوبة ، وسقوط الغرض بفعل الکلّ ، کما هو قضیة توارد العلل المتعدِّدة على معلول واحد.
فصل
لا یخفى إنّه وأنّ کان الزمان مما لا بدّ منه عقلاً فی الواجب ، إلّا إنّه تارةً مما له دخل فیه شرعاً فیکون موقتا ، وأخرى لا دخل له فیه أصلاً فهو غیر موقت ، والموقت امّا أن یکون الزمان المأخوذ فیه بقدره فمضّیق ، وإما أن یکون أوسع منه فموسّع.
ولا یذهب علیک أن الموسّع کلی ، کما کان له أفراد دفعیة ، کان له أفراد تدریجیة ، یکون التخییر بینها کالتخییر بین أفرادها الدفعیة عقلّیاً.
ولا وجه لتوهم أن یکون التخییر بینها شرعیاً ، ضرورة أن نسبتها إلى الواجب نسبة أفراد الطبائع إلیها ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ فی « ب » : فی الوجوب الواجب الکفائی.  

 
ووقوع الموسّع فضلاً عن إمکانه ، مما لا ریب فیه ، ولا شبهة تعتریه ، ولا اعتناء ببعض التسویلات کما یظهر من المطّولات.
ثم إنّه لا دلالة للأمر بالموقّت بوجه على الأمر به فی خارج الوقت ، بعد فوته فی الوقت ، لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به.
نعم لو کان التوقیت بدلیل منفصل ، لم یکن له إطلاق على التقیید بالوقت ، وکان لدلیل الواجب إطلاق ، لکان قضیة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت ، وکون التقیید به بحسب تمام المطلوب لا أصله.
وبالجملة : التقیید بالوقت کما یکون بنحو وحدة المطلوب ، کذلک ربما یکون بنحو تعدَّد المطلوب ، بحیث کان أصل الفعل ، ولو فی خارج الوقت مطلوباً فی الجملة ، وأنّ لم یکن بتمام المطلوب ، إلّا إنّه لابد فی إثبات إنّه بهذا النحو من دلالة ، ولا یکفی الدلیل على الوقت إلّا فیما عرفت ، ومع عدم الدلالة فقضیة أصالة البراءة عدم وجوبها فی خارج الوقت ، ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت ، فتدبرّ جیداً.
فصل
الأمر بالأمر بشیء ، أمر به لو کان الغرض حصوله ، ولم یکن له غرض فی توسیط أمر الغیر به إلّا تبلیغ (1) أمره به ، کما هو المتعارف فی أمر الرسل بالأمر أو النهی. وأما لو کان الغرض من ذلک یحصل بأمره بذاک الشیء ، من دون تعلق غرضه به ، أو مع تعلق غرضه به لا مطلقاً ، بل بعد تعلق أمره به ، فلا یکون أمراً بذاک الشیء ، کما لا یخفى.
وقد انقدح بذلک إنّه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر ، على کونه أمراً به ، ولا بدّ فی الدلالة
__________________
1 ـ فی « ب » : بتبلیغ.  

 
علیه من قرینة علیه.
فصل
إذا ورد أمر بشیء بعد الأمر به قبل امتثاله ، فهل یوجب تکرار ذاک الشیء ، أو تأکید الأمر الأوّل ، والبعث الحاصل به؟ قضیة إطلاق المادة هو التأکید ، فإن الطلب تأسیساً لا یکاد یتعلق بطبیعة واحدة مرتین ، من دون أن یجیء تقیید لها فی البین ، ولو کان بمثل ( مرّة أُخرى ) کی یکون متعلق کلّ منهما غیر متعلق الآخر ، کما لا یخفى ، والمنساق من إطلاق الهیئة ، وأنّ کان هو تأسیس الطلب لا تأکیده ، إلّا أن الظاهر هو انسباق التأکید عنها ، فیما کانت مسبوقة بمثلها ، ولم یذکر هناک سبب ، أو ذکر سبب واحد.
 
 
 
 


 
 
 
المقصد الثّانی : فی النواهی
فصل
الظاهر أن النهی بمادته وصیغته فی الدلالة على الطلب ، مثل الأمر بمادته وصیغته ، غیر أن متعلق الطلب فی أحدهما الوجود ، وفی الآخر العدم ، فیعتبر فیه ما استظهرنا اعتباره فیه بلا تفاوت أصلاً ، نعم یختص النهی بخلاف ، وهو : إن متعلق الطلب فیه ، هل هو الکف ، أو مجرد الترک وأنّ لا یفعل؟ والظاهر هو الثانی.
وتوهمّ أن الترک ومجرد أن لا یفعل خارج عن تحت الاختیار ، فلا یصحّ أن یتعلق به البعث والطلب ، فاسد ، فإن الترک أیضاً یکون مقدوراً ، وإلاّ لما کان الفعل مقدوراً وصادراً بالإِرادة والاختیار ، وکون العدم الازلی لا بالاختیار ، لا یوجب أن یکون بحسب البقاء والاستمرار الذی یکون بحسبه محلاً للتکلیف.
ثم إنّه لا دلالة لصیغته على الدوام والتکرار ، کما لا دلالة لصیغة الأمر وأنّ کان قضیتهما عقلاً تختلف ولو مع وحدة متعلقهما ، بأن یکون طبیعة واحدة بذاتها وقیدها تعلق بها الأمر مرة والنهی أُخرى ، ضرورة أن وجودها یکون بوجود فرد واحد ، وعدمها لا یکاد یکون إلّا بعدم الجمیع ، کما لا یخفى.
ومن ذلک یظهر أن الدوام والاستمرار ، إنّما یکون فی النهی إذا کان متعلقه طبیعة مطلقة غیر مقیدة بزمان أو حال ، فإنّه حینئذ لا یکاد یکون مثل هذه الطبیعة معدومة ، إلّا بعدم جمیع أفرادها الدفعیة والتدریجیة.  

 
وبالجملة قضیة النهی ، لیس إلّا ترک تلک الطبیعة التی تکون متعلقة له ، کانت مقیدة أو مطلقة ، وقضیة ترکها عقلاً ، إنّما هو ترک جمیع أفرادها.
ثم إنّه لا دلالة للنهی على إرادة الترک لو خولف ، أو عدم إرادته ، بل لابد فی تعیین ذلک من دلالة ، ولو کان إطلاق المتعلق من هذه الجهة ، ولا یکفی إطلاقها من سائر الجهات ، فتدبرّ جیداً.
فصل
اختلفوا فی جواز اجتماع الأمر والنهی فی واحد ، وامتناعه ، على أقوال : (1) ثالثها (2) : جوازه عقلاً وامتناعه عرفاً ، وقبل الخوض فی المقصود یقدم أمور :
الأول : المراد بالواحد مطلق ما کان ذا وجهین ، ومندرجا تحت عنوانین ، بأحدهما کان مورداً للأمر ، وبالآخر للنهی ، وأنّ کان کلیاً مقولاً على کثیرین ، کالصلاة فی المغصوب ، وإنما ذکر لاخراج ما إذا تعدَّد متعلق الأمر والنهی ولم یجتمعا وجوداً ، ولو جمعهما واحد مفهوماً ، کالسجود لله تعالى ، والسجود للصنم مثلاً ، لا لاخراج الواحد الجنسی أو النوعی کالحرکة والسکون الکلیین المعنونین بالصلاتیة والغصبیة.
الثانی : الفرق بین هذه المسألة ومسألة النهی فی العبادة (3) ، هو أن الجهة المبحوث عنها فیها التی بها تمتاز المسائل ، هی أن تعدَّد الوجه والعنوان فی الواحد یوجب تعدَّد متعلق الأمر والنهی ، بحیث یرتفع به غائلة استحالة الاجتماع فی الواحد بوجه واحد ، أو لا یوجبه ، بل یکون حاله حاله ، فالنزاع فی سرایة کلّ
__________________
1 ـ راجع مطارح الأنظار / 129. فی اجتماع الأمر والنهی.
2 ـ مجمع الفائدة والبرهان للأردبیلی 2 : 110.
3 ـ فی « ب » العبادات. 
 
من الأمر والنهی إلى متعلق الآخر ، لاتحاد متعلقیهما وجوداً ، وعدم سرایته لتعددهما وجهاً ، وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها فی المسألة الأخرى ، فإن البحث فیها فی أن النهی فی العبادة [ أو المعاملة ] (1) یوجب فسادها ، بعد الفراغ عن التوجه إلیها.
نعم لو قیل بالامتناع مع ترجیح جانب النهی فی مسألة الاجتماع ، یکون مثل الصلاة فی الدار المغصوبة من صغریات تلک المسألة.
فانقدح أن الفرق بین المسألتین فی غایة الوضوح.
وأما ما أفاده فی الفصول (2) ، من الفرق بما هذه عبارته :
( ثم اعلم أن الفرق بین المقام والمقام المتقدم ، وهو أن الأمر والنهی هل یجتمعان فی شیء واحد أو لا؟ امّا فی المعاملات فظاهر ، وأما فی العبادات ، فهو أن النزاع هناک فیما إذا تعلق الأمر والنهی بطبیعتین متغایرتین بحسب الحقیقة ، وأنّ کان بینهما عموم مطلق ، وهنا فیما إذا اتحدتا حقیقة وتغایرتا بمجرد الإِطلاق والتقیید ، بأن تعلق الأمر بالمطلق ، والنهی بالمقید ) انتهى موضع الحاجة ، فاسد ، فإن مجرد تعدَّد الموضوعاًت وتغایرها بحسب الذوات ، لا یوجب التمایز بین المسائل ، ما لم یکن هناک اختلاف الجهات ، ومعه لا حاجة أصلاً إلى تعددها ، بل لابد من عقد مسألتین ، مع وحدة الموضوع وتعدد الجهة المبحوث عنها ، وعقد مسألة واحدة فی صورة العکس ، کما لا یخفى.
ومن هنا انقدح أیضاً فساد الفرق ، بأن النزاع هنا فی جواز الاجتماع عقلاً ، وهناک فی دلالة النهی لفظاً. فإن مجرد ذلک لو لم یکن تعدَّد الجهة فی البین ، لا یوجب إلّا تفصیلا فی المسألة الواحدة ، لا عقد مسألتین ، هذا مع
__________________
1 ـ أثبتناها من « ب ».
2 ـ الفصول / 140 ، فصل فی دلالة النهی على فساد المنهی عنه. 
 
عدم اختصاص النزاع فی تلک المسألة بدلالة اللفظ ، کما سیظهر.
الثالث : إنّه حیث کانت نتیجة هذه المسألة مما تقع فی طریق الاستنباط ، کانت المسألة من المسائل الأصولیة ، لا من مبادئها الاحکامیة ، ولا التصدیقیة ، ولا من المسائل الکلامیة ، ولا من المسائل الفرعیة ، وأنّ کانت فیها جهاتها ، کما لا یخفى ، ضرورة أن مجرد ذلک لا یوجب کونها منها إذا کانت فیها جهة أُخرى ، یمکن عقدها معها من المسائل ، إذ لا مجال حینئذ لتوهم عقدها من غیرها فی الأصول ، وأنّ عقدت کلامیة فی الکلام ، وصحّ عقدها فرعیة أو غیرها بلا کلام ، وقد عرفت فی أول الکتاب (1) إنّه لا ضیر فی کون مسألة واحدة ، یبحث فیها عن جهة خاصة من مسائل علمین ، لانطباق جهتین عامتین على تلک الجهة ، کانت بإحداهما من مسائل علم ، وبالأُخرى من آخر ، فتذکرّ.
الرابع : إنّه قد ظهر من مطاوی ما ذکرناه ، أن المسألة عقلیة ، ولا اختصاص للنزاع فی جواز الاجتماع والامتناع فیها بما إذا کان الإِیجاب والتحریم باللفظ ، کما ربما یوهمه التعبیر بالأمر والنهی الظاهرین فی الطلب بالقول ، إلّا إنّه لکون الدلالة علیهما غالباً بهما ، کما هو أوضح من أن یخفى. وذهاب البعض (2) إلى الجواز عقلاً والامتناع عرفاً ، لیس بمعنى دلالة اللفظ ، بل بدعوى أن الواحد بالنظر الدقیق العقلی اثنان ، وإنّه بالنظر المسامحی العرفی واحد ذو وجهین ، وإلاّ فلا یکون معنى محصلا للامتناع العرفی ، غایة الأمر دعوى دلالة اللفظ على عدم الوقوع بعد اختیار جواز الاجتماع ، فتدبرّ جیداً.
الخامس : لا یخفى أن ملاک النزاع فی جواز الاجتماع والامتناع یعم جمیع أقسام الإِیجاب والتحریم ، کما هو قضیة إطلاق لفظ الأمر والنهی ،
__________________
1 ـ فی الأمر الأوّل من مقدّمة الکتاب / 7.
2 ـ الأردبیلی فی شرح الإِرشاد 2 / 110. 
 
ودعوى الانصراف إلى النفسیین التعیینیین العینیین فی مادتهما ، غیر خالیة عن الاعتساف ، وأن سلّم فی صیغتهما ، مع إنّه فیها ممنوع (1).
نعم لا یبعد دعوى الظهور والانسباق من الإِطلاق ، بمقدمات الحکمة الغیر الجاریة فی المقام ، لما عرفت من عموم الملاک لجمیع الأقسام ، وکذا ما وقع فی البین من النقض والأبرام. مثلاً إذا أمر بالصلاة والصوم تخییراً بینهما ، وکذلک نهى عن التصرف فی الدار والمجالسة مع الاغیار ، فصلى فیها مع مجالستهم ، کان حال الصلاة فیها حالها ، کما إذا أمر بها تعییناً (2) ، ونهى عن التصرف فیها کذلک فی جریان النزاع فی الجواز والامتناع ، ومجیء أدلة الطرفین ، وما وقع من النقض والأبرام فی البین ، فتفطن.
السادس : إنّه ربما یؤخذ فی محلّ النزاع قید المندوحة فی مقام الامتثال ، بل ربما قیل : بأن الإِطلاق إنّما هو للاتکال على الوضوح ، إذ بدونها یلزم التکلیف بالمحال.
ولکن التحقیق مع ذلک عدم اعتبارها فی ما هو المهمّ فی محلّ النزاع من لزوم المحال ، وهو اجتماع الحکمین المتضادین ، وعدم الجدوى فی کون موردهما موجهاً بوجهین فی رفع غائلة اجتماع الضدین ، أو عدم لزومه ، وأنّ تعدَّد الوجه یجدی فی رفعها ، ولا یتفاوت فی ذلک أصلاً وجود المندوحة وعدمها ، ولزوم التکلیف بالمحال بدونها محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع.
نعم لابد من اعتبارها فی الحکم بالجواز فعلاً ، لمن یرى التکلیف بالمحال محذوراً ومحالاً ، کما ربما لابد من اعتبارٍ أمر آخر فی الحکم به کذلک أیضاً.
وبالجملة لا وجه لاعتبارها ، إلّا لأجل اعتبارٍ القدرة على الامتثال ، وعدم
__________________
1 ـ فی « ب » : ممنوعة.
2 ـ فی « ب » : ت عیناً. 
 
لزوم التکلیف بالمحال ، ولا دخل له بما هو المحذور فی المقام من التکلیف المحال ، فافهم واغتنم.
السابع : إنّه ربما یتوهم تارةً أن النزاع فی الجواز والامتناع ، یبتنی على القول بتعلق الأحکام بالطبائع ، وأما الامتناع على القول بتعلقها بالأفراد فلا یکاد یخفى ، ضرورة لزوم تعلق الحکمین بواحد شخصی ، ولو کان ذا وجهین على هذا القول.
وأخرى أن القول بالجواز مبنی على القول بالطبائع ، لتعدد متعلق الأمر والنهی ذاتاً علیه ، وأنّ اتحد وجوداً ، والقول بالامتناع على القول بالأفراد ، لاتحاد متعلقهما شخصاً خارجاً ، وکونه فرداً واحداً.
وأنت خبیر بفساد کلاّ التوهمین ، فإن تعدَّد الوجه إن کان یجدی بحیث لا یضر معه الاتحاد بحسب الوجود والایجاد ، لکان یجدی ولو على القول بالأفراد ، فإن الموجود الخارجی الموجه بوجهین ، یکون فرداً لکلّ من الطبیعتین ، فیکون مجمعاً لفردین موجودین بوجود واحد ، فکما لا یضر وحدة الوجود بتعدد الطبیعتین ، لا یضر بکون المجمع اثنین بما هو مصداق وفرد لکلّ من الطبیعتین ، وإلاّ لما کان یجدی أصلاً ، حتى على القول بالطبائع ، کما لا یخفى ، لوحدة الطبیعتین وجوداً واتحادهما خارجاً ، فکما أن وحدة الصلاتیة والغصبیة فی الصلاة فی الدار المغصوبة وجوداً غیر ضائر بتعددهما وکونها طبیعتین ، کذلک وحدة ما وقع فی الخارج من خصوصیات الصلاة فیها وجوداً غیر ضائر بکونه فرداً للصلاة ، فیکون مأموراً به ، وفردا للغصب فیکون منهیاً عنه ، فهو على وحدته وجوداً یکون اثنین ، لکونه مصداقاً للطبیعتین ، فلا تغفل.
الثامن : إنّه لا یکاد یکون من باب الاجتماع ، إلّا إذا کان فی کلّ واحد من متعلقی الإِیجاب والتحریم مناط حکمه مطلقاً ، حتى فی مورد 
 
التصادق والاجتماع ، کی یحکم على الجواز بکونه فعلاً محکوماً بالحکمین وعلى الامتناع بکونه محکوماً بأقوى المناطین ، أو بحکم آخر غیر الحکمین فیما لم یکن هناک أحدهما أقوى ، کما یأتی تفصیله (1).
وأما إذا لم یکن للمتعلقین مناط کذلک ، فلا یکون من هذا الباب ، ولا یکون مورد الاجتماع محکوماً إلّا بحکم واحد منها ، إذا کان له مناطه ، أو حکم آخر غیرهما ، فیما لم یکن لواحد منهما ، قیل بالجواز أو الامتناع ، هذا بحسب مقام الثبوت.
وأما بحسب مقام الدلالة والإِثبات ، فالروایتان الدالّتان على الحکمین متعارضتان ، إذا احرز أن المناط من قبیل الثّانی ، فلابد من حمل المعارضة حینئذ بینهما من الترجیح والتخییر ، وإلاّ فلا تعارض فی البین ، بل کان من باب التزاحم بین المقتضیین ، فربما کان الترجیح مع ما هو أضعف دلیلاً ، لکونه أقوى مناطا ، فلا مجال حینئذ لملاحظة مرجحات الروایات أصلاً ، بل لا بد من مرجحات المقتضیات المتزاحمات ، کما یأتی الإِشارة (2) إلیها.
نعم لو کان کلّ منها متکفلاً للحکم الفعلّی ، لوقع بینهما التعارض ، فلا بدّ من ملاحظة مرجحات باب المعارضة ، لو لم یوفق بینهما بحمل أحدهما على الحکم الاقتضائی بملاحظة مرجحات باب المزاحمة ، فتفطن.
التاسع : إنّه قد عرفت أن المعتبر فی هذا الباب ، أن یکون کلّ واحد من الطبیعة المأمور بها والمنهی عنها ، مشتملة على مناط الحکم مطلقاً ، حتى فی حال الاجتماع ، فلو کان هناک ما دلّ على ذلک من اجماع أو غیره فلا إشکال ، ولو لم یکن إلّا اطلاق دلیلی الحکمین ، ففیه تفصیل وهو :
أن الإِطلاق لو کان فی بیان الحکم الاقتضائی ، لکان دلیلاً على ثبوت
__________________
1 و 2 ـ راجع التنبیه الثّانی من تنبیهات اجتماع الأمر والنهی ، ص 174. 
 
المقتضی والمناط فی مورد الاجتماع ، فیکون من هذا الباب ، ولو کان بصدد الحکم الفعلّی ، فلا إشکال فی استکشاف ثبوت المقتضی فی الحکمین على القول بالجواز ، إلّا إذا علم إجمالاً بکذب أحد الدلیلین ، فیعامل معهما معاملة المتعارضین. وأما على القول بالامتناع فالإطلاقان متنافیان ، من غیر دلالة على ثبوت المقتضی للحکمین فی مورد الاجتماع أصلاً ، فإن انتفاء أحد المتنافیین ، کما یمکن أن یکون لأجل المانع مع ثبوت المقتضی له ، یمکن أن یکون لأجل انتفائه ، إلّا أن یقال : إن قضیة التوفیق بینهما ، هو حمل کلّ منهما على الحکم الاقتضائی ، لو لم یکن أحدهما أظهر ، وإلاّ فخصوص الظاهر منهما.
فتلخص إنّه کلما کانت هناک دلالة على ثبوت المقتضی فی الحکمین ، کان من مسألة الاجتماع ، وکلما لم تکن هناک دلالة علیه ، فهو من باب التعارض مطلقاً ، إذا کانت هناک دلالة على انتفائه فی أحدهما بلا تعیین ولو على الجواز ، وإلاّ فعلى الامتناع.
العاشر (1) : أنّه لا إشکال فی سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتیان المجمع بداعی الأمر على الجواز مطلقاً ، ولو فی العبادات ، وأنّ کان معصیة للنهی أیضاً. وکذا الحال على الامتناع مع ترجیح جانب الأمر ، إلّا إنّه لا معصیة علیه ، وأما علیه وترجیح جانب النهی فیسقط به الأمر به مطلقاً فی غیر العبادات ، لحصول الغرض الموجب له. وأما فیها فلا ، مع الالتفات إلى الحرمة أو بدونه تقصیراً ، فإنّه وأنّ کان متمکناً ـ مع عدم الالتفات ـ من قصد القربة ، وقد قصدها ، إلّا أنه مع التقصیر لا یصلح لأن یتقرب به أصلاً ، فلا یقع مقربا ، وبدونه لا یکاد یحصل به الغرض الموجب للأمر به عبادة ، کما لا یخفى. وأما إذا لم یلتفت إلیها قصوراً ، وقد قصد القربة بإتیإنّه ، فالأمر
__________________
1 ـ من هنا إلى ص 184 عند قوله « ضرورة إنّه لو لا جلعه » سقط من نسخة ( أ ) المعتمدة عندنا. 
 
یسقط ، لقصد التقرب بما یصلح أن یتقرب به ، لاشتماله على المصلحة ، مع صدوره حسناً لأجل الجهل بحرمته قصوراً ، فیحصل به الغرض من الأمر ، فیسقط به قطعاً ، وأنّ لم یکن امتثالاً له بناءً على تبعیة الأحکام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعاً ، لا لما هو المؤثر منها فعلاً للحسن أو القبح ، لکونهما تابعین لما علم منهما کما حقق فی محله.
مع إنّه یمکن أن یقال بحصول الامتثال مع ذلک ، فإن العقل لا یرى تفاوتاً بینه وبین سائر الأفراد فی الوفاء بغرض (1) الطبیعة المأمور بها ، وأنّ لم تعمه بما هی مأمور بها ، لکنه لوجود المانع لا لعدم المقتضی.
ومن هنا انقدح إنّه یجزئ ، ولو قیل باعتبار قصد الامتثال فی صحة العبادة ، وعدم کفایة الإِتیان بمجرد المحبوبیة ، کما یکون کذلک فی ضد الواجب ، حیث لا یکون هناک أمر یقصد أصلاً.
وبالجملة مع الجهل قصوراً بالحرمة موضوعاً أو حکماً ، یکون الإِتیان بالمجمع امتثالاً ، وبداعی الأمر بالطبیعة لا محالة ، غایة الأمر إنّه لا یکون مما تسعه بما هی مأمور بها ، لو قیل بتزاحم الجهات فی مقام تأثیرها للاحکام الواقعیة ، وأما لو قیل بعدم التزاحم إلّا فی مقام فعلیة الأحکام ، لکان مما تسعه وامتثالا لامرها بلا کلام.
وقد انقدح بذلک الفرق بین ما إذا کان دلیلاً الحرمة والوجوب متعارضین ، وقدم دلیل الحرمة تخییراً أو ترجیحاً ، حیث لا یکون معه مجال للصحة أصلاً ، وبین ما إذا کانا من باب الاجتماع. وقیل بالامتناع ، وتقدیم جانب الحرمة ، حیث یقع صحیحاً فی غیر مورد من موارد الجهل والنسیان ، لموافقته للغرض بل للأمر ، ومن هنا علم أن
__________________
1 ـ فی « ب » : لغرض ، وما أثبتناه من النسخ المطبوعة هو الأصحّ. 
 
الثواب علیه من قبیل الثواب على الإطاعة ، لا الانقیاد ومجرد اعتقاد الموافقة.
وقد ظهر بما ذکرناه ، وجه حکم الأصحاب بصحة الصلاة فی الدار المغصوبة ، مع النسیان أو الجهل بالموضوع ، بل أو الحکم إذا کان عن قصور ، مع أن الجلّ لو لا الکلّ قائلون بالامتناع وتقدیم الحرمة ، ویحکمون بالبطلان فی غیر موارد العذر ، فلتکن من ذلک على ذکر.
إذا عرفت هذه الأمور ، فالحق هو القول بالامتناع ، کما ذهب إلیه المشهور ، وتحقیقه على وجه یتضح به فساد ما قیل ، أو یمکن أن یقال ، من وجوه الاستدلال لسائر الأقوال ، یتوقف على تمهید مقدمات :
أحدها : إنّه لاریب فی أن الأحکام الخمسة متضادة فی مقام فعلیتها ، وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر ، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بین البعث نحو واحد فی زمان والزجر عنه فی ذاک الزمان ، وأنّ لم یکن بینها مضادة ما لم یبلغ إلى تلک المرتبة ، لعدم المنافاة والمعاندة بین وجوداتها الإنشائیة قبل البلوغ إلیها ، کما لا یخفى ، فاستحالة اجتماع الأمر والنهی فی واحد لا تکون من باب التکلیف بالمحال ، بل من جهة إنّه بنفسه محال ، فلا یجوز عند من یجوز التکلیف بغیر المقدور أیضاً.
ثانیتها : إنّه لا شبهة فی أن متعلق الأحکام ، هو فعل المکلف وما هو فی الخارج یصدر عنه ، وهو فاعله وجاعله ، لا ما هو اسمه ، وهو واضح ، ولا ما هو عنوإنّه مما قد انتزع عنه ، بحیث لو لا انتزاعه تصوراً واختراعه ذهنا ، لا کان بحذائه شیء خارجاً ویکون خارج المحمول ، کالملکیة والزوجیة والرقیة والحریة والمغصوبیة (1) ، إلى غیر ذلک من الاعتبارات والإضافات ، ضرورة أن البعث لیس نحوه ، والزجر لا یکون عنه ، وإنما یؤخذ فی متعلق الأحکام آلة للحاظ
__________________
1 ـ فی « ب » : الغصبیة. 
 
متعلقاتها ، والإِشارة إلیها ، بمقدار الغرض منها والحاجة إلیها ، لا بما هو هو وبنفسه ، وعلى استقلاله وحیاله.
ثالثتها : إنّه لا یوجب تعدَّد الوجه والعنوان تعدَّد المعنون ، ولا ینثلم به وحدته ، فإن المفاهیم المتعدِّدة والعناوین الکثیرة ربما تنطبق على الواحد ، وتصدق على الفارد الذی لا کثرة فیه من جهة ، بل بسیط من جمبع الجهات ، لیس فیه حیث غیر حیث ، وجهة مغایرة لجهة أصلاً ، کالواجب تبارک وتعالى ، فهو على بساطته ووحدته وأحدیته ، تصدق علیه مفاهیم الصفات الجلالیة والجمالیة ، له الأسماء الحسنى والامثال العلیا ، لکنها بأجمعها حاکیة عن ذاک الواحد الفرد الاحد.
عباراتنا شتى وحسنک واحد
         وکل إلى ذاک الجمال یشیر
 
رابعتها : إنّه لا یکاد یکون للموجود بوجود واحد ، إلّا ماهیة واحدة وحقیقة فاردة ، لا یقع فی جواب السؤال عن حقیقته بما هو إلّا تلک الماهیة ، فال مفهوماً ن المتصادقان على ذاک لا یکاد یکون کلّ منهما ماهیة وحقیقة ، وکانت عینه فی الخارج کما هو شأن الطبیعی وفرده ، فیکون الواحد وجوداً واحداً ماهیة وذاتا لا محالة ، فالمجمع وأنّ تصادق علیه متعلقاً الأمر والنهی ، إلّا إنّه کما یکون واحداً وجوداً ، یکون واحداً ماهیة وذاتا ، ولا یتفاوت فیه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهیة.
ومنه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع فی المسألة ، على القولین فی تلک المسألة ، کما توهّم فی الفصول (1) ، کما ظهر عدم الابتناء على تعدَّد وجود الجنس والفصل فی الخارج ، وعدم تعدده ، ضرورة عدم کون العنوانین المتصادقین علیه من قبیل الجنس والفصل له ، وأن مثل الحرکة فی دار من أیّ
__________________
1 ـ راجع الفصول / 125.
 
مقولة کانت ، لا یکاد یختلف حقیقتها وماهیتها ویتخلف ذاتیاتها ، وقعت جزءا للصلاة أو لا ، کانت تلک الدار مغصوبة أو لا (1).
إذا عرفت ما مهدناه ، عرفت أن المجمع حیث کان واحداً وجوداً وذاتا ، کان تعلق الأمر والنهی به محالاً ، ولو کان تعلقهما به بعنوانین ، لما عرفت من کون فعل المکلف بحقیقته وواقعیته الصادرة عنه ، متعلقاً للأحکام لا بعناوینه الطارئة علیه ، وأنّ غائلة اجتماع الضدین فیه لا تکاد ترتفع بکون الأحکام تتعلق بالطبائع لا الأفراد (2) ، فإن غایة تقریبه أن یقال : إن الطبائع من حیث هی هی ، وأنّ کانت لیست إلّا هی ، ولا تتعلق بها الأحکام الشرعیة ، کالآثار العادیة والعقلیة ، إلّا إنّها مقیدة بالوجود ، بحیث کان القید خارجاً والتقید داخلا ، صالحة لتعلق الأحکام بها ، ومتعلقاً الأمر والنهی على هذا لا یکونان متحدین أصلاً ، لا فی مقام تعلق البعث والزجر ، ولا فی مقام عصیان النهی وإطاعة الأمر بإتیان المجمع بسوء الاختیار.
أما فی المقام الأوّل ، فلتعددهما بما هما متعلقان لهما وأنّ کانا متحدین فیما هو خارج عنهما ، بما هما کذلک.
وأما فی المقام الثّانی ، فلسقوط أحدهما بالاطاعة ، والآخر بالعصیان بمجرد الإِتیان ، ففی أیّ مقام اجتمع الحکمان فی واحد؟
وأنت خبیر بإنّه لا یکاد یجدی بعد ما عرفت ، من أن تعدَّد العنوان لا یوجب تعدَّد المعنون لا وجوداً ولا ماهیة ، ولا تنثلم به وحدته أصلاً ، وأنّ المتعلق للاحکام هو المعنونات لا العنوانات ، وإنّها إنّما تؤخذ فی المتعلقات بما
__________________
1 ـ وقد عرفت أن صدق العناوین المتعدِّدة ، لا تکاد تنثلم به وحدة المعنون ـ لا ذاتاً ولا وجوداً ـ غایته أن تکون له خصوصیة بها یستحق الاتصاف بها ، ومحدودا بحدود موجبة لانطباقها علیه ، کما لا یخفى ، وحدوده ومخصصاته لا توجب تعدده بوجه أصلاً ، فتدبرّ جیداً ( منه 1 ).
2 ـ کما فی قوانین الأصول 1 / 140. 
 
هی حاکیات کالعبارات ، لا بما هی على حیالها واستقلالها.
کما ظهر مما حققناه : إنّه لا یکاد یجدی أیضاً کون الفرد مقدّمة لوجود الطبیعی المأمور به أو المنهی عنه ، وإنّه لا ضیر فی کون المقدمة محرمة فی صورة عدم الانحصار بسوء الاختیار ، وذلک ـ مضافاً إلى وضوح فساده ، وأنّ الفرد هو عین الطبیعی فی الخارج ، کیف؟ والمقدمیة تقتضی الاثنینیة بحسب الوجود ، ولا تعدَّد کما هو واضح ـ إنّه إنّما یجدی لو لم یکن المجمع واحداً ماهیة ، وقد عرفت بما لا مزید علیه إنّه بحسبها أیضاً واحد.
ثم إنّه قد استدل (1) على الجواز بأمور :
منها (2) : إنّه لو لم یجز اجتماع الأمر والنهی ، لما وقع نظیره ، وقد وقع ، کما فی العبادات المکروهة ، کالصلاة فی مواضع التهمة وفی الحمام والصیام فی السفر وفی بعضٍ الایام.
بیان الملازمة : إنّه لو لم یکن تعدَّد الجهة مجدیاً فی إمکان اجتماعهما لما جاز اجتماع حکمین آخرین فی مورد مع تعددهما ، لعدم اختصاصهما من بین الأحکام بما یوجب الامتناع من التضاد ، بداهة تضادّها بأسرها ، والتالی باطل ، لوقوع اجتماع الکراهة والإِیجاب أو الاستحباب ، فی مثل الصلاة فی الحمام ، والصیام فی السفر ، وفی عاشوراء ولو فی الحضر ، واجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الإِباحة أو الاستحباب ، فی مثل الصلاة فی المسجد أو الدار.
والجواب عنه امّا إجمالاً : فبإنّه لا بدّ من التصرف والتأویل فیما وقع فی الشریعة مما ظاهره الاجتماع ، بعد قیام الدلیل على الامتناع ، ضرورة أن
__________________
1 ـ انظر قوانین الأصول 1 / 140.
2 ـ هذا هو الوجه الثّانی الذی استدل له ، قوانین الأصول 1 / 142. 
 
الظهور لا یصادم البرهان ، مع أن قضیة ظهور تلک الموارد ، اجتماع الحکمین فیها بعنوان واحد ، ولا یقول الخصم بجوازه کذلک ، بل بالامتناع ما لم یکن بعنوانین وبوجهین ، فهو أیضاً لا بد [ له ] من التفصی عن إشکال الاجتماع فیها لا سیما إذا لم یکن هناک مندوحة ، کما فی العبادات المکروهة التی لا بدل لها ، فلا یبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فیها على جوازه أصلاً ، کما لا یخفى.
وأما تفصیلا : فقد أُجیب عنه بوجوه (1) ، یوجب ذکرها بما فیها من النقض والأبرام طول الکلام بما لا یسعه المقام ، فالأولى الاقتصار على ما هو التحقیق فی حسم مادة الإِشکال ، فیقال وعلى الله الاتکال : إن العبادات المکروهة على ثلاثة أقسام :
أحدها : ما تعلق به النهی بعنوإنّه وذاته ، ولا بدل له ، کصوم یوم عاشوراء (2) ، والنوافل المبتدأئة فی بعضٍ الأوقات (3).
ثانیها : ما تعلق به النهی کذلک ، ویکون له البدل ، کالنهی عن الصلاة فی الحمام (4).
ثالثها : ما تعلق النهی به لا بذاته ، بل بما هو مجامع معه وجوداً ،
__________________
1 ـ راجع مطارح الأنظار / 130 وما بعده.
2 ـ الکافی 4 / 146 ، باب صوم عرفة وعاشوراء ، الأحادیث 3 إلى 7 ـ وللمزید راجع وسائل الشیعة ، 7 / 339 الباب 21 من أبواب الصوم المندوب.
3 ـ الکافی 3 / 288 باب التطوع فی وقت الفریضة والساعات التی لا یصلّى فیها ـ الاستبصار 1 / 277 باب وقت نوافل النهار ـ وللمزید راجع وسائل الشیعة 3 / 170 ، الباب 38 من أبواب المواقیت.
4 ـ الکافی 3 / 390 الحدیث 12 من باب الصلاة فی الکعبة ... الخ. 
 
أو ملازم له خارجاً ، کالصلاة فی مواضع التهمة (1) ، بناءً على کون النهی عنها لأجل اتحادها مع الکون فی مواضعها.
أما القسم الأوّل : فالنهی تنزیهًا عنه بعد الاجتماع على إنّه یقع صحیحاً ، ومع ذلک یکون ترکه أرجح ، کما یظهر من مداومة الأئمة : على الترک ، امّا لأجل انطباق عنوان ذی مصلحة على الترک ، فیکون الترک کالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض ، وأنّ کان مصلحة الترک أکثر ، فهما حینئذ یکونان من قبیل المستحبین المتزاحمین ، فیحکم بالتخییر بینهما لو لم یکن أهم فی البین ، وإلاّ فیتعین الأهم وأنّ کان الآخر یقع صحیحاً ، حیث إنّه کان راجحاً وموافقا للغرض ، کما هو الحال فی سائر المستحبات المتزاحمات بل الواجبات ، وارجحیة الترک من الفعل لا توجب (2) حزازة ومنقصة فیه أصلاً ، کما یوجبها ما إذا کان فیه مفسدة غالبة على مصلحته ، ولذا لا یقع صحیحاً على الامتناع ، فإن الحزازة والمنقصة فیه مانعة عن صلاحیة التقرب به ، بخلاف المقام ، فإنّه على ما هو علیه من الرجحان وموافقة الغرض ،
__________________
1 ـ التهذیب 2 / 219 الحدیث 71 من باب 11 ما یجوز الصلاة فیه من اللباس والمکان ... الخ. وللمزید راجع وسائل الشیعة 3 / 466 الباب 34 من أبواب مکان المصلی.
2 ـ ربما یقال : إن أرجحیة الترک ، وأنّ لم توجب منقصة وحزازة فی الفعل أصلاً ، إلّا إنّه توجب المنع منه فعلاً ، والبعث إلى الترک قطعاً ، کما لا یخفى ، ولذا کان ضد الواجب ـ بناءً على کونه مقدّمة له ـ حراماً ، ویفسد لو کان عبادة ، مع إنّه لا حزازة فی فعله ، وإنما کان النهی عنه وطلب ترکه لما فیه من المقدمیة له ، وهو على ما هو علیه من المصلحة ، فالمنع عنه لذلک کافٍ فی فساده لو کان عبادة.
قلت : یمکن أن یقال : إن لنهی التحریمی لذلک وأنّ کان کافیاً فی ذلک بلا إشکال ، إلّا أن التنزیهی غیر کافٍ ، إلّا إذا کان عن حزازة فیه ، وذلک لبداهة عدم قابلیة الفعل للتقرب به منه تعالى مع المنع عنه وعدم ترخیصه فی ارتکابه ، بخلاف التنزیهی عنه إذا کان لا لحزازة فیه ، بل لما فی الترک من المصلحة الراجحة ، حیث إنّه معه مرخوص فیه ، وهو على ما هو علیه من الرجحان والمحبوبیة له تعالى ، ولذلک لم تفسد العبادة إذا کانت ضد المستحبة أهم اتفاقاً ، فتأمل ( منه 1 ). 
 
کما إذا لم یکن ترکه راجحاً بلا حدوث حزازة فیه أصلاً.
وإما لأجل ملازمة الترک لعنوان کذلک ، من دون انطباقه علیه ، فیکون کما إذا انطبق علیه من غیر تفاوت ، إلّا فی أن الطلب المتعلق به حینئذ لیس بحقیقی ، بل بالعرض والمجاز ، فإنما یکون فی الحقیقة متعلقاً بما یلازمه من العنوان ، بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به حقیقة ، کما فی سائر المکروهات من غیر فرق ، إلّا أن منشأه فیها حزازة ومنقصة فی نفس الفعل ، وفیه رجحان فی الترک ، من دون حزازة فی الفعل أصلاً ، غایة الأمر کون الترک أرجح.
نعم یمکن أن یحمل النهی ـ فی کلاّ القسمین ـ على الإِرشاد إلى الترک الذی هو أرجح من الفعل ، أو ملازم لما هو الارجح وأکثر ثواباً لذلک ، وعلیه یکون النهی على نحو الحقیقة ، لا بالعرض والمجاز ، فلا تغفل.
وأما القسم الثّانی : فالنهی فیه یمکن أن یکون لأجل ما ذکر فی القسم الأوّل ، طابق النعل بالنعل ، کما یمکن أن یکون بسبب حصول منقصة فی الطبیعة المأمور بها ، لأجل تشخصها فی هذا القسم بمشخص غیر ملائم لها ، کما فی الصلاة فی الحمام ، فإن تشخصها بتشخص وقوعها فیه ، لا یناسب کونها معراجاً ، وأنّ لم یکن نفس الکون فی الحمام بمکروه ولا حزازة فیه أصلاً ، بل کان راجحاً ، کما لا یخفى.
وربما یحصل لها لأجل تخصصها بخصوصیة شدیدة الملاءمة معها مزیة فیها کما فی الصلاة فی المسجد والامکنة الشریفة ، وذلک لأن الطبیعة المأمور بها فی حد نفسها ، إذا کانت مع تشخص لا یکون له شدة الملاءمة ، ولا عدم الملاءمة لها مقدار من المصلحة والمزیة ، کالصلاة فی الدار مثلاً ، وتزداد تلک المزیة فیما کان تشخصها بماله شدة الملاءمة ، وتنقص فیما إذا لم تکن له ملاءمة ، ولذلک ینقص ثوابها تارةً ویزید أُخرى ، ویکون النهی فیه لحدوث نقصان فی مزیتها فیه إرشاداً إلى ما لا نقصان فیه من سائر الأفراد ، ویکون أکثر ثواباً منه ، ولیکن 
 
هذا مراد من قال : إن الکراهة فی العبادة بمعنى إنّها تکون أقل ثواباً ، ولا یرد علیه بلزوم اتصاف العبادة التی تکون أقل ثواباً من الأخرى بالکراهة ، ولزوم اتصاف ما لا مزّیة فیه ولا منقصة بالاستحباب ، لإنّه أکثر ثواباً مما فیه المنقصة ، لما عرفت من أن المراد من کونه أقل ثواباً ، إنّما هو بقیاسه إلى نفس الطبیعة المتشخصة بما لا یحدث معه مزیة لها ، ولا منقصة من المشخصات ، وکذا کونه أکثر ثوابا.
ولا یخفى أن النهی فی هذا القسم لا یصحّ إلا للإِرشاد ، بخلاف القسم الأوّل ، فإنّه یکون فیه مولویاً ، وأنّ کان حمله على الإِرشاد بمکان من الأمکان.
وأما القسم الثالث : فیمکن أن یکون النهی فیه عن العبادة المتحدة مع ذاک العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز ، وکان المنهی عنه به حقیقة ذاک العنوان ، ویمکن أن یکون على الحقیقة إرشاداً إلى غیرها من سائر الأفراد ، مما لا یکون متحداً معه أو ملازماً له ، إذ المفروض التمکن من استیفاء مزیة العبادة ، بلا ابتلاء بحزازة ذاک العنوان أصلاً ، هذا على القول بجواز الاجتماع.
وأما على الامتناع ، فکذلک فی صورة الملازمة ، وأما فی صورة الاتحاد وترجیح جانب الأمر ـ کما هو المفروض ، حیث إنّه صحة العبادة ـ فیکون حال النهی فیه حاله فی القسم الثّانی ، فیحمل على ما حمل علیه فیه ، طابق النعل بالنعل ، حیث إنّه بالدقة یرجع إلیه ، إذا على الامتناع ، لیس الاتحاد مع العنوان الآخر إلّا من مخصصاته ومشخصاته التی تختلف الطبیعة المأمور بها فی المزیة زیادة ونقیصة بحسب اختلافها فی الملاءمة کما عرفت.
وقد انقدح بما ذکرناه ، إنّه لا مجال أصلاً لتفسیر الکراهة فی العبادة بأقلیة الثواب فی القسم الأوّل مطلقاً ، وفی هذا القسم على القول بالجواز ، کما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب فیها ، وأنّ الأمر الاستحبابی یکون على نحو  

 
الإِرشاد إلى أفضل الأفراد مطلقاً على نحو الحقیقة ، ومولویاً اقتضائیاً کذلک ، وفعلیاً بالعرض والمجاز فیما کان ملاکه ملازمتها لما هو مستحب ، أو متحداً (1) معه على القول بالجواز.
ولا یخفى إنّه لا یکاد یأتی القسم الأوّل هاهنا ، فإن انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الذی لا بدل له إنّما یؤکد إیجابه ، لا إنّه یوجب استحبابه أصلاً ، ولو بالعرض والمجاز ، إلّا على القول بالجواز ، وکذا فیما إذا لازم مثل هذا العنوان ، فإنّه لو لم یؤکد الإِیجاب لما یصحح الاستحباب إلّا اقتضائیاً بالعرض والمجاز ، فتفطن.
ومنها : إن أهل العرف یعدون من اتى بالمأمور به فی ضمن الفرد المحرم ، مطیعاً وعاصیاً من وجهین (2) ، فإذا أمر المولى عبده بخیاطة ثوب ونهاه عن الکون فی مکان خاص ، کما مثل به الحاجبی (3) والعضدی (4) ، فلو خاطه فی ذاک المکان ، عد مطیعاً الأمر الخیاطة وعاصیاً للنهی عن الکون فی ذلک المکان.
وفیه ـ مضافاً إلى المناقشة فی المثال ، بإنّه لیس من باب الاجتماع ، ضرورة أن الکون المنهی عنه غیر متحد مع الخیاطة وجوداً أصلاً ، کما لا یخفى ـ
__________________
1 ـ فی « ب » : متحدة.
2 ـ دلیل آخر للمجوزین ، قوانین الأصول 1 / 148.
3 و 4 ـ انظر شرح العضدی على مختصر المنتهى لابن الحاجب / 92 ، 93. مسألة استحالة کون الشیء واجباً حراماً من جهة واحدة.
ابن الحاجب ابو عمرو عثمان بن عمر بن ابی بکر المالکی ، تولد سنة 570 ه‍ باسناد کان ابوه جندیاً ، اشتغل ابنه فی صغره بالقاهرة ، وحفظ القرآن المجید ، واخذ بعضٍ القراءات عن الشاطبی وسمع من البوصیری وجماعة ، لزم الإِشتغال حتى برع فی الأصول والعربیة ، ثم قدم دمشق ودرس بجامعها ، کان الاغلب علیه النحو ، وصنف فی عدة علوم ، له کتاب « الکافیة » فی النحو و « الشافیة » فی الصرف و « مختصر الأصول » ثم انتقل إلى الاسکندریة ، مات بها سنة 646 ه‍. ) الکنى والالقاب 1 / 244 ). 
 
المنع إلّا عن صدق أحدهما ، امّا الإطاعة بمعنى الامتثال فیما غلب جانب الأمر ، أو العصیان فیما غلب جانب النهی ، لما عرفت من البرهان على الامتناع.
نعم لا بأس بصدق الإطاعة بمعنى حصول الغرض والعصیان فی التوصلیات ، وأما فی العبادات فلا یکاد یحصل الغرض منها ، إلّا فیما صدر من المکلف فعلاً غیر محرم وغیر مبغوض علیه ، کما تقدم (1).
بقی الکلام فی حال التفصیل من بعضٍ الأعلام (2) ، والقول بالجواز عقلاً والامتناع عرفاً.
وفیه : إنّه لا سبیل للعرف فی الحکم بالجواز أو الامتناع ، إلّا طریق العقل ، فلا معنى لهذا التفصیل إلّا ما أشرنا إلیه من النظر المسامحی الغیر المبتنی على التدقیق والتحقیق ، وأنت خبیر بعدم العبرة به ، بعد الاطلاع على خلافه بالنظر الدقیق ، وقد عرفت فیما تقدم (3) أن النزاع لیس فی خصوص مدلول صیغة الأمر والنهی ، بل فی الأعم ، فلا مجال لأن یتوهم أن العرف هو المحکم فی تعیین المدالیل ، ولعله کان بین مدلولیهما حسب تعیینه (4) تناف ، لا یجتمعان فی واحد ولو بعنوانین ، وأنّ کان العقل یرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة فی واحد بوجهین ، فتدبر.
وینبغی التنبیه على أمور :
الأول : إن الاضطرار إلى ارتکاب الحرام ، وأنّ کان یوجب ارتفاع حرمته ، والعقوبة علیه مع بقاء ملاک وجوبه ـ لو کان ـ مؤثراً له ، کما إذا لم یکن
__________________
1 ـ فی الأمر العاشر / 156.
2 ـ المحقق الأردبیلی فی شرح الإِرشاد 2 : 110 ، وقد ینسب ذلک إلى صاحب الریاض ( قده ) أیضاً وکأنه مسموع منه شفاهاً ، على حد تعبیر صاحب مطارح الأنظار / 129.
3 ـ فی الأمر الرابع / 152.
4 ـ فی « ب » تعینه. 

کفایة الاصول - قسمت سوم

القضاء بطریق أولى ، نعم لو دلّ دلیله على أن سببه فوت الواقع ، ولو لم یکن هو فریضة ، کان القضاء واجباً علیه ، لتحقق سببه ، وأنّ أتى بالفرض لکنه مجرد الفرض.
المقام الثّانی : فی إجزاء الإِتیان بالمأمور به بالأمر الظاهری وعدمه.
والتحقیق : أن ما کان منه یجری فی تنقیح ما هو موضوع التکلیف وتحقیق متعلقه ، وکان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره ، کقاعدة الطهارة أو الحلیة ، بل واستصحابهما فی وجه قوی ، ونحوها بالنسبة إلى کلّ ما اشترط بالطهارة أو الحلیة یجری ، فإن دلیله یکون حاکماً على دلیل الاشتراط ، ومبیّناً لدائرة الشرط ، وإنّه أعم من الطهارة الواقعیة والظاهریة ، فانکشاف الخلاف فیه لا یکون موجباً لانکشاف فقدان العمل لشرطه ، بل بالنسبة إلیه یکون من قبیل ارتفاعه من حین ارتفاع الجهل ، وهذا بخلاف ما کان منها بلسان إنّه ما هو الشرط واقعاً ، کما هو لسان الأمارات ، فلا یجزئ ، فإن دلیل حجیته حیث کان بلسان إنّه واجد لما هو شرطه الواقعی ، فبارتفاع الجهل ینکشف إنّه لم یکن کذلک ، بل کان لشرطه فاقداً (1). هذا على ما هو الأظهر الأقوى فی الطرق والامارات ، من أن حجیتها لیست بنحو السببیة.
وأما بناءً علیها ، وأنّ العمل بسبب أداءً أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره ، یصیر حقیقة صحیحاً کإنّه واجد له ، مع کونه فاقده ، فیجزئ لو کان الفاقد معه ـ فی هذا الحال ـ کالواجد فی کونه وافیاً بتمام الغرض ، ولا یجزئ لو لم یکن کذلک ، ویجب الإِتیان بالواجد لاستیفاء الباقی ـ إن وجب ـ وإلاّ لاستحب. هذا مع إمکان استیفائه ، وإلاّ فلا مجال لاتیإنّه ، کما عرفت فی الأمر الاضطراری.
__________________
1 ـ فی « أ و ب » : فاقد. 
 
ولا یخفى أن قضیة إطلاق دلیل الحجیة ـ على هذا ـ هو الاجتزاء بموافقته أیضاً ، هذا فیما إذا أحرز أن الحجیة بنحو الکشف والطریقیة ، أیّ بنحو الموضوعیة والسببیة.
وأما إذا شک [ فیها ] (1) ولم یحرز إنّها على أیّ الوجهین ، فأصالة عدم الإِتیان بما یسقط معه التکلیف مقتضیة للاعادة فی الوقت ، واستصحاب عدم کون التکلیف بالواقع فعلّیاً فی الوقت لا یجدی ، ولا یثبت کون ما أتى به مسقطاً ، إلّا على القول بالأصل المثبت ، وقد علم اشتغال ذمته بما یشک فی فراغها عنه بذلک المأتی.
وهذا بخلاف ما إذا علم إنّه مأمور به واقعاً ، وشک فی إنّه یجزئ عما هو المأمور به الواقعی الأولی ، کما فی الأوامر الاضطراریة أو الظاهریة ، بناءً على أن یکون الحجیة على نحو السببیة ، فقضیة الأصل فیها ـ کما أشرنا إلیه ـ عدم وجوب الإِعادة ، للاتیان بما اشتغلت به الذمة یقیناً ، وأصالة عدم فعلیة التکلیف الواقعی بعد رفع الاضطرار وکشف الخلاف.
وأما القضاء فلا یجب بناءً على إنّه فرض جدید ، وکان الفوت المعلّق علیه وجوب لا یثبت بأصالة عدم الإِتیان ، إلّا على القول بالأصل المثبت ، وإلاّ فهو واجب ، کما لا یخفى على المتأمل ، فتأمل جیداً.
ثم إن هذا کله فیما یجری فی متعلق التکالیف ، من الأمارات الشرعیة و الأصول العملیة.
وأما ما یجری فی إثبات أصل التکلیف ، کما إذا قام الطریق أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة یومها فی زمان الغیبة ، فانکشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر فی زمإنّها ، فلا وجه لاجزائها مطلقاً ، غایة الأمر أن تصیر صلاة الجمعة فیها ـ أیضاً ـ ذات مصلحة لذلک ، ولا ینافی هذا بقاء صلاة الظهر على ما هی علیه من المصلحة ، کما لا یخفى ، إلّا أن یقوم دلیل بالخصوص على عدم وجوب صلاتین فی یوم واحد.
__________________
1 ـ أثبتناها من « أ ». 
 
 
تذنیبان :
الأول : لا ینبغی توهّم الإِجزاء فی القطع بالأمر فی صورة الخطأ ، فإنّه لا یکون موافقة للأمر فیها ، وبقی الأمر بلا موافقة أصلاً ، وهو أوضح من أن یخفى ، نعم ربما یکون ما قطع بکونه مأموراً به مشتملاً على المصلحة فی هذا الحال ، أو على مقدار منها ، ولو فی غیر الحال ، غیر ممکن مع استیفائه استیفاء الباقی منها ، ومعه لا یبقى مجال لامتثال الأمر الواقعی ، وهکذا الحال فی الطرق ، فالإجزاء لیس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعی أو الطریقی للإِجزاء ـ بل إنّما هو لخصوصیة اتفاقیة فی متعلقهما ، کما فی الإتمام والقصر ، والإِخفات والجهر.
الثانی : لا یذهب علیک أن الإِجزاء فی بعضٍ موارد الأصول والطرق والامارات ، على ما عرفت تفصیله ، لا یوجب التصویب المجمع على بطلإنّه فی تلک الموارد ، فإن الحکم الواقعی بمرتبته محفوظ فیها ، فإن الحکم المشترک بین العالم والجاهل والملتفت والغافل ، لیس إلّا الحکم الإنشائی المدلول علیه بالخطابات المشتملة على بیان الأحکام للموضوعاًت بعناوینها الأولیة ، بحسب ما یکون فیها من المقتضیات ، وهو ثابت فی تلک الموارد کسائر موارد الأمارات ، وإنما المنفی فیها لیس إلّا الحکم الفعلّی البعثی ، وهو منفی فی غیر موارد الإصابة ، وأنّ لم نقل بالإجزاء ، فلا فرق بین الإِجزاء وعدمه ، إلّا فی سقوط التکلیف بالواقع بموافقة الأمر الظاهری ، وعدم سقوطه بعد انکشاف عدم الإصابة ، وسقوط التکلیف بحصول غرضه ، أو لعدم إمکان تحصیله غیر التصویب المجمع على بطلإنّه ، وهو خلو الواقعة عن الحکم غیر ما أدت إلیه الامارة ، کیف؟ وکان الجهل بها ـ بخصوصیتها أو بحکمها ـ مأخوذاً فی موضوعها ، فلا بد من أن یکون الحکم الواقعی بمرتبته محفوظاً فیها ، کما لا یخفى. 
 
فصل
فی مقدّمة الواجب
وقبل الخوض فی المقصود ، ینبغی رسم أمور :
الأول : الظاهر أن المهم المبحوث عنه فی هذه المسألة ، البحث عن الملازمة بین وجوب الشیء ووجوب مقدمته ، فتکون مسألة أُصولیة ، لا عن نفس وجوبها ، کما هو المتوهم من بعضٍ العناوین (1) ، کی تکون فرعیة ، وذلک لوضوح أن البحث کذلک لا یناسب الأُصولی ، والاستطراد لا وجه له ، بعد إمکان أن یکون البحث على وجه تکون عن المسائل الأصولیة.
ثم الظاهر أیضاً أن المسألة عقلیة ، والکلام فی استقلال العقل بالملازمة وعدمه ، لا لفظیة کما ربما یظهر من صاحب المعالم (2) ، حیث استدل على النفی بانتفاء الدلالات الثلاث ، مضافاً إلى إنّه ذکرها فی مباحث الألفاظ ، ضرورة (3) إنّه إذا کان نفس الملازمة بین وجوب الشیء ووجوب مقدمته ثبوتاً محلّ الإِشکال ، فلا مجال لتحریر النزاع فی الإِثبات والدلالة علیها بإحدى الدلالات الثلاث ، کما لا یخفى.
الأمر الثّانی : إنّه ربما تقسم المقدمة إلى تقسیمات :
منها : تقسیمها إلى [ ال ] داخلیة وهی الإِجزاء المأخوذة فی الماهیة المأمور بها ، والخارجیة وهی الأمور الخارجة عن ماهیته مما لا یکاد یوجد بدونه.
__________________
1 ـ کما فی حاشیة القزوینی (ره) على القوانین.
وربما یتوهم من عنوان البدائع ، البدائع / 296 عند قوله أحدهما ... فی آخر الصفحة.
2 ـ معالم الدین فی الأصول / 61 ، فی مقدّمة الواجب.
3 ـ اشارة إلى ما اورده صاحب التقریرات على صاحب المعالم مطارح الأنظار / 37 ، فی مقدّمة الواجب.
 
وربما یشکل (1) فی کون الإِجزاء مقدّمة له وسابقة علیه ، بأن المرکب لیس إلّا نفس الأجزاء بأسرها.
والحل : إن المقدمة هی نفس الإِجزاء بالأسر ، وذو المقدمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع ، فیحصل المغایرة بینهما.
وبذلک ظهر إنّه لابد فی اعتبارٍ الجزئیة أخذ الشیء بلا شرط ، کما لابد فی اعتبارٍ الکلیة من اعتبارٍ اشتراط الاجتماع.
وکون الإِجزاء الخارجیة کالهیولى والصورة ، هی الماهیة المأخوذة بشرط لا ینافی ذلک ، فإنّه إنّما یکون فی مقام الفرق بین نفس الإِجزاء الخارجیة والتحلیلیة ، من الجنس والفصل ، وأنّ الماهیة إذا أخذت بشرط لا تکون هیولى أو صورة ، وإذا أخذت لا بشرط تکون جنساً أو فصلاً ، لا بالإضافة إلى المرکب ، فافهم.
ثم لا یخفى إنّه ینبغی خروج الأجزاء عن محلّ النزاع ، کما صرح به بعضٍ (2) وذلک لما عرفت من کون الإِجزاء بالأسر عین المأمور به ذاتاً ، وإنما کانت المغایرة بینهما اعتباراً ، فتکون واجبة بعین وجوبه ، ومبعوثاً إلیها بنفس الأمر الباعث إلیه ، فلا تکاد تکون واجبة بوجوب آخر ، لامتناع اجتماع المثلین ، ولو قیل بکفایة تعدَّد الجهة ، وجواز اجتماع الأمر والنهی معه ، لعدم تعددها ها هنا ، لأن الواجب بالوجوب الغیری ، لو کان إنّما هو نفس الإِجزاء ، لا عنوان مقدمیتها والتوسل بها إلى المرکب المأمور به ؛ ضرورة أن الواجب بهذا الوجوب ما کان بالحمل الشائع مقدّمة ، لإنّه المتوقف علیه ، لا عنوإنّها ، نعم یکون هذا العنوان علّة لترشح الوجوب على المعنون.
__________________
1 ـ هو المحقق صاحب حاشیة المعالم. هدایة المسترشدین/ 216.
2 ـ وهو سلطان العلماء کما فی بدائع الأفکار / 299. 
 
فانقدح بذلک فساد توهّم اتصاف کلّ جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسی والغیری ، باعتبارین ، فباعتبار کونه فی ضمن الکلّ واجب نفسی ، وباعتبار کونه مما یتوسل به إلى الکلّ واجب غیری ، اللهم إلّا أن یرید أن فیه ملاک الوجوبین ، وأنّ کان واجباً بوجوب واحد نفسی لسبقه ، فتأمل (1). هذا کله فی المقدمة الداخلیة.
وأما المقدمة الخارجیة ، فهی ما کان خارجاً عن المأمور به ، وکان له دخل فی تحققه ، لا یکاد یتحقق بدونه ، وقد ذکر لها أقسام ، وأطیلَ الکلامُ فی تحدیدها بالنقض والأبرام ، إلّا إنّه غیر مهم فی المقام.
ومنها : تقسیمها إلى العقلیة والشرعیة والعادیة :
فالعقلیة هی (2) ما استحیل واقعاً وجود ذی المقدمة بدونه.
والشرعیة على ما قیل : ما استحیل وجوده بدونه شرعاً ، ولکنه لا یخفى رجوع الشرعیة إلى العقلیة ، ضرورة إنّه لا یکاد یکون مستحیلاً ذلک شرعاً ، إلّا إذا أخذ فیه شرطاً وقیدا ، واستحالة المشروط والمقید بدون شرطه وقیده ، یکون عقلّیاً.
وأما العادیة ، فإن کانت بمعنى أن یکون التوقف علیها بحسب العادة ، بحیث یمکن تحقق ذیها بدونها ، إلّا أن العادة جرت على الإِتیان به بواسطتها ، فهی وأنّ کانت غیر راجعة إلى العقلیة ، إلّا إنّه لا ینبغی توهّم دخولها فی محلّ النزاع.
__________________
1 ـ وجهه : إنّه لا یکون فیه أیضاً ملاک الوجوب الغیری ، حیث إنّه لا وجود له غیر وجوده فی ضمن الکلّ یتوقف على وجوده ، وبدونه لا وجه لکونه مقدّمة ، کی یجب بوجوبه أصلاً ، کما لا یخفى. وبالجملة : لا یکاد یجدی تعدَّد الاعتبار الموجب للمغایرة بین الإِجزاء والکل فی هذا الباب ، وحصول ملاک وجوب الغیری المترشح من وجوب ذی المقدمة علیها ، لو قیل بوجوبها ، فافهم ( منه 1 ).
2 ـ فی « أ و ب » فهی. 
 
وإن کانت بمعنى أن التوقف علیها وأنّ کان فعلاً واقعیاً ، کنصب السلم ونحوه للصعود على السطح ، إلّا إنّه لأجل عدم التمکن من الطیران الممکن عقلاً فهی أیضاً راجعة إلى العقلیة ، ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلاً لغیر الطائر فعلاً ، وأنّ کان طیرإنّه ممکناً ذاتاً ، فافهم.
ومنها : تقسیمها إلى مقدّمة الوجود ، ومقدمة الصحة ، ومقدمة الوجوب ، ومقدمة العلم.
لا یخفى رجوع مقدّمة الصحة إلى مقدّمة الوجود ، ولو على القول بکون الاسامی موضوعة للأعم ، ضرورة أن الکلام فی مقدّمة الواجب ، لا فی مقدّمة المسمى بأحدها ، کما لا یخفى.
ولا إشکال فی خروج مقدّمة الوجوب عن محلّ النزاع ، وبداهة عدم اتصافها بالوجوب من قبل الوجوب المشروط بها ، وکذلک المقدمة العلمیة ، وأنّ استقل العقل بوجوبها ، إلّا إنّه من باب وجوب الإطاعة إرشاداً لیؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجز ، لا مولویاً من باب الملازمة ، وترشح الوجوب علیها من قبل وجوب ذی المقدمة.
ومنها : تقسیمها إلى المتقدم ، والمقارن ، والمتأخر ، بحسب الوجود بالإضافة إلى ذی المقدمة.
وحیث إنّها کانت من أجزاء العلة ، ولابدّ من تقدمها بجمیع أجزائها على المعلول أشکل الأمر فی المقدمة المتأخرة ، کالأغسال اللیلیة المعتبرة فی صحة صوم المستحاضة عند بعضٍ ، والاجازة فی صحة العقد على الکشف کذلک ، بل فی الشرط أو المقتضی المتقدم على المشروط زماناً المتصرم حینه ، کالعقد فی الوصیة والصرف والسلم ، بل فی کلّ عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه ، لتصرمها حین تأثیره ، مع ضرورة اعتبارٍ مقارنتها معه زماناً ، فلیس إشکال انخرام القاعدة العقلیة مختصاً بالشرط المتأخر فی 
 
الشرعیات ـ کما اشتهر فی الألسنة ـ بل یعم الشرط والمقتضی المتقدّمین المتصرَّمین حین الاثر.
والتحقیق فی رفع هذا الإِشکال أن یقال : إن الموارد التی توهّم انخرام القاعدة فیها ، لا تخلو امّا یکون المتقدم أو المتأخر شرطاً للتکلیف ، أو الوضع ، أو المأمور به.
أما الأوّل : فکون أحدهما شرطاً له ، لیس إلّا أن للحاظه دخلاً فی تکلیف الأمر ، کالشرط المقارن بعینه ، فکما أن اشتراطه بما یقارنه لیس إلّا أن لتصوره دخلاً فی أمره ، بحیث لولاه لما کاد یحصل له الداعی إلى الأمر ، کذلک المتقدم أو المتأخر.
وبالجملة : حیث کان الأمر من الأفعال الاختیاریة ، کان من مبادئه بما هو کذلک تصور الشیء بأطرافه ، لیرغب فی طلبه والأمر به ، بحیث لولاه لما رغب فیه ولما أراده واختاره ، فیسمى کلّ واحد من هذه الأطراف التی لتصورها دخل فی حصول الرغبة فیه وإرادته شرطاً ، لأجل دخل لحاظه فی حصوله ، کان مقارناً له أو لم یکن کذلک ، متقدما أو متأخراً ، فکما فی المقارن یکون لحاظه فی الحقیقة شرطاً ، کان فیهما کذلک ، فلا إشکال ، وکذا الحال فی شرائط الوضع مطلقاً ولو کان مقارناً ، فإن دخل شیء فی الحکم به وصحة انتزاعه لدى الحاکم به ، لیس إلّا ما کان بلحاظه یصحّ انتزاعه ، وبدونه لا یکاد یصحّ اختراعه عنده ، فیکون دخل کلّ من المقارن وغیره بتصوره ولحاظه وهو مقارن ، فأین انخرام القاعدة العقلیة فی غیر المقارن؟ فتأمل تعرف.
وأما الثّانی : فکون شیء شرطاً للمأمور به لیس إلّا ما یحصل لذات المأمور به بالإضافة إلیه وجه وعنوان ، به یکون حسناً أو متعلقاً للغرض ، بحیث لولاها لما کان کذلک ، واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الاضافات ، مما لا شبهة فیه ولا شک یعتریه ، والاضافة کما تکون إلى المقارن تکون إلى المتأخر أو المتقدم بلا تفاوت أصلاً ، کما لا یخفى على المتأمل ، فکما تکون إضافة شیء إلى مقارن له موجباً لکونه 
 
معنونا بعنوان ، یکون بذلک العنوان حسناً و متعلقاً للغرض ، کذلک إضافته إلى متأخَّر أو متقدم ، بداهة أن الاضافة إلى أحدهما ربما توجب ذلک أیضاً ، فلو لا حدوث المتأخر فی محله ، لما کانت للمتقدم تلک الاضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه والأمر به ، کما هو الحال فی المقارن أیضاً ، ولذلک أطلق علیه الشرط مثله ، بلا انخرام للقاعدة أصلاً ، لأن المتقدم أو المتأخر کالمقارن لیس إلّا طرف الاضافة الموجبة للخصوصیة الموجبة للحسن ، وقد حقق فی محله إنّه بالوجوه والاعتبارات ، ومن الواضح إنّها تکون بالإضافات.
فمنشأ توهّم الانخرام إطلاق الشرط على المتأخر ، وقد عرفت أن إطلاقه علیه فیه ، کإطلاقه على المقارن ، إنّما یکون لأجل کونه طرفا للاضافة الموجبة للوجه ، الذی یکون بذاک الوجه مرغوباً ومطلوباً ، کما کان فی الحکم لأجل دخل تصوره فیه ، کدخل تصور سائر الأطراف والحدود ، التی لو لا لحاظها لما حصل له الرغبة فی التکلیف ، أو لما صحّ عنده الوضع.
وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال فی دفع هذا الإِشکال ، فی بعضٍ فوائدنا (1) ، ولم یسبقنی إلیه أحد فیما أعلم ، فافهم واغتنم.
ولا یخفى إنّها بجمیع أقسامها داخلة فی محلّ النزاع ، وبناء على الملازمة یتصف اللاحق بالوجوب کالمقارن والسابق ، إذ بدونه لا تکاد تحصل الموافقة ، ویکون سقوط الأمر بإتیان المشروط به مراعى بإتیإنّه ، فلولا اغتسالها فی اللیل ـ على القول بالاشتراط ـ لما صحّ الصوم فی الیوم.
الأمر الثالث : فی تقسیمات الواجب
منها : تقسیمه إلى المطلق والمشروط.
__________________
1 ـ تعلیقة المصنف على فرائد الأصول ، کتاب الفوائد / 302 ، فائدة فی تقدم الشرط على المشروط. 
 
وقد ذکر لکلّ منهما تعریفات وحدود ، تختلف بحسب ما أخذ فیها من القیود.
وربما أطیل الکلام بالنقض والأبرام (1) فی النقض على الطرد والعکس ، مع إنّها ـ کما لا یخفى ـ تعریفات لفظیة لشرح الاسم ، ولیست بالحد ولا بالرسم.
والظاهر إنّه لیس لهم اصطلاح جدید فی لفظ المطلق والمشروط ، بل یطلق کلّ منهما بماله من معناه العرفی ، کما أن الظاهر أن وصفی الإِطلاق والاشتراط ، وصفان إضافیان لا حقیقیان ، وإلاّ لم یکد یوجد واجب مطلق ، ضرورة اشتراط وجوب کلّ واجب ببعض الأمور ، لا أقل من الشرائط العامة ، کالبلوغ والعقل.
فالحری أن یقال : إن الواجب مع کلّ شیء یلاحظ معه ، إن کان وجوبه غیر مشروط به ، فهو مطلق بالإضافة إلیه ، وإلاّ فمشروط کذلک ، وأنّ کانا بالقیاس إلى شیء آخر کانا بالعکس.
ثم الظاهر أن الواجب المشروط کما أشرنا إلیه ، أن نفس الوجوب فیه مشروط بالشرط ، بحیث لا وجوب حقیقة ، ولا طلب واقعاً قبل حصول الشرط ، کما هو ظاهر الخطاب التعلیقی ، ضرورة أن ظاهر خطاب ( إن جاءک زید فأکرمه ) کون الشرط من قیود الهیئة ، وأنّ طلب الإکرام وإیجابه معلق على المجیء ، لا أن الواجب فیه یکون مقیداً به ، بحیث یکون الطلب والإِیجاب فی الخطاب فعلّیاً ومطلقاً ، وإنما الواجب یکون خاصاً ومقیدا ، وهو الإکرام على تقدیر المجیء ، فیکون الشرط من قیود المادة لا الهیئة ، کما نسب ذلک إلى شیخنا العلامة (2) أعلى الله مقامه ، مدعیاً لامتناع کون الشرط من قیود الهیئة
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 43 ، الفصول / 79 ، هدایة المسترشدین / 192 ، قوانین الأصول 1 / 100 ، البدائع / 304.
2 ـ مطارح الأنظار / 45 ـ 46 و 52 ، فی مقدّمة الواجب.
هو الشیخ مرتضى بن محمد امین الدزفولی الانصاری النجفی ، ولد فی دزفول 1214 ، قرأ أوائل أمره على عمه الشیخ حسین ثم خرج مع والده إلى زیارة مشاهد العراق وهو فی العشرین من عمره ، بقی فی کربلاء آخذا عن الاستاذین السید محمد مجاهد وشریف العلماء أربع
 
واقعا ، ولزوم کونه من قیود المادة لبّاً ، مع الاعتراف بأن قضیة القواعد العربیة إنّه من قیود الهیئة ظاهراً.
أما امتناع کونه من قیود الهیئة ، فلإنّه لا إطلاق فی الفرد الموجود من الطلب المتعلق بالفعل المنشأ بالهیئة ، حتى یصحّ القول بتقییده بشرط ونحوه ، فکل ما یحتمل رجوعه إلى الطلب الذی یدلّ علیه الهیئة ، فهو عند التحقیق راجع إلى نفس المادة.
وأما لزوم کونه من قیود المادة لبّاً ، فلان العاقل إذا توجه إلى شیء والتفت إلیه ، فإما أن یتعلق طلبه به ، أو لا یتعلق به طلبه أصلاً ، لا کلام على الثانی.
وعلى الأوّل : فإما أن یکون ذاک الشیء مورداً لطلبه وأمره مطلقاً على اختلاف طوارئه ، أو على تقدیر خاص ، وذلک التقدیر ، تارةً یکون من الأمور الاختیاریة ، وأخرى لا یکون کذلک ، وما کان من الأمور الاختیاریة ، قد یکون مأخوذاً فیه على نحو یکون مورداً للتکلیف ، وقد لا یکون کذلک ، على اختلاف الاغراض الداعیة إلى طلبه والأمر به ، من غیر فرق فی ذلک بین القول بتبعیة الأحکام للمصالح والمفاسد ، والقول بعدم التبعیة ، کما لا یخفى. هذا موافق لما أفاده بعضٍ الأفاضل (1) المقرر لبحثه بأدنى تفاوت.
__________________
سنوات ، ثم عاد إلى وطنه ، ثم رجع إلى العراق واخذ من الشیخ موسى الجعفری سنتین ، عزم زیارة مشهد خراسان ماراً فی طریقه على کاشان ، فاز بلقاء استاذه النراقی مما دعاه إلى الاقامة فیها نحو ثلاث سنین ، ورد دزفول سنة 1214 ثم عاد إلى النجف الاشرف سنة 1249 فاختلف إلى مدرسة الشیخ علی بن الشیخ جعفر ، ثم انتقل بالتدریس والتالیف ، ووضع اساس علم الأصول الحدیث ، تخرّج علیه المیرزا الشیرازی والمیرزا حبیب الله الرشتی وغیرهما له مؤلفات منها « الرسائل » فی الأصول و « المکاسب » انتهت إلیه رئاسة الامامیة. توفی فی 18 جمادی الاخرة سنة 1281 ودفن فی المشهد الغروی ( اعیان الشیعة 10 / 117 ).
1 ـ هو العلامة المیرزا أبو القاسم النوری (ره) ، على ما فی مطارح الأنظار ، کما تقدم آنفاً. 
 
ولا یخفى ما فیه. امّا حدیث عدم الإِطلاق فی مفاد الهیئة ، فقد حققناه سابقاً (1) ، إن کلّ واحد من الموضوع له والمستعمل فیه فی الحروف یکون عاماً کوضعها ، وإنما الخصوصیة من قبل الاستعمال کالاسماء ، وإنما الفرق بینهما إنّها وضعت لتستعمل وقصد بها المعنى بما هوهو ، و وضعیت لتستعمل وقصد بما معانیها بما هی آلة وحالة لمعانی المتعلقات ، فلحاظ الآلیة کلحاظ الاستقلالیة لیس من طوارئ المعنى ، بل من مشخصات الاستعمال ، کما لا یخفى على أولی الدرایة والنهى. فالطلب المفاد من الهیئة المستعملة فیه مطلق ، قابل لأن یقید.
مع إنّه لو سلّم إنّه فرد ، فانما یمنع عن التقید لو اُنشىء أولاً غیر مقید ، لا ما إذا اُنشىء من الأوّل مقیداً ، غایة الأمر قد دلّ علیه بدالین ، وهو غیر إنشائه أولاً ثم تقییده ثانیاً ، فافهم.
فإن قلت : على ذلک ، یلزم تفکیک الانشاء من المنشأ ، حیث لا طلب قبل حصول الشرط.
قلت : المنشأ إذا کان هو الطلب على تقدیر حصوله ، فلابد أن لا یکون قبل حصوله طلب وبعث ، وإلاّ لتخلف عن إنشائه ، وإنشاء أمر على تقدیر کالإخبار به بمکان من الإِمکان ، کما یشهد به الوجدان ، فتأمل جیداً.
وأما حدیث (2) لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبّاً ففیه : إن الشیء إذا توجه إلیه ، وکان موافقاً للغرض بحسب ما فیه من المصلحة أو غیرها ، کما یمکن أن یبعث فعلاً إلیه ویطلبه حالاً ، لعدم مانع عن طلبه کذلک ، یمکن أن یبعث إلیه معلّقاً ، ویطلبه استقبالاً على تقدیر شرط متوقّع الحصول لأجل مانع عن الطلب
__________________
1 ـ راجع صفحة 11 و 12 من هذا الکتاب ، الأمر الثّانی فی تعریف الوضع.
2 ـ هذه هی الدعوى الایجابیة التی ادعاها الشیخ ( قده ) ، من رجوع الشرط إلى المادة لباً. مطارح الأنظار / 52 ، فی مقدّمة الواجب. 

 
والبعث فعلاً قبل حصوله ، فلا یصحّ منه إلّا الطلب والبعث معلّقاً بحصوله ، لا مطلقاً ولو متعلقاً بذاک على التقدیر ، فیصحّ منه طلب الإکرام بعد مجیء زید ، ولا یصحّ منه الطلب المطلق الحالی للإکرام المقید بالمجیء ، هذا بناءً على تبعیة الأحکام لمصالح فیها فی غایة الوضوح.
وأما بناءً على تبعیتها للمصالح والمفاسد فی المأمور به ، والمنهی عنه فکذلک ، ضرورة أن التبعیة کذلک ، إنّما تکون فی الأحکام الواقعیة بما هی واقعیة ، لا بما هی فعلیة ، فإن المنع عن فعلیة تلک الأحکام غیر عزیز ، کما فی موارد الأصول والامارات على خلافها ، وفی بعضٍ الأحکام فی أول البعثة ، بل إلى یوم قیام القائم عجل الله فرجه ، مع أن حلال محمد 9 حلال إلى یوم القیامة ، وحرامه حرام إلى یوم القیامة ، ومع ذلک ربما یکون المانع عن فعلیة بعضٍ الأحکام باقیا مر اللیالی والایام ، إلى أن تطلع شمس الهدایة ویرتفع (1) الظلام ، کما یظهر من الإخبار المرویة (2) عن الأئمة :.
فان قلت : فما فائدة الانشاء؟ إذا لم یکن المنشأ به طلباً فعلّیاً ، وبعثاً حالیا.
قلت : کفى فائدة له إنّه یصیر بعثاً فعلّیاً بعد حصول الشرط ، بلا حاجة إلى خطاب آخر ، بحیث لولاه لما کان فعلاً متمکناً من الخطاب ، هذا مع شمول الخطاب کذلک للإیجاب فعلاً بالنسبة إلى الواجد للشرط ، فیکون بعثاً فعلّیاً بالإضافة إلیه ، وتقدیریّاً بالنسبة إلى الفاقد له ، فافهم وتأملّ جیداً.
__________________
1 ـ فی « ب » : ( وارتفع الظلام ).
2 ـ الکافی : 1 ، کتاب فضل العلم ، باب البدع والرأی والمقاییس الحدیث 19.
الکافی : 2 کتاب الایمان والکفر ، باب الشرائع ، الحدیث 2 مع اختلاف یسیر. 
 
ثم الظاهر دخول المقدّمات الوجودیة للواجب المشروط ، فی محلّ النزاع (1) أیضاً ، فلا وجه لتخصیصه بمقدمات الواجب المطلق ، غایة الأمر تکون فی الإِطلاق والاشتراط تابعة لذی المقدمة کأصل الوجوب بناءً على وجوبها من باب الملازمة.
وأما الشرط المعلّق علیه الإِیجاب فی ظاهر الخطاب ، فخروجه مما لا شبهة فیه ، ولا ارتیاب :
أما على ما هو ظاهر المشهور والمتصور ، لکونه مقدّمة وجوبیة.
وأما على المختار لشیخنا العلامة (2) ـ أعلى الله مقامه ـ فلإنّه وأنّ کان من المقدّمات الوجودیة للواجب ، إلّا إنّه أخذ على نحو لا یکاد یترشح علیه الوجوب منه ، فإنّه جعل الشیء واجباً على تقدیر حصول ذاک الشرط ، فمعه کیف یترشح علیه الوجوب ویتعلق به الطلب؟ وهل هو إلّا طلب الحاصل؟ نعم على مختاره _ 1 _ لو کانت له مقدمات وجودیة غیر معلق علیها وجوبه ، لتعلق بها الطلب فی الحال على تقدیر اتفاق وجود الشرط فی الاستقبال ، وذلک لأن إیجاب ذی المقدمة على ذلک حالی ، والواجب إنّما هو استقبالی ، کما یأتی فی الواجب المعلّق (3) ، فإن الواجب المشروط على مختاره ، هو بعینه ما اصطلح علیه صاحب الفصول (4) من المعلّق ، فلا تغفل. هذا فی غیر المعرفة والتعلم من المقدمات.
وأما المعرفة ، فلا یبعد القول بوجوبها ، حتى فی الواجب المشروط ـ بالمعنى المختار ـ قبل حصول شرطه ، لکنه لا بالملازمة ، بل من باب استقلال
__________________
1 ـ کما فی مطارح الأنظار / 44.
2 ـ من رجوع الشرط إلى المادة لبّاً ، مطارح الأنظار / 45 ـ 46 و 52 ، فی مقدّمة الواجب.
3 ـ سیأتی فی الصفحة 103 من هذا الکتاب ، عند قوله : وربما أشکل ... الخ.
4 ـ الفصول / 79 فی آخر الصفحة. 
 
العقل بتنجز الأحکام على الأنام بمجرد قیام احتمالها ، إلّا مع الفحص والیأس عن الظفر بالدلیل على التکلیف ، فیستقل بعده بالبراءة ، وأنّ العقوبة على المخالفة بلا حجة وبیان ، والمؤاخذة علیها بلا برهان ، فافهم.
تذنیب : لا یخفى أن إطلاق الواجب على الواجب المشروط ، بلحاظ حال حصول الشرط على الحقیقة مطلقاً ، وأما بلحاظ حال قبل حصوله فکذلک على الحقیقة على مختاره (1) 1 فی الواجب المشروط ، لأن الواجب وأنّ کان أمراً استقبالیّاً علیه ، إلّا أن تلبسه بالوجوب فی الحال ، ومجاز على المختار ، حیث لا تلبس بالوجوب علیه قبله ، کما عن البهائی (2) ; تصریحه بأن لفظ الواجب مجاز فی المشروط ، بعلاقة الأوّل أو المشارفة.
وأما الصیغة مع الشرط ، فهی حقیقة على کلّ حال لاستعمالها على مختاره (3) _ 1 _ فی الطلب المطلق ، وعلى المختار فی الطلب المقید ، على نحو تعدَّد الدالّ والمدلول ، کما هو الحال فیما إذا أُرید منها المطلق المقابل للمقید ، لا المبهم المقسم ، فافهم.
ومنها : تقسیمه إلى المعلّق والمنجز ، قال فی الفصول (4) : إنّه ینقسم
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 45 ـ 46 و 52 فی مقدّمة الواجب.
2 ـ زبدة الأصول / 46 مخطوط.
هو بهاء الدین محمد بن الحسین بن عبد الصمد الجبعی العاملی ، ولد فی بعلبک عام 953 ه‍ ، انتقل به والده وهو صغیر إلى الدیار العجمیة ، أخذ عن والده وغیره من الجهابذة ، ولی بها شیخ الاسلام ، ثم أخذ فی السیاحة ثلاثین سنة ، واجتمع فی أثناء ذلک بکثیر من أرباب الفضل ، ثم عاد وقطن بأرض العجم ، له کتب کثیرة منها « الحبل المتین » و « الزبدة » فی الأصول و « حاشیة الشرح العضدی على مختصر الأصول » وغیرها ، له شعر کثیر بالعربیة والفارسیة. قال تلمیذه العلامة المولى محمد تقی المجلسی : ما رأیت بکثرة علومه ووفور فضله وعلو مرتبته أحدا ، توفی سنة 1031. ( أمل الآمل 1 / 155 رقم 158 )
3 ـ راجع المصدر المتقدم فی هامش رقم (1).
4 ـ الفصول / 79 آخر الصفحة.
 
باعتبار آخر إلى ما یتعلق وجوبه بالمکلف ، ولا یتوقف حصوله على أمر غیر مقدور له ، کالمعرفة ، ولْیُسمَّ منجّزاً ، وإلى ما یتعلق وجوبه به ، ویتوقف حصوله على أمر غیر مقدور له ، ولْیُسمَّ معلّقاً کالحج ، فإن وجوبه یتعلق بالمکلف من أول زمن الاستطاعة ، أو خروج الرفقة ، ویتوقف فعله على مجیء وقته ، وهو غیر مقدور له ، والفرق بین هذا النوع وبین الواجب المشروط هو أن التوقف هناک للوجوب ، وهنا للفعل. انتهى کلامه رفع مقامه.
لا یخفى أن شیخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ حیث اختار فی الواجب المشروط ذاک المعنى ، وجعل الشرط لزوماً من قیود المادة ثبوتاً وإثباتاً ، حیث ادعى امتناع کونه من قیود الهیئة کذلک ، أیّ ثبوتاً وإثباتاً ، على خلاف القواعد العربیة وظاهر المشهور ، کما یشهد به ما تقدم آنفا عن البهائی ، أنکر (1) على الفصول هذا التقسیم ، ضرورة أن المعلّق بما فسره ، یکون من المشروط بما اختار له من المعنى على ذلک ، کما هو واضح ، حیث لا یکون حینئذ هناک معنى آخر معقول ، کان هو المعلّق المقابل للمشروط.
ومن هنا انقدح إنّه فی الحقیقة إنّما أنکر الواجب المشروط ، بالمعنى الذی یکون هو ظاهر المشهور ، والقواعد العربیة ، لا الواجب المعلّق بالتفسیر المذکور.
وحیث قد عرفت ـ بما لا مزید علیه ـ امکان رجوع الشرط إلى الهیئة ، کما هو ظاهر المشهور وظاهر القواعد ، فلا یکون مجال لإِنکاره علیه.
نعم یمکن أن یقال : إنّه لا وقع لهذا التقسیم ؛ لأنه بکلا قسمیه من المطلق المقابل للمشروط ، وخصوصیة (2) کونه حالیّاً أو استقبالیّاً لا توجبه ما لم
__________________
1 ـ مطارح الأنظار 51 ـ 52. فی الهدایة 6 من القول فی وجوب مقدّمة الواجب.
2 ـ وفی « ب » : خصوصیته. 
 
توجب الاختلاف فی المهمّ ، وإلاّ لکثر تقسیماته لکثرة الخصوصیات ، ولا اختلاف فیه ، فإن ما رتبه علیه من وجوب المقدمة فعلاً ـ کما یأتی ـ إنّما هو من أثر إطلاق وجوبه وحالیّته ، لا من استقبالیة الواجب ، فافهم.
ثم إنّه ربما حکی عن بعضٍ أهل النظر (1) من أهل العصر إشکال فی الواجب المعلّق ، وهو أن الطلب والإِیجاب ، إنّما یکون بإزاء الإرادة المحرکة للعضلات نحو المراد ، فکما لا تکاد تکون الإرادة منفکة عن المراد ، فلیکن الإِیجاب غیر منفک عما یتعلق به ، فکیف یتعلق بأمر استقبالی؟ فلا یکاد یصحّ الطلب والبعث فعلاً نحو أمر متأخر.
قلت : فیه أن الإرادة تتعلق بأمر متأخَّر استقبالی ، کما تتعلق بأمر حالی ، وهو أوضح من أن یخفى على عاقل فضلاً عن فاضل ، ضرورة أن تحمّل المشاق فی تحصیل المقدّمات ـ فیما إذا کان المقصود بعید المسافة وکثیر المؤونة ـ لیس إلّا لأجل تعلق إرادته به ، وکونه مریداً له قاصداً إیاه ، لا یکاد یحمله على التحمل إلّا ذلک.
ولعل الذی أوقعه فی الغلط ما قرع سمعه من تعریف الإرادة بالشوق المؤکد المحرّک للعضلات نحو المراد ، وتوهمّ أن تحریکها نحو المتأخر مما لا یکاد ، وقد غفل عن أن کونه (2) محرکاً نحوه یختلف حسب اختلافه ، فی کونه مما لا مؤونة له کحرکة نفس العضلات ، أو مما له مؤونة ومقدمات قلیلة أو کثیرة ، فحرکة العضلات تکون أعم من أن تکون بنفسها مقصودة أو مقدّمة له ، والجامع أن یکون نحو المقصود ، بل مرادهم من هذا الوصف ـ فی تعریف الإرادة ـ بیان مرتبة الشوق الذی یکون هو الإرادة ، وأنّ لم یکن هناک فعلاً تحریک ، لکون المراد وما اشتاق إلیه کمال الاشتیاق أمراً استقبالیّاً غیر محتاج إلى تهیئة مؤونة أو تمهید مقدّمة ، ضرورة أن شوقه إلیه ربما یکون أشد من الشوق
__________________
1 ـ هو المحقق النهاوندی ، تشریح الأصول.
2 ـ والصحیح « کونها ». 
 
المحرّک فعلاً نحو أمر حالی أو استقبالی ، محتاج إلى ذلک. هذا.
مع إنّه لا یکاد یتعلق البعث إلّا بأمر متأخَّر عن زمان البعث ، ضرورة أن البعث إنّما یکون لاحداث الداعی للمکلف إلى المکلف به ، بأن یتصوره بما یترتب علیه من المثوبة ، وعلى ترکه من العقوبة ، ولا یکاد یکون هذا إلّا بعد البعث بزمان ، فلا محالة یکون البعث نحو أمر متأخَّر عنه بالزمان ، ولا یتفاوت طوله وقصره ، فیما هو ملاک الاستحالة والإِمکان فی نظر العقل الحاکم فی هذا الباب ، ولعمری ما ذکرناه واضح لا سترة علیه ، والاطناب إنّما هو لأجل رفع المغالطة الواقعة فی أذهان بعضٍ الطلاب.
وربما أُشکل على المعلّق أیضاً ، بعدم القدرة على المکلف به فی حال البعث ، مع إنّها من الشرائط العامة.
وفیه : إن الشرط إنّما هو القدرة على الواجب فی زمإنّه ، لا فی زمان الإِیجاب والتکلیف ، غایة الأمر یکون من باب الشرط المتأخر ، وقد عرفت بما لا مزید علیه إنّه کالمقارن ، من غیر انخرام للقاعدة العقلیة أصلاً ، فراجع.
ثم لا وجه لتخصیص المعلّق بما یتوقف حصوله على أمر غیر مقدور ، بل ینبغی تعمیمه إلى أمر مقدور متأخَّر ، أُخذ على نحو یکون مورداً للتکلیف ، ویترشح علیه الوجوب من الواجب ، أو لا ، لعدم تفاوت فیما یهمه من وجوب تحصیل المقدّمات التی لا یکاد یقدّر علیها فی زمان الواجب المعلّق ، دون المشروط ، لثبوت الوجوب الحالی فیه ، فیترشح منه الوجوب على المقدمة ، بناءً على الملازمة ، دونه لعدم ثبوته فیه إلّا بعد الشرط.
نعم لو کان الشرط على نحو الشرط المتأخر ، وفرض وجوده ، کان الوجوب المشروط به حالیّاً أیضاً ، فیکون وجوب سائر المقدّمات الوجودیة للواجب أیضاً حالیّاً ، ولیس الفرق بینه وبین المعلّق حینئذ إلّا کونه مرتبطاً 
 
بالشرط ، بخلافه ، وأنّ ارتبط به الواجب.
تنبیه : قد انقدح ـ من مطاوی ما ذکرناه ـ أن المناط فی فعلیة وجوب المقدمة الوجودیة ، وکونه فی الحال بحیث یجب على المکلف تحصیلها ، هو فعلیة وجوب ذیها ، ولو کان أمراً استقبالیّاً ، کالصوم فی الغد والمناسک فی الموسم ، کان وجوبه مشروطاً بشرط موجود أخذ فیه ولو متأخراً ، أو مطلقاً ، منجّزاً کان أو معلّقاً ، فیما إذا لم تکن مقدّمة للوجوب أیضاً ، أو مأخوذة فی الواجب على نحو یستحیل أن تکون مورداً للتکلیف ، کما إذا أخذ عنواناً للمکلف ، کالمسافر والحاضر والمستطیع إلى غیر ذلک ، أو جعل الفعل المقید باتفاق حصوله ، وتقدیر وجوده ـ بلا اختیار أو باختیاره ـ مورداً للتکلیف ، ضرورة إنّه لو کان مقدّمة الوجوب أیضاً ، لا یکاد یکون هناک وجوب إلّا بعد حصوله ، وبعد الحصول یکون وجوبه طلب الحاصل ، کما إنّه إذا أخذ على أحد النحوین یکون کذلک ، فلو لم یحصل لما کان الفعل مورداً للتکلیف ، ومع حصوله لا یکاد یصحّ تعلقه به ، فافهم.
إذا عرفت ذلک ، فقد عرفت إنّه لا إشکال أصلاً فی لزوم الإِتیان بالمقدمة قبل زمان الواجب ، إذا لم یقدّر علیه بعد زمإنّه ، فیما کان وجوبه حالیّاً مطلقاً ، ولو کان مشروطاً بشرط متأخَّر ، کان معلوم الوجود فیما بعد ، کما لا یخفى ، ضرورة فعلیة وجوبه وتنجزه بالقدرة علیه بتمهید مقدمته ، فیترشح منه الوجوب علیها على الملازمة ، ولا یلزم منه محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذیها ، وإنما اللازم الإِتیان بها قبل الإِتیان به ، بل لزوم الإِتیان بها عقلاً ، ولو لم نقل بالملازمة ، لا یحتاج إلى مزید بیان ومؤونة برهان ، کالإِتیان بسائر المقدّمات فی زمان الواجب قبل إتیإنّه.
فانقدح بذلک : إنّه لا ینحصر التفصی عن هذه العویصة بالتعلق بالتعلیق ، أو بما یرجع إلیه ، من جعل الشرط من قیود المادة فی المشروط. 
 
فانقدح بذلک : إنّه لا إشکال فی الموارد التی یجب فی الشریعة الإِتیان بالمقدمة قبل زمان الواجب ، کالغسل فی اللیل فی شهر رمضان وغیره مما وجب علیه الصوم فی الغد ، إذ یکشف به بطریق الإِنّ عن سبق وجوب الواجب ، وإنما المتأخر هو زمان إتیإنّه ، ولا محذور فیه أصلاً ، ولو فرض العلم بعدم سبقه ، لاستحال اتصاف مقدمته بالوجوب الغیری ، فلو نهض دلیل على وجوبها ، فلا محالة یکون وجوبها نفسّیاً [ ولو ] (1) تهیؤاً ، لیتهیأ بإتیإنّها ، ویستعد لایجاب ذی المقدمة علیه ، فلا محذور أیضاً.
إن قلت : لو کان وجوب المقدمة فی زمان کاشفاً عن سبق وجوب ذی المقدمة لزم وجوب جمیع مقدماته ولو موسّعاً ، ولیس کذلک بحیث یجب علیه المبادرة لو فرض عدم تمکنه منها لو لم یبادر.
قلت : لا محیص عنه ، إلّا إذا أخذ فی الواجب من قبل سائر المقدّمات قدرة خاصة ، وهی القدرة علیه بعد مجیء زمإنّه ، لا القدرة علیه فی زمإنّه من زمان وجوبه ، فتدبرّ جیداً.
تتمة : قد عرفت اختلاف القیود فی وجوب التحصیل ، وکونه مورداً للتکلیف وعدمه ، فإن علم حال قید فلا إشکال ، وأنّ دار أمره ثبوتاً بین أن یکون راجعاً إلى الهیئة ، نحو الشرط المتأخر أو المقارن ، وأنّ یکون راجعاً إلى المادة على نهج یجب تحصیله أولاً یجب ، فإن کان فی مقام الإِثبات ما یعین حاله ، وإنّه راجع إلى أیهما من القواعد العربیة فهو ، وإلاّ فالمرجع هو الأصول العملیة.
وربما قیل (2) فی الدوران بین الرجوع إلى الهیئة أو المادة ، بترجیح الإِطلاق فی طرف الهیئة ، وتقیید المادة ، بوجهین :
__________________
1 ـ أثبتناها من « أ ».
2 ـ راجع مطارح الأنظار / 49 الهدایة 5 من القول بوجوب المقدمة ، فی الوجه الخامس. 
 
أحدهما : إن إطلاق الهیئة یکون شمولیّاً ، کما فی شمول العام لافراده ، فإن وجوب الإکرام على تقدیر الإِطلاق ، یشمل جمیع التقادیر التی یمکن أن یکون تقدیرا له ، وإطلاق المادة یکون بدلیاً غیر شامل لفردین فی حالة واحدة.
ثانیهما : إن تقیید الهیئة یوجب بطلان محلّ الإِطلاق فی المادة ویرتفع به مورده ، بخلاف العکس ، وکلما دار الأمر بین تقییدین کذلک کان التقیید الذی لا یوجب بطلان الآخر أولى.
أما الصغرى ، فلاجل إنّه لا یبقى مع تقیید الهیئة محلّ حاجة وبیان لإِطلاق المادة ، لإنّها لا محالة لا تنفکّ عن وجود قید الهیئة ، بخلاف تقیید المادة ، فإن محلّ الحاجة إلى إطلاق الهیئة على حاله ، فیمکن الحکم بالوجوب على تقدیر وجود القید وعدمه.
وأما الکبرى ، فلان التقیید وأنّ لم یکن مجازاً إلّا إنّه خلاف الأصل ، ولا فرق فی الحقیقة بین تقیید الإِطلاق ، وبین أن یعمل عملاً یشترک مع التقیید فی الأثر ، وبطلان العمل به.
وما ذکرناه من الوجهین موافق لما أفاده بعضٍ مقرری بحث الأستاذ العلامة أعلى الله مقامه ، وأنت خبیر بما فیهما :
أما فی الأوّل : فلان مفاد إطلاق الهیئة وأنّ کان شمولیّاً بخلاف المادة ، إلّا إنّه لا یوجب ترجیحه على إطلاقها ، لإنّه أیضاً کان بالإِطلاق ومقدمات الحکمة ، غایة الأمر إنّه تارةً یقتضی العموم الشمولی ، وأخرى البدلی ، کما ربما تقتضی التعیین أحیاناً ، کما لا یخفى.
وترجیح عموم العام على إطلاق المطلق إنّما هو لأجل کون دلالته بالوضع ، لا لکونه شمولیّاً ، بخلاف المطلق فإنّه بالحکمة ، فیکون العام أظهر منه ، فیقدّم علیه ، فلو فرض إنّهما فی ذلک على العکس ، فکان عام بالوضع دلّ على العموم البدلی ، ومطلق بإطلاقه دلّ على الشمول ، لکان العام 
 
یقدم بلا کلام.
وأما فی الثانی : فلان التقیید وأنّ کان خلاف الأصل ، إلا أن العمل الی یوجب عدم جریان مقدمات الحکمة ، وانتفاء بعضٍ مقدماته ، لا یکون على خلاف الأصل أصلاً ، إذ معه لا یکون هناک إطلاق ، کی یکون بطلان العمل به فی الحقیقة مثل التقیید الذی یکون على خلاف الأصل.  وبالجملة لا معنى لکون التقیید خلاف الأصل ، إلّا کونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببرکة مقدمات الحکمة ، ومع انتفاء المقدّمات لا یکاد ینعقد له هناک ظهور ، کان ذاک العمل المشارک مع التقیید فی الأثر ، وبطلان العمل بإطلاق المطلق ، مشارکا معه فی خلاف الأصل أیضاً.
وکأنه توهّم : أن إطلاق المطلق کعموم العام ثابت ، ورفع الید عن العمل به ، تارةً لأجل التقیید ، وأخرى بالعمل المبطل للعمل به.
وهو فاسد ، لإنّه لا یکون إطلاق إلّا فیما جرت هناک المقدمات.
نعم إذا کان التقیید بمنفصل ، ودار الأمر بین الرجوع إلى المادة أو الهیئة کان لهذا التوهم مجال ، حیث انعقد للمطلق إطلاق ، وقد استقر له ظهور ولو بقرینة الحکمة ، فتأمل.
ومنها : تقسیمه إلى النفسی والغیری.
وحیث کان طلب شیء وإیجابه لا یکاد یکون بلا داع ، فإن کان الداعی فیه هو التوصل به إلى واجب ، لا یکاد التوصل بدونه إلیه ، لتوقفه علیه ، فالواجب غیریّ ، وإلاّ فهو نفسی ، سواء کان الداعی محبوبیة الواجب بنفسه ، کالمعرفة بالله ، أو محبوبیّته بماله من فائدة مترتبة علیه ، کأکثر الواجبات من العبادات والتوصلیات.
هذا ، لکنه لا یخفى أن الداعی لو کان هو محبوبیّته کذلک ـ أیّ بماله من الفائدة المترتبة علیه ـ کان الواجب فی الحقیقة واجباً غیریاً ، فإنّه لو لم یکن وجود هذه الفائدة لازماً ، لما دعا إلى إیجاب ذی الفائدة. 
 
فإن قلت : نعم وأنّ کان وجودها محبوباً لزوماً ، إلّا إنّه حیث کانت من الخواصِّ المترتبة على الأفعال التی لیست داخلة تحت قدرة المکلف ، لما کاد یتعلق بها الإِیجاب.
قلت : بل هی داخلة تحت القدرة ، لدخول أسبابها تحتها ، والقدرة على السبب قدرة على المسبب ، وهو واضح ، وإلاّ لما صحّ وقوع مثل التطهیر والتملیک والتزویج والطلاق والعتاق .. إلى غیر ذلک من المسببات ، مورداً لحکم من الأحکام التکلیفیة.
فالأولى أن یقال : إن الأثر المترتب علیه وأنّ کان لازماً ، إلّا أن ذا الأثر لما کان معنوناً بعنوان حسن یستقل العقل بمدح فاعله ، بل وبذم تارکه ، صار متعلقاً للإیجاب بما هو کذلک ، ولا ینافیه کونه مقدّمة الأمر مطلوب واقعاً ، بخلاف الواجب الغیری ، لتمحض وجوبه فی إنّه لکونه مقدّمة لواجب نفسی. وهذا أیضاً لا ینافی أن یکون معنوناً بعنوان حسن فی نفسه ، إلّا إنّه لا دخل له فی إیجابه الغیری ، ولعله مراد من فسرهما بما أمر به لنفسه ، وما أمر به لأجل غیره ، فلا یتوجه علیه بأنّ جل الواجبات ـ لولا الکلّ ـ یلزم أن یکون من الواجبات الغیریة ، فإن المطلوب النفسی قلّما یوجد فی الأوامر ، فإن جلها مطلوبات لأجل الغایات التی هی خارجة عن حقیقتها ، فتأمل.
ثم إنّه لا إشکال فیما إذا علم بأحد القسمین ، وأما إذا شک فی واجب إنّه نفسی أو غیری ، فالتحقیق أن الهیئة ، وأنّ کانت موضوعة لما یعمهما ، إلّا أن إطلاقها یقتضی کونه نفسیاً ، فإنّه لو کان شرطاً لغیره لوجب التنبیه علیه على المتکلم الحکیم.
وأما ما قیل (1) من إنّه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهیئة ، لدفع الشک
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 67 فی الهدایة 11 من القول بوجوب المقدمة. 
 
المذکور ، بعد کون مفادها الأفراد التی لا یعقل فیها التقیید ، نعم لو کان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب ، صحّ القول بالإِطلاق ، لکنه بمراحل من الواقع ، إذ لا شک فی اتصاف الفعل بالمطلوبیة بالطلب المستفاد من الأمر ، ولا یعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبیة بواسطة مفهوم الطلب ، فإن الفعل یصیر مراداً بواسطة تعلق واقع الإرادة وحقیقتها ، لا بواسطة مفهومها ، وذلک واضح لا یعتریه ریب.
ففیه : إن مفاد الهیئة ـ کما مرت الإِشارة إلیه ـ لیس الأفراد ، بل هو مفهوم الطلب ، کما عرفت تحقیقه فی وضع الحروف (1) ، ولا یکاد یکون فرد الطلب الحقیقی ، والذی یکون بالحمل الشائع طلباً ، وإلاّ لما صحّ إنشاؤه بها ؛ ضرورة إنّه من الصفات الخارجیة الناشئة من الأسباب الخاصة.
نعم ربما یکون هو السبب لإِنشائه ، کما یکون غیره أحیاناً.
واتصاف الفعل بالمطلوبیة الواقعیة والإرادة الحقیقیة ـ الداعیة إلى إیقاع طلبه ، وإنشاء إرادته بعثاً نحو مطلوبه الحقیقی وتحریکا إلى مراده الواقعی ـ لا ینافی اتصافه بالطلب الإنشائی أیضاً ، والوجود الإنشائی لکلّ شیء لیس إلّا قصد حصول مفهومه بلفظه ، کان هناک طلب حقیقی أو لم یکن ، بل کان إنشاؤه بسبب آخر.
ولعل منشأ الخلط والاشتباه تعارف التعبیر عن مفاد الصیغة بالطلب المطلق ، فتوهم منه أن مفاد الصیغة یکون طلباً حقیقیاً ، یصدق علیه الطلب بالحمل الشائع ، ولعمری إنّه من قبیل اشتباه المفهوم بالمصداق ، فالطلب الحقیقی إذا لم یکن قابلاً للتقیید لا یقتضی أن لا یکون مفاد الهیئة قابلاً له ، وأنّ تعارف تسمیته بالطلب أیضاً ، وعدم تقییده بالإنشائی لوضوح إرادة
__________________
1 ـ باعتبار أن الهیئة ملحقة بالحروف ، راجع صفحة 11 من هذا الکتاب. 
 
خصوصه ، وأنّ الطلب الحقیقی لا یکاد ینشأ بها ، کما لا یخفى.
فانقدح بذلک صحة تقیید مفاد الصیغة بالشرط ، کما مرّ هاهنا بعضٍ الکلام ، وقد تقدم (1) فی مسألة اتحاد الطلب والإرادة ما یُجدی [ فی ] المقام.
هذا إذا کان هناک إطلاق ، وأما إذا لم یکن ، فلابد من الإِتیان به فیما إذا کان التکلیف بما احتمل کونه شرطاً له فعلّیاً ، للعلم بوجوبه فعلاً ، وأنّ لم یعلم جهة وجوبه ، وإلاّ فلا ، لصیرورة الشک فیه بدویاً ، کما لا یخفى.
تذنیبان
الأول : لا ریب فی استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسی وموافقته ، واستحقاق العقاب على عصیإنّه ومخالفته عقلاً ، وأما استحقاقهما على امتثال الغیری ومخالفته ، ففیه إشکال ، وأنّ کان التحقیق عدم الاستحقاق على موافقته ومخالفته ، بما هو موافقة ومخالفة ، ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلّا لعقاب واحد ، أو لثواب کذلک ، فیما خالف الواجب ولم یأت بواحدة من مقدماته على کثرتها ، أو وافقه وأتاه بما له من المقدمات.
نعم لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترک المقدمة ، وبزیادة المثوبة على الموافقة فیما لو أتى بالمقدمات بما هی مقدمات له ، من باب إنّه یصیر حینئذ من أفضل الأعمال ، حیث صار أشقّها ، وعلیه ینزّل ما ورد فی الإخبار (2) من الثواب على المقدّمات ، أو على التفضل فتأمل جیداً ، وذلک لبداهة أن موافقة الأمر الغیری ـ بما هو أمر لا بما هو شروع فی إطاعة الأمر النفسی ـ لا توجب قرباً ، ولا مخالفته ـ بما هو کذلک ـ بُعداً ، والمثوبة والعقوبة إنّما تکونان من تبعات القرب والبعد.
__________________
1 ـ راجع صفحة 64 من الکتاب ، الجهة الرابعة ( فی بحث الطلب والإرادة ).
2 ـ کامل الزیارات / 133 ، فیما ورد فی زیارة أبی عبدالله ، من إنّه لکلّ قدم ثواب کذا. 
 
إشکال ودفع :
أما الأوّل : فهو إنّه إذا کان الأمر الغیری بما هو لا إطاعة له ، ولا قرب فی موافقته ، ولا مثوبة على امتثاله ، فکیف حال بعضٍ المقدّمات کالطهارات؟ حیث لا شبهة فی حصول الإطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها ، هذا مضافاً إلى أن الأمر الغیری لا شبهة فی کونه توصلیاً ، وقد اعتبر فی صحتها إتیإنّها بقصد القربة.
وأما الثّانی : فالتحقیق أن یقال : إن المقدمة فیها بنفسها مستحبة وعبادة ، وغایاتها إنّما تکون متوقفة على إحدى هذه العبادات ، فلا بدّ أن یؤتى بها عبادة ، وإلاّ فلم یؤت بما هو مقدّمة لها ، فقصد القربة فیها إنّما هو لأجل کونها فی نفسها أمورا عبادیة ومستحبات نفیسة ، لا لکونها مطلوبات غیریة والاکتفاء بقصد أمرها الغیری ، فإنما هو لأجل إنّه یدعو إلى ما هو کذلک فی نفسه حیث إنّه لا یدعو إلّا إلى ما هو المقدمة ، فافهم.
وقد تفُصّی عن الإِشکال بوجهین آخرین (1) :
أحدهما ما ملخصه : إن الحرکات الخاصة ربما لا تکون محصلة لما هو المقصود منها ، من العنوان الذی یکون بذاک العنوان مقدّمة وموقوفا علیها ، فلا بدّ فی إتیإنّها بذاک العنوان من قصد أمرها ، لکونه لا یدعو إلّا إلى ما هو الموقوف علیه ، فیکون عنواناً إجمالیاً ومرآة لها ، فإتیان الطهارات عبادة وإطاعة لامرها لیس لأجل أن أمرها المقدمی یقضی بالاتیان کذلک ، بل إنّما کان لأجل إحراز نفس العنوان ، الذی یکون بذاک العنوان موقوفاً علیها.
وفیه : مضافاً إلى أن ذلک لا یقتضی الإِتیان بها کذلک ، لإمکان الإِشارة إلى عناوینها التی تکون بتلک العناوین موقوفاً علیها بنحو آخر ، ولو
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 71 فی تنبیهات الهدایة 12 من القول فی وجوب مقدّمة الواجب. 
 
بقصد أمرها وصفاً لا غایة وداعیاً ، بل کان الداعی إلى هذه الحرکات الموصوفة بکونها مأموراً بها شیئاً آخر غیر أمرها ، غیر وافٍ بدفع إشکال ترتب المثوبة علیها ، کما لا یخفى.
ثانیهما : ما مُحَصّله أن لزوم وقوع الطهارات عبادة ، إنّما یکون لأجل أن الغرض من الأمر النفسی بغایاتها ، کما لا یکاد یحصل بدون قصد التقرب بموافقته ، کذلک لا یحصل ما لم یؤت بها کذلک ، لا باقتضاء أمرها الغیری.
وبالجملة وجه لزوم إتیإنّها عبادة ، إنّما هو لأجل أن الغرض فی الغایات ، لا یحصل إلّا بإتیان خصوص الطهارات من بین مقدماتها أیضاً ، بقصد الاطاعة.
وفیه أیضاً : إنّه غیر وافٍ بدفع إشکال ترتب المثوبة علیها.
وأما ما ربما قیل (1) فی تصحیح اعتبارٍ قصد الإطاعة فی العبادات ، من الالتزام بأمرین : أحدهما کان متعلقاً بذات العمل ، والثانی بإتیإنّه بداعی امتثال الأوّل ، لا یکاد یجزئ فی تصحیح اعتبارها فی الطهارات ، إذ لو لم تکن بنفسها مقدّمة لغایاتها ، لا یکاد یتعلق بها أمر من قبل الأمر بالغایات ، فمن أین یجیء طلب آخر من سنخ الطلب الغیری متعلق بذاتها ، لیتمکن به من المقدمة فی الخارج. هذا مع أن فی هذا الالتزام ما فی تصحیح اعتبارٍ قصد الطاعة فی العبادة على ما عرفته مفصلاً سابقا ً(2) ، فتذکرّ.
الثانی : إنّه قد انقدح مما هو التحقیق ، فی وجه اعتبارٍ قصد القربة فی الطهارات صحتها ولو لم یؤت بها بقصد التوصل بها إلى غایة من غایاتها ، نعم لو کان المصحح لاعتبار قصد القربة فیها امرها الغیری ، لکان قصد الغایة مما لابد منه فی وقوعها صحیحة ، فان الأمر الغیری لا یکاد یمتثل إلّا إذا قصد
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 71 ، فی تنبیهات الهدایة 12.  2 ـ راجع ص 72.
 
التوصل إلى الغیر ، حیث لا یکاد یصیر داعیا إلّا مع هذا القصد ، بل فی الحقیقة یکون هو الملاک لوقوع المقدمة عبادة ، ولو لم یقصد أمرها ، بل ولو لم نقل بتعلق الطلب بها أصلاً.
وهذا هو السر فی اعتبارٍ قصد التوصل فی وقوع المقدمة عبادة ، لا ما توهّم (1) من أن المقدمة إنّما تکون مأموراً بها بعنوان المقدمیة ، فلا بدّ عند إرادة الامتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان ، وقصدها کذلک لا یکاد یکون بدون قصد التوصل إلى ذی المقدمة بها ، فإنّه فاسد جداً ؛ ضرورة أن عنوان المقدمیة لیس بموقوف علیه الواجب ، ولا بالحمل الشائع مقدّمة له ، وإنما کان المقدمة هو نفس المعنونات بعناوینها الأولیة ، والمقدمیة إنّما تکون علّة لوجوبها.
الأمر الرابع : لا شبهة فی أن وجوب المقدمة بناءً على الملازمة ، یتبع فی الإِطلاق والاشتراط وجوب ذی المقدمة ، کما أشرنا إلیه فی مطاوی کلماتنا (2) ، ولا یکون مشروطاً بإرادته ، کما یوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم (3) ; فی بحث الضد ، قال : وأیضاً فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدیر تسلیمها إنّما تنهض دلیلاً على الوجوب ، فی حال کون المکلف مریداً للفعل المتوقف علیها ، کما لا یخفى على من أعطاها حق النظر.
وأنت خبیر بأن نهوضها على التبعیة واضح لا یکاد یخفى ، وأنّ کان نهوضها على أصل الملازمة لم یکن بهذه المثابة ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 72.
2 ـ راجع ص 99.
3 ـ معالم الدین / 74 ، فی آخر مبحث الضد.
هو الشیخ جمال الدین أبو منصور الحسن بن الشیخ زین الدین ، ولد سنة 959 ه‍ ، کان عالماً فاضلاً عاملاً جامعاً للفنون ، اعرف أهل زمإنّه بالفقه والحدیث والرجال ، یروی عن جماعة من تلامذة أبیه ، منهم الشیخ حسین بن عبد الصمد العاملی ، له کتب ورسائل منها « منتقى الجمان فی الأحادیث الصحاح والحسان » و « معالم الدین وملاذ المجتهدین » توفی سنة 1011 ه‍. () أمل الآمل 1 / 57 رقم 45 ).
 
وهل یعتبر فی وقوعها على صفة الوجوب أن یکون الإِتیان بها بداعی التوصل بها إلى ذی المقدمة؟ کما یظهر مما نسبه إلى شیخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ بعضٍ أفاضل (1) مقرری بحثه ، أو ترتب ذی المقدمة علیها؟ بحیث لو لم یترتب علیها لکشف (2) عن عدم وقوعها على صفة الوجوب ، کما زعمه صاحب الفصول (3) 1؟ أو لا یعتبر فی وقوعها کذلک شیء منهما؟
الظاهر عدم الاعتبار : امّا عدم اعتبارٍ قصد التوصل ، فلاجل أن الوجوب لم یکن بحکم العقل إلّا لأجل المقدمیة والتوقف ، وعدم دخل قصد التوصل فیه واضح ، ولذا اعترف (4) بالاجتزاء بما لم یقصد به ذلک فی غیر المقدّمات العبادیة ، لحصول ذات الواجب ، فیکون تخصیص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصل من المقدمة بلا مخصص ، فافهم.
نعم إنّما اعتبر ذلک فی الامتثال ، لما عرفت (5) من إنّه لا یکاد یکون الآتی بها بدونه ممتثلا لامرها ، وآخذاً فی امتثال الأمر بذیها ، فُیثاب بثواب أشقِّ الأعمال ، فیقع الفعل المقدمی على صفة الوجوب ، ولو لم یقصد به التوصل ، کسائر الواجبات التوصلیة ، لا على حکمه السابق الثابث له ، لو لا عروض صفة توقف الواجب الفعلّی المنجز علیه ، فیقع الدخول فی ملک الغیر واجباً إذا کان مقدّمة لانقاذ غریق أو إطفاء حریق واجب فعلّی لا حراماً ، وأنّ لم یلتفت إلى التوقف والمقدمیة ، غایة الأمر یکون حینئذ متجرِّئاً فیه ، کما إنّه مع الالتفات یتجّرأ بالنسبة إلى ذی المقدمة ، فیما لم یقصد التوصل إلیه أصلاً.
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 72.
2 ـ فی « ب » : یکشف.
3 ـ الفصول / 86 ، فی مقدّمة الواجب.
4 ـ مطارح الأنظار / 72.
5 ـ راجع صفحة 112. 
 
وأما إذا قصده ، ولکنه لم یأت بها بهذا الداعی ، بل بداعٍ آخر أکّده بقصد التوصل ، فلا یکون متجرِّئاً أصلاً.
وبالجملة : یکون التوصل بها إلى ذی المقدمة من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة ، لا أن یکون قصده قیداً وشرطاً لوقوعها على صفة الوجوب ، لثبوت ملاک الوجوب فی نفسها بلا دخل له فیه أصلاً ، وإلاّ لما حصل ذات الواجب ولما سقط الوجوب به ، کما لا یخفى.
ولا یقاس على ما إذا أتى بالفرد المحرم منها ، حیث یسقط به الوجوب ، مع إنّه لیس بواجب ، وذلک لأن الفرد المحرم إنّما یسقط به الوجوب ، لکونه کغیره فی حصول الغرض به ، بلا تفاوت أصلاً ، إلّا إنّه لأجل وقوعه على صفة الحرمة لا یکاد یقع على صفة الوجوب ، وهذا بخلاف [ ما ] ها هنا ، فإنّه إن کان کغیره مما یقصد به التوصل فی حصول الغرض ، فلابد أن یقع على صفة الوجوب مثله ، لثبوت المقتضی فیه بلا مانع ، وإلاّ لما کان یسقط به الوجوب ضرورة ، والتالی باطل بداهة ، فیکشف هذا عن عدم اعتبارٍ قصده فی الوقوع على صفة الوجوب قطعاً ، وانتظر لذلک تتمة (1) توضیح.
والعجب إنّه شدد النکیر على القول بالمقدمة الموصلة ، واعتبار ترتب ذی المقدمة علیها فی وقوعها على صفة الوجوب ، على ما حرره بعضٍ مقرری (2) بحثه (1) بما یتوجه على اعتبارٍ قصد التوصل فی وقوعها کذلک ، فراجع تمام کلامه زید فی علو مقامه ، وتأمّل فی نقضه وإبرامه. 
وأما عدم اعتبارٍ ترتب ذی المقدمة علیها فی وقوعها على صفة الوجوب ، فلأنه لا یکاد یعتبر فی الواجب إلّا ما له دخل فی غرضه الداعی إلى إیجابه
__________________
1 ـ فی « ب » : جهة.
2 ـ راجع مطارح الأنظار / 74 و 75 فی المقدمة الموصلة. 
 
والباعث على طلبه ، ولیس الغرض من المقدمة إلّا حصول ما لولاه لما أمکن حصول ذی المقدمة ، ضرورة إنّه لا یکاد یکون الغرض إلّا ما یترتب علیه من فائدته وأثره ، ولا یترتب على المقدمة إلّا ذلک ، ولا تفاوت فیه بین ما یترتب علیه الواجب ، وما لا یترتب علیه أصلاً ، وإنّه لا محالة یترتب علیهما ، کما لا یخفى.
وأما ترتب الواجب ، فلا یعقل أن یکون الغرض الداعی إلى إیجابها والباعث على طلبها ، فإنّه لیس بأثر تمام المقدّمات ، فضلاً عن أحدها فی غالب الواجبات ، فإن الواجب إلّا ما قل فی الشرعیات والعرفیات فعل اختیاری ، یختار المکلف تارةً إتیإنّه بعد وجود تمام مقدماته ، وأخرى عدم إتیإنّه ، فکیف یکون اختیار إتیإنّه غرضاً من إیجاب کلّ واحدة من مقدماته ، مع عدم ترتبه على تمامها (1) ، فضلاً عن کلّ واحدة منها؟
نعم فیما کان الواجب من الأفعال التسبیبیة والتولیدیة ، کان مترتباً لا محالة على تمام مقدماته ، لعدم تخلف المعلول عن علته.
ومن هنا [ قد ] (2) انقدح أن القول بالمقدمة الموصلة ، یستلزم إنکار وجوب المقدمة فی غالب الواجبات ، والقول بوجوب خصوص العلة التامة فی خصوص الواجبات التولیدیة.
فإن قلت : ما من واجب إلّا وله علّة تامة ، ضرورة استحالة وجود الممکن بدونها ، فالتخصیص بالواجبات التولیدیة بلا مخصص.
قلت : نعم وأنّ استحال صدور الممکن بلا علّة ، إلّا أن مبادىء اختیار الفعل الاختیاری من أجزاء علته ، وهی لا تکاد تتصف بالوجوب ، لعدم کونها
__________________
1 ـ فی « ب » : عامها.
2 ـ أثبتناها من « ب ». 
 
بالاختیار ، وإلاّ لتسلسل ، کما هو واضح لمن تأمل ، ولأنّه لو کان معتبراً فیه الترتب ، لما کان الطلب یسقط بمجرد الإِتیان بها ، من دون انتظار لترتب الواجب علیها ، بحیث لا یبقى فی البین إلّا طلبه وإیجابه ، کما إذا لم تکن هذه بمقدمته (1) ، أو کانت حاصلة من الأوّل قبل إیجابه ، مع أن الطلب لا یکاد یسقط إلّا بالموافقة ، أو بالعصیان والمخالفة ، أو بارتفاع موضوع التکلیف ، کما فی سقوط الأمر بالکفن أو الدفن ، بسبب غرق المیت أحیاناً أو حرقه ، ولا یکون الإِتیان بها بالضرورة من هذه الأمور غیر الموافقة.
إن قلت : کما یسقط الأمر فی تلک الأمور ، کذلک یسقط بما لیس بالمأمور به فیما یحصل به الغرض منه ، کسقوطه فی التوصلیات بفعل الغیر ، أو المحرمات.
قلت : نعم ، ولکن لا محیص عن أن یکون ما یحصل به الغرض ، من الفعل الاختیاری للمکلف متعلقاً للطلب فیما لم یکن فیه مانع ، وهو کونه بالفعل محرماً ، ضرورة إنّه لا یکون بینهما تفاوت أصلاً ، فیکف یکون أحدهما متعلقاً له فعلاً دون الآخر؟
وقد استدل صاحب الفصول (2) على ما ذهب إلیه بوجوه ، حیث قال بعد بیان أن التوصل بها إلى الواجب ، من قبیل شرط الوجود لها لا من قبیل شرط الوجوب ، ما هذا لفظه :
( والذی یدلّک على هذا ـ یعنی الاشتراط بالتوصل ـ أن وجوب المقدمة لما کان من باب الملازمة العقلیة ، فالعقل لا یدلّ علیه زائداً على القدر المذکور ، وأیضاً لا یأبى العقل أن یقول الأمر الحکیم : أُرید الحج ، وأرید المسیر الذی
__________________
1 ـ فی « ب » : بمقدمة.
2 ـ الفصول / 86. فی التنبیه الأوّل من تنبیهات مقدّمة الواجب. 
 
یتوصل به إلى فعل الواجب ، دون ما لم یتوصل به إلیه ؛ بل الضرورة قاضیة بجواز تصریح الآمر بمثل ذلک ، کما إنّها قاضیة بقبح التصریح بعدم مطلوبیتها له مطلقاً ، أو على تقدیر التوصل بها إلیه ، وذلک آیة عدم الملازمة بین وجوبه ووجوب مقدماته على تقدیر عدم التوصل بها إلیه ، وأیضاً حیث أن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله ، فلاجرم یکون التوصل بها إلیه وحصوله معتبراً فی مطلوبیتها ، فلا تکون مطلوبة إذا انفکت عنه ، وصریح الوجدان قاضٍ بأن من یرید شیئاً بمجرد حصول شیء آخر ، لا یریده إذا وقع مجردا عنه ، ویلزم منه أن یکون وقوعه على وجه المطلوب منوطا بحصوله ). انتهى موضع الحاجة من کلامه ، زید فی علو مقامه.
وقد عرفت بما لا مزید علیه ، أن العقل الحاکم بالملازمة دلّ على وجوب مطلق المقدمة ، لا خصوص ما إذا ترتب علیها الواجب ، فیما لم یکن هناک مانع عن وجوبه ، کما إذا کان بعضٍ مصادیقه محکوماً فعلاً بالحرمة ، لثبوت مناط الوجوب حینئذ فی مطلقها ، وعدم اختصاصه بالمقید بذلک منها.
وقد انقدح منه ، إنّه لیس للأمر الحکیم الغیر المجازف بالقول ذلک التصریح ، وأنّ دعوى أن الضرورة قاضیة بجوازه (1) مجازفة ، کیف یکون ذا مع ثبوت الملاک فی الصورتین بلا تفاوت أصلا؟ کما عرفت.
نعم إنّما یکون التفاوت بینهما فی حصول المطلوب النفسی فی إحداهما ، وعدم حصوله فی الأخرى ، من دون دخل لها فی ذلک أصلاً ، بل کان بحسن اختیار المکلف وسوء اختیاره ، وجاز للأمر أن یصرِّح بحصول هذا المطلوب فی إحداهما ، وعدم حصوله فی الأخرى ، [ بل من ] (2) حیث أن الملحوظ بالذات هو
__________________
1 ـ ادعاه صاحب الفصول ، حیث قال : ولا یأبى أن یقول الأمر الحکیم .. الخ ... / الفصول / 86.
2 ـ أثبتناها من « أ ».
 
هذا المطلوب ، وإنما کان الواجب الغیری ملحوظاً إجمالاً بتبعه ، کما یأتی أن وجوب المقدمة على الملازمة تبعیّ ، جاز فی صورة عدم حصول المطلوب النفسی التصریح بعدم حصول المطلوب أصلاً ، لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدمة ، فضلاً عن کونها مطلوبة ، کما جاز التصریح بحصول الغیری مع عدم فائدته لو التفت إلیها ، کما لا یخفى ، فافهم.
إن قلت : لعل التفاوت بینهما فی صحة اتصاف إحداهما بعنوان الموصلیة دون الأخرى ، أوجب التفاوت بینهما فی المطلوبیة وعدمها ، وجواز التصریح بهما ، وأنّ لم یکن بینهما تفاوت فی الأثر ، کما مرّ.
قلت : إنّما یوجب ذلک تفاوتاً فیهما ، لو کان ذلک لأجل تفاوت فی ناحیة المقدمة ، لا فیما إذا لم یکن فی ناحیتها أصلاً ـ کما هاهنا ـ ضرورة أن الموصلیة إنّما تنتزع من وجود الواجب ، وترتبه علیها من دون اختلاف فی ناحیتها ، وکونها فی کلاّ الصورتین على نحو واحد وخصوصیة واحدة ، ضرورة أن الإِتیان بالواجب بعد الإِتیان بها بالاختیار تارةً ، وعدم الإِتیان به کذلک أُخرى ، لا یوجب تفاوتاً فیها ، کما لا یخفى.
وأما ما أفاده (1) 1 من أن مطلوبیة المقدمة حیث کانت بمجرد التوصل بها ، فلا جرم یکون التوصل بها إلى الواجب معتبراً فیها.
ففیه : إنّه إنّما کانت مطلوبیتها لأجل عدم التمکن من التوصل بدونها ، لا لأجل التوصل بها ، لما عرفت من إنّه لیس من آثارها ، بل مما یترتب علیها أحیاناً بالاختیار بمقدمات أُخرى ، وهی مبادىء اختیاره ، ولا یکاد یکون مثل ذا غایة لمطلوبیتها وداعیاً إلى إیجابها ، وصریح الوجدان إنّما یقتضی بأن ما أُرید لأجل غایة ، وتجرد عن الغایة بسبب عدم حصول سائر ماله دخل فی حصولها ،
__________________
1 ـ الفصول / 86 ، فی تنبیهات مقدّمة الواجب.
 
یقع على ما هو علیه من المطلوبیة الغیریة ، کیف؟ وإلاّ یلزم أن یکون وجودها من قیوده ، ومقدمة لوقوعه على نحو یکون الملازمة بین وجوبه بذاک النحو ووجوبها.
وهو کما ترى ، ضرورة أن الغایة لا تکاد تکون قیداً لذی الغایة ، بحیث کان تخلفها موجباً لعدم وقوع ذی الغایة على ما هو علیه من المطلوبیة الغیریة ، وإلاّ یلزم أن تکون مطلوبة بطلبه کسائر قیوده ، فلا یکون وقوعه على هذه الصفة منوطا بحصولها ، کما أفاده.
ولعل منشأ توهمه ، خلطه بین الجهة التقییدیة والتعلیلیة. هذا. مع ما عرفت من عدم التخلف ها هنا ، وأنّ الغایة إنّما هو حصول ما لولاه لما تمکن من التوصل إلى المطلوب النفسی ، فافهم واغتنم.
ثم إنّه لا شهادة على الاعتبار فی صحة منع المولى عن مقدماته بأنحائها ، إلّا فیما إذا رتب علیه الواجب لو سلّم أصلاً ، ضرورة إنّه وأنّ لم یکن الواجب منها حینئذ غیر الموصلة ، إلّا إنّه لیس لأجل اختصاص الوجوب بها فی باب المقدمة ، بل لأجل المنع عن غیرها المانع عن الاتصاف بالوجوب هاهنا ، کما لا یخفى.
مع أن فی صحة المنع عنه کذلک نظراً ، وجهه إنّه یلزم أن لا یکون ترک الواجب حینئذ مخالفة وعصیاناً ، لعدم التمکن شرعاً منه ، لاختصاص جواز مقدمته بصورة الإِتیان به.
وبالجملة یلزم أن یکون الإِیجاب مختصاً بصورة الإِتیان ، لاختصاص جواز المقدمة بها وهو محال (1) فإنّه یکون من طلب الحاصل المحال ، فتدبرّ جیداً.
__________________
1 ـ حیث کان الإِیجاب فعلاً متوقفاً على جواز المقدمة شرعاً ، وجوازها کذلک کان متوقفاً على إیصالها المتوقف على الإِتیان بذی المقدمة بداهة ، فلا محیص إلّا عن کون إیجابه على تقدیر الإِتیان به ، وهو من طلب الحاصل الباطل « منه 1 ». 
 
بقی شیء وهو أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة ، هی تصحیح العبادة التی یتوقف على ترکها فعل الواجب ، بناءً على کون ترک الضد مما یتوقف علیه فعل ضدّه ، فإن ترکها على هذا القول لا یکون مطلقاً واجباً ، لیکون فعلها محرماً ، فتکون فاسدة ، بل فیما یترتب علیه الضد الواجب ، ومع الإِتیان بها لا یکاد یکون هناک ترتب ، فلا یکون ترکها مع ذلک واجباً ، فلا یکون فعلها منهیاً عنه ، فلا تکون فاسدة.
وربما أورد (1) على تفریع هذه الثمرة بما حاصله : بأن فعل الضد ، وأنّ لم یکن نقیضاً للترک الواجب مقدّمة ، بناءً على المقدمة الموصلة ، إلّا إنّه لازم لما هو من أفراد النقیض ، حیث إنَّ نقیض ذاک الترک الخاص رفعه ، وهو أعم من الفعل والترک الآخر المجرد ، وهذا یکفی فی إثبات الحرمة ، وإلاّ لم یکن الفعل المطلق محرماً فیما إذا کان الترک المطلق واجباً ، لأن الفعل أیضاً لیس نقیضاً للترک ، لأنه أمر وجودی ، ونقیض الترک إنّما هو رفعه ، ورفع الترک إنّما یلازم الفعل مصداقاً ، ولیس عینه ، فکما أن هذه الملازمة تکفی فی إثبات الحرمة لمطلق الفعل ، فکذلک تکفی فی المقام ، غایة الأمر أن ما هو النقیض فی مطلق الترک ، إنّما ینحصر مصداقه فی الفعل فقط ، وأما النقیض للترک الخاص فله فردان ، وذلک لا یوجب فرقاً فیما نحن بصدده ، کما لا یخفى.
قلت : وأنت خبیر بما بینهما من الفرق ، فإن الفعل فی الأوّل لا یکون إلّا مقارناً لما هو النقیض ، من رفع الترک المجامع معه تارةً ، ومع الترک المجرد أُخرى ، ولا تکاد تسری حرمة الشیء إلى ما یلازمه ، فضلاً عما یقارنه أحیاناً.
نعم لابد أن لا یکون الملازم محکوماً فعلاً بحکم آخر على خلاف حکمه ، لا أن یکون محکوماً بحکمه ، وهذا بخلاف الفعل فی الثّانی ، فإنّه
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 78. 
 

کفایة الاصول - قسمت دوم

ومن هنا ظهر الحال فی مثل ( زید ضارب أمس ) وإنّه داخل فی محلّ الخلاف والاشکال. ولو کانت لفظة ( أمس ) أو ( غد ) قرینة على تعیین زمان النسبة والجری أیضاً کان المثالان حقیقة.
وبالجملة : لا ینبغی الإِشکال فی کون المشتق حقیقة ، فیما إذا جرى على الذات ، بلحاظ حال التلبس ، ولو کان فی المضی أو الاستقبال ، وإنما الخلاف فی کونه حقیقة فی خصوصه ، أو فیما یعم ما إذا جرى علیها فی الحال بعد ما انقضى عنه التلبس ، بعد الفراغ عن کونه مجازاً فیما إذا جرى علیها فعلاً بلحاظ التلبس فی الاستقبال ، ویؤیّد ذلک اتفاق أهل العربیة على عدم دلالة الاسم على الزمان ، ومنه الصفات الجاریة على الذوات ، ولا ینافیه اشتراط العمل فی بعضها بکونه بمعنى الحال ، أو الاستقبال ؛ ضرورة أن المراد الدلالة على أحدهما بقرینة ، کیف لا؟ وقد اتفقوا على کونه مجازاً فی الاستقبال.
لا یقال : یمکن أن یکون المراد بالحال فی العنوان زمإنّه ، کما هو الظاهر منه عند إطلاقه ، وادعی إنّه الظاهر فی المشتقات ، امّا لدعوى الانسباق من الإِطلاق ، أو بمعونة قرینة الحکمة.
لأنا نقول : هذا الانسباق ، وأنّ کان مما لا ینکر ، إلّا إنّهم فی هذا العنوان بصدد تعیین ما وضع له المشتق ، لا تعیین ما یراد بالقرینة منه. 
 
سادسها : إنّه لا أصل فی نفس هذه المسألة یعوّل علیه عند الشک ، وأصالة عدم ملاحظة الخصوصیة ، مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم ، لا دلیل على اعتبارها فی تعیین الموضوع له.
وأما ترجیح الاشتراک المعنوی على الحقیقة والمجاز. إذا دار الأمر بینهما لأجل الغلبة ، فممنوع ؛ لمنع الغلبة أولاً ، ومنع نهوض حجة على الترجیح بها ثانیاً.
وأما الأصل العملی فیختلف فی الموارد ، فأصالة البراءة فی مثل ( أَکرم کلّ عالم ) تقتضی عدم وجوب إکرام ما انقضى (1) عنه المبدأ قبل الإِیجاب ، کما أن قضیة الاستصحاب وجوبه لو کان الإِیجاب قبل الانقضاء.
فإذا عرفت ما تلونا علیک ، فاعلم أن الأقوال فی المسألة وأنّ کثرت ، إلّا إنّها حدثت بین المتأخرین ، بعد ما کانت ذات قولین بین المتقدّمین ، لأجل توهّم اختلاف المشتق باختلاف مبادئه فی المعنى ، أو بتفاوت ما یعتریه من الأحوال ، وقد مرت الإِشارة (2) إلى إنّه لا یوجب التفاوت فیما نحن بصدده ، ویأتی له مزید بیان فی أثناء الاستدلال على ما هو المختار ، وهو اعتبارٍ التلبس فی الحال ، وفاقاً لمتأخری الأصحاب والاشاعرة ، وخلافاً لمتقدمیهم والمعتزلة ، ویدل علیه تبادر خصوص المتلبس بالمبدأ فی الحال ، وصحة السلب مطلقاً عما انقضى عنه ، کالمتلبس به فی الاستقبال ، وذلک لوضوح أن مثل : القائم والضارب والعالم ، وما یرادفها من سائر اللغات ، لا یصدق على من لم یکن متلبساً بالمبادىء ، وأنّ کان متلبسا بها قبل الجری والانتساب ، ویصحّ سلبها عنه ، کیف؟ وما یضادها بحسب ما ارتکز من معناها فی الأذهان یصدق علیه ، ضرورة صدق القاعد علیه فی حال تلبسه بالقعود ، بعد انقضاء تلبسه بالقیام ، مع وضوح التضاد بین القاعد والقائم بحسب ما ارتکز لهما من المعنى ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ فی« ب» : من انقضى.
2 ـ تقدم فی الأمر الرابع ، صفحة 43. 
 
وقد یقرَّر هذا وجهاً على حدة ، ویقال (1) : لا ریب فی مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادىء المتضادة ، على ما ارتکز لها من المعانی ، فلو کان المشتق حقیقة فی الأعم ، لما کان بینها مضادة بل مخالفة ، لتصادقها فیما انقضى عنه المبدأ وتلبس بالمبدأ الآخر.
ولا یرد على هذا التقریر ما أورده بعضٍ الأجلّة (2) من المعاصرین ، من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط ، لما عرفت من ارتکازه بینها ، کما فی مبادئها.
إن قلت : لعل ارتکازها لأجل الانسباق من الإِطلاق ، لا الاشتراط.
قلت : لا یکاد یکون لذلک ، لکثرة استعمال المشتق فی موارد الانقضاء ، لو لم یکن بأکثر.
إن قلت : على هذا یلزم أن یکون فی الغالب أو الأغلب مجازاً ، وهذا بعید ، ربما لا یلائمه حکمة الوضع.
لا یقال : کیف؟ وقد قیل : بأن أکثر المحاورات مجازات. فإن ذلک لو سلّم ، فإنما هو لأجل تعدَّد المعانی المجازیة بالنسبة إلى المعنى الحقیقی الواحد. نعم ربما یتفق ذلک بالنسبة إلى معنى مجازی ، لکثرة الحاجة إلى التعبیر عنه. لکن أین هذا مما إذا کان دائماً کذلک؟ فافهم.
__________________
1 ـ البدائع / 181 ، فی المشتق.
2 ـ المراد من بعضٍ الأجلّة ، هو صاحب البدائع ، البدائع / 181.
الشیخ المیرزا حبیب الله بن المیرزا محمد علی خان القوجانی الرشتی ، ولد عام 1234 ه‍ ، حضر بحث صاحب الجواهر والشیخ الانصاری ، کان من أکابر علماء عصره ، أعرض عن الرئاسة ولم یرض أن یقلّده أحد لشدّة توّرعه فی الفتوى ، ولم یتصدّ للوجوه ، له تصانیف کثیرة منها « بدائع الأصول » و « شرح الشرائع » و « کاشف الظلام فی علم الکلام » وغیرها ، توفی لیلة الخمیس 14 / ج 2 عام 1312 ه‍ ودفن فی النجف الاشرف.
( طبقات أعلام الشیعة ، نقباء البشر 1 / 357 رقم 719 ) 
 
قلت : مضافاً إلى أن مجرد الاستبعاد غیر ضائر بالمراد ، بعد مساعدة الوجوه المتقدمة علیه ، إن ذلک إنّما یلزم لو لم یکن استعماله فیما انقضى بلحاظ حال التلبس ، مع إنّه بمکان من الإِمکان ، فیراد من ( جاء الضارب أو الشارب ) ـ وقد انقضى عنه الضرب والشرب ـ جاء الذی کان ضاربا وشارباً قبل مجیئه حال التلبس بالمبدأ ، لا حینه بعد الانقضاء ، کی یکون الاستعمال بلحاظ هذا الحال ، وجعله معنوناً بهذا العنوان فعلاً بمجرد تلبسه قبل مجیئه ، ضرورة إنّه لو کان للأعم لصحّ استعماله بلحاظ کلاّ الحالین.
وبالجملة : کثرة الاستعمال فی حال الانقضاء تمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التلبس من الإِطلاق ، إذ مع عموم المعنى وقابلیة کونه حقیقة فی المورد ـ ولو بالانطباق ـ لا وجه لملاحظة حالة أُخرى ، کما لا یخفى ، بخلاف ما إذا لم یکن له العموم ، فإن استعماله ـ حینئذ ـ مجازاً بلحاظ حال الانقضاء وأنّ کان ممکناً ، إلّا إنّه لما کان بلحاظ حال التلبس على نحو الحقیقة بمکان من الإِمکان ، فلا وجه لاستعماله وجریه على الذات مجازاً وبالعنایة وملاحظة العلاقة ، وهذا غیر استعمال اللفظ فیما لا یصحّ استعماله فیه حقیقة ، کما لا یخفى ، فافهم.
ثم إنّه ربما أورد (1) على الاستدلال بصحة السلب ، بما حاصله : إنّه إن أُرید بصحة السلب صحته مطلقاً ، فغیر سدید ، وأنّ أُرید مقیداً ، فغیر مفید ، لأن علامة المجاز هی صحة السلب المطلق.
وفیه : إنّه إن أُرید بالتقیید ، تقیید المسلوب الذی یکون سلبه أعم من سلب المطلق ـ کما هو واضح ـ فصحة سلبه وأنّ لم تکن علامة على کون المطلق مجازاً فیه ، إلّا أن تقییده ممنوع ؛ وأنّ أُرید تقیید السلب ، فغیر ضائر بکونها علامة ، ضرورة صدق المطلق على أفراده على کلّ حال ، مع إمکان
__________________
1 ـ البدائع / 180 ، فی المشتق.
 
منع تقییده أیضاً ، بأن یلحظ حال الانقضاء فی طرف الذات الجاری علیها المشتق ، فیصحّ سلبه مطلقاً بلحاظ هذا الحال ، کما لا یصحّ سلبه بلحاظ حال التلبس ، فتدبرّ جیداً.
ثم لا یخفى إنّه لا یتفاوت (1) فی صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ ، بین کون المشتق لازماً وکونه متعدیاً ، لصحة سلب الضارب عمن یکون فعلاً غیر متلبس بالضرب ، وکان متلبسا به سابقاً ، وأما إطلاقه علیه فی الحال ، فان کان بلحاظ حال التلبس ، فلا إشکال کما عرفت ، وأنّ کان بلحاظ الحال ، فهو وأنّ کان صحیحاً إلّا إنّه لا دلالة على کونه بنحو الحقیقة ، لکون الاستعمال أعم منها کما لا یخفى.
کما لا یتفاوت فی صحة السلب عنه ، بین تلبسه بضد المبدأ وعدم تلبسه ، لما عرفت من وضوح صحته مع عدم التلبس ـ أیضاً ـ وأنّ کان معه أوضح.
ومما ذکرنا ظهر حال کثیر من التفاصیل ، فلا نطیل بذکرها على التفصیل.
حجة القول بعدم الاشتراط وجوه :
الأول : التبادر.
وقد عرفت أن المتبادر هو خصوص حال التلبس.
الثانی : عدم صحة السلب فی مضروب ومقتول ، عمن انقضى عنه المبدأ.
وفیه : إن عدم صحته فی مثلهما ، إنّما هو لأجل إنّه أُرید من المبدأ
معنى یکون التلبس به باقیاً فی الحال ، ولو مجازاً. وقد انقدح من بعضٍ المقدّمات إنّه لا یتفاوت الحال فیما هو المهمّ فی محلّ البحث والکلام ومورد النقض والأبرام ، اختلاف ما یراد من المبدأ فی کونه حقیقة أو مجازاً ؛ وأما لو أُرید منه نفس ما وقع على الذات ، مما صدر
__________________
1 ـ التفصیل لصاحب الفصول ، الفصول / 60 ، فصل حول إطلاق المشتق. 
 
عن الفاعل ، فإنما لا یصحّ السلب فیما لو کان بلحاظ حال التلبس والوقوع ـ کما عرفت ـ لا بلحاظ الحال أیضاً ، لوضوح صحة أن یقال : إنّه لیس بمضروب الآن ، بل کان.
الثالث : استدلال الامام _ 7 _ تأسیا بالنبی ـ صلوات الله علیه وآله ـ کما عن غیر واحد من الإخبار (1) بقوله تعالی : ( لَا یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ ) (2) على عدم لیاقة من عبد صنماً أو وثنا لمنصب الإمامة والخلافة ، تعریضاً بمن تصدى لها ممن عبد الصنم مدة مدیدة ، ومن الواضح توقف ذلک على کون المشتق موضوعاً للأعم ، وإلاّ لما صحّ التعریض ، لانقضاء تلبسهم بالظلم وعبادتهم للصنم حین التصدی للخلافة.
والجواب منع التوقف على ذلک ، بل یتم الاستدلال ولو کان موضوعاً لخصوص المتلبس.
وتوضیح ذلک یتوقف على تمهید مقدّمة ، وهی : إن الأوصاف العنوانیة التی تؤخذ فی موضوعاًت الأحکام ، تکون على أقسام :
أحدها : أن یکون أخذ العنوان لمجرد الإِشارة إلى ما هو فی الحقیقة موضوعاً للحکم ، لمعهودیته بهذا العنوان ، من دون دخل لاتصافه به فی الحکم أصلاً.
ثانیها : أن یکون لأجل الإِشارة إلى علیة المبدأ للحکم ، مع کفایة مجرد صحة جری المشتق علیه ، ولو فیما مضى.
ثالثها : أن یکون لذلک مع عدم الکفایة ، بل کان الحکم دائراً مدار صحة الجری علیه ، واتّصافه به حدوثاً وبقاء.
إذا عرفت هذا فنقول : إن الاستدلال بهذا الوجه إنّما یتم ، لو کان أخذ العنوان فی الآیة الشریفة على النحو الأخیر ، ضرورة إنّه لو لم یکن المشتق
__________________
1 ـ الکافی 1/175 ، باب طبقات الأنبیاء والرسل والأئمة ، الحدیث 1.
2 ـ البقرة / 124. 
 
للأعم ، لما تم بعد عدم التلبس بالمبدأ ظاهراً حین التصدی ، فلا بدّ أن یکون للأعم ، لیکون حین التصدی حقیقة من الظالمین ، ولو انقضى عنهم التلبس بالظلم. وأما إذا کان على النحو الثّانی ، فلا ، کما لا یخفى.
ولا قرینة على إنّه على النحو الأوّل ، لو لم نقل بنهوضها على النحو الثّانی ، فإن الآیة الشریفة فی مقام بیان جلالة قدر الامامة والخلافة وعظم خطرها ، ورفعة محلها ، وأنّ لها خصوصیة من بین المناصب الإلهیة ، ومن المعلوم أن المناسب لذلک ، هو أن لا یکون المتقمص بها متلبساً بالظلم أصلاً ، کما لا یخفى.
إن قلت : نعم ، ولکن الظاهر أن الإمام 7 إنّما استدل بما هو قضیة ظاهر العنوان وضعاً ، لا بقرینة المقام مجازاً ، فلا بدّ أن یکون للأعم ، وإلاّ لما تم.
قلت : لو سلّم ، لم یکن یستلزم جری المشتق على النحو الثّانی کونه مجازاً ، بل یکون حقیقة لو کان بلحاظ حال التلبس کما عرفت. فیکون معنى الآیة ، والله العالم : من کان ظالماً ولو آناً فی زمان سابق (1) لا ینال عهدی أبداً ، ومن الواضح أن إرادة هذا المعنى لا تستلزم الاستعمال ، لا بلحاظ حال التلبس.
ومنه قد انقدح ما فی الاستدلال على التفصیل بین المحکوم علیه والمحکوم به ، باختیار عدم الاشتراط فی الأوّل ، بآیة حد السارق والسارقة ، والزانی والزانیة ، وذلک حیث ظهر إنّه لا ینافی إرادة خصوص حال التلبس دلالتها على ثبوت القطع والجلد مطلقاً ، ولو بعد انقضاء المبدأ ، مضافاً إلى
__________________
1 ـ فی « ب » : السابق. 
 
وضوح بطلان تعدَّد الوضع ، حسب وقوعه محکوماً علیه أو به ، کما لا یخفى.
ومن مطاوی ما ذکرنا ـ ها هنا وفی المقدّمات ـ ظهر حال سائر الأقوال ، وما ذکر لها من الاستدلال ، ولا یسع المجال لتفصیلها ، ومن أراد الاطلاع علیها فعلیه بالمطولات.
بقی اُمور :
الأول : إن مفهوم المشتق ـ على ما حققه المحقق الشریف (1) فی بعضٍ حواشیه (2) ـ : بسیط منتزع عن الذات ـ باعتبار تلبسها بالمبدأ واتصافها به ـ غیر مرکب. وقد أفاد فی وجه ذلک : أن مفهوم الشیء لا یعتبر فی مفهوم الناطق مثلاً ، وإلاّ لکان العرض العام داخلا فی الفصل ، ولو اعتبر فیه ما صدق علیه الشیء ، انقلبت مادة الإِمکان الخاص ضرورة ، فإن الشیء الذی له الضحک هو الإانسان ، وثبوت الشیء لنفسه ضروری. هذا ملخص ما أفاده الشریف ، على ما لخصه بعضٍ الأعاظم (3).
وقد أورد علیه فی الفصول (4) ، بإنّه یمکن أن یختار الشق الأوّل ، ویدفع الإِشکال بأن کون الناطق ـ مثلاً ـ فصلاً ، مبنی على عرفّ المنطقیین ،
__________________
1 ـ المیر سید علی بن محمّد بن علی الحسینی الاسترابادی ، ولد المحقق الشریف سنة 740 ه‍ بجرجان وکان متکلماً بارعاً ، باهراً فی الحکمة والعربیة ، روى عن جماعة منهم العلامة قطب الدین الرازی ، واخذ منه العلامة المذکور ، له شرح المطالع وشرح على مواقف القاضی عضد الایجی فی علم أصول الکلام ،عده القاضی نور الله من حکماء الشیعة وعلمائها. وتوفی فی شیراز سنة 816 ه‍. ( الکنى والالقاب 2 / 358 ).
2 ـ فی حاشیته على شرح المطالع عند قول الشارح : إلّا أن معناه شیء له المشتق منه ... الخ ، شرح المطالع / 11.
3 ـ الفصول / 61 ، التنبیهات.
4 ـ الفصول / 61 ، التنبیهات. 
 
حیث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات ، وذلک لا یوجب وضعه لغةً کذلک.
وفیه : إنّه من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلاً بلا تصرف فی معناه أصلاً ، بل بماله من المعنى ، کما لا یخفى.
والتحقیق أن یقال إن مثل الناطق لیس بفصل حقیقی ، بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصه ، وإنما یکون فصلاً مشهوریاً منطقیاً یوضع مکإنّه إذا لم یعلم نفسه ، بل لا یکاد یعلم ، کما حقق فی محله ، ولذا ربما یجعل لازمان مکإنّه إذا کانا متساویین النسبة إلیه ، کالحساس والمتحرک بالإِرادة فی الحیوان ، وعلیه فلا بأس بأخذ مفهوم الشیء فی مثل الناطق ، فإنّه وأنّ کان عرضاً عاماً ، لا فصلاً مقوماً للإنسان ، إلّا إنّه بعد تقییده بالنطق واتّصافه به کان من أظهر خواصه.
وبالجملة لا یلزم من أخذ مفهوم الشیء فی معنى المشتق ، إلّا دخول العرض فی الخاصة التی هی من العرضی ، لا فی الفصل الحقیقی الذی هو من الذاتی ، فتدبرّ جیداً.
ثم قال : إنّه یمکن أن یختار الوجه الثّانی أیضاً ، ویجاب بأن المحمول لیس مصداق الشیء والذات مطلقاً ، بل مقیداً بالوصف ، ولیس ثبوته للموضوع حینئذٍ بالضرورة ، لجواز أن لا یکون ثبوت القید ضروریاً. انتهى.
ویمکن أن یقال : إن عدم کون ثبوت القید ضروریاً لا یضر بدعوى الانقلاب ، فإن المحمول إن کان ذات المقید وکان القید خارجاً ، وأنّ کان التقییّد داخلاً بما هو معنى حرفی ، فالقضیة لا محالة تکون ضروریة ، ضرورة ضروریة ثبوت الإانسان الذی یکون مقیداً بالنطق للإنسان وأنّ کان المقید به بما هو مقید على أن یکون القید داخلاً ، فقضیة ( الإانسان ناطق ) تنحل فی الحقیقة إلى قضیتین إحداهما قضیة ( الإانسان إنسان ) وهی
 
ضروریة ، والأخرى قضیة ( الإانسان له النطق ) وهی ممکنة ، وذلک لأن الاوصاف قبل العلم بها أخبار کما أن الإخبار بعد العلم تکون أوصافاً ، فعقد الحمل ینحل إلى القضیة ، کما أن عقد الوضع ینحل إلى قضیة مطلقة عامة عند الشیخ ، وقضیة ممکنة عند الفارابی (1) ، فتأمل.
لکنه 1 تنظر فیما أفاده بقوله : وفیه نظر لأن الذات المأخوذة مقیدة بالوصف قوة أو فعلاً ، إن کانت مقیدة به واقعاً صدق الإِیجاب بالضرورة وإلاّ صدق السلب بالضرورة ، مثلاً : لا یصدق زید کاتب بالضرورة لکن یصدق ( زید الکاتب (2) بالقوة أو بالفعل [ کاتب ] بالضرورة ). انتهى.
ولا یذهب علیک أن صدق الإِیجاب بالضرورة ، بشرط کونه مقیداً به واقعاً لا یصحح دعوى الانقلاب إلى الضروریة ، ضرورة صدق الإِیجاب بالضرورة بشرط المحمول فی کلّ قضیة ولو کانت ممکنة ، کما لا یکاد یضر بها صدق السلب کذلک ، بشرط عدم کونه مقیداً به واقعاً ، لضرورة السلب بهذا الشرط ، وذلک لوضوح أن المناط فی الجهات ومواد القضایا ، إنّما هو بملاحظة أن نسبة هذا المحمول إلى ذلک الموضوع موجهة بأی جهة منها ، ومع أیة منها فی نفسها صادقة ، لا بملاحظة ثبوتها له واقعاً أو عدم ثبوتها له کذلک ، وإلاّ کانت الجهة منحصرة بالضرورة ، ضرورة صیرورة الإِیجاب أو السلب ـ بلحاظ الثبوت وعدمه ـ واقعاً ضروریاً ، ویکون من باب الضرورة
__________________
1 ـ أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الحکیم المشهور ، صاحب التصانیف فی الفلسفة والمنطق والموسیقى وغیرها من العلوم ، أقام ببغداد برهة ثم ارتحل إلى مدینة حرَّان ثم رجع إلى بغداد ثم سافر إلى دمشق ثم إلى مصر ، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها وسلطإنّها یومئذٍٍ سیف الدولة بن حمدان ، ویحکى أن الآلة المسماة « القانون » من وضعه ، وکان منفرداً بنفسه لا یجالس الناس ، أکثر تصانیفه فصول وتعالیق ، توفی عام 339 بدمشق وقد ناهز ثمانین سنة وصلّى علیه سیف الدولة ودفن بظاهر دمشق. ( وفیات الأعیان 5 / 153 رقم 701 ).
2 ـ أثبتناها من ( ب ) 
 
بشرط المحمول.
وبالجملة : الدعوى هو انقلاب مادة الإِمکان بالضرورة ، فیما لیست مادته واقعاً فی نفسه وبلا شرط غیر الأمکان.
وقد انقدح بذلک عدم نهوض ما أفاده ; بإبطال الوجه الأوّل ، کما زعمه 1 ، فإن لحوق مفهوم الشیء والذات لمصادیقهما ، إنّما یکون ضروریاً مع إطلاقهما ، لا مطلقاً ، ولو مع التقید إلّا بشرط تقید المصادیق به أیضاً ، وقد عرفت حال الشرط ، فافهم.
ثم إنّه لو جعل التالی فی الشرطیّة الثانیة لزوم أخذ النوع فی الفصل ؛ ضرورة أن مصداق الشیء الذی له النطق هو الإانسان ، کان ألیق بالشرطیة الأولى ، بل کان أولى (1) لفساده مطلقاً ، ولو لم یکن مثل الناطق بفصل حقیقی ، ضرورة بطلان أخذ الشیء فی لازمه وخاصته ، فتأمل جیداً.
ثم إنّه یمکن أن یستدل على البساطة ، بضرورة عدم تکرار الموصوف فی مثل ( زید الکاتب ) ، ولزومه من الترکب ، وأخذ الشیء مصداقاً أو مفهوماً فی مفهومه.
إرشاد :
لا یخفى أن معنى البساطة ـ بحسب المفهوم ـ وحدته إدراکاً وتصوراً ، بحیث لا یتصور عند تصوره إلّا شیء واحد لا شیئاًن ، وأنّ انحل بتعمّل من العقل إلى شیئین ، کانحلال مفهوم الشجر والحجر إلى شیء له الحجریة أو الشجریة ، مع وضوح بساطة مفهومهما.
وبالجملة : لا ینثلم بالانحلال إلى الاثنینیة ـ بالتعمّل العقلی ـ وحدة المعنى
__________________
1 ـ فی « ب » : الأولى. 
 
وبساطة المفهوم ، کما لا یخفى ، وإلى ذلک یرجع الإِجمال والتفصیل الفارقان (1) بین المحدود والحد ، مع ما هما علیه من الاتحاد ذاتاً ، فالعقل بالتعمّل یحلل النوع ، ویفصله إلى جنس وفصل ، بعد ما کان أمراً واحداً إدراکاً ، وشیئاً فارداً تصوراً ، فالتحلیل یوجب فتق ما هو علیه من الجمع والرتق.
الثانی : الفرق بین المشتق ومبدئه مفهوماً ، إنّه بمفهومه لا یأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ ، ولا یعصی عن الجری علیه ، لما هما علیه من نحو من الاتحاد ، بخلاف المبدأ ، فإنّه بمعناه یأبى عن ذلک ، بل إذا قیس ونسب إلیه کان غیره ، لا هو هو ، وملاک الحمل والجری إنّما هو نحو من الاتحاد والهوهویة ، وإلى هذا یرجع ما ذکره أهل المعقول فی الفرق بینهما ، من أن المشتق یکون لا بشرط والمبدأ یکون بشرط لا ، أیّ یکون مفهوم المشتق غیر آب عن الحمل ، ومفهوم المبدأ یکون آبیا عنه ، وصاحب الفصول (2) ; ـ حیث توهّم أن مرادهم إنّما هو بیان التفرقة بهذین الاعتبارین ، بلحاظ الطوارىء والعوارض الخارجیة مع حفظ مفهوم واحد ـ أورد علیهم بعدم استقامة الفرق بذلک ، لأجل امتناع حمل العلم والحرکة على الذات ، وأنّ اعتبرا لا بشرط ، وغفل عن أن المراد ما ذکرنا ، کما یظهر منهم من بیان الفرق بین الجنس والفصل ، وبین المادة والصورة ، فراجع.
الثالث : ملاک الحمل ـ کما أشرنا إلیه ـ هو الهوهویة والاتحاد من وجه ،
__________________
1 ـ فی « أ و ب » : الفارقین.
2 ـ الفصول / 62 ، التنبیه الثّانی من تنبیهات المشتق.
هو الشیخ محمد حسین بن محمد رحیم الطهرانی الحائری ، ولد فی « إیوان کیف » ، أخذ مقدمات العلوم فی طهران ، ثم اکتسب من شقیقه الحجة الشیخ محمد تقی الاصفهانی صاحب « هدایة المسترشدین » فی اصفهان ، ثم هاجر إلى العراق فسکن کربلاء ، کان مرجعاً عاماً فی التدریس والتقلید ، وقد تخرّج من معهده جمع من کبار العلماء ، أجاب داعی ربه سنة 1254 ه‍ وله آثار أشهرها « الفصول الغرویة » فی الأصول ( طبقات اعلام الشیعة الکرام البررة 1 / 390 رقم 795 ). 
 
والمغایرة من وجه آخر ، کما یکون بین المشتقات والذوات ، ولا یعتبر معه (1) ملاحظة الترکیب بین المتغایرین ، واعتبار کون مجموعهما ـ بما هو کذلک ـ واحداً ، بل یکون لحاظ ذلک مخلا ، لاستلزامه المغایرة بالجزئیة والکلیة.
ومن الواضح أن ملاک الحمل لحاظ نحو اتحاد بین الموضوع والمحمول ، مع وضوح عدم لحاظ ذلک فی التحدیدات وسائر القضایا فی طرف الموضوعاًت ، بل لا یلحظ فی طرفها إلّا نفس معانیها ، کما هو الحال فی طرف المحمولات ، ولا یکون حملها علیها إلّا بملاحظة ما هما علیه من نحو من الاتحاد ، مع ما هما علیه من المغایرة ولو بنحو من الاعتبار.
فانقدح بذلک فساد ما جعله فی الفصول تحقیقاً للمقام. وفی کلامه موارد للنظر ، تظهر بالتأمل وإمعان النظر.
الرابع : لا ریب فی کفایة مغایرة المبدأ مع ما یجری المشتق علیه مفهوماً ، وأنّ اتحدا عیناً و خارجاً ، فصدق الصفات ـ مثل : العالم ، والقادر ، والرحیم ، والکریم ، إلى غیر ذلک من صفات الکمال والجلال ـ علیه تعالى ، على ما ذهب إلیه أهل الحق من عینیة صفاته ، یکون على الحقیقة ، فإن المبدأ فیها وأنّ کان عین ذاته تعالى خارجاً ، إلّا إنّه غیر ذاته تعالى مفهوماً.
ومنه قد انقدح ما فی الفصول ، من الالتزام بالنقل (2) أو التجوز فی ألفاظ الصفات الجاریة علیه تعالى ، بناءً على الحق من العینیة ، لعدم المغایرة المعتبرة بالاتفاق ، وذلک لما عرفت من کفایة المغایرة مفهوماً ، ولا اتفاق على اعتبارٍ غیرها ، إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره ، کمالا یخفى ، وقد عرفت ثبوت المغایرة کذلک بین الذات ومبادىء الصفات.
__________________
1 ـ اشارة إلى ما افاده صاحب الفصول ، الفصول ، 62 التنبیه الثانی.
2 ـ الفصول / 62 ، التنبیه الثالث من تنبیهات المشتق. 
 
الخامس : إنّه وقع الخلاف بعد الاتفاق على اعتبارٍ المغایرة ـ کما عرفت ـ بین المبدأ وما یجری علیه المشتق ، فی اعتبارٍ قیام المبدأ به ، فی صدقه على نحو الحقیقة.
وقد استدل من قال (1) بعدم الاعتبار ، بصدق الضارب والمؤلم ، مع قیام الضرب والألم بالمضروب والمؤلمَ ـ بالفتح ـ.
والتحقیق : إنّه لا ینبغی أن یرتاب من کان من أولى الالباب ، فی إنّه یعتبر فی صدق المشتق على الذات وجریه علیها ، من التلبس بالمبدأ بنحو خاص ، على اختلاف أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارةً ، واختلاف الهیئات أُخرى ، من القیام صدوراً أو حلولا أو وقوعا علیه أو فیه ، أو انتزاعه عنه مفهوماً مع اتحاده معه خارجاً ، کما فی صفاته تعالى ، على ما أشرنا إلیه آنفا ، أو مع عدم تحقق إلّا للمنتزع عنه ، کما فی الاضافات والاعتبارات التی لا تحقق لها ، ولا یکون بحذائها فی الخارج شیء ، وتکون من الخارج المحمول ، لا المحمول بالضمیمة ، ففی صفاته الجاریة علیه تعالى یکون المبدأ مغایراً له تعالى مفهوماً ،وقائماً به عیناً ، لکنه بنحو من القیام ، لا بأن یکون هناک اثنینیة ، وکان ما بحذائه غیر الذات ، بل بنحو الاتحاد والعینیة ، وکان ما بحذائه عین الذات ، وعدم اطلاع العرف على مثل هذا التلبس من الأمور الخفیة لا یضر بصدقها علیه تعالى على نحو الحقیقة ، إذا کان لها مفهوم صادق علیه تعالى حقیقة ، ولو بتأمل وتعمّل من العقل. والعرف إنّما یکون مرجعاً فی تعیین المفاهیم ، لا فی تطبیقها على مصادیقها.
وبالجملة : یکون مثل ( العالم ) ، ( والعادل ) ، وغیرهما من الصفات الجاریة علیه تعالى وعلى غیره جاریة علیهما بمفهوم واحد ومعنى فارد ، وأنّ اختلفا فیما یعتبر فی الجری من الاتحاد ، وکیفیة التلبس بالمبدأ ، حیث إنّه بنحو العینیة فیه تعالى ، وبنحو الحلول أو الصدور فی غیره ، فلا وجه لما التزم به فی
__________________
1 ـ الفصول / 62 ، التنبیه الثالث من تنبیهات المشتق.  

 
الفصول (1) ، من نقل الصفات الجاریة علیه تعالى عما هی علیها من المعنى ، کما لا یخفى ، کیف؟ ولو کانت بغیر معانیها العامة جاریة علیه تعالى کانت صرف لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنى ، فإن غیر تلک المفاهیم العامة الجاریة على غیره تعالى غیر مفهوم ولا معلوم إلّا بما یقابلها ، ففی مثل ما إذا قلنا : ( إنّه تعالى عالم ) ، امّا أن نعنی إنّه من ینکشف لدیه الشیء فهو ذاک المعنى العام ، أو إنّه مصداق لما یقابل ذاک المعنى ، فتعالى عن ذلک علواً کبیراً، وإما أن لا نعنی شیئاً ، فتکون کما قلناه من کونها صرف اللقلقة ، وکونها بلا معنى ، کما لا یخفى.
والعجب إنّه جعل ذلک علّة لعدم صدقها فی حق غیره ، وهو کما ترى ، وبالتأمل فیما ذکرنا ، ظهر الخلل فیما استدل من الجانبین والمحاکمة بین الطرفین ، فتأمل.
السادس : الظاهر إنّه لا یعتبر فی صدق المشتق وجریه على الذات حقیقة ، التلبس بالمبدأ حقیقة وبلا واسطة فی العروض ، کما فی الماء الجاری ، بل یکفی التلبس به ولو مجازاً ، ومع هذه الواسطة ، کما فی المیزاب الجاری ، فاسناد الجریان إلى المیزاب ، وأنّ کان إسناداً إلى غیر ما هو له وبالمجاز ، إلّا إنّه فی الإِسناد ، لا فی الکلمة ، فالمشتق فی مثل المثال ، بما هو مشتق قد استعمل فی معناه الحقیقی ، وأنّ کان مبدؤه مسنداً إلى المیزاب بالإِسناد المجازی ، ولا منافاة بینهما أصلاً ، کما لا یخفى.
ولکن ظاهر الفصول (2) بل صریحه ، اعتبارٍ الإِسناد الحقیقی فی صدق المشتق حقیقة ، وکأنه من باب الخلط بین المجاز فی الإِسناد والمجاز فی الکلمة ، وهذا ـ هاهنا ـ محلّ الکلام بین الأعلام ، والحمد لله ، وهو خیر ختام.
__________________
1 ـ الفصول / 62 ، التنبیه الثالث من تنبیهات المشتق.
2 ـ الفصول / 62 ، التنبیه الثالث من تنبیهات المشتق.
 
 
 
 
 
 

المقصد الأوّل : فی الاوامر
وفیه فصول :
الأول : فیما یتعلق بمادة الأمر من الجهات ، وهی عدیدة :
الأولى : إنّه قد ذکر للفظ الأمر معانٍ متعددة ، منها الطلب ، کما یقال ، أمره بکذا.
ومنها الشأن ، کما یقال : شغله أمر کذا.
ومنها الفعل ، کما فی قوله تعالى : ( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِیدٍ ) (1).
ومنها الفعل العجیب ، کما فی قوله تعالى : ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) (2).
ومنها الشیء ، کما تقول : رأیت الیوم أمراً عجیبا.
ومنها الحادثة
ومنها الغرض ، کما تقول : جاء زید الأمر کذا.
ولا یخفى أن عد بعضها من معانیه من اشتباه المصداق بالمفهوم ؛ ضرورة أن الأمر فی ( جاء زید الأمر ) ما إستعمل فی معنى الغرض ، بل اللام قد دلّ على الغرض ، نعم یکون مدخوله مصداقه ، فافهم ، وهکذا الحال فی قوله
__________________
1 ـ هود : 97.
2 ـ هود : 66 ، 82.
 
 
تعالى ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) (1) یکون مصداقاً للتعجب ، لا مستعملاً فی مفهومه ، وکذا فی الحادثة والشأن.
وبذلک ظهر ما فی دعوى الفصول (2) ، من کون لفظ الأمر حقیقة فی المعنیین الأولین.
ولا یبعد دعوى کونه حقیقة فی الطلب فی الجملة والشیء ، هذا بحسب العرف واللغة.
وأما بحسب الاصطلاح ، فقد نقل (3) الاتفاق على إنّه حقیقة فی القول المخصوص ، ومجاز فی غیره ، ولا یخفى إنّه علیه لا یمکن منه الاشتقاق ، فإن معناه ـ حینئذ ـ لا یکون معنى حدثیاً ، مع أن الاشتقاقات منه ـ ظاهراً ـ تکون بذلک المعنى المصطلح علیه بینهم ، لا بالمعنى الآخر ، فتدبر.
ویمکن أن یکون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه ، تعبیراً عنه بما یدلّ علیه ، نعم القول المخصوص ـ أیّ صیغة الأمر ـ إذا أراد العالی بها الطلب یکون من مصادیق الأمر ، لکنه بما هو طلب مطلق أو مخصوص.
وکیف کان ، فالأمر سهل لو ثبت النقل ، ولا مشاحة فی الاصطلاح ، وإنما المهمّ بیان ما هو معناه عرفاً ولغة ، لیحمل علیه فیما إذا ورد بلا قرینة ، وقد استعمل فی غیر واحد من المعانی فی الکتاب والسنة ، ولا حجة على إنّه على نحو الاشتراک اللفظی أو المعنوی أو الحقیقة والمجاز.
وما ذکر فی الترجیح ، عند تعارض هذه الأحوال ، لو سلّم ، ولم یعارض بمثله ، فلا دلیل على الترجیح به ، فلا بدّ مع التعارض من الرجوع إلى الأصل فی مقام العمل ، نعم لو علم ظهوره فی أحد معانیه ، ولو إحتمل إنّه کان للانسباق من الإِطلاق ، فلیحمل علیه ، وأنّ لم یعلم إنّه حقیقة فیه
__________________
1 ـ هود : 66 ، 82.
2 ـ الفصول / 62 ، القول فی الأمر.
3 ـ الفصول / 62 ـ 63 ، القول فی الأمر. 
 
بالخصوص ، أو فیما یعمه ، کما لا یبعد أن یکون کذلک فی المعنى الأول.
الجهة الثانیة : الظاهر اعتبارٍ العلو فی معنى الأمر ، فلا یکون الطلب من السافل أو المساوی أمراً ، ولو أطلق علیه کان بنحو من العنایة ، کما أن الظاهر عدم اعتبارٍ الاستعلاء ، فیکون الطلب من العالی أمراً ولو کان مستخفضاً لجناحه.
وأما إحتمال اعتبارٍ أحدهما فضعیف. وتقبیح الطالب السافل من العالی المستعلی علیه ، وتوبیخه بمثل : ( إنک لم تأمره ) ، إنّما هو على استعلائه ، لا على أمره حقیقة بعد استعلائه ، وإنما یکون إطلاق الأمر على طلبه بحسب ما هو قضیة استعلائه ، وکیف کان ، ففی صحة سلب الأمر عن طلب السافل ، ولو کان مستعلیاً کفایة.
الجهة الثالثة : لا یبعد کون لفظ الأمر حقیقة فی الوجوب ، لأنسباقه عنه عند إطلاقه ، ویؤیّد قوله تعال ( فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (1) وقوله 9 (2) : ( لولا أن أشقِّ على أمتی لامرتهم بالسواک ) (2) وقوله 9 : لبریرة بعد قولها : أتأمرنی یا رسول الله؟ ـ : ( لا ، بل إنّما أنا شافع ) (3) إلى غیر ذلک ، وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره ، وتوبیخه على مجرد مخالفته ، کما فی قوله تعالى ( مَا مَنَعَکَ إلّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُکَ ) (4).
وتقسیمه إلى الإِیجاب والاستحباب ، إنّما یکون قرینة على إرادة المعنى الأعم منه فی مقام تقسیمه. وصحة الاستعمال فی معنى أعم من کونه على نحو
__________________
1 ـ النور : 63.
2 ـ غوالی اللآلی : 2 / 21 الحدیث 43.
3 ـ الکافی : 5 / 485 ، التهذیب : 7 / 341 ، الخصال : 1 / 190.
4 ـ الأعراف : 12.  

 
الحقیقة ، کما لا یخفى.
وأما ما اُفید (1) من أن الاستعمال فیهما ثابت ، فلو لم یکن موضوعاً للقدر المشترک بینهما لزم الاشتراک أو المجاز ، فهو غیر مفید ، لما مرت الإِشارة إلیه فی الجهة الأولى ، وفی تعارض الأحوال (2) ، فراجع.
والاستدلال بأن فعل المندوب طاعة ، وکل طاعة فهو فعل المأمور به ، فیه ما لا یخفى من منع الکبرى ، لو أُرید من المأمور به معناه الحقیقی ، وإلاّ لا یفید المدعى.
الجهة الرابعة : الظاهر أن الطلب الذی یکون هو معنى الأمر ، لیس هو الطلب الحقیقی الذی یکون طلباً بالحمل الشائع الصناعی ، بل الطلب الإنشائی الذی لا یکون بهذا الحمل طلباً مطلقاً ، بل طلباً إنشائیاً ، سواء اُنشىء بصیغة إفعل ، أو بمادة الطلب ، أو بمادة الأمر ، أو بغیرها.
ولو أبیت إلّا عن کونه موضوعاً للطلب فلا أقل من کونه منصرفاً إلى الإنشائی منه عند إطلاقه کما هو الحال فی لفظ الطلب أیضاً ، وذلک لکثرة الاستعمال فی الطلب الإنشائی ، کما أن الأمر فی لفظ الإرادة على عکس لفظ الطلب ، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقیقیة (3) واختلافهما فی ذلک ألجأ بعضٍ أصحابنا إلى المیل إلى ما ذهب إلیه الأشاعرة ، من المغایرة بین الطلب والإرادة ، خلافاً لقاطبة أهل الحق والمعتزلة ، من اتحادهما.
فلا بأس بصرف عنان الکلام إلى بیان ما هو الحق فی المقام ، وأنّ حققناه فی بعضٍ فوائدنا إلّا أن الحوالة لما تکن عن المحذور خالیة ، والإِعادة بلا فائدة ولا إفادة ، کان المناسب هو التعرض ها هنا أیضاً.
فاعلم ، أن الحق کما علیه أهله ـ وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للاشاعرة ـ هو اتحاد الطلب والإرادة ، بمعنى أن لفظیهما موضوعاًن بإزاء مفهوم واحد وما بإزاء
__________________
1 ـ أفاده العلامة (ره) نهایة الاُصول / 64 مخطوطة.
2 ـ فی الأمر الثامن من المقدمة ص 20.
3 ـ فی « ب » : الحقیقة. 
 
أحدهما فی الخارج یکون بإزاء الآخر ، والطلب المنشأ بلفظه أو بغیره عین الإرادة الإنشائیة ، وبالجملة هما متحدان مفهوماً وإنشاء و خارجاً ، لا أن الطلب الإنشائی الذی هو المنصرف إلیه إطلاقه ـ کما عرفت ـ متحد مع الإرادة الحقیقیة (1) التی ینصرف إلیها إطلاقها أیضاً ، ضرورة أن المغایرة بینهما أظهر من الشمس وأبین من الأمس. فإذا عرفت المراد من حدیث العینیة والاتحاد ، ففی مراجعة الوجدان عند طلب شیء والأمر به حقیقة کفایة ، فلا یحتاج إلى مزید بیان وإقامة برهان ، فإن الإانسان لا یجد غیر الإرادة القائمة بالنفس صفة أُخرى قائمة بها ، یکون هو الطلب غیرها ، سوى ما هو مقدّمة تحققها ، عند خطور الشیء والمیل وهیجان الرغبة إلیه ، والتصدیق لفائدته ، وهو الجزم بدفع ما یوجب توقفه عن طلبه لاجلها.
وبالجملة : لا یکاد یکون غیر الصفات المعروفة والإرادة هناک صفة أُخرى قائمة بها یکون هو الطلب ، فلا محیص (2) عن إتحاد الإرادة والطلب ، وأنّ یکون ذلک الشوق المؤکد المستتبع لتحریک العضلات فی إرادة فعله بالمباشرة ، أو المستتبع الأمر عبیده به فیما لو أراده لا کذلک ، مسمى بالطلب والإرادة کما یعب به تارةً وبها أُخرى ، کما لا یخفى. وکذا الحال فی سائر الصیغ الإنشائیة ، والجمل الخبریة ، فإنّه لا یکون غیر الصفات المعروفة القائمة بالنفس ، من الترجی والتمنی والعلم إلى غیر ذلک ، صفة أُخرى کانت قائمة بالنفس ، وقد دلّ اللفظ علیها ، کما قیل :
إن الکلام لفی الفؤاد وإنما
         جعل اللسان على الفؤاد دلیلا
 
وقد انقدح بما حققناه ، ما فی استدلال الأشاعرة على المغایرة بالأمر مع عدم الإرادة ، کما فی صورتی الاختبار والاعتذار من الخلل ، فإنّه کما لا إرادة
__________________
1 ـ فی « ب » : الحقیقة.
2 ـ فی النسختین فلا محیص إلّا ، والظاهر « إلّا » هنا مقحمة فی السیاق. 
 
حقیقة فی الصورتین ، لا طلب کذلک فیهما ، والذی یکون فیهما إنّما هو الطلب الإنشائی الإِیقاعی ، الذی هو مدلول الصیغة أو المادة ، ولم یکن بینّاً ولا مبینّاً فی الاستدلال مغایرته مع الإرادة الإنشائیة.
وبالجملة : الذی یتکفله الدلیل ، لیس إلّا الانفکاک بین الإرادة الحقیقیة ، والطلب المنشأ بالصیغة الکاشف عن مغایرتهما. وهو مما لا محیص عن الالتزام به ، کما عرفت ، ولکنه لا یضر بدعوى الاتحاد أصلاً ، لمکان هذه المغایرة والانفکاک بین الطلب الحقیقی والإنشائی ، کما لا یخفی.
ثم إنّه یمکن ـ مما حققناه ـ أن یقع الصلح بین الطرفین ، ولم یکن نزاع فی البین ، بأن یکون المراد بحدیث الاتحاد ما عرفت من العینیة مفهوماً ووجوداً حقیقیاً وإنشائیاً ، ویکون المراد بالمغایرة والاثنینیة هو اثنینیة الإنشائی من الطلب ، کما هو کثیراً ما یراد من إطلاق لفظه ، والحقیقی من الإرادة ، کما هو المراد غالباً منها حین إطلاقها ، فیرجع النزاع لفظیاً ، فافهم.
دفع ووهم (1) : لا یخفى إنّه لیس غرض الأصحاب والمعتزلة ، من نفی غیر الصفات المشهورة ، وإنّه لیس صفة أُخرى قائمة بالنفس کانت کلاماً نفسیاً مدلولأ للکلام اللفظی ، کما یقول به الأشاعرة ، إن هذه الصفات المشهورة مدلولات للکلام.
إن قلت : فماذا یکون مدلولأ علیه عند الأصحاب والمعتزلة؟
قلت : امّا الجمل الخبریة ، فهی دالّة على ثبوت النسبة بین طرفیها ، أو نفیها فی نفس الأمر من ذهن أو خارج ، کالإنسان نوع أو کاتب.
وأما الصیغ الإنشائیة ، فهی ـ على ما حققناه فی بعضٍ فوائدنا (2) ـ موجدة
__________________
1 ـ المتوهم هو القوشجی ، راجع شرح تجرید العقائد للقوشجی / 246 ، عند البحث عن المسموعات.
2 ـ کتاب النوائد / الفائدة الاُولى ص 17.
 
لمعانیها فی نفس الأمر ، أیّ قصد ثبوت معانیها وتحققها بها ، وهذا نحو من الوجود ، وربما یکون هذا منشأ لانتزاع اعتبارٍ مترتب علیه شرعاً وعرفاً آثار ، کما هو الحال فی صیغ العقود والایقاعات.
نعم لا مضایقة فی دلالة مثل صیغة الطلب والاستفهام والترجی والتمنی ـ بالدلالة الالتزامیة ـ على ثبوت هذه الصفات حقیقة ، امّا لأجل وضعها لإِیقاعها ، فیما إذا کان الداعی إلیه ثبوت هذه الصفات ، أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصورة ، فلو لم تکن هناک قرینة ، کان إنشاءً الطلب أو الاستفهام أو غیرهما بصیغتها ، لأجل کون الطلب والاستفهام وغیرهما قائمة بالنفس ، وضعاً أو إطلاقاً.
إشکال ودفع : امّا الإِشکال ، فهو إنّه یلزم بناءً على اتحاد الطلب والإرادة ، فی تکلیف الکفار بالإِیمان ، بل مطلق أهل العصیان فی العمل بالارکان ، امّا أن لا یکون هناک تکلیف جدّی ، إن لم یکن هناک إرادة ، حیث إنّه لا یکون حینئذ طلب حقیقی ، وإعتباره فی الطلب الجدی ربما یکون من البدیهی ، وأنّ کان هناک إرادة ، فکیف تتخلف عن المراد؟ ولا تکاد تتخلف ، إذا أراد الله شیئاً یقول له : کن فیکون.
وأما الدفع ، فهو إن إستحاله التخلف إنّما تکون فی الإرادة التکوینیة وهی العلم بالنظام على النحو الکامل التام ، دون الإرادة التشریعیة ، وهی العلم بالمصلحة فی فعل المکلف. وما لا محیص عنه فی التکلیف إنّما هو هذه الإرادة التشریعیة لا التکوینیة ، فإذا توافقتا فلابد من الإطاعة والإِیمان ، وإذا تخالفتا ، فلا محیص عن أن یختار الکفر والعصیان.
إن قلت : إذا کان الکفر والعصیان والإطاعة والإِیمان ، بإرادته تعالى التی لا تکاد تتخلف عن المراد ، فلا یصحّ أن یتعلق بها التکلیف ، لکونها خارجة عن الاختیار المعتبر فیه عقلاً. 
 
 
قلت : إنّما یخرج بذلک عن الاختیار ، لو لم یکن تعلق الإرادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختیاریة ، وإلاّ فلا بدّ من صدورها بالاختیار ، وإلاّ لزم تخلف إرادته عن مراده ، تعالى عن ذلک علواً کبیراً.
إن قلت : إن الکفر والعصیان من الکافر والعاصی ولو کانا مسبوقین بإرادتهما ، إلّا إنّهما منتهیان إلى ما لا بالاختیار ، کیف؟ وقد سبقهما الإرادة الازلیة والمشیة الإلهیة ، ومعه کیف تصحّ المؤاخذة على ما یکون بالاخرة بلا اختیار؟
قلت : العقاب إنّما بتبعة الکفر والعصیان التابعین للاختیار الناشىء عن مقدماته ، الناشئة عن شقاوتهما الذاتیة اللازمة لخصوص ذاتهما ، فإن ( السعید سعید فی بطن أمه ، والشقی شقی فی بطن أمه ) (1) و ( الناس معادن کمعادن الذهب والفضة ) (2) ، کما فی الخبر ، والذاتی لا یعلل ، فانقطع سؤال : إنّه لم جعل السعید سعیدا والشقی شقیا؟ فإن السعید سعید بنفسه والشقی شقی کذلک ، وإنما أوجدهما الله تعالى ( قلم اینجا رسید سر بشکست ) (3) ، قد إنتهى الکلام فی المقام إلى ما ربما لا یسعه کثیر من الافهام ، ومن الله الرشد والهدایة وبه الاعتصام.
وهم ودفع : لعلک تقول : إذا کانت الإرادة التشریعیة منه تعالى عین علمه بصلاح الفعل ، لزم ـ بناءً على أن تکون عین الطلب ـ کون المنشأ بالصیغة فی الخطابات الإلهیة هو العلم ، وهو بمکان من البطلان.
__________________
1 ـ ورد بهذا المضمون فی توحید الصدوق / 356 الباب 58 الحدیث 3.
2 ـ الروضة من الکافی 8 / 177 ، الحدیث 197.
مسند أحمد بن حنبل 2 / 539 وفیه تقدیم الفضّة على الذهب. وقریب منه فی هذا المصدر صفحة 257 ، 260 ، 391 ، 438 ، 485 ، 498 ، 525 والبخاری 4 / 216.
3 ـ یرید المؤلف (ره) : وهنا یقف القلم ، لأن الکلام انتهى إلى ما ربما لا یسعه کثیر من الأفهام ، وما بین القوسین ، تعبیر فارسی ترجمته : لما وصل القلم إلى هنا انکسر رأسه. 
 
لکنک غفلت عن أن اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح ، إنّما یکون خارجاً لا مفهوماً ، وقد عرفت (1) أن المنشأ لیس إلّا المفهوم ، لا الطلب الخارجی ، ولا غرو أصلاً فی اتحاد الإرادة والعلم عیناً و خارجاً ، بل لا محیص عنه فی جمیع صفاته تعالى ؛ لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة ، قال أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه : ( وکمال توحیده الإخلاص له ، وکمال الإخلاص له نفی الصفات عنه ). (2)
الفصل الثانی
فیما یتعلق بصیغة الأمر وفیه مباحث :
الأول : إنّه ربما یذکر للصیغة معانٍ قد استعملت فیها ، وقد عد منها : الترجی ، والتمنی ، والتهدید ، والإنذار ، والإِهانة ، والاحتقار ، والتعجیز ، والتسخیر ، إلى غیر ذلک ، وهذا کما ترى ، ضرورة أن الصیغة ما استعملت فی واحد منها ، بل لم یستعمل إلّا فی إنشاءً الطلب ، إلّا أن الداعی إلى ذلک ، کما یکون تارةً هو البعث والتحریک نحو المطلوب الواقعی ، یکون أُخرى أحد هذه الأمور ، کما لا یخفى.
قصارى ما یمکن أن یَّدعى ، أن تکون الصیغة موضوعة لإِنشاء الطلب ، فیما إذا کان بداعی البعث والتحریک ، لا بداعٍ آخر منها ، فیکون إنشاءً الطلب بها بعثاً حقیقة ، وإنشاؤه بها تهدیداً مجازاً ، وهذا غیر کونها مستعملة فی التهدید وغیره ، فلا تغفل.
إیقاظ : لا یخفى أن ما ذکروه فی صیغة الأمر ، جار فی سائر الصیغ الإنشائیة ، فکما یکون الداعی إلى إنشاءً التمنی أو الترجی أو الاستفهام
__________________
1 ـ مر فی صفحة 66 من هذا الکتاب عند قوله : وأما الصیغ الإنشائیة .. الخ.
2 ـ نهج البلاغة / 39 الخطبة الأولى. 
 
بصیغها ، تارةً هو ثبوت هذه الصفات حقیقة ، یکون الداعی غیرها أُخرى ، فلا وجه للالتزام بانسلاخ صیغها عنها ، واستعمالها فی غیرها ، إذا وقعت فی کلامه تعالى ، لاستحالة مثل هذه المعانی فی حقه تبارک وتعالى ، مما لازمه العجز أو الجهل ، وإنّه لا وجه له ، فإن المستحیل إنّما هو الحقیقی منها لا الإنشائی الإِیقاعی ، الذی یکون بمجرد قصد حصوله بالصیغة ، کما عرفت ، ففی کلامه تعالى قد استعملت فی معانیها الإِیقاعیة الإنشائیة أیضاً ، لا لإِظهار ثبوتها حقیقة ، بل الأمر آخر حسب ما یقتضیه الحال من إظهار المحبة أو الإِنکار أو التقریر إلى غیر ذلک ، ومنه ظهر أن ما ذکر من المعانی الکثیرة لصیغة الاستفهام لیس کما ینبغی أیضاً.
المبحث الثّانی : فی أن الصیغة حقیقة فی الوجوب ، أو فی الندب ، أو فیهما ، أو فی المشترک بینهما ، وجوه بل أقوال.
لا یبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرینة ، ویؤیده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب ، مع الاعتراف بعدم دلالته علیه بحال أو مقال ، وکثرة الاستعمال فیه فی الکتاب والسنة وغیرهما لا یوجب نقله إلیه أو حمله علیه (1) ، لکثرة استعماله فی الوجوب أیضاً ، مع أن الاستعمال وأنّ کثر فیه ، إلّا إنّه کان مع القرینة المصحوبة ، وکثرة الاستعمال کذلک فی المعنى المجازی لا توجب صیرورته مشهوراً فیه ، لیرجح أو یتوقف ، على الخلاف فی المجاز المشهور ، کیف؟ وقد کثر إستعمال العام فی الخاص ، حتى قیل : ( ما من عام إلّا وقد خص ) ولم ینثلم به ظهوره فی العموم ، بل یحمل علیه ما لم تقم قرینة بالخصوص على إرادة الخصوص.
المبحث الثالث : هل الجمل الخبریة التی تستعمل فی مقام الطلب والبعث ـ مثل : یغتسل ، ویتوضأ ، ویعید ـ ظاهرة فی الوجوب أو لا؟ لتعدد
__________________
1 ـ هذا تعریض بصاحب المعالم 1 ، معالم الدین / 48 ، فصل فی الأوامر : فائدة.
 
المجازات فیها ، ولیس الوجوب بأقواها ، بعد تعذر حملها على معناها من الإخبار ، بثبوت النسبة والحکایة عن وقوعها.
الظاهر الأوّل ، بل تکون أظهر من الصیغة ، ولکنه لا یخفى إنّه لیست الجمل الخبریة الواقعة فی ذلک المقام ـ أیّ الطلب ـ مستعملة فی غیر معناها ، بل تکون مستعملة فیه ، إلّا إنّه لیس بداعی الأعلام ، بل بداعی البعث بنحو آکد ، حیث إنّه أخبر بوقوع مطلوبه فی مقام طلبه ، إظهارا بإنّه لا یرضى إلّا بوقوعه ، فیکون آکد فی البعث من الصیغة ، کما هو الحال فی الصیغ الإنشائیة ، على ما عرفت من إنّها أبدا تستعمل فی معانیها الإِیقاعیة لکن بدواعٍ أخر ، کما مر (1).
لا یقال : کیف؟ ویلزم الکذب کثیراً ، لکثرة عدم وقوع المطلوب کذلک فی الخارج ، تعالى الله وأولیاؤه عن ذلک علواً کبیراً.
فإنّه یقال : إنّما یلزم الکذب ، إذا أتی بها بداعی الإخبار والإِعلام ، لا لداعی البعث ، کیف؟ وإلاّ یلزم الکذب فی غالب الکنایات ، فمثل ( زید کثیر الرماد ) أو ( مهزول الفصیل ) لا یکون کذباً ، إذا قیل کنایة عن جوده ، ولو لم یکن له رماد أو فصیل أصلاً ، وإنما یکون کذباً إذا لم یکن بجواد ، فیکون الطلب بالخبر فی مقام التأکید أبلغ ، فإنّه مقال بمقتضى الحال. هذا مع إنّه إذا أتى بها فی مقام البیان ، فمقدمات الحکمة مقتضیة لحملها على الوجوب ، فإن تلک النکتة إن لم تکن موجبة لظهورها فیه ، فلا أقل من کونها موجبة لتعینه من بین محتملات ما هو بصدده ، فإن شدة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب ، موجبة لتعین إرادته إذا کان بصدد البیان ، مع عدم نصب قرینة خاصة على غیره ، فافهم.
__________________
1 ـ فی المبحث الأوّل من هذا الفصل ، عند قوله 1 : إیقاظ / 69. 
 
 
المبحث الرابع : إنّه إذا سلّم أن الصیغة لا تکون حقیقة فی الوجوب ، هل لا تکون ظاهرة فیه أیضاً أو تکون؟ قیل بظهورها فیه ، امّا لغلبة الاستعمال فیه ، أو لغلبة وجوده أو أکملیته.
والکل کما ترى ، ضرورة أن الاستعمال فی الندب وکذا وجوده ، لیس بأقل لو لم یکن بأکثر. وأما الأکملیة فغیر موجبة للظهور ، إذ الظهور لا یکاد یکون إلّا لشدة أنس اللفظ بالمعنى ، بحیث یصیر وجهاً له ، ومجرد الأکملیة لا یوجبه ، کما لا یخفى. نعم فیما کان الآمر بصدد البیان ، فقضیة مقدمات الحکمة هو الحمل على الوجوب ، فإن الندب کإنّه یحتاج إلى مؤونة بیان التحدید والتقیید بعدم المنع من الترک ، بخلاف الوجوب ، فإنّه لا تحدید فیه للطلب ولا تقیید ، فإطلاق اللفظ وعدم تقییده مع کون المطلق فی مقام البیان ، کافٍ فی بیإنّه ، فافهم.
المبحث الخامس : إن إطلاق الصیغة هل یقتضی کون الوجوب توصلیاً ، فیجزئ إتیإنّه مطلقاً ، ولو بدون قصد القربة ، أو لا؟ فلا بدّ من الرجوع فیما شک فی تعبدیته وتوصلیته إلى الأصل.
لابد فی تحقیق ذلک من تمهید مقدمات :
أحدها : الوجوب التوصلی ، هو ما کان الغرض منه یحصل بمجرد حصول الواجب ، ویسقط بمجرد وجوده ، بخلاف التعبدی ، فإن الغرض منه لا یکاد یحصل بذلک ، بل لابد ـ فی سقوطه وحصول غرضه ـ من الإِتیان به متقرباً به منه تعالى.
ثانیها : إن التقرب المعتبر فی التعبدی ، إن کان بمعنى قصد الامتثال والإِتیان بالواجب بداعی أمره ، کان مما یعتبر فی الطاعة عقلاً ، لا مما أخذ فی نفس العبادة شرعاً ، وذلک لاستحالة أخذ ما لا یکاد یتأتى إلّا من قبل الأمر بشیء فی متعلق ذاک الأمر مطلقاً شرطاً أو شطراً ، فما لم تکن نفس الصلاة متعلقة للأمر ، لا یکاد یمکن إتیإنّها بقصد امتثال أمرها. 
 
وتوهمّ إمکان تعلق الأمر بفعل الصلاة بداعی الأمر ، وإمکان الإِتیان بها بهذا الداعی ، ضرورة إمکان تصور الأمر بها مقیدة ، والتمکن من إتیإنّها کذلک ، بعد تعلق الأمر بها ، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلاً فی صحة الأمر إنّما هو فی حال الامتثال لا حال الأمر ، واضح الفساد ، ضرورة إنّه وأنّ کان تصورها کذلک بمکان من الإِمکان ، إلّا إنّه لا یکاد یمکن الإِتیان بها بداعی أمرها ، لعدم الأمر بها ، فإن الأمر حسب الفرض تعلق بها مقیدة بداعی الأمر ، ولا یکاد یدعو الأمر إلّا إلى ما تعلق به ، لا إلى غیره.
إن قلت : نعم ، ولکن نفس الصلاة أیضاً صارت مأمورة بها بالأمر بها مقیدة.
قلت : کلاّ ، لأن ذات المقید لا یکون مأموراً بها ، فإن الجزء التحلیلی العقلی لا یتصف بالوجوب أصلاً ، فإنّه لیس إلّا وجود واحد واجب بالوجوب النفسی ، کما ربما یأتی فی باب المقدمة.
إن قلت : نعم ، لکنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطاً ، وأما إذا أخذ شطراً ، فلا محالة نفس الفعل الذی تعلق الوجوب به مع هذا القصد ، یکون متعلقاً للوجوب ، إذ المرکب لیس إلّا نفس الإِجزاء بالأسر ، ویکون تعلقه بکل بعین تعلقه بالکل ، ویصحّ أن یؤتى به بداعی ذاک الوجوب ؛ ضرورة صحة الإِتیان بأجزاء الواجب بداعی وجوبه.
قلت : مع امتناع اعتباره کذلک ، فإنّه یوجب تعلق الوجوب بأمر غیر اختیاری ، فإن الفعل وأنّ کان بالإِرادة اختیاریا ، إلّا أن إرادته ـ حیث لا تکون بإرادة أُخرى ، وإلاّ لتسلسلت ـ لیست باختیاریة ، کما لا یخفى. إنّما یصحّ الإِتیان بجزء الواجب بداعی وجوبه فی ضمن إتیإنّه بهذا الداعی ، ولا یکاد یمکن الإِتیان بالمرکب عن قصد الامتثال ، بداعی امتثال أمره.
 
إن قلت : نعم (1) ، لکن هذا کله إذا کان إعتباره فی المأمور به بأمر واحد ، وأما إذا کان بأمرین : تعلق أحدهما بذات الفعل ، وثانیهما بإتیإنّه بداعی أمره ، فلا محذور أصلاً ، کما لا یخفى. فللآمر أن یتوسل بذلک فی الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده ، بلا منعة.
قلت : ـ مضافاً إلى القطع بإنّه لیس فی العبادات إلّا أمر واحد ، کغیرها من الواجبات والمستحبات ، غایة الأمر یدور مدار الامتثال وجوداً و عدماً فیها المثوبات والعقوبات ، بخلاف ما عداها ، فیدور فیه خصوص المثوبات ، وأما العقوبة فمترتبة على ترک الطاعة ومطلق الموافقة ـ أن الأمر الأوّل إن کان یسقط بمجرد موافقته ، ولو لم یقصد به الامتثال ، کما هو قضیة الأمر الثّانی ، فلا یبقى مجال لموافقة الثّانی مع موافقة الأوّل بدون قصد امتثاله ، فلا یتوسل الأمر إلى غرضه بهذه الحیلة والوسیلة ، وأنّ لم یکد یسقط بذلک ، فلا یکاد یکون له وجه ، إلّا عدم حصول غرضه بذلک من أمره ، لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله ، وإلاّ لما کان موجباً لحدوثه ، وعلیه فلا حاجة فی الوصول إلى غرضه إلى وسیلة تعدَّد الأمر ، لاستقلال العقل ، مع عدم حصول غرض الأمر بمجرد موافقة الأمر بوجوب الموافقة على نحو یحصل به غرضه ، فیسقط أمره.
هذا کله إذا کان التقرب المعتبر فی العبادة بمعنى قصد الامتثال.
وأما إذا کان بمعنى الإِتیان بالفعل بداعی حسنه ، أو کونه ذا مصلحة [ أو له تعالى ] (2) ، فاعتباره فی متعلق الأمر وأنّ کان بمکان من الإِمکان ، إلّا إنّه غیر معتبر فیه قطعاً ، لکفایة الاقتصار على قصد الامتثال ، الذی عرفت
__________________
1 ـ إشارة إلى ما أفاده صاحب التقریرات فی مطارح الأنظار / 60 ، السطر الأخیر ، فی التعبدی والتوصلی.
2 ـ سقطت من « أ ». 
 
عدم إمکان أخذه فیه بدیهة.
تأمل فیما ذکرناه فی المقام ، تعرف حقیقة المرام ، کی لا تقع فیما وقع فیه من الاشتباه بعضٍ الأعلام.
ثالثتها : إنّه إذا عرفت بما لا مزید علیه ، عدم إمکان أخذ قصد الامتثال فی المأمور به أصلاً ، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه ـ ولو کان مسوقاً فی مقام البیان ـ على عدم اعتباره ، کما هو أوضح من أن یخفى ، فلا یکاد یصحّ التمسک به إلّا فیما یمکن اعتباره فیه.
فانقدح بذلک إنّه لا وجه لاستظهار التوصلیة من إطلاق الصیغة بمادتها ، ولا لاستظهار عدم اعتبارٍ مثل الوجه مما هو ناشىء من قبل الأمر ، من إطلاق المادة فی العبادة لو شک فی اعتباره فیها ، نعم إذا کان الأمر فی مقام بصدد بیان تمام ماله دخل فی حصول غرضه ، وأنّ لم یکن له دخل فی متعلق أمره ، ومعه سکت فی المقام ، ولم ینصب دلالة على دخل قصد الامتثال فی حصوله ، کان هذا قرینة على عدم دخله فی غرضه ، وإلاّ لکان سکوته نقضاً له وخلاف الحکمة ، فلا بدّ عند الشک وعدم إحراز هذا المقام ، من الرجوع إلى ما یقتضیه الأصل ویستقل به العقل.
فاعلم : إنّه لا مجال ـ ها هنا ـ إلّا لاصالة الإِشتغال ، ولو قیل بأصالة البراءة فیما إذا دار الأمر بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین ، وذلک لأن الشک ها هنا فی الخروج عن عهدة التکلیف المعلوم ، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها ، فلا یکون العقاب ـ مع الشک وعدم إحراز الخروج ـ عقاباً بلا بیان ، والمؤاخذة علیه بلا برهان ، ضرورة إنّه بالعلم بالتکلیف تصحّ المؤاخذة على المخالفة ، وعدم الخروج عن العهدة ، لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة ، وهکذا الحال فی کلّ ما شک دخله فی الطاعة ، والخروج به عن العهدة ، مما لا یمکن اعتباره فی المأمور به کالوجه والتمییز.
نعم : یمکن أن یقال : إن کلّ ما ربما یحتمل بدواً دخله فی الامتثال ،  

 
أمراً کان مما یغفل عنه غالباً العامة (1) ، کان على الأمر بیإنّه ، ونصب قرینة على دخله واقعاً ، وإلاّ لاخل بما هو همّه وغرضه ، امّا إذا لم ینصب دلالة على دخله ، کشف عن عدم دخله ، وبذلک یمکن القطع بعدم دخل الوجه والتمییز فی الطاعة بالعبادة ، حیث لیس منهما عین ولا أثر فی الإخبار والآثار ، وکانا مما یغفل عنه العامة ، وأنّ احتمل اعتباره بعضٍ الخاصة ، فتدبرّ جیداً.
ثم إنّه لا أظنک أن تتوهم وتقول : إن أدلة البراءة الشرعیة مقتضیة لعدم الاعتبار ، وأنّ کان قضیة الإِشتغال عقلاً هو الاعتبار ، لوضوح إنّه لا بدّ فی عمومها من شیء قابل للرفع والوضع شرعاً ، ولیس ها هنا ، فإن دخل قصد القربة ونحوها فی الغرض لیس بشرعی ، بل واقعی. ودخل الجزء والشرط فیه وأنّ کان کذلک ، إلّا إنّهما قابلان للوضع والرفع شرعاً ، فبدلیل الرفع ـ ولو کان أصلاً ـ یکشف إنّه لیس هناک أمر فعلّی بما یعتبر فیه المشکوک ، یجب الخروج عن عهدته عقلاً ، بخلاف المقام ، فإنّه علم بثبوت الأمر الفعلّی ، کما عرفت ، فافهم.
المبحث السادس : قضیة إطلاق الصیغة ، کون الوجوب نفسیاً تعیینیاً عینیاً ، لکون کلّ واحد مما یقابلها یکون فیه تقیید الوجوب وتضیق دائرته ، فإذا کان فی مقام البیان ، ولم ینصب قرینة علیه ، فالحکمة تقتضی کونه مطلقاً ، وجب هناک شیء آخر أو لا ، أتى بشیء آخر أو لا ، أتى به آخر أو لا ، کما هو واضح لا یخفى.
المبحث السابع : إنّه اختلف القائلون بظهور صیغة الأمر فی الوجوب وضعاً أو إطلاقاً فیما إذا وقع عقیب الحظر أو فی مقام توهمه على أقوال :
__________________
1 ـ هذا ما أثبتناه من « أ و ب » ، وفی بعضٍ النسخ المطبوعة هکذا ( إن کلّ ما یحتمل بدواً دخله فی الامتثال وکان یغفل عنه غالباً العامة ). 
 
نسب (1) إلى المشهور ظهورها فی الإِباحة. وإلى بعضٍ العامة (2) ظهورها فی الوجوب ، وإلى بعضٍ (3) تبعیته لما قبل النهی ، إن علق الأمر بزوال علّة النهی ، إلى غیر ذلک.
والتحقیق : إنّه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال ، فإنّه قلّ مورد منها یکون خالیاً عن قرینة على الوجوب ، أو الإِباحة ، أو التبعیة ، ومع فرض التجرید عنها ، لم یظهر بعدُ کون عقیب الحظر موجباً لظهورها فی غیر ما تکون ظاهرة فیه. غایة الأمر یکون موجباً لاجمالها ، غیر ظاهرة فی واحد منها إلّا بقرینة أُخرى ، کما أشرنا.
المبحث الثامن : الحق أن صیغة الأمر مطلقاً ، لا دلالة لها على المرة ولا التکرار ، فإن المنصرف عنها ، لیس إلّا طلب إیجاد الطبیعة المأمور بها ، فلا دلالة لها على أحدهما ، لا بهیئتها ولا بمادتها ، والاکتفاء بالمرة ، فإنما هو لحصول الامتثال بها فی الأمر بالطبیعة ، کما لا یخفى.
ثم لا یذهب علیک : أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوین ، لا یدلّ إلّا على الماهیة ـ على ما حکاه السکاکی (4) ـ لا یوجب کون النزاع ها هنا فی الهیئة ـ کما فی الفصول (5) ـ فإنّه غفلة وذهول عن کون المصدر کذلک ، لا یوجب الاتفاق على أن مادة الصیغة لا تدلّ إلّا على
__________________
1 ـ راجع الفصول / 70 ، وبدائع الأفکار فی النسخة الثانیة من نسختی الأوامر / 294.
2 ـ البصری فی المعتمد / 75 ، باب فی صیغة الأمر الواردة بعد حظر ، والبیضاوی وغیره راجع الإِبهاج فی شرح المنهاج للسبکی : 2 / 43.
3 ـ کالعضدی ، شرح مختصر الأصول / 205 ، فی مسألة وقوع صیغة الأمر بعد الحظر.
4 ـ مفتاح العلوم / 93.
5 ـ الفصول / 71 ، فصل : الحق أن هیئة ... الخ. 
 
الماهیة ، ضرورة أن المصدر لیست مادة لسائر المشتقات ، بل هو صیغة مثلها ، کیف؟ وقد عرفت فی باب المشتق مباینة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ، فکیف بمعناه یکون مادة لها؟ فعلیه یمکن دعوى اعتبارٍ المرة أو التکرار فی مادتها ، کما لا یخفى.
إن قلت : فما معنى ما اشتهر من کون المصدر أصلاً فی الکلام.
قلت : مع إنّه محلّ الخلاف ، معناه أن الذی وضع أولاً بالوضع الشخصی ، ثم بملاحظته وضع نوعیا أو شخصیاً سائر الصیغ التی تناسبه ، مما جمعه معه مادة لفظ متصورة فی کلّ منها ومنه ، بصورة ومعنى کذلک ، هو المصدر أو الفعل ، فافهم.
ثم المراد بالمرة والتکرار ، هل هو الدفعة والدفعات؟ أو الفرد والأفراد؟
والتحقیق : أن یقعا بکلا المعنیین محلّ النزاع ، وأنّ کان لفظهما ظاهراً فی المعنى الأوّل ، وتوهمّ (1) إنّه لو أُرید بالمرة الفرد ، لکان الانسب ، بل اللازم أن یجعل هذا المبحث تتمة للبحث الآتی ، من أن الأمر هل یتعلق بالطبیعة أو بالفرد؟ فیقال عند ذلک وعلى تقدیر تعلقه بالفرد ، هل یقتضی التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد ، أو لا یقتضی شیئاً منهما؟ ولم یحتج إلى إفراد کلّ منهما بالبحث کما فعلوه ، وأما لو أُرید بها الدفعة ، فلا علقة بین المسألتین ، کما لا یخفى ، فاسد ، لعدم العلقة بینهما لو أُرید بها الفرد أیضاً ، فإن الطلب على القول بالطبیعة إنّما یتعلق بها باعتبار وجودها فی الخارج ، ضرورة أن الطبیعة من حیث هی لیست إلّا هی ، لا مطلوبة ولا غیر مطلوبة ، وبهذا الاعتبار کانت مرددة بین المرة والتکرار بکلا المعنیین ، فیصحّ النزاع فی دلالة الصیغة على المرة والتکرار بالمعنیین وعدمها.
__________________
1 ـ المتوهم هو صاحب الفصول ، الفصول / 71. 
 
أمّا بالمعنى الأوّل فواضح ، وأما بالمعنى الثّانی فلوضوح أن المراد من الفرد أو الأفراد وجود واحد أو وجودات ، وإنما عبر بالفرد لأن وجود الطبیعة فی الخارج هو الفرد ، غایة الأمر خصوصیته وتشخصه على القول بتعلق الأمر بالطبائع یلازم المطلوب وخارج عنه ، بخلاف القول بتعلقه بالأفراد ، فإنّه مما یقومه.
تنبیه : لا إشکال بناءً على القول بالمرة فی الامتثال ، وإنّه لا مجال للاتیان بالمأمور به ثانیاً ، على أن یکون أیضاً به الامتثال ، فإنّه من الامتثال بعد الامتثال. وأما على المختار من دلالته على طلب الطبیعة من دون دلالة على المرة ولا على التکرار ، فلا یخلو الحال : امّا أن لا یکون هناک إطلاق الصیغة فی مقام البیان ، بل فی مقام الإِهمال أو الإِجمال ، فالمرجع هو الأصل. وإما أن یکون إطلاقها فی ذلک المقام ، فلا إشکال فی الاکتفاء بالمرة فی الامتثال ، وإنما الإِشکال فی جواز أن لا یقتصر علیها ، فإن لازم إطلاق الطبیعة المأمور بها ، هو الإِتیان بها مرة أو مراراً لا ، لزوم الاقتصار على المرة ، کما لا یخفى.

کفایة الاصول - قسمت اول

بسم الله الرحمن الرحیم

نحمدک اللهم یا من أضاء على مطالع العقول والالباب ، وأنار علیها بسواطع السنة والکتاب ، فأحکم الفروع بأصولها فی کلّ باب ، ونصلّی على أفضل من اُوتی الحکمة وفصل الخطاب ، وعلى آله الطاهرین الأطیاب ، سیّما المخصوص بالاخوة سیّد أولی الالباب.
ربّنا آمنا بما أنزلت واتّبعنا الرسول وآل الرسول ، فاغفر لنا ذنوبنا ، وقنا سوء الحساب ، واللعنة على أعدائهم من الیوم إلى یوم الحساب.
وبعد : فالعلم على تشعّب شؤونه ، وتفنّن غصونه ، مفتقر إلى علم الأصول افتقار الرعیة إلى السلطان ، ونافذ حکمه علیها بالوجدان ، ولا سیّما العلوم الدینیة ، وخصوصاً الأحکام الشرعیة ، فلولا الأصول لم تقع فی علم الفقه على محصول.
فیه استقرت قواعد الدین ، وبه صار الفقه کشجرة طیبة تؤتی أکلها کلّ حین ، فلذا بادر علماء الامصار ، وفضلاء الأعصار ـ فی کلّ دور من الأدوار ـ إلى تمهید قواعده ، وتقیید شوارده ، وتبیین ضوابطه ، وتوضیح روابطه ، وتهذیب اُصوله ، وإحکام قوانینه ، وترتیب فصوله.
لکنّه لما فیه من محاسن النکت والفقر ، ولطائف معانٍ تدق دونها الفکر ، جل عن أن یکون شرعة لکلّ وارد ، أو أن یطلع على حقائقه إلّا واحد
 
بعد واحد ، فنهض به من اُولی البصائر کابر بعد کابر ، فللّه دَرّهم من عصابة تلقّوا وأذعنوا ، وبرعوا فأتقنوا ، وأجادوا فجادوا ، وصنفوا وأفادوا ، أثابهم الله برضوإنّه وبّوأهم بحبوحات جنإنّه.
حتى انتهى الأمر إلى أوحد علماء العصر ، قطب فلک الفقاهة والاجتهاد ، ومرکز دائرة البحث والانتقاد ، الطود الشامخ ، والعلم الراسخ ، محیی الشریعة وحامی الشیعة ، النحریر الأوّاه ، والمجاهد فی سبیل الله ، خاتم الفقهاء والمجتهدین ، وحجّة الاسلام والمسلمین ، الوفی الصفی ، مولانا الآخوند ( ملا محمد کاظم الهروی الطوسی النجفی ) مد الله أطناب ظلاله على رؤوس الأنام ، وعمر بوجوده دوارس شرع الاسلام ، فقد فاز ـ دام ظله ـ منه بالقدح المعلى وجلّ عن قول أین وأنىّ ، وجرى بفکر صائب تقف دونه الأفکار ، ونظر ثاقب یکاد سنا برقه یذهب بالابصار ، فلذا أذعن بفضله الفحول ، وتلقوه بأنعم القبول. وأظهر صحفاً هی المنتهى فی التبیان ، ذوات نکت لم یطمثهن قبله إنس ولا جان ، ویغنیک العیان عن البیان ، والوجدان عن البرهان.
فما قدمته لک إحدى مقالاته الشافیة ، ورسائله الکافیة ، فقد أخذت بجزأیها على شطری الأصول الأصلیة ، من مباحث الألفاظ والادلة العقلیة ، وأغنت بالاشارة عن المطّولات ، فهی النهایة والمحصول ، فحریّ بأن یسمى ب‍ ( کفایة الأصول ) ، فأین من یعرف قدرها ، ولا یرخص مهرها ، وعلى الله قصد السبیل ، وهو حسبی ونعم الوکیل.
قال أدام الله ظله [ بعد التسمیة والتحمید والتصلیة ] (1) :
__________________
1 ـ نقلنا هذه المقدمة من « ب ». وهی من إنشاءً المتصدی لطبع النسخة الحجریة.
 
 
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربّ العالمین ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرین ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعین.
وبعد فقد رتّبته على مقدّمة ، ومقاصد وخاتمة.
    أمّا المقدّمة
ففی بیان أمور :
 
 
 
 
الأول
إنّ موضوع کلّ علم ، وهو الذی یبحث فیه عن عوارضه الذاتیة ـ أیّ بلا واسطة فی العروض ـ هو نفس موضوعاًت مسائله عیناً ، وما یتّحد معها خارجاً ، وأنّ کان یغایرها مفهوماً ، تغایر الکّلی ومصادیقه ، والطبیعی وأفراده. والمسائل عبارة عن جملة من قضایا متشّتتة ، جمعها اشتراکها فی الدخل فی الغرض الذی لأجله دُوَّن هذا العلم ، فلذا قد یتداخل بعضٍ العلوم فی بعضٍ المسائل ، مما کان له دخل فی مهمین ، لأجل کلّ منهما دُوّن علم على حدة ، فیصیر من مسائل العلمین.
لا یقال : على هذا یمکن تداخل علمین فی تمام مسائلهما ، فیما کان هناک مهمان متلازمان فی الترتّب على جملة من القضایا ، لا یکاد انفکاکهما.
فإنّه یقال : مضافاً إلى بُعد ذلک ، بل امتناعه عادةً ، لا یکاد یصحّ لذلک تدوین علمین وتسمیتهما باسمین ، بل تدوین علم واحد ، یبحث فیه تارةً لکلا المهمّین ، واخرى لأحدهما ، وهذا بخلاف التداخل فی بعضٍ المسائل ، فان حسن تدوین علمین ـ کانا مشترکین فی مسألة ، أو أزید ـ فی جملة مسائلهما المختلفة ، لأجل مهمین ، مما لا یخفى.
 
 
وقد انقدح بما ذکرنا ، أن تمایَز العلوم إنّما هو باختلاف الاغراض الداعیة إلى التدوین ، لا الموضوعاًت ولا المحمولات ، وإلاّ کان کلّ باب ، بل کلّ مسألة من کلّ علم ، علماً على حدة ، کما هو واضح لمن کان له أدنى تأمّل ، فلا یکون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدد ، کما لا یکون وحدتهما سبباً لأن یکون من الواحد.
ثم إنّه ربما لا یکون لموضوع العلم ـ وهو الکلّی المتّحد مع موضوعاًت المسائل ـ عنوان خاص واسم مخصوص ، فیصحّ أن یعبّر عنه بکل ما دلّ علیه ، بداهة عدم دخل ذلک فی موضوعیته أصلاً.
وقد انقدح بذلک أن موضوع علم الأصول ، هو الکلّی المنطبق على موضوعاًت مسائله المتشتتة ، لا خصوص الأدلّة الأربعة بما هی أدلّة (1) ، بل ولا بما هی هی (2) ، ضرورة أن البحث فی غیر واحد من مسائله المهمّة لیس من عوارضها ، وهو واضح لو کان المراد بالسّنة منها هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقریره ، کما هو المصطلح فیها ، لوضوح عدم البحث فی کثیر من مباحثها المهمّة ، کعمدة مباحث التعادل والترجیح ، بل ومسألة حجیة خبر الواحد ، لا عنها ولا عن سائر الادلّة ، ورجوع البحث فیهما ـ فی الحقیقة ـ إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد ، فی مسألة حجّیة الخبر ـ کما اُفید ـ (3) وبأی الخبرین فی باب التعارض ، فإنّه أیضاً بحث فی الحقیقة عن حجیة الخبر فی هذا الحال غیر مفید فان البحث عن ثبوت الموضوع ، وما هو مفاد کان التامة ، لیس بحثاً عن عوارضه ، فإنّها مفاد کان الناقصة.
لا یقال : هذا فی الثبوت الواقعی ، وأمّا الثبوت التعبدی ـ کما هو
__________________
1 ـ کما هو المشهور بین الأصولیین.
2 ـ صرح به صاحب الفصول ، الفصول / 4.
3 ـ افاده الشیخ ( قده ) فی فرائد الأصول / 67 ، فی بدایة مبحث حجیة الخبر الواحد.  
 
المهم فی هذه المباحث ـ فهو فی الحقیقة یکون مفاد کان الناقصة.
فإنّه یقال : نعم ، لکّنه مما لا یعرض السنة ، بل الخبر الحاکی لها ، فإن الثبوت التعبدی یرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر کالسنة المحکیة به ، وهذا من عوارضه لا عوارضها ، کما لا یخفى.
وبالجملة : الثبوت الواقعی لیس من العوارض ، والتعبدی وأنّ کان منها ، إلّا إنّه لیس للسنة ، بل للخبر ، فتأمل جیداً.
وأما إذا کان المراد (1) من السنة ما یعم حکایتها ، فلان البحث فی تلک المباحث وأنّ کان عن أحوال السنة بهذا المعنى ، إلّا أن البحث فی غیر واحد من مسائلها ، کمباحث الألفاظ ، وجملة من غیرها ، لا یخص الادلة ، بل یعم غیرها ، وأنّ کان المهمّ معرفة أحوال خصوصها ، کما لا یخفى.
ویؤیّد ذلک تعریف الأصول ، بإنّه ( العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحکام الشرعیة ) ، وأنّ کان الأولى تعریفه بإنّه ( صناعة یعرف بها القواعد التی یمکن أن تقع فی طریق استنباط الأحکام ، أو التی ینتهى إلیها فی مقام العمل ) ، بناءً على أن مسألة حجیة الظنّ على الحکومة ، ومسائل الأصول العملیة فی الشبهات الحکمیة من الأصول ، کما هو کذلک ، ضرورة إنّه لا وجه لالتزام الاستطراد فی مثل هذه المهمّات.
الأمر الثانی
الوضع هو نحو اختصاص للّفظ بالمعنى ، وارتباط خاص بینهما ، ناش من تخصیصه به تارةً ، ومن کثرة استعماله فیه أُخرى ؛ وبهذا المعنى صحّ تقسیمه إلى التعیینی والتعیّنی ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ هذا مراد صاحب الفصول ، الفصول / 12.   

 
ثم إن الملحوظ حال الوضع : امّا یکون معنى عاماً ، فیوضع اللفظ له تارةً ، ولافراده ومصادیقه أُخرى ؛ وإما یکون معنى خاصاً ، لا یکاد یصحّ إلّا وضع اللفظ له دون العام ، فتکون الأقسام ثلاثة ، وذلک لأن العام یصلح لأن یکون آلة للحاظ أفراده ومصادیقه بما هو کذلک ، فإنّه من وجوهها ، ومعرفة وجه الشیء معرفته بوجه ، بخلاف الخاص ، فإنّه بما هو خاص ، لا یکون وجهاً للعام ، ولا لسائر الأفراد ، فلا یکون معرفته وتصوره معرفة له ، ولا لها ـ أصلاً ـ ولو بوجه.
نعم ربّما یوجب تصوّره تصوّر العام بنفسه ، فیوضع له اللفظ ، فیکون الوضع عاماً ، کما کان الموضوع له عاماً ، وهذا بخلاف ما فی الوضع العام والموضوع له الخاص ، فإن الموضوع له ـ وهی الأفراد ـ لا یکون متصوراً إلّا بوجهه وعنوإنّه ، وهو العام ، وفرق واضح بین تصوّر الشیء بوجهه ، وتصوّره بنفسه ، ولو کان بسبب تصوّر أمر آخر.
ولعل خفاء ذلک على بعضٍ الأعلام (1) ، وعدم تمیزه بینهما ، کان موجباً لتوهم امکان ثبوت قسم رابع ، وهو أن یکون الوضع خاصاً ، مع کون الموضوع له عاماً ، مع إنّه واضح لمن کان له أدنى تأمل.
ثم إنّه لا ریب فی ثبوت الوضع (2) الخاص والموضوع له الخاص کوضع الأعلام. وکذا الوضع (3) العام والموضوع له العام ، کوضع أسماء الاجناس وأما الوضع العام والموضوع له الخاص ، فقد توهّم (4) إنّه وضع الحروف ، وما ألحق بها من الأسماء ، کما توهّم (5) أیضاً ان المستعمل فیه فیها (6)
__________________
1 ـ الظاهر إنّه صاحب البدائع ، البدائع / 39 ، فی تقسیم الوضع إلى العام والخاص.
2 ـ 3 ـ فی « أ و ب » : وضع.
4 ـ صاحب الفصول ، الفصول / 16 ، فی الوضع.
5 ـ الفصول / 16 ، فی الوضع.
6 ـ فی « أ » : أن المستعمل فیها.  
 
خاصٌ (1) مع کون الموضوع له کالوضع عاماً.
والتحقیق ـ حسبما یؤدّی إلیه النظر الدقیق ـ أن حال المستعمل فیه والموضوع له فیها حالهما فی الأسماء ، وذلک لأن الخصوصیة المتوهمة ، إن کانت هی الموجبة لکون المعنى المتخصص بها جزئیاً خارجیاً ، فمن الواضح أن کثیراً ما لا یکون المستعمل فیه فیها کذلک بل کلیاً ، ولذا التجأ بعضٍ الفحول (2) إلى جعله جزئیاً إضافیاً ، وهو کما ترى. وأنّ کانت هی الموجبة لکونه جزئیاً ذهنیاً ، حیث إنّه لا یکاد یکون المعنى حرفیاً ، إلّا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر ، ومن خصوصیاته القائمة به ، ویکون حاله کحال العرض ، فکما لا یکون فی الخارج إلّا فی الموضوع ، کذلک هو لا یکون فی الذهن إلّا فی مفهوم آخر ، ولذا قیل فی تعریفه : بإنّه ما دلّ على معنى فی غیره ، فالمعنى ، وأنّ کان لا محالة یصیر جزئیا بهذا اللحاظ ، بحیث یباینه إذا لوحظ ثانیاً ، کما لوحظ أولاً ، ولو کان اللاحظ واحداً ، إلّا أن هذا اللحاظ لا یکاد مأخوذاً فی المستعمل فیه ، وإلاّ فلا بدّ من لحاظ آخر ، متعلّق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ ، بداهة أن تصوّر المستعمل فیه مما لا بدّ منه فی استعمال الألفاظ ، وهو کما ترى.
مع إنّه یلزم أن لا یصدق على الخارجیات ، لامتناع صدق الکلّی العقلی علیها ، حیث لا موطن له إلّا الذهن ، فامتنع امتثال مثل ( سر من البصرة ) إلّا بالتجرید وإلغاء (3) الخصوصیة ، هذا.
مع إنّه لیس لحاظ المعنى حالة لغیره فی الحروف إلّا کلحاظه فی نفسه فی الأسماء ، وکما لا یکون هذا اللحاظ معتبراً فی المستعمل فیه فیها ، کذلک ذاک اللحاظ فی الحروف ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ فی « أ و ب » : خاصا.
2 ـ المراد من بعضٍ الفحول ، امّا صاحب الفصول ، الفصول / 16 ، وإما المحقق التقی ، هدایة المسترشدین / 30.
3 ـ فی « ب » : إلقاء.  
 
وبالجملة : لیس المعنى فی کلمة ( من ) ولفظ الابتداء ـ مثلاً ـ إلّا الابتداء ، فکما لا یعتبر فی معناه لحاظه فی نفسه ومستقلاً ، کذلک لا یعتبر فی معناها لحاظه فی غیرها وآلة ، وکما لا یکون لحاظه فیه موجباً لجزئیته ، فلیکن کذلک فیها.
إن قلت : على هذا لم یبق فرق بین الاسم والحرف فی المعنى ، ولزم کون مثل کلمة ( من ) ولفظ الابتداء مترادفین ، صحّ استعمال کلّ منهما فی موضع الآخر ، وهکذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانیها ، وهو باطل بالضرورة ، کما هو واضح.
قلت : الفرق بینهما إنّما هو فی اختصاص کلّ منهما بوضع ، حیث [ إنّه ] (1) وضع الاسم لیراد منه معناه بما هو هو وفی نفسه ، والحرف لیراد منه معناه لا کذلک ، بل بما هو حالة لغیره ، کما مرّت الإِشارة إلیه غیر مرّة ، فالاختلاف بین الاسم والحرف فی الوضع ، یکون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما فی موضع الآخر ، وأنّ اتفقا فیما له الوضع ، وقد عرفت ـ بما لا مزید علیه ـ أن نحو إرادة المعنى لا یکاد یمکن أن یکون من خصوصیاته ومقوماته.
ثم لا یبعد أن یکون الاختلاف فی الخبر والانشاء أیضاً کذلک ، فیکون الخبر موضوعاً لیستعمل فی حکایة ثبوت معناه فی موطنه ، والانشاء لیستعمل فی قصد تحققه وثبوته ، وأنّ اتفقا فیما استعملا فیه ، فتأمّل.
ثم إنّه قد انقدح مما حققناه ، إنّه یمکن أن یقال : إن المستعمل فیه فی مثل أسماء الإِشارة والضمائر أیضاً عام ، وأنّ تشخّصه إنّما نشأ من قبل طور استعمالها ، حیث انَّ أسماء الإِشارة وضعت لیشار بها إلى معانیها ، وکذا
__________________
1 ـ أثبتناها من « ب ».  
 
بعض الضمائر ، وبعضها لیخاطب به (1) المعنى ، والإِشارة والتخاطب یستدعیان التشخص کما لا یخفى ، فدعوى : أن المستعمل فیه فی مثل ( هذا ) أو ( هو ) أو ( إیّاک ) إنّما هو المفرد المذکر ، وتشخصه إنّما جاء من قبل الإِشارة ، أو التخاطب بهذه الألفاظ إلیه ، فإن الإِشارة أو التخاطب لا یکاد یکون إلّا إلى الشخص أو معه ، غیر مجازفة.
فتلخصّ مما حققناه : ان التشخص الناشىء من قبل الاستعمالات ، لا یوجب تشخص المستعمل فیه ، سواء کان تشخصاً خارجیاً ـ کما فی مثل أسماء الإِشارة ـ أو ذهنیاً ـ کما فی أسماء الأجناس والحروف ونحوهما ـ من غیر فرق فی ذلک أصلاً بین الحروف وأسماء الأجناس ، ولعمری هذا واضح. ولذا لیس فی کلام القدماء من کون الموضوع له أو المستعمل فیه خاصاً فی الحرف عین ولا أثر ، وإنما ذهب إلیه بعضٍ من تأخّر ، (2) ولعلّه لتوهّم کون قصده بما هو فی غیره ، من خصوصیات الموضوع له ، أو المستعمل فیه ، والغفلة من أن قصد المعنى من لفظه على أنحائه ، لا یکاد یکون من شؤونه وأطواره ، وإلاّ فلیکن قصده بما هو هو وفی نفسه کذلک ، فتأمّل فی المقام فإنّه دقیق ، وقد زل فیه أقدام غیر واحد من أهل التحقیق والتدقیق.
الثالث
صحّة استعمال اللفظ فیما یناسب ما وضع له ، هل هو بالوضع ، أو بالطبع؟ وجهان ، بل قولان ، أظهرهما إنّه بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فیه ولو مع منع الواضع عنه ، وباستهجان الاستعمال فیما لا یناسبه ولو مع ترخیصه ، ولا معنى لصحته إلّا حسنه ، والظاهر أن صحة الاستعمال
__________________
1 ـ فی « ب » : بها.
2 ـ صاحب الفصول ، الفصول / 16.  
 
اللفظ فی نوعه أو مثله من قبیله ، کما یأتی الإِشارة إلى تفصیله (1).
الرابع
لا شبهة فی صحة إطلاق اللفظ ، وإرادة نوعه به ، کما إذا قیل : ضرب ـ مثلاً ـ فعل ماض ، أو صنفه کما إذا قیل : ( زید ) فی ( ضرب زید ) فاعل ، إذا لم یقصد به شخص القول أو مثله ک‍ ( ضرب ) فی المثال فیما إذا قصد.
وقد أشرنا (2) إلى أن صحة الإِطلاق کذلک وحسنه ، إنّما کان بالطبع لا بالوضع ، وإلاّ کانت المهملات موضوعة لذلک ، لصحة الإِطلاق کذلک فیها ، والالتزام بوضعها کذلک کما ترى.
وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه ، کما إذا قیل : ( زید لفظ ) وأرید منه شخص نفسه ، ففی صحته بدون تأویل نظر ، لاستلزامه اتحاد الدالّ والمدلول ، أو ترکب القضیة من جزءین کما فی الفصول (3).
بیان ذلک : إنّه إن اعتبر دلالته على نفسه ـ حینئذ ـ لزم الاتحاد ، وإلاّ لزم ترکبها من جزءین ، لأن القضیة اللفظیة ـ على هذا ـ إنّما تکون حاکیة عن المحمول والنسبة ، لا الموضوع ، فتکون القضیة المحکیة بها مرکبة من جزءین ، مع امتناع الترکب إلّا من الثلاثة ، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبین.
قلت : یمکن أن یقال : إنّه یکفی تعدَّد الدالّ والمدلول اعتباراً ، وأنّ اتَّحَدا ذاتاً ، فمن حیث إنّه لفظ صادر عن لافظه کان د إلّا ، ومن حیث أن
__________________
1 ـ فی الأمر الرابع.
2 ـ أشار إلیه فی الأمر الثالث.
3 ـ الفصول / 22 ، عند قوله : فصل قد یطلق اللفظ .. الخ.
 
نفسه وشخصه مراده کان مدلولاً.
مع أن حدیث ترکب القضیة من جزءین ـ لولا اعتبارٍ الدلالة فی البین ـ إنّما یلزم إذا لم یکن الموضوع نفس شخصه ، وإلاّ کان أجزاؤها الثلاثة تامة ، وکان المحمول فیها منتسبا إلى شخص اللفظ ونفسه ، غایة الأمر إنّه نفس الموضوع ، لا الحاکی عنه ، فافهم ، فإنّه لا یخلو عن دقة. وعلى هذا ، لیس من باب استعمال اللفظ بشىء.
بل یمکن أن یقال : إنّه لیس أیضاً من هذا الباب ، ما إذا أطلق اللفظ واُرید به نوعه أو صنفه ، فإنّه فرده ومصداقه حقیقة ، لا لفظه وذاک معناه ، کی یکون مستعملاً فیه استعمال اللفظ فی المعنى ، فیکون اللفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجاً ، قد أحضر فی ذهنه بلا وساطة حاک (1) ، وقد حکم علیه ابتداءً ، بدون واسطة أصلاً ، لا لفظه ، کما لا یخفى ، فلا یکون فی البین لفظ قد استعمل فی معنى ، بل فرد قد حکم فی القضیة علیه ـ بما هو مصداق لکلی (2) اللفظ ، لا بما هو خصوص جزئیّة.
نعم فیما إذا أُرید به فرد آخر مثله ، کان من قبیل استعمال اللفظ فی المعنى.
اللهم إلّا أن یقال : إن لفظ ( ضرب ) وأنّ کان فرداً له ، إلّا إنّه إذا قصد به حکایته ، وجعل عنواناً له ومرآته ، کان لفظه المستعمل فیه ، وکان ـ حینئذ ـ کما إذا قصد به فرد مثله.
وبالجملة : فإذا اُطلق واُرید به نوعه ، کما إذا أُرید به فرد مثله ، کان من باب استعمال اللفظ فی المعنى ، وأنّ کان فرداً منه ، وقد حکم فی القضیة بما یعمه ، وأنّ اُطلق لیحکم علیه بما هو فرد کلّیة ومصداقه ، لا بما هو لفظه وبه حکایته ، فلیس من هذا الباب ، لکن الإطلاقاًت المتعارفة ظاهراً
__________________
1 ـ فی « أ و ب » : حاکی.
2 ـ فی « أ » : لکلیه.  
 
لیست کذلک ، کما لا یخفى ، وفیها ما لا یکاد یصحّ أن یراد منه ذلک ، مما کان الحکم فی القضیة لا یکاد یعمّ شخص اللفظ ، کما فی مثل : ( ضرب فعل ماض ).
الخامس
لا ریب فی کون الألفاظ موضوعة بإزاء معانیها من حیث هی ، لا من حیث هی مرادة للافظها ، لما عرفت بما لا مزید علیه ، من أن قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال ، فلا یکاد یکون من قیود المستعمل فیه. هذا.
مضافاً إلى ضرورة صحة الحمل والإِسناد فی الجمل ، بلا تصرّف فی ألفاظ الأطراف ، مع إنّه لو کانت موضوعة لها بما هی مرادة ، لما صحّ بدونه ، بداهة أن المحمول على ( زید ) فی ( زید قائم ) والمسند إلیه فی ( ضرب زید ) ـ مثلاً ـ هو نفس القیام والضرب ، لا بما هما مرادان.
مع إنّه یلزم کون وضع عامة الألفاظ عاماً والموضوع له خاصاً ، لمکان اعتبارٍ خصوص إرادة اللافظین فیما وضع له اللفظ ، فإنّه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة فیه ، کما لا یخفى ، وهکذا الحال فی طرف الموضوع.
وأما ما حکی (1) عن العلمین ( الشیخ الرئیس (2) ، والمحقق
__________________
1 ـ راجع الشفاء ، قسم المنطق فی المقالة الأولى من الفن الأوّل ، الفصل الثامن / 42 ، عند قوله ( وذلک لأن معنى دلالة اللفظ ، هو ان یکون اللفظ اسما لذلک المعنى على سبیل القصد الأوّل ) انتهى.
وحکى العلاّمة الحلّی (ره) فی الجوهر النضید فی شرح التجرید / 4. عن أستاذه المحقق الطوسی (ره) قوله بأن اللفظ لا یدلّ بذاته على معناه بل باعتبار الإرادة والقصد.
2 ـ الشیخ الرئیس أبو علی الحسین بن عبدالله بن سینا الحکیم المشهور ، أحد فلاسفة المسلمین ولد سنة 370 ه‍ بقریة من ضیاع بخارى ، نادرة عصره فی علمه وذکائه وتصانیفه ، لم یستکمل ثمانی عشرة سنة من عمره إلّا وقد فرغ من تحصیل العلوم بأسرها ، صنف کتاب « الشفاء » و « النجاة » و « الإشارات » و « القانون » وغیر ذلک ممّا یقارب مائة مصنّف ،
 
الطوسی (1) ) من مصیرهما إلى أن الدلالة تتبع الإرادة ، فلیس ناظراً إلى کون الألفاظ موضوعة للمعانی بما هی مرادة ، کما توهمه بعضٍ الأفاضل (2) ، بل ناظر إلى أن دلالة الألفاظ على معانیها بالدلالة التصدیقیة ، أیّ دلالتها على کونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها ، وتتفرع علیها تبعیة مقام الإِثبات للثبوت ، وتفرع الکشف على الواقع المکشوف ، فإنّه لولا الثبوت فی الواقع ، لما کان للإثبات والکشف والدلالة مجال ، ولذا لا بدّ من إحراز کون المتکلّم بصدد الإِفادة فی إثبات إرادة ما هو ظاهر کلامه ودلالته على الإرادة ، وإلاّ لما کانت لکلامه هذه الدلالة ، وأنّ کانت له الدلالة التصوریة ، أیّ کون سماعه موجباً لإخطار معناه الموضوع له ، ولو کان من وراء الجدار ، أو من لافظ بلا شعور ولا اختیار.
إن قلت : على هذا ، یلزم أن لا یکون هناک دلالة عند الخطأ ، والقطع بما لیس بمراد ، أو الاعتقاد بإرادة شیء ، ولم یکن له من اللفظ مراد.
قلت : نعم لا یکون حینئذ دلالة ، بل یکون هناک جهالة وضلالة ، یحسبها الجاهل دلالة ، ولعمری ما أفاده العلمان من التبعیة ـ على ما بینّاًه ـ واضح لا محیص عنه ، ولا یکاد ینقضی تعجبی کیف رضی المتوهم أن یجعل کلامهما ناظراً إلى ما لا ینبغی صدوره عن فاضل ، فضلاً عمن هو عَلَم
__________________
وله شعر ، توفی بهمدان یوم الجمعة من شهر رمضان 428 ه‍ ودفن بها. ( وفیات الأعیان 2 / 157 رقم 190 ).
1 ـ المحقق خواجه نصیر الدین محمد بن محمد بن الحسن الطوسی الحکیم الفیلسوف ولد فی طوس عام 597 ه‍. ، درس فی صغره مختلف العلوم وأتقن علوم الریاضیات وکان لا یزال فی مطلع شبابه ، سافر إلى نیشابور وقضى فیها فترة ظهر نبوغه وتفّوقه ، باشر إنشاءً مرشد مراغة وأسس مکتبة مراغة ، حضر درس المحقق الحلّی عندما زار الفیحاء بصحبة هولاکو ، کتب ما یناهز 184 مؤلفاً فی فنون شتىّ ، توفی 682 ه‍ ودفن فی جوار الامام موسى الکاظم 7. ( أعیان الشیعة 9 / 414 ).
2 ـ صاحب الفصول 17 ، السطر الأخیر.
 
 
فی التحقیق والتدقیق؟!.
السادس
لا وجه لتوهّم وضع للمرکبات ، غیر وضع المفردات ، ضرورة عدم الحاجة إلیه ، بعد وضعها بموادها ، فی مثل ( زید قائم ) و ( ضرب عمرو بکراً ) شخصیاً ، وبهیئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعیا ، ومنها خصوص هیئات المرکبات الموضوعة لخصوصیات النسب والإضافات ، بمزایاها الخاصة من تأکید وحصر وغیرهما نوعیاً ؛ بداهة أن وضعها کذلک وافٍ بتمام المقصود منها ، کما لا یخفى ، من غیر حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها ، مع استلزامه الدلالة على المعنى : تارةً بملاحظة وضع نفسها ، وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها.
ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلک ، هو وضع الهیئات على حدة ، غیر وضع المواد ، لا وضعها بجملتها ، علاوة على وضع کلّ منهما.
السابع
لا یخفى أن تبادر المعنى من اللفظ ، وانسباقه إلى الذهن من نفسه ـ وبلا قرینة ـ علامة کونه حقیقة فیه ؛ بداهة إنّه لولا وضعه له ، لما تبادر.
ولا یقال : کیف یکون علامة؟ مع توقفه على العلم بإنّه موضوع له ، کما هو واضح ، فلو کان العلم به موقوفاً علیه لدار.
فإنّه یقال : الموقوف علیه غیر الموقوف علیه ، فإن العلم التفصیلی ـ بکونه موضوعاً له ـ موقوف على التبادر ، وهو موقوف على العلم الإِجمالی الارتکازی به ، لا التفصیلی ، فلا دور. هذا إذا کان المراد به التبادر عند المستعلم ، وأما إذا کان المراد به التبادر عند أهل المحاورة ، فالتغایر أوضح من أن یخفى.  
 
ثم إنّ هذا فیما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ ، وأما فیما احتمل استناده إلى قرینة ، فلا یجدی أصالة عدم القرینة فی إحراز کون الاستناد إلیه ، لا إلیها ـ کما قیل (1) ـ لعدم الدلیل على اعتبارها إلّا فی إحراز المراد ، لا الاستناد.
ثم إن عدم صحة سلب اللفظ ـ بمعناه المعلوم المرتکز فی الذهن إجمالاً کذلک ـ عن معنى تکون علامة کونه حقیقة فیه ، کما أن صحة سلبه عنه علامة کونه مجازاً فی الجملة.
والتفصیل : إن عدم صحة السلب عنه ، وصحة الحمل علیه بالحمل الأولی الذاتی ، الذی کان ملاکه الاتحاد مفهوماً ، علامة کونه نفس المعنى ، وبالحمل الشائع الصناعی ، الذی ملاکه الاتحاد وجوداً ، بنحو من أنحاء الاتحاد ، علامة کونه من مصادیقه وأفراده الحقیقیة (2). کما أن صحّة سلبه کذلک علامة إنّه لیس منها ، وأنّ لم نقل بأن إطلاقه علیه من باب المجاز فی الکلمة ، بل من باب الحقیقة ، وأنّ التصرف فیه فی أمر عقلی ، کما صار إلیه السکاکی (3).
واستعلام حال اللفظ ، وإنّه حقیقة أو مجاز فی هذا المعنى بهما ،
__________________
1 ـ قوانین الأصول / 13.
2 ـ فیما إذا کان المحمول والمحمول علیه کلیاً وفرداً ، لا فیما إذا کانا کلیین متساویین ، أو غیرهما ، کما لا یخفى. منه 1.
وفی نسخة « أ » لم یظهر کونه تعلیقاً بل الظاهر دخوله فی المتن.
3 ـ مفتاح العلوم / 156 ، الفصل الثالث فی الاستعارة.
أبو یعقوب یوسف بن أبی بکر بن محمد السکاکی الخوارزمی ، ولد سنة 555 ه‍ کان علامة بارعاً فی فنون شتّى خصوصا المعانی والبیان ، وله کتاب « مفتاح العلوم » فیه إثنا عشر علما من علوم العربیة ، وله النصیب الوافر فی علم الکلام وسائر الفنون مات بخوارزم سنة 626 ه‍. ) بغیة الوعاة 2 / 364 رقم 2204 ).   

 
 لیس على وجه دائر ، لما عرفت فی التبادر من التغایر بین الموقوف والموقوف علیه ، بالإِجمال والتفصیل ، أو الاضافة إلى المستعلم والعالم ، فتأمّل جیداً.
ثم إنّه قد ذکر الاطراد وعدمه علامة للحقیقة والمجاز أیضاً ، ولعله بملاحظة نوع العلائق المذکورة فی المجازات ، حیث لا یطرد صحة استعمال اللفظ معها ، وإلاّ فبملاحظة خصوص ما یصحّ معه الاستعمال ، فالمجاز مطرد کالحقیقة ، وزیادة قید ( من غیر تأویل ) أو ( على وجه الحقیقة ) (1) ، وأنّ کان موجباً لاختصاص الاطراد کذلک بالحقیقة ، إلّا إنّه ـ حینئذ ـ لا یکون علامة لها إلّا على وجه دائر ، ولا یتأتىّ التفصی عن الدور بما ذکر فی التبادر هنا (2) ، ضرورة إنّه مع العلم بکون الاستعمال على نحو الحقیقة ، لا یبقى مجال لاستعلام (3) حال الاستعمال بالاطراد ، أو بغیره.
الثامن
إنّه للّفظ أحوال خمسة ، وهی : التجّوز ، والاشتراک ، والتخصیص ، والنقل ، والاضمار ، لا یکاد یصار إلى أحدها فیما إذا دار الأمر بینه وبین المعنى الحقیقی ، إلّا بقرینة صارفة عنه إلیه.
وأما إذا دار الأمر بینها ، ف الأصولیون ، وأنّ ذکروا لترجیح بعضها على بعضٍ وجوها ، إلّا إنّها استحسانیة ، لا اعتبارٍ بها ، إلّا إذا کانت موجبة لظهور اللفظ فی المعنى ، لعدم مساعدة دلیل على اعتبارها بدون ذلک ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ الزیادة من صاحب الفصول ، الفصول / 38 ، فصل فی علامة الحقیقة والمجاز.
2 ـ اشتباه من « أ ».
3 ـ فی « ب » : الاستعلام.  
 
التاسع
إنّه اختلفوا فی ثبوت الحقیقة الشرعیة وعدمه على أقوال ، وقبل الخوض فی تحقیق الحال لا بأس بتمهید مقال ، وهو : أن الوضع التعیینی ، کما یحصل بالتصریح بإنشائه ، کذلک یحصل بإستعمال اللفظ فی غیر ما وضع له ، کما إذا وضع له ، بأن یقصد الحکایة عنه ، والدلالة علیه بنفسه لا بالقرینة ، وأنّ کان لا بدّ ـ حینئذ ـ من نصب قرینة ، إلّا إنّه للدلالة على ذلک ، لا على إرادة المعنى ، کما فی المجاز ، فافهم.
وکوُن إستعمال اللفظ فیه کذلک فی غیر ما وضع له ، بلا مراعاة ما اعتبر فی المجاز ، فلا یکون بحقیقة ولا مجاز ، غیر ضائر بعد ما کان مما یقبله الطبع ولا یستنکره ، وقد عرفت سابقاً (1) ، إنّه فی الاستعمالات الشایعة فی المحاورات ما لیس بحقیقة ولا مجاز.
إذا عرفت هذا ، فدعوى الوضع التعیینی فی الألفاظ المتداولة فی لسان الشارع هکذا قریبة جداً ، ومدعی القطع به غیر مجازف قطعاً ، ویدل علیه تبادر المعانی الشرعیة منها فی محاوراته ، ویؤیّد ذلک إنّه ربما لا یکون علاقة معتبرة بین المعانی الشرعیة واللغویة ، فأیّ علاقة بین الصلاة شرعاً والصلاة بمعنى الدعاء ، ومجرد إشتمال الصلاة على الدعاء لا یوجب ثبوت ما یعتبر من علاقة الجزء والکل بینهما ، کما لا یخفى. هذا کله بناءً على کون معانیها مستحدثة فی شرعنا.
وأما بناءً على کونها ثابتة فی الشرائع السابقة ، کما هو قضیة غیر واحد من الآیات ، مثل قوله تعالى ( کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ کَمَا کُتِبَ عَلَى الَّذِینَ مِن
__________________
1 ـ راجع صفحة 14 الأمر الرابع.   

 
قَبْلِکُمْ ) (1) وقوله تعالى ( وَأَذِّن فِی النَّاسِ بِالْحَجِّ ) (2) وقوله تعالى ( وَأَوْصَانِی بِالصَّلَاةِ وَالزَّکَاةِ مَا دُمْتُ حَیًّا ) (3) إلى غیر ذلک ، فألفاظها حقائق لغویة ، لا شرعیة ، واختلاف الشرائع فیها جزءاً وشرطاً ، لا یوجب اختلافها فی الحقیقة والماهیة ؛ إذ لعله کان من قبیل الاختلاف فی المصادیق والمحققات ، کاختلافها بحسب الحالات فی شرعنا ، کما لا یخفى.
ثم لا یذهب علیک إنّه مع هذا الاحتمال ، لا مجال لدعوى الوثوق ـ فضلاً عن القطع ـ بکونها حقائق شرعیة ، ولا لتوهم دلالة الوجوه التی ذکروها على ثبوتها ، لو سلّم دلالتها على الثبوت لولاه.
ومنه قد (4) إنقدح حال دعوى الوضع التعیّنی معه ، ومع الغض عنه ، فالانصاف أن منع حصوله فی زمان الشارع فی لسإنّه ولسان تابعیه مکابرة ، نعم حصوله فی خصوص لسإنّه ممنوع ، فتأمل.
وأما الثمرة بین القولین ، فتظهر فی لزوم حمل الألفاظ الواقعة فی کلام الشارع بلا قرینة على معانیها اللغویة مع عدم الثبوت ، وعلى معانیها الشرعیة على الثبوت ، فیما إذا علم تأخر الاستعمال ، وفیما إذا جهل التاریخ ، ففیه إشکال ، وأصالة تأخر الاستعمال مع معارضتها بأصالة تأخر الوضع ، لا دلیل على اعتبارها تعبداً ، إلّا على القول بالأصل المثبت ، ولم یثبت بناءً من العقلاء على التأخر مع الشک ، وأصالة عدم النقل إنّما کانت معتبرة فیما إذا شک فی أصل النقل ، لا فی تأخره ، فتأمل.
__________________
1 ـ البقرة / 183.
2 ـ الحج / 27.
3 ـ مریم / 31.
4 ـ أثبتناه من « أ ».  
 
العاشر
إنّه وقع الخلاف فی أن الفاظ العبادات ، أساٍم لخصوص الصحیحة أو للأعم منها؟ وقبل الخوض فی ذکر أدلة القولین ، یذکر أمور :
منها : إنّه لا شبهة فی تأتّی الخلاف ، على القول بثبوت الحقیقة الشرعیة ، وفی جریإنّه على القول بالعدم إشکال.
وغایة ما یمکن أن یقال فی تصویره : إن النزاع وقع ـ على هذا ـ فی أن الأصل فی هذه الألفاظ المستعملة مجازاً فی کلام الشارع ، هو استعمالها فی خصوص الصحیحة أو الأعم ، بمعنى أن أیّهما قد اعتبرت العلاقة بینه وبین المعانی اللغویة ابتداء ، وقد استعمل فی الآخر بتبعه ومناسبته ، کی ینزّل کلامه (1) علیه مع القرینة الصارفة عن المعانی اللغویة ، وعدم قرینة أُخرى معینة للآخر.
وأنت خبیر بإنّه لا یکاد یصحّ هذا ، إلّا إذا علم أن العلاقة إنّما اعتبرت کذلک ، وأنّ بناءً الشارع فی محاوراته ، استقر عند عدم نصب قرینة أُخرى على إرادته ، بحیث کان هذا قرینة علیه ، من غیر حاجة إلى قرینة معینة أُخرى ، وأنّى لهم بإثبات ذلک.
وقد انقدح بما ذکرنا تصویر النزاع ـ على ما نسب (2) إلى الباقلانی (3) ،
__________________
1 ـ فی « أ » : تقدیم ( علیه ) على ( کلامه ).
2 ـ نسبه ابن الحاجب والعضدی : راجع شرح العضدی على مختصر الأصول : 1 / 51 ـ 52.
3 ـ هو القاضی أبو بکر محمد بن الطیب البصری البغدادی المالکی الأصولی المتکلم کان مشهوراً بالمناظرة وسرعة الجواب توفی سنة 403 ه‍ ببغداد ، ( الکنى والالقاب : 2 / 55 والعِبر فی خبر من غبر : 2 / 207 ).  
 
وذلک بأن یکون النزاع ، فی أن قضیة القرینة المضبوطة التی لا یتعدى عنها إلّا بالاخرى ـ الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه ـ هو تمام الإِجزاء والشرائط ، أو هما فی الجملة ، فلا تغفل.
ومنها : أن الظاهر أن الصحة عند الکلّ بمعنى واحد ، وهو التمامیة ، وتفسیرها بإسقاط القضاء ـ کما عن الفقهاء ـ أو بموافقة الشریعة ـ کما عن المتکلمین ـ أو غیر ذلک ، إنّما هو بالمهم من لوازمها ؛ لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الأنظار ، وهذا لا یوجب تعدَّد المعنى ، کما لا یوجبه اختلافها بحسب الحالات من السفر ، والحضر ، والاختیار ، والاضطرار إلى غیر ذلک ، کما لا یخفى.
ومنه ینقدح أن الصحة والفساد أمراًن إضافیان ، فیختلف شیء واحد صحة وفسادا بحسب الحالات ، فیکون تاماً بحسب حالة ، وفاسداً بحسب أُخرى ، فتدبرّ جیداً.
ومنها : إنّه لابد ـ على کلاّ القولین ـ من قدر جامع فی البین ، کان هو المسمى بلفظ کذا ، ولا إشکال فی وجوده بین الأفراد الصحیحة ، وإمکان الإِشارة إلیه بخواصه وآثاره ، فإن الاشتراک فی الأثر کاشف عن الاشتراک فی جامع واحد ، یؤثر الکلّ فیه بذاک الجامع ، فیصحّ تصویر المسمى بلفظ الصلاة مثلاً : بالناهیة عن الفحشاء ، وما هو معراج المؤمن ، ونحوهما.
والإشکال فیه (1) ـ بأن الجامع لا یکاد یکون أمراً مرکباً ، إذ کلّ ما فرض جامعاً ، یمکن أن یکون صحیحاً وفاسداً ؛ لما عرفت ، ولا أمراً بسیطاً ، لإنّه لا یخلو : امّا أن یکون هو عنوان المطلوب ، أو ملزوما مساویاً له ، والأول غیر معقول ، لبداهة استحالة أخذ ما لا یتأتّى إلّا من قبل الطلب فی متعلقه ،
__________________
1 ـ الإِشکال من صاحب التقریرات ، مطارح الأنظار / 6.  
 
مع لزوم الترادف بین لفظة الصلاة والمطلوب ، وعدم جریان البراءة مع الشک فی أجزاء العبادات وشرائطها ، لعدم الإِجمال ـ حینئذ ـ فی المأمور به فیها ، وإنما الإِجمال فیما یتحقق به ، وفی مثله لا مجال لها ، کما حقق فی محله ، مع أن المشهور القائلین بالصحیح ، قائلون بها فی الشک فیها ، وبهذا یشکل لو کان البسیط هو ملزوم المطلوب أیضاً ـ مدفوع ، بأن الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المرکبات المختلفة زیادة ونقیصة بحسب إختلاف الحالات ، متحد معها نحو إتحاد ، وفی مثله تجری البراءة ، وإنما لا تجری فیما إذا کان المأمور به أمراً واحداً خارجیاً ، مسبباً عن مرکب مردد بین الأقلّ والأکثر ، کالطهارة المسببة عن الغسل والوضوء فیما إذا شک فی أجزائهما ، هذا على الصحیح.
وأما على الأعم ، فتصویر الجامع فی غایة الإِشکال ، فما قیل فی تصویره أو یقال : وجوه (1) :
أحدها (2) : أن یکون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة ، کالأرکان فی الصلاة مثلاً ، وکان الزائد علیها معتبراً فی المأمور به لا فی المسمىّ.
وفیه ما لا یخفى ، فإن التسمیة بها حقیقة لا تدور مدارها ، ضرورة صدق الصلاة مع الإِخلال ببعض الأرکان ، بل وعدم الصدق علیها مع الإِخلال بسائر الإِجزاء والشرائط عند الأعمی ، مع إنّه یلزم أن یکون الاستعمال فیما هو المأمور به ـ بأجزائه وشرائطه ـ مجازاً عنده ، وکان من باب إستعمال اللفظ الموضوع للجزء فی الکلّ ، لا من باب إطلاق الکلّی على الفرد والجزئی ، کما هو واضح ، ولا یلتزم به القائل بالأعم ، فافهم.
__________________
1 ـ راجع القوانین / 40 فی الصحیح والأعم ، ومطارح الأنظار / 7 فی الصحیح والأعم ، والفصول / 46.
2 ـ هذا ما یظهر من صاحب القوانین ، القوانین 1 / 44 فی الصحیح والأعم.
 
ثانیها : أن تکون موضوعة لمعظم الإِجزاء التی تدور مدارها التسمیة عرفاً ، فصدق الاسم کذلک یکشف عن وجود المسمى ، وعدم صدقه عن عدمه.
وفیه ـ مضافاً إلى ما أورد على الأوّل أخیراً ـ إنّه علیه یتبادل ما هو المعتبر فی المسمى ، فکان شیء واحد داخلاً فیه تارةً ، و خارجاً عنه أُخرى ، بل مردداً بین أن یکون هو الخارج أو غیره عند إجتماع تمام الإِجزاء ، وهو کما ترى ، سیمّا إذا لوحظ هذا مع ما علیه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.
ثالثها : أن یکون وضعها کوضع الأعلام الشخصیة ک‍ ( زید ) فکما لا یضر فی التسمیة فیها تبادل الحالات المختلفة من الصغر والکبر ، ونقص بعضٍ الإِجزاء وزیادته ، کذلک فیها.
وفیه : أن الأعلام إنّما تکون موضوعة للاشخاص ، والتشخص إنّما یکون بالوجود الخاص ، ویکون الشخص حقیقة باقیاً ما دام وجوده باقیاً ، وأنّ تغیرت عوارضه من الزیادة والنقصان ، وغیرهما من الحالات والکیفیات ، فکما لا یضّر اختلافها فی التشخص ، لا یضّر اختلافها فی التسمیة ، وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات مما کانت موضوعة للمرکبات والمقیدات ، ولا یکاد یکون موضوعاً له ، إلّا ما کان جامعاً لشتاتها وحاویاّ لمتفرقاتها ، کما عرفت فی الصحیح منها.
رابعها : إن ما وضعت له الألفاظ إبتداءً هو الصحیح التام الواجد لتمام الإِجزاء والشرائط ، إلّا أن العرف یتسامحون ـ کما هو دیدنهم ـ ویطلقون تلک الألفاظ على الفاقد للبعض ، تنزیلاً له منزلة الواجد ، فلا یکون مجازاً فی الکلمة ـ على ما ذهب إلیه السکاکی (1) فی الاستعارة ـ بل یمکن دعوى
__________________
1 ـ مفتاح العلوم / 156 ، الفصل الثالث فی الاستعارة.  
 
صیرورته حقیقة فیه ، بعد الاستعمال فیه کذلک دفعة أو دفعات ، من دون حاجة إلى الکثرة والشهرة ، للأنس الحاصل من جهة المشابهة فی الصورة ، أو المشارکة فی التأثیر ، کما فی أسامی المعاجین الموضوعة ابتداءً لخصوص مرکبات واجدة لاجزاء خاصة ، حیث یصحّ إطلاقها على الفاقد لبعض الإِجزاء المشابه له صورة ، والمشارک فی المهمّ أثرا ، تنزیلاً أو حقیقة.
وفیه : إنّه إنّما یتم فی مثل أسامی المعاجین ، وسائر المرکبات الخارجیة مما یکون الموضوع له (1) فیها ابتداءً مرکباً ، خاصاً ، ولا یکاد یتم فی مثل العبادات ، التی عرفت أن الصحیح منها یختلف حسب إختلاف الحالات ، وکون الصحیح بحسب حالة فاسداً (2) بحسب حالة أُخرى ، کما لا یخفى ، فتأمل جیداً.
خامسها : أن یکون حالها حال أسامی المقادیر والأوزان ، مثل المثقال ، والحقة ، والوزنة إلى غیر ذلک ، مما لا شبهة فی کونها حقیقة فی الزائد والناقص فی الجملة ، فإن الواضع وأنّ لاحظ مقداراً خاصاً ، إلّا إنّه لم یضع له بخصوصه ، بل للأعم منه ومن الزائد والناقص ، أو إنّه وأنّ خص به أولاً ، إلّا إنّه بالاستعمال کثیراً فیهما بعنایة إنّهما منه ، قد صار حقیقة فی الأعم ثانیاً.
وفیه : إن الصحیح ـ کما عرفت فی الوجه السابق ـ یختلف زیادة ونقیصة ، فلا یکون هناک ما یلحظ الزائد والناقص بالقیاس علیه ، کی یوضع اللفظ لما هو الأعم ، فتدبرّ جیداً.
ومنها : ان الظاهر أن یکون الوضع والموضوع له ـ فی ألفاظ العبادات ـ عامین ، واحتمال کون الموضوع له خاصاً بعید جداً ، لاستلزامه کون
__________________
1 ـ فی « ب » : الموضوع فیها.
2 ـ فی « أ و ب » : فاسد.  
 
استعمالها فی الجامع ، فی مثل : ( الصلاة تنهى عن الفحشاء ) و ( الصلاة معراج المؤمن ) و [ ( عمود الدین ) ] (1) و ( الصوم جنة من النار ) مجازاً ، أو منع استعمالها فیه فی مثلها ، وکل منهما بعید إلى الغایة ، کما لا یخفى على أولی النهایة.
ومنها : أن ثمرة النزاع إجمال الخطاب على القول (2) الصحیحی ، وعدم جواز الرجوع إلى إطلاقه ، فی رفع ما إذا شک فی جزئیة شیء للمأمور به أو شرطیته أصلاً ، لاحتمال دخوله فی المسمى ، کما لا یخفى ، وجواز الرجوع إلیه فی ذلک على القول الأعمی ، فی غیر ما إحتمل دخوله فیه ، مما شک فی جزئیته أو شرطیته ، نعم لا بدّ فی الرجوع إلیه فیما ذکر من کونه وارداً مورد البیان ، کما لا بدّ منه فی الرجوع إلى سائر المطلقات ، وبدونه لا مرجع أیضاً إلّا البراءة أو الإِشتغال ، على الخلاف فی مسألة دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین.
وقد إنقدح بذلک : إن الرجوع إلى البراءة أو الإِشتغال فی موارد إجمال الخطاب أو إهماله على القولین ، فلا وجه لجعل الثمرة هو الرجوع إلى البراءة على الأعم ، والاشتغال على الصحیح (3) ، ولذا ذهب المشهور إلى البراءة ، مع ذهابهم إلى الصحیح.
وربما قیل (4) بظهور الثمرة فی النذر أیضاً.
قلت : وأنّ کان تظهر فیما لو نذر لمن صلّى إعطاء درهم فی البرء فیما لو أعطاه لمن صلّى ، ولو علم بفساد صلاته ، لاخلاله بما لا یعتبر فی الاسم على الأعم ، وعدم البرء على الصحیح ، إلّا إنّه لیس بثمرة لمثل هذه
__________________
1 ـ أثبتناها من ( ب ).
2 ـ وفی النسخ : القول.
3 ـ القوانین 1 / 40 ، مبحث الصحیح والأعم.
4 ـ القوانین 1 / 43 ، مبحث الصحیح والأعم.
 
المسألة ، لما عرفت من أن ثمرة المسألة الأصولیة ، هی أن تکون نتیجتها واقعة فی طریق استنباط الأحکام الفرعیة ، فافهم.
وکیف کان ، فقد استدل للصحیحی بوجوده :
أحدها : التبادر ، ودعوى أن المنسبق إلى الأذهان منها هو الصحیح ، ولا منافاة بین دعوى ذلک ، وبین کون الألفاظ على هذا القول مجملات ، فإن المنافاة إنّما تکون فیما إذا لم تکن معانیها على هذا مبینة بوجه ، وقد عرفت کونها مبینة بغیر وجه.
ثانیها : صحة السلب عن الفاسد ، بسبب الإِخلال ببعض أجزائه ، أو شرائطه بالمداقة ، وأنّ صحّ الإِطلاق علیه بالعنایة.
ثالثها : الإخبار الظاهرة فی إثبات بعضٍ الخواص والآثار للمسمّیات مثل ( الصلاة عمود الدین ) (1) أو ( معراج المؤمن ) (2) و ( الصوم جنة من النار ) (3) إلى غیر ذلک ، أو نفی ماهیّتها وطبائعها ، مثل ( لا صلاة إلّا بفاتحة الکتاب ) (4) ونحوه ، مما کان ظاهراً فی نفی الحقیقة ، بمجرد فقد ما یعتبر فی الصحة شطراً أو شرطاً ، وإرادةُ خصوص الصحیح من الطائفة الأولى ، ونفی الصحة من الثانیة ؛ لشیوع إستعمال هذا الترکیب فی نفی مثل الصحة أو الکمال خلاف الظاهر ، لا یصار إلیه مع عدم نصب قرینة علیه ، واستعمال هذا الترکیب فی نفی الصفة ممکن المنع ، حتى فی مثل ( لا صلاة لجار المسجد إلّا فی المسجد ) (5) مما یعلم أن المراد نفی الکمال ، بدعوى استعماله
__________________
1 ـ دعائم الاسلام 1 : 133 ، جامع الإخبار / 85 ، الکافی 3 / 99 باب النفساء الحدیث 4 غوالی اللآلی 1 / 322 الحدیث 55.
2 ـ لم نجده فی کتب الحدیث ، ولکن أورده فی جواهر الکلام 7 / 2.
3 ـ الفقیه 2 / 44 باب فضل الصیام ، الحدیث 1 و 5 ، الکافی 4 / 62 باب ما جاء فی فضل الصوم والصائم الحدیث 1.
4 ـ غوالی اللآلی 1 : 196 ، الحدیث 2 وغوالی اللآلی 2 : 218 الحدیث 13.
5 ـ دعائم الاسلام 1 : 148 ، التهذیب 3 : 261 باب 25 فضل المساجد والصلاة فیها ،  
 
فی نفی الحقیقة ، فی مثله أیضاً بنحو من العنایة ، لا على الحقیقة ، وإلاّ لما دلّ على المبالغة ، فافهم (1).
رابعها : دعوى القطع بأن طریقة الواضعین ودیدنهم ، وضع الألفاظ للمرکبات التامة ، کما هو قضیة الحکمة الداعیة إلیه ، والحاجة وأنّ دعت أحیاناً إلى إستعمالها فی الناقص أیضاً ، إلّا إنّه لا یقتضی أن یکون بنحو الحقیقة ، بل ولو کان مسامحة ، تنزیلاً للفاقد منزلة الواجد.
والظاهر أن الشارع غیر متخط عن هذه الطریقة.
ولا یخفى أن هذه الدعوى وأنّ کانت غیر بعیدة ، إلّا إنّها قابلة للمنع ، فتأمل.
وقد إستدل للأعمّی أیضاً ، بوجوه :
منها : تبادر الأعم.
وفیه : إنّه قد عرفت الإِشکال فی تصویر الجامع الذی لا بدّ منه ، فکیف یصحّ معه دعوى التبادر.
ومنها : عدم صحة السلب عن الفاسد.
وفیه منع ، لما عرفت.
ومنها : صحة التقسیم إلى الصحیح والسقیم.
وفیه إنّه إنّما یشهد على إنّها للأعم ، لو لم تکن هناک دلالة على کونها موضوعة للصحیح ، وقد عرفتها ، فلا بدّ أن یکون التقسیم بملاحظة ما یستعمل فیه اللفظ ، ولو بالعنایة.
__________________
الحدیث 55 وسائل الشیعة 3 / 478 الباب 2 من أبواب أحکام المساجد ، الحدیث 1.
1 ـ إشارة إلى أن الإخبار المثبتة للآثار وأنّ کانت ظاهرة فی ذلک ـ لمکان أصالة الحقیقة ، ولازم ذلک کون الموضوع له للاسماء هو الصحیح ، ضرورة اختصاص تلک الآثار به ـ إلّا إنّه لا یثبت بأصالتها کما لا یخفى ، لاجرائها العقلاء فی إثبات المراد ، لا فی إنّه على نحو الحقیقة لا المجاز ، فتأمّل جیداً ، منه 1.
 
ومنها : استعمال الصلاة وغیرها فی غیر واحد من الإخبار فی الفاسدة ، کقوله علیه الصلاة والسلام ( بنی الاسلام على خمس : الصلاة ، والزکاة ، والحج ، والصوم ، والولایة ، ولم یناد أحد بشیء کما نودی بالولایة ، فأخذ الناس بأربع ، وترکوا هذه ، فلو أن أحداً صام نهاره وقام لیله ، ومات بغیر ولایة ، لم یقبل له صوم ولا صلاة ) (1) ، فإن الأخذ بالاربع ، لا یکون بناءً على بطلان عبادات تارکی الولایة ، إلّا إذا کانت أسامی للاعم. وقوله 7 : ( دعی الصلاة أیام أقرائک ) (2) ضرورة إنّه لو لم یکن المراد منها الفاسدة ، لزم عدم صحة النهی عنها ، لعدم قدرة الحائض على الصحیحة منها.
وفیه : أن الاستعمال أعم من الحقیقة ،
مع أن المراد فی الروایة الأولى ، هو خصوص الصحیح بقرینة إنّها مما بنی علیها الإسلام ، ولا ینافی ذلک بطلان عبادة منکری الولایة ، إذ لعل أخذهم بها إنّما کان بحسب اعتقادهم لا حقیقة ، وذلک لا یقتضی استعمالها فی الفاسد أو الأعم ، والاستعمال فی قوله : ( فلو أن أحداً صام نهاره ) [ إلى آخره ] (3) ، کان کذلک ـ أیّ بحسب اعتقادهم ـ أو للمشابهة والمشاکلة.
وفی الروایة الثانیة ، الإِرشاد (4) إلى عدم القدرة على الصلاة ، وإلاّ کان الإِتیان بالأرکان ، وسائر ما یعتبر فی الصلاة ، بل بما یسمى فی العرف بها ،
__________________
1 ـ الکافی 2 / 15 باب 13 دعائم الاسلام ـ الخصال / 277 باب الخمسة ، الحدیث 21 غوالی اللآلی 1 / 82 ، الفصل الخامس ، الحدیث 4.
2 ـ التهذیب 1 / 384 باب 19 الحیض والاستحاضة والنفاس ، الحدیث 6 ـ الکافی 3 / 88 باب جامع فی الحائض والمستحاضة الحدیث 1. غوالی اللآلی 2 / 207 باب الطهارة الحدیث 124.
3 ـ أثبتنا هذه العبارة من « ب ».
4 ـ وفی بعضٍ النسخ المطبوعة ( النهی للإِرشاد ).  
 
ولو أخلّ بما لا یضر الإِخلال به بالتسمیة عرفاً. محرماً على الحائض ذاتاً ، وأنّ لم تقصد به القربة.
ولا أظن أن یلتزم به المستدل بالروایة ، فتأمل جیداً.
ومنها : إنّه لااشکال (1) فی صحة تعلق النذر وشبهه بترک الصلاة فی مکان تکره فیه. وحصول الحنث بفعلها ، ولو کانت الصلاة المنذور ترکها خصوص الصحیحة ، لا یکاد یحصل به الحنث أصلاً ، لفساد الصلاة المأتیّ بها لحرمتها ، کما لا یخفى ، بل یلزم المحال ، فإن النذر حسب الفرض قد تعلق بالصحیح منها ، ولا یکاد یکون معه صحیحة ، وما یلزم من فرض وجوده عدمه محال.
قلت : لا یخفى إنّه لو صحّ ذلک ، لا یقتضی إلّا عدم صحة تعلق النذر بالصحیح ، لا عدم وضع اللفظ له شرعاً ، مع أن الفساد من قبل النذر لا ینافی صحة متعلقة ، فلا یلزم من فرض وجودها عدمها.
ومن هنا إنقدح أن حصول الحنث إنّما یکون لأجل الصحة ، لولا تعلقه ، نعم لو فرض تعلقه بترک الصلاة المطلوبة بالفعل (2) ، لکان منع حصول الحنث بفعلها بمکان من الأمکان.
بقی اُمور :
الأول : إن أسامی المعاملات ، إن کانت موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع فی کونها موضوعة للصحیحة أو للأعم ، لعدم إتصافها بهما ، کما لا یخفى ، بل بالوجود تارةً وبالعدم أُخرى ، وأما إن کانت موضوعة للاسباب ،
__________________
1 ـ فی نسخة « أ » : لا شبهة.
2 ـ ولو مع النذر ، ولکن صحته کذلک مشکل ، لعدم کون الصلاة معه صحیحة مطلوبة ، فتأمل جیداً. منه [ 1].  
 
فللنزاع فیه مجال ، لکنه لا یبعد دعوى کونها موضوعة للصحیحة أیضاً ، وأنّ الموضوع له هو العقد المؤثر لأثر کذا شرعاً وعرفاً. والاختلاف بین الشرع والعرف فیما یعتبر فی تأثیر العقد ، لا یوجب الاختلاف بینهما فی المعنى ، بل الاختلاف فی المحققات والمصادیق ، وتخطئة الشرع العرف فی تخیّل کون العقد بدون ما اعتبره فی تأثیره ، محققاً لما هو المؤثر ، کما لا یخفى فافهم.
الثانی : إن کون ألفاظ المعاملات أسامی للصحیحة ، لا یوجب إجمالها ، کألفاظ العبادات ، کی لا یصحّ التمسک بإطلاقها عند الشک فی اعتبارٍ شیء فی تأثیرها (1) شرعاً ، وذلک لأن إطلاقها ـ لو کان مسوقاً فی مقام البیان ـ ینزّل على أن المؤثر عند الشارع ، هو المؤثر عند أهل العرف ، ولم یعتبر فی تأثیره عنده غیر ما اعتبر فیه عندهم ، کما ینزّل علیه إطلاق کلام غیره ، حیث إنّه منهم ، ولو اعتبر فی تأثیره ما شک فی اعتباره ، کان علیه البیان ونصب القرینة علیه ، وحیث لم ینصب ، بانَ عدم اعتباره عنده أیضاً. ولذا یتمسکون بالإِطلاق فی أبواب المعاملات ، مع ذهابهم إلى کون ألفاظها موضوعة للصحیح.
نعم لو شک فی اعتبارٍ شیء فیها عرفاً ، فلا مجال للتمسک بإطلاقها فی عدم اعتباره ، بل لابد من اعتباره ، لاصالة عدم الأثر بدونه ، فتأمل جیداً.
الثالث : إنّ دخل شیء وجودی أو عدمی فی المأمور به :
تارة : بأن یکون داخلاً فیما یأتلف منه ومن غیره ، وجعل جملته متعلقاً للأمر ، فیکون جزءا له وداخلاً فی قوامه.
وأخرى : بأن یکون خارجاً عنه ، لکنه کان مما لا یحصل الخصوصیة
 

 
المأخوذة فیه بدونه ، کما إذا اُخذ شیء مسبوقاً أو ملحوقاً به أو مقارناً له ، متعلقاً للأمر ، فیکون من مقدماته لا مقوماته.
وثالثة : بأن یکون مما یتشخص به المأمور به ، بحیث یصدق على المتشخص به عنوإنّه ، وربما یحصل له بسببه مزیة أو نقیصة ، ودخل هذا فیه أیضاً ، طوراً بنحو الشطرّیة وآخر بنحو الشرطیّة ، فیکون الإِخلال بما له دخل بأحد النحوین فی حقیقة المأمور به وماهیته ، موجباً لفساده لا محالة ، بخلاف ماله الدخل فی تشخصه وتحققه مطلقاً. شطراً کان أو شرطاً ، حیث لا یکون الإِخلال به إلّا إخلالاً بتلک الخصوصیة ، مع تحقق الماهیة بخصوصیة أُخرى ، غیر موجبة لتلک المزیة ، بل کانت موجبة لنقصإنّها ، کما أشرنا إلیه ، کالصلاة فی الحمام.
ثم إنّه ربما یکون الشیء مما یندب إلیه فیه ، بلا دخل له أصلاً ـ لا شطراً ولا شرطاً ـ فی حقیقته ، ولا فی خصوصیته وتشخصه ، بل له دخل ظرفاً فی مطلوبیّته ، بحیث لا یکون مطلوباً إلّا إذا وقع فی أثنائه ، فیکون مطلوباً نفسیاً فی واجب أو مستحب ، کما إذا کان مطلوباً کذلک ، قبل أحدهما أو بعده ، فلا یکون الإِخلال به موجباً للاخلال به ماهیة ولا تشخصاً وخصوصیة أصلاً.
إذا عرفت هذا کله ، فلا شبهة فی عدم دخل ما ندب إلیه فی العبادات نفسیاً فی التسمیة بأسامیها ، وکذا فیما له دخل فی تشخصها مطلقاً ، وأما ماله الدخل شرطاً فی أصل ماهیتها ، فیمکن الذهاب أیضاً إلى عدم دخله فی التسمیة بها ، مع الذهاب إلى دخل ما له الدخل جزءاً فیها ، فیکون الإِخلال بالجزء مخلاً بها ، دون الإِخلال بالشرط ، لکنک عرفت أن الصحیح اعتبارهما فیها.  
 
الحادی عشر
الحق وقوع الاشتراک ، للنقل والتبادر ، وعدم صحة السلب ، بالنسبة إلى معنیین أو أکثر للفظ واحد. وأنّ أحاله بعضٍ ، لإخلاله بالتفهم المقصود من الوضع لخفاء القرائن ، لمنع الإِخلال أولاً ، لإمکان الاتکال على القرائن الواضحة ، ومنع کونه مخلاً بالحکمة ثانیاً ، لتعلق الغرض بالإِجمال أحیاناً ، کما أن استعمال المشترک فی القرآن لیس بمحال کما توهّم ، لأجل لزوم التطویل بلا طائل ، مع الاتکال على القرائن والإِجمال فی المقال ، لو لا الاتکال علیها. وکلاهما غیر لائق بکلامه تعالى جل شإنّه ، کما لا یخفى ، وذلک لعدم لزوم التطویل ، فیما کان الاتکال على حال أو مقال أتی به لغرض آخر ، ومنع کون الإِجمال غیر لائق بکلامه تعالى ، مع کونه مما یتعلق به الغرض ، وإلاّ لما وقع المشتبه فی کلامه ، وقد أخبر فی کتابه الکریم (1) ، بوقوعه فیه قال الله تعالى ( مِنْهُ آیَاتٌ مُّحْکَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (2).
وربما توهّم وجوب وقوع الاشتراک فی اللغات ، لأجل عدم تناهی المعانی ، وتناهی الألفاظ المرکبات ، فلا بدّ من الاشتراک فیها.
وهو فاسد لوضوح (3) امتناع الاشتراک فی هذه المعانی ، لاستدعائه الأوضاع الغیر المتناهیة ، ولو سلّم لم یکد یجدی إلّا فی مقدار متناه ، مضافاً إلى تناهی المعانی الکلیة ، وجزئیاتها وأنّ کانت غیر متناهیة ، إلّا أن وضع الألفاظ بإزاء کلیاتها ، یغنىً عن وضع لفظ بإزائها ، کما لا یخفى ، مع أن المجاز باب واسع ، فافهم.
__________________
1 ـ لا توجد کلمة « الکریم » فی نسخة ( أ ).
2 ـ آل عمران / 7.
3 ـ فی « ب » : بوضوح.  
 
الثانی عشر
إنّه قد اختلفو فی جواز استعمال اللفظ ، فی أکثر من معنى على سبیل الانفراد والاستقلال ، بأن یراد منه کلّ واحد ، کما إذا لم یستعمل إلّا فیه ، على أقوال (1) :
أظهرها عدم جواز الاستعمال فی الأکثر عقلاً.
وبیإنّه : إن حقیقة الاستعمال لیس مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى ، بل جعله وجهاً وعنواناً له ، بل بوجه نفسه کإنّه الملقى ، ولذا یسری إلیه قبحه وحسنه کما لا یخفى ، ولا یکاد یمکن جعل اللفظ کذلک ، إلّا لمعنى واحد ، ضرورة أن لحاظه هکذا فی إرادة معنى ، ینافی لحاظه کذلک فی إرادة الآخر ، حیث أن لحاظه کذلک ، لا یکاد یکون إلّا بتبع لحاظ المعنى فانیاً فیه ، فناء الوجه فی ذی الوجه ، والعنوان فی المعنون ، ومعه کیف یمکن إرادة معنى آخر معه کذلک فی استعمال واحد ، ومع استلزامه للحاظ آخر غیر لحاظه کذلک فی هذا الحال.
وبالجملة (2) : لا یکاد یمکن فی حال استعمال واحد ، لحاظه وجهاً لمعنیین وفانیاً فی الاثنین ، إلّا أن یکون اللاحظ أحول العینین.
فانقدح بذلک امتناع استعمال اللفظ مطلقاً ـ مفرداً کان أو غیره ـ فی أکثر من معنى بنحو الحقیقة أو المجاز ، ولو لا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه فإن اعتبارٍ الوحدة فی الموضوع له واضح المنع.
وکون (3) الوضع فی حال وحدة المعنى ، وتوقیفیته لا یقتضی عدم
__________________
1 ـ القوانین 1 / 67 ، فی بیان الاشتراک ، معالم الدین فی الأصول / 32.
2 ـ فی « أ » : وفی الجملة.
3 ـ هذا ردّ على المحقق القمی ، القوانین 1 / 67.  
 
الجواز ، بعد ما لم تکن الوحدة قیداً للوضع ، ولا للموضوع له ، کما لا یخفى.
ثم لو تنزلنا عن ذلک ، فلا وجه للتفصیل (1) بالجواز على نحو الحقیقة فی التثنیة والجمع ، وعلى نحو المجاز فی المفرد ، مستدلا على کونه بنحو الحقیقة فیهما ، لکونهما بمنزلة تکرار اللفظ وبنحو المجاز فیه ، لکونه موضوعاً للمعنى بقید الوحدة ، فإذا استعمل فی الأکثر لزم إلغاء قید الوحدة ، فیکون مستعملاً فی جزء المعنى ، بعلاقة الکلّ والجزء ، فیکون مجازاً ، وذلک لوضوح أن الألفاظ لا تکون موضوعة إلّا لنفس المعانی ، بلا ملاحظة قید الوحدة ، وإلاّ لما جاز الاستعمال فی الأکثر ؛ لأن الأکثر لیس جزء المقید بالوحدة ، بل یباینه مباینة الشیء بشرط شیء ، والشیء بشرط لا ، کما لا یخفى.
والتثنیة والجمع وأنّ کانا بمنزلة التکرار فی اللفظ ، إلّا أن الظاهر أن اللفظ فیهما کإنّه کررّ واُرید من کلّ لفظ فرد من أفراد معناه ، لا إنّه أُرید منه معنى من معانیه ، فإذا قیل مثلاً : ( جئنی بعینین ) أُرید فردان من العین الجاریة ، لا العین الجاریة والعین الباکیة ، والتثنیة والجمع فی الأعلام ، إنّما هو بتأویل المفرد إلى المسمى بها ، مع إنّه لو قیل بعدم التأویل ، وکفایة الاتحاد فی اللفظ ، فی استعمالهما حقیقة ، بحیث جاز إرادة عین جاریة وعین باکیة من تثنیِة العین حقیقة ، لما کان هذا من باب استعمال اللفظ فی الأکثر ، لأن هیئتهما إنّما تدلّ على إرادة المتعدد مما یراد من مفردهما ، فیکون استعمالهما وإرادة المتعدد من معانیه ، استعِمالهما فی معنى واحد ، کما إذا استعملا وأرید المتعدد من معنى واحد منهما ، کما لا یخفى.
نعم لو أُرید مثلاً من عینین ، فردان من الجاریة ، وفردان من الباکیة ، کان من استعمال العینین فی المعنیین ، إلّا أن حدیث التکرار لا یکاد یجدی فی ذلک أصلاً ، فإن فیه إلغاء قید الوحدة المعتبرة أیضاً ، ضرورة أن التثنیة
__________________
1 ـ المفصَّل هو صاحب المعالم ، معالم الدین / 32.   

 
عنده إنّما یکون لمعنیین ، أو لفردین بقید الوحدة ، والفرق بینهما وبین المفرد إنّما یکون فی إنّه موضوع للطبیعة ، وهی موضوعة لفردین منها أو معنیین ، کما هو أوضح من أن یخفى.
وهم ودفع :
لعلک تتوهم أن الإخبار الدالّة على أن للقرآن بطوناً ـ سبعة أو سبعین ـ تدلّ على وقوع استعمال اللفظ فی أکثر من معنى واحد ، فضلاً عن جوازه ، ولکنک غفلت عن إنّه لا دلالة لها أصلاً على أن إرادتها کان من باب إرادة المعنى من اللفظ ، فلعله کان بارادتها فی أنفسها حال الاستعمال فی المعنى ، لا من اللفظ ، کما إذا استعمل فیها ، أو کان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فیه اللفظ ، وأنّ کان أفهامنا قاصرة عن إدراکها.
الثالث عشر
إنّه اختلفوا فی أن المشتق حقیقة فی خصوص ما تلبس بالمبدأ فی الحال ، أو فیما یعمه وما انقضى عنه على أقوال ، بعد الاتفاق على کونه مجازاً فیما یتلبس به فی الاستقبال ، وقبل الخوض فی المسألة ، وتفصیل الأقوال فیها ، وبیان الاستدلال علیها ، ینبغی تقدیم أمور :
أحدها : إن المراد بالمشتق هاهنا لیس مطلق المشتقات ، بل خصوص ما یجری منها على الذوات ، مما یکون مفهمومه منتزعا عن الذات ، بملاحظة اتصافها بالمبدأ ، واتحادها معه بنحو من الاتحاد ، کان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور والإیجاد (1) ، کأسماء الفاعلین والمفعولین والصفات المشبهات ، بل وصیغ المبالغة ، وأسماء الازمنة والأمکنة والآلات ، کما هو ظاهر العنوانات ، وصریح بعضٍ المحققین ، مع عدم صلاحیة ما یوجب
__________________
1 ـ وفی بعضٍ النسخ المطبوعة : أو الإیجاد.  
 
اختصاص النزاع بالبعض إلّا التمثیل به ، وهو غیر صالح ، کما هو واضح.
فلا وجه لما زعمه بعضٍ الأجلّة (1) ، من الاختصاص باسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبهة وما یلحق بها ، وخروج سائر الصفات ، ولعل منشأه توهّم کون ما ذکره لکلّ منها من المعنى ، مما اتفق علیه الکلّ ، وهو کما ترى ، واختلاف انحاء التلبسات حسب تفاوت مبادىء المشتقات ، بحسب الفعلیة والشأنیة والصناعة والملکة ـ حسبما نشیر إلیه (2) ـ لا یوجب تفاوتاً فی المهمّ من محلّ النزاع ها هنا ، کما لا یخفى.
ثم إنّه لا یبعد أن یراد بالمشتق فی محلّ النزاع ، مطلق ما کان مفهومه ومعناه جاریاً على الذات ومنتزعاً عنها ، بملاحظة اتصافها بعرض أو عرضی ولو کان جامدا ، کالزوج والزوجة والرق والحّر.
وإن (3) أبیت إلّا عن اختصاص النزاع المعروف بالمشتق ، کما هو قضیة الجمود على ظاهر لفظه ، فهذا القسم من الجوامد أیضاً محلّ النزاع.کما یشهد به ما عن الأیضاًح (4) فی باب الرضاع ، فی مسألة من کانت له زوجتان کبیرتان ، أرضعتا زوجته الصغیرة ، ما هذا لفظه : « تحرم المرضعة الأولى والصغیرة مع الدخول ب [ إحدى ] (5) الکبیرتین [ بالإِجماع ] وأما المرضعة الأخرى (6) ففی تحریمها خلاف ، فاختار والدی المصنّف ; (7) وابن ادریس تحریمها لأن هذه یصدق علیها [ إنّها ] اُم زوجته ، لإنّه لا یشترط فی [ صدق ] المشتق بقاء [ المعنى ] المشتق منه فکذا (8)
__________________
1 ـ صاحب الفصول ، الفصول / 60 ، فی المشتق.
2 ـ إشارة إلى ما سیأتی من تفصیل الکلام فی الأمر الرابع صفحة : 43.
3 ـ فی « ب » : فإن أبیت.
4 ـ أیضاًح الفوائد 3 : 52 ، أحکام الرضاع.
5 ـ وردت الزیارات فی المصدر.
6 ـ فی الأیضاًح ( الأخیرة ) ، وفی النسخ ( الآخرة ).
7 ـ لم یوجد فی الأیضاًح.
8 ـ هکذا فی المصدر وفی النسخ ( هکذا هاهنا ).  
 
هنا ) (1). وما عن المسالک (2) فی هذه المسألة ، من ابتناء الحکم فیها على الخلاف فی مسألة المشتق.
فعلیه کلّ ما کان مفهومه منتزعاً من الذات ، بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتیات ـ کانت عرضاً أو عرضیا ـ کالزوجیة والرّقیّة والحریة وغیرها من الاعتبارات والإضافات ، کان محلّ النزاع وأنّ کان جامداً ، وهذا بخلاف ما کان مفهومه منتزعاً عن مقام الذات والذاتیات ، فإنّه لا نزاع فی کونه حقیقة فی خصوص ما إذا کانت الذات باقیة بذاتیاتها.
ثانیها : قد عرفت إنّه لا وجه لتخصیص النزاع ببعض المشتقات الجاریة على الذوات ، إلّا إنّه ربما یشکل بعدم إمکان جریإنّه فی اسم الزمان ، لأن الذات فیه وهی الزمان بنفسه ینقضی وینصرم ، فکیف یمکن أن یقع النزاع فی أن الوصف الجاری علیه حقیقة فی خصوص المتلبس بالمبدأ فی الحال ، أو فیما یعم المتلبس به فی المضی؟
ویمکن حل الإِشکال بأن انحصار مفهوم عام بفرد ـ کما فی المقام ـ لا یوجب أن یکون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام ، وإلاّ لما وقع الخلاف فیما وضع له لفظ الجلالة ، مع أن الواجب موضوع للمفهوم العام ، مع انحصاره فیه تبارک وتعالى.
ثالثها : إنّه من الواضح خروج الأفعال والمصادر المزید فیها عن حریم النزاع ؛ لکونها غیر جاریة على الذوات ، ضرورة أن المصادر المزید فیها کالمجردة ، فی الدلالة على ما یتصف به الذوات ویقوم بها کما لا یخفى وأنّ الأفعال إنّما تدلّ على قیام للمبادئ بها قیام صدور أو حلول أو طلب فعلها أو ترکها منها ، على اختلافها.
إزاحة شبهة :
قد اشتهر فی ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان ، حتى أخذوا
__________________
1 ـ أیضاًح الفوائد 52:3 ، أحکام الرضاع.
2 ـ المالک 1 / 475، کتاب النکاح.
 
الاقتران بها فی تعریفه. وهو اشتباه ، ضرورة عدم دلالة الأمر ولا النهی علیه ، بل على إنشاءً طلب الفعل أو الترک ، غایة الأمر نفس الإِنشاء بهما فی الحال ، کما هو الحال فی الإخبار بالماضی أو المستقبل أو بغیرهما ، کما لا یخفى ، بل یمکن منع دلالة غیرهما من الأفعال على الزمان إلّا بالإِطلاق والإِسناد إلى الزمانیات ، وإلاّ لزم القول بالمجاز والتجرید ، عند الإِسناد إلى غیرها من نفس الزمان والمجردات.
نعم لا یبعد أن یکون لکلّ من الماضی والمضارع ـ بحسب المعنى ـ خصوصیة أُخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة ، فی الزمان الماضی فی الماضی ، وفی الحال أو الاستقبال فی المضارع ، فیما کان الفاعل من الزمانیات ، ویؤیده أن المضارع یکون مشترکا معنویاً بین الحال والاستقبال ، ولا معنى له إلّا أن یکون له خصوص معنى صحّ انطباقه على کلّ منهما ، إلّا إنّه یدلّ على مفهوم زمان یعمهما ، کما أن الجملة الاسمیة ک‍ ( زید ضارب ) یکون لها معنى صحّ انطباقه على کلّ واحد من الأزمنة ، مع عدم دلالتها على واحد منها أصلاً ، فکانت الجملة الفعلیة مثلها.
وربما یؤید ذلک أن الزمان الماضی فی فعله ، وزمان الحال أو الاستقبال فی المضارع ، لا یکون ماضیاً أو مستقبلاً حقیقة لا محالة ، بل ربما یکون فی الماضی مستقبلاً حقیقة ، وفی المضارع ماضیاً کذلک ، وإنما یکون ماضیاً أو مستقبلاً فی فعلهما بالإضافة ، کما یظهر من مثل قوله : یجیئنی زید بعد عام ، وقد ضرب قبله بأیّام ، وقوله : ( جاء زید فی شهر کذا ، وهو یضرب فی ذلک الوقت ، أو فیما بعده مما مضى ) ، فتأمل جیداً.
ثم لا باس بصرف عنان الکلام إلى بیان ما به یمتاز الحرف عما عداه ، بما یناسب المقام ؛ لأجل الاطراد فی الاستطراد فی تمام الأقسام.
فاعلم إنّه وأنّ اشتهر بین الأعلام ، أن الحرف ما دلّ على معنى فی