کفایة الاصول - قسمت سوم
القضاء بطریق أولى ، نعم لو دلّ دلیله على أن سببه فوت الواقع ، ولو لم یکن هو فریضة ، کان القضاء واجباً علیه ، لتحقق سببه ، وأنّ أتى بالفرض لکنه مجرد الفرض.
المقام الثّانی : فی إجزاء الإِتیان بالمأمور به بالأمر الظاهری وعدمه.
والتحقیق : أن ما کان منه یجری فی تنقیح ما هو موضوع التکلیف وتحقیق متعلقه ، وکان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره ، کقاعدة الطهارة أو الحلیة ، بل واستصحابهما فی وجه قوی ، ونحوها بالنسبة إلى کلّ ما اشترط بالطهارة أو الحلیة یجری ، فإن دلیله یکون حاکماً على دلیل الاشتراط ، ومبیّناً لدائرة الشرط ، وإنّه أعم من الطهارة الواقعیة والظاهریة ، فانکشاف الخلاف فیه لا یکون موجباً لانکشاف فقدان العمل لشرطه ، بل بالنسبة إلیه یکون من قبیل ارتفاعه من حین ارتفاع الجهل ، وهذا بخلاف ما کان منها بلسان إنّه ما هو الشرط واقعاً ، کما هو لسان الأمارات ، فلا یجزئ ، فإن دلیل حجیته حیث کان بلسان إنّه واجد لما هو شرطه الواقعی ، فبارتفاع الجهل ینکشف إنّه لم یکن کذلک ، بل کان لشرطه فاقداً (1). هذا على ما هو الأظهر الأقوى فی الطرق والامارات ، من أن حجیتها لیست بنحو السببیة.
وأما بناءً علیها ، وأنّ العمل بسبب أداءً أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره ، یصیر حقیقة صحیحاً کإنّه واجد له ، مع کونه فاقده ، فیجزئ لو کان الفاقد معه ـ فی هذا الحال ـ کالواجد فی کونه وافیاً بتمام الغرض ، ولا یجزئ لو لم یکن کذلک ، ویجب الإِتیان بالواجد لاستیفاء الباقی ـ إن وجب ـ وإلاّ لاستحب. هذا مع إمکان استیفائه ، وإلاّ فلا مجال لاتیإنّه ، کما عرفت فی الأمر الاضطراری.
__________________
1 ـ فی « أ و ب » : فاقد.
ولا یخفى أن قضیة إطلاق دلیل الحجیة ـ على هذا ـ هو الاجتزاء بموافقته أیضاً ، هذا فیما إذا أحرز أن الحجیة بنحو الکشف والطریقیة ، أیّ بنحو الموضوعیة والسببیة.
وأما إذا شک [ فیها ] (1) ولم یحرز إنّها على أیّ الوجهین ، فأصالة عدم الإِتیان بما یسقط معه التکلیف مقتضیة للاعادة فی الوقت ، واستصحاب عدم کون التکلیف بالواقع فعلّیاً فی الوقت لا یجدی ، ولا یثبت کون ما أتى به مسقطاً ، إلّا على القول بالأصل المثبت ، وقد علم اشتغال ذمته بما یشک فی فراغها عنه بذلک المأتی.
وهذا بخلاف ما إذا علم إنّه مأمور به واقعاً ، وشک فی إنّه یجزئ عما هو المأمور به الواقعی الأولی ، کما فی الأوامر الاضطراریة أو الظاهریة ، بناءً على أن یکون الحجیة على نحو السببیة ، فقضیة الأصل فیها ـ کما أشرنا إلیه ـ عدم وجوب الإِعادة ، للاتیان بما اشتغلت به الذمة یقیناً ، وأصالة عدم فعلیة التکلیف الواقعی بعد رفع الاضطرار وکشف الخلاف.
وأما القضاء فلا یجب بناءً على إنّه فرض جدید ، وکان الفوت المعلّق علیه وجوب لا یثبت بأصالة عدم الإِتیان ، إلّا على القول بالأصل المثبت ، وإلاّ فهو واجب ، کما لا یخفى على المتأمل ، فتأمل جیداً.
ثم إن هذا کله فیما یجری فی متعلق التکالیف ، من الأمارات الشرعیة و الأصول العملیة.
وأما ما یجری فی إثبات أصل التکلیف ، کما إذا قام الطریق أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة یومها فی زمان الغیبة ، فانکشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر فی زمإنّها ، فلا وجه لاجزائها مطلقاً ، غایة الأمر أن تصیر صلاة الجمعة فیها ـ أیضاً ـ ذات مصلحة لذلک ، ولا ینافی هذا بقاء صلاة الظهر على ما هی علیه من المصلحة ، کما لا یخفى ، إلّا أن یقوم دلیل بالخصوص على عدم وجوب صلاتین فی یوم واحد.
__________________
1 ـ أثبتناها من « أ ».
تذنیبان :
الأول : لا ینبغی توهّم الإِجزاء فی القطع بالأمر فی صورة الخطأ ، فإنّه لا یکون موافقة للأمر فیها ، وبقی الأمر بلا موافقة أصلاً ، وهو أوضح من أن یخفى ، نعم ربما یکون ما قطع بکونه مأموراً به مشتملاً على المصلحة فی هذا الحال ، أو على مقدار منها ، ولو فی غیر الحال ، غیر ممکن مع استیفائه استیفاء الباقی منها ، ومعه لا یبقى مجال لامتثال الأمر الواقعی ، وهکذا الحال فی الطرق ، فالإجزاء لیس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعی أو الطریقی للإِجزاء ـ بل إنّما هو لخصوصیة اتفاقیة فی متعلقهما ، کما فی الإتمام والقصر ، والإِخفات والجهر.
الثانی : لا یذهب علیک أن الإِجزاء فی بعضٍ موارد الأصول والطرق والامارات ، على ما عرفت تفصیله ، لا یوجب التصویب المجمع على بطلإنّه فی تلک الموارد ، فإن الحکم الواقعی بمرتبته محفوظ فیها ، فإن الحکم المشترک بین العالم والجاهل والملتفت والغافل ، لیس إلّا الحکم الإنشائی المدلول علیه بالخطابات المشتملة على بیان الأحکام للموضوعاًت بعناوینها الأولیة ، بحسب ما یکون فیها من المقتضیات ، وهو ثابت فی تلک الموارد کسائر موارد الأمارات ، وإنما المنفی فیها لیس إلّا الحکم الفعلّی البعثی ، وهو منفی فی غیر موارد الإصابة ، وأنّ لم نقل بالإجزاء ، فلا فرق بین الإِجزاء وعدمه ، إلّا فی سقوط التکلیف بالواقع بموافقة الأمر الظاهری ، وعدم سقوطه بعد انکشاف عدم الإصابة ، وسقوط التکلیف بحصول غرضه ، أو لعدم إمکان تحصیله غیر التصویب المجمع على بطلإنّه ، وهو خلو الواقعة عن الحکم غیر ما أدت إلیه الامارة ، کیف؟ وکان الجهل بها ـ بخصوصیتها أو بحکمها ـ مأخوذاً فی موضوعها ، فلا بد من أن یکون الحکم الواقعی بمرتبته محفوظاً فیها ، کما لا یخفى.
فصل
فی مقدّمة الواجب
وقبل الخوض فی المقصود ، ینبغی رسم أمور :
الأول : الظاهر أن المهم المبحوث عنه فی هذه المسألة ، البحث عن الملازمة بین وجوب الشیء ووجوب مقدمته ، فتکون مسألة أُصولیة ، لا عن نفس وجوبها ، کما هو المتوهم من بعضٍ العناوین (1) ، کی تکون فرعیة ، وذلک لوضوح أن البحث کذلک لا یناسب الأُصولی ، والاستطراد لا وجه له ، بعد إمکان أن یکون البحث على وجه تکون عن المسائل الأصولیة.
ثم الظاهر أیضاً أن المسألة عقلیة ، والکلام فی استقلال العقل بالملازمة وعدمه ، لا لفظیة کما ربما یظهر من صاحب المعالم (2) ، حیث استدل على النفی بانتفاء الدلالات الثلاث ، مضافاً إلى إنّه ذکرها فی مباحث الألفاظ ، ضرورة (3) إنّه إذا کان نفس الملازمة بین وجوب الشیء ووجوب مقدمته ثبوتاً محلّ الإِشکال ، فلا مجال لتحریر النزاع فی الإِثبات والدلالة علیها بإحدى الدلالات الثلاث ، کما لا یخفى.
الأمر الثّانی : إنّه ربما تقسم المقدمة إلى تقسیمات :
منها : تقسیمها إلى [ ال ] داخلیة وهی الإِجزاء المأخوذة فی الماهیة المأمور بها ، والخارجیة وهی الأمور الخارجة عن ماهیته مما لا یکاد یوجد بدونه.
__________________
1 ـ کما فی حاشیة القزوینی (ره) على القوانین.
وربما یتوهم من عنوان البدائع ، البدائع / 296 عند قوله أحدهما ... فی آخر الصفحة.
2 ـ معالم الدین فی الأصول / 61 ، فی مقدّمة الواجب.
3 ـ اشارة إلى ما اورده صاحب التقریرات على صاحب المعالم مطارح الأنظار / 37 ، فی مقدّمة الواجب.
وربما یشکل (1) فی کون الإِجزاء مقدّمة له وسابقة علیه ، بأن المرکب لیس إلّا نفس الأجزاء بأسرها.
والحل : إن المقدمة هی نفس الإِجزاء بالأسر ، وذو المقدمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع ، فیحصل المغایرة بینهما.
وبذلک ظهر إنّه لابد فی اعتبارٍ الجزئیة أخذ الشیء بلا شرط ، کما لابد فی اعتبارٍ الکلیة من اعتبارٍ اشتراط الاجتماع.
وکون الإِجزاء الخارجیة کالهیولى والصورة ، هی الماهیة المأخوذة بشرط لا ینافی ذلک ، فإنّه إنّما یکون فی مقام الفرق بین نفس الإِجزاء الخارجیة والتحلیلیة ، من الجنس والفصل ، وأنّ الماهیة إذا أخذت بشرط لا تکون هیولى أو صورة ، وإذا أخذت لا بشرط تکون جنساً أو فصلاً ، لا بالإضافة إلى المرکب ، فافهم.
ثم لا یخفى إنّه ینبغی خروج الأجزاء عن محلّ النزاع ، کما صرح به بعضٍ (2) وذلک لما عرفت من کون الإِجزاء بالأسر عین المأمور به ذاتاً ، وإنما کانت المغایرة بینهما اعتباراً ، فتکون واجبة بعین وجوبه ، ومبعوثاً إلیها بنفس الأمر الباعث إلیه ، فلا تکاد تکون واجبة بوجوب آخر ، لامتناع اجتماع المثلین ، ولو قیل بکفایة تعدَّد الجهة ، وجواز اجتماع الأمر والنهی معه ، لعدم تعددها ها هنا ، لأن الواجب بالوجوب الغیری ، لو کان إنّما هو نفس الإِجزاء ، لا عنوان مقدمیتها والتوسل بها إلى المرکب المأمور به ؛ ضرورة أن الواجب بهذا الوجوب ما کان بالحمل الشائع مقدّمة ، لإنّه المتوقف علیه ، لا عنوإنّها ، نعم یکون هذا العنوان علّة لترشح الوجوب على المعنون.
__________________
1 ـ هو المحقق صاحب حاشیة المعالم. هدایة المسترشدین/ 216.
2 ـ وهو سلطان العلماء کما فی بدائع الأفکار / 299.
فانقدح بذلک فساد توهّم اتصاف کلّ جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسی والغیری ، باعتبارین ، فباعتبار کونه فی ضمن الکلّ واجب نفسی ، وباعتبار کونه مما یتوسل به إلى الکلّ واجب غیری ، اللهم إلّا أن یرید أن فیه ملاک الوجوبین ، وأنّ کان واجباً بوجوب واحد نفسی لسبقه ، فتأمل (1). هذا کله فی المقدمة الداخلیة.
وأما المقدمة الخارجیة ، فهی ما کان خارجاً عن المأمور به ، وکان له دخل فی تحققه ، لا یکاد یتحقق بدونه ، وقد ذکر لها أقسام ، وأطیلَ الکلامُ فی تحدیدها بالنقض والأبرام ، إلّا إنّه غیر مهم فی المقام.
ومنها : تقسیمها إلى العقلیة والشرعیة والعادیة :
فالعقلیة هی (2) ما استحیل واقعاً وجود ذی المقدمة بدونه.
والشرعیة على ما قیل : ما استحیل وجوده بدونه شرعاً ، ولکنه لا یخفى رجوع الشرعیة إلى العقلیة ، ضرورة إنّه لا یکاد یکون مستحیلاً ذلک شرعاً ، إلّا إذا أخذ فیه شرطاً وقیدا ، واستحالة المشروط والمقید بدون شرطه وقیده ، یکون عقلّیاً.
وأما العادیة ، فإن کانت بمعنى أن یکون التوقف علیها بحسب العادة ، بحیث یمکن تحقق ذیها بدونها ، إلّا أن العادة جرت على الإِتیان به بواسطتها ، فهی وأنّ کانت غیر راجعة إلى العقلیة ، إلّا إنّه لا ینبغی توهّم دخولها فی محلّ النزاع.
__________________
1 ـ وجهه : إنّه لا یکون فیه أیضاً ملاک الوجوب الغیری ، حیث إنّه لا وجود له غیر وجوده فی ضمن الکلّ یتوقف على وجوده ، وبدونه لا وجه لکونه مقدّمة ، کی یجب بوجوبه أصلاً ، کما لا یخفى. وبالجملة : لا یکاد یجدی تعدَّد الاعتبار الموجب للمغایرة بین الإِجزاء والکل فی هذا الباب ، وحصول ملاک وجوب الغیری المترشح من وجوب ذی المقدمة علیها ، لو قیل بوجوبها ، فافهم ( منه 1 ).
2 ـ فی « أ و ب » فهی.
وإن کانت بمعنى أن التوقف علیها وأنّ کان فعلاً واقعیاً ، کنصب السلم ونحوه للصعود على السطح ، إلّا إنّه لأجل عدم التمکن من الطیران الممکن عقلاً فهی أیضاً راجعة إلى العقلیة ، ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلاً لغیر الطائر فعلاً ، وأنّ کان طیرإنّه ممکناً ذاتاً ، فافهم.
ومنها : تقسیمها إلى مقدّمة الوجود ، ومقدمة الصحة ، ومقدمة الوجوب ، ومقدمة العلم.
لا یخفى رجوع مقدّمة الصحة إلى مقدّمة الوجود ، ولو على القول بکون الاسامی موضوعة للأعم ، ضرورة أن الکلام فی مقدّمة الواجب ، لا فی مقدّمة المسمى بأحدها ، کما لا یخفى.
ولا إشکال فی خروج مقدّمة الوجوب عن محلّ النزاع ، وبداهة عدم اتصافها بالوجوب من قبل الوجوب المشروط بها ، وکذلک المقدمة العلمیة ، وأنّ استقل العقل بوجوبها ، إلّا إنّه من باب وجوب الإطاعة إرشاداً لیؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجز ، لا مولویاً من باب الملازمة ، وترشح الوجوب علیها من قبل وجوب ذی المقدمة.
ومنها : تقسیمها إلى المتقدم ، والمقارن ، والمتأخر ، بحسب الوجود بالإضافة إلى ذی المقدمة.
وحیث إنّها کانت من أجزاء العلة ، ولابدّ من تقدمها بجمیع أجزائها على المعلول أشکل الأمر فی المقدمة المتأخرة ، کالأغسال اللیلیة المعتبرة فی صحة صوم المستحاضة عند بعضٍ ، والاجازة فی صحة العقد على الکشف کذلک ، بل فی الشرط أو المقتضی المتقدم على المشروط زماناً المتصرم حینه ، کالعقد فی الوصیة والصرف والسلم ، بل فی کلّ عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه ، لتصرمها حین تأثیره ، مع ضرورة اعتبارٍ مقارنتها معه زماناً ، فلیس إشکال انخرام القاعدة العقلیة مختصاً بالشرط المتأخر فی
الشرعیات ـ کما اشتهر فی الألسنة ـ بل یعم الشرط والمقتضی المتقدّمین المتصرَّمین حین الاثر.
والتحقیق فی رفع هذا الإِشکال أن یقال : إن الموارد التی توهّم انخرام القاعدة فیها ، لا تخلو امّا یکون المتقدم أو المتأخر شرطاً للتکلیف ، أو الوضع ، أو المأمور به.
أما الأوّل : فکون أحدهما شرطاً له ، لیس إلّا أن للحاظه دخلاً فی تکلیف الأمر ، کالشرط المقارن بعینه ، فکما أن اشتراطه بما یقارنه لیس إلّا أن لتصوره دخلاً فی أمره ، بحیث لولاه لما کاد یحصل له الداعی إلى الأمر ، کذلک المتقدم أو المتأخر.
وبالجملة : حیث کان الأمر من الأفعال الاختیاریة ، کان من مبادئه بما هو کذلک تصور الشیء بأطرافه ، لیرغب فی طلبه والأمر به ، بحیث لولاه لما رغب فیه ولما أراده واختاره ، فیسمى کلّ واحد من هذه الأطراف التی لتصورها دخل فی حصول الرغبة فیه وإرادته شرطاً ، لأجل دخل لحاظه فی حصوله ، کان مقارناً له أو لم یکن کذلک ، متقدما أو متأخراً ، فکما فی المقارن یکون لحاظه فی الحقیقة شرطاً ، کان فیهما کذلک ، فلا إشکال ، وکذا الحال فی شرائط الوضع مطلقاً ولو کان مقارناً ، فإن دخل شیء فی الحکم به وصحة انتزاعه لدى الحاکم به ، لیس إلّا ما کان بلحاظه یصحّ انتزاعه ، وبدونه لا یکاد یصحّ اختراعه عنده ، فیکون دخل کلّ من المقارن وغیره بتصوره ولحاظه وهو مقارن ، فأین انخرام القاعدة العقلیة فی غیر المقارن؟ فتأمل تعرف.
وأما الثّانی : فکون شیء شرطاً للمأمور به لیس إلّا ما یحصل لذات المأمور به بالإضافة إلیه وجه وعنوان ، به یکون حسناً أو متعلقاً للغرض ، بحیث لولاها لما کان کذلک ، واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الاضافات ، مما لا شبهة فیه ولا شک یعتریه ، والاضافة کما تکون إلى المقارن تکون إلى المتأخر أو المتقدم بلا تفاوت أصلاً ، کما لا یخفى على المتأمل ، فکما تکون إضافة شیء إلى مقارن له موجباً لکونه
معنونا بعنوان ، یکون بذلک العنوان حسناً و متعلقاً للغرض ، کذلک إضافته إلى متأخَّر أو متقدم ، بداهة أن الاضافة إلى أحدهما ربما توجب ذلک أیضاً ، فلو لا حدوث المتأخر فی محله ، لما کانت للمتقدم تلک الاضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه والأمر به ، کما هو الحال فی المقارن أیضاً ، ولذلک أطلق علیه الشرط مثله ، بلا انخرام للقاعدة أصلاً ، لأن المتقدم أو المتأخر کالمقارن لیس إلّا طرف الاضافة الموجبة للخصوصیة الموجبة للحسن ، وقد حقق فی محله إنّه بالوجوه والاعتبارات ، ومن الواضح إنّها تکون بالإضافات.
فمنشأ توهّم الانخرام إطلاق الشرط على المتأخر ، وقد عرفت أن إطلاقه علیه فیه ، کإطلاقه على المقارن ، إنّما یکون لأجل کونه طرفا للاضافة الموجبة للوجه ، الذی یکون بذاک الوجه مرغوباً ومطلوباً ، کما کان فی الحکم لأجل دخل تصوره فیه ، کدخل تصور سائر الأطراف والحدود ، التی لو لا لحاظها لما حصل له الرغبة فی التکلیف ، أو لما صحّ عنده الوضع.
وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال فی دفع هذا الإِشکال ، فی بعضٍ فوائدنا (1) ، ولم یسبقنی إلیه أحد فیما أعلم ، فافهم واغتنم.
ولا یخفى إنّها بجمیع أقسامها داخلة فی محلّ النزاع ، وبناء على الملازمة یتصف اللاحق بالوجوب کالمقارن والسابق ، إذ بدونه لا تکاد تحصل الموافقة ، ویکون سقوط الأمر بإتیان المشروط به مراعى بإتیإنّه ، فلولا اغتسالها فی اللیل ـ على القول بالاشتراط ـ لما صحّ الصوم فی الیوم.
الأمر الثالث : فی تقسیمات الواجب
منها : تقسیمه إلى المطلق والمشروط.
__________________
1 ـ تعلیقة المصنف على فرائد الأصول ، کتاب الفوائد / 302 ، فائدة فی تقدم الشرط على المشروط.
وقد ذکر لکلّ منهما تعریفات وحدود ، تختلف بحسب ما أخذ فیها من القیود.
وربما أطیل الکلام بالنقض والأبرام (1) فی النقض على الطرد والعکس ، مع إنّها ـ کما لا یخفى ـ تعریفات لفظیة لشرح الاسم ، ولیست بالحد ولا بالرسم.
والظاهر إنّه لیس لهم اصطلاح جدید فی لفظ المطلق والمشروط ، بل یطلق کلّ منهما بماله من معناه العرفی ، کما أن الظاهر أن وصفی الإِطلاق والاشتراط ، وصفان إضافیان لا حقیقیان ، وإلاّ لم یکد یوجد واجب مطلق ، ضرورة اشتراط وجوب کلّ واجب ببعض الأمور ، لا أقل من الشرائط العامة ، کالبلوغ والعقل.
فالحری أن یقال : إن الواجب مع کلّ شیء یلاحظ معه ، إن کان وجوبه غیر مشروط به ، فهو مطلق بالإضافة إلیه ، وإلاّ فمشروط کذلک ، وأنّ کانا بالقیاس إلى شیء آخر کانا بالعکس.
ثم الظاهر أن الواجب المشروط کما أشرنا إلیه ، أن نفس الوجوب فیه مشروط بالشرط ، بحیث لا وجوب حقیقة ، ولا طلب واقعاً قبل حصول الشرط ، کما هو ظاهر الخطاب التعلیقی ، ضرورة أن ظاهر خطاب ( إن جاءک زید فأکرمه ) کون الشرط من قیود الهیئة ، وأنّ طلب الإکرام وإیجابه معلق على المجیء ، لا أن الواجب فیه یکون مقیداً به ، بحیث یکون الطلب والإِیجاب فی الخطاب فعلّیاً ومطلقاً ، وإنما الواجب یکون خاصاً ومقیدا ، وهو الإکرام على تقدیر المجیء ، فیکون الشرط من قیود المادة لا الهیئة ، کما نسب ذلک إلى شیخنا العلامة (2) أعلى الله مقامه ، مدعیاً لامتناع کون الشرط من قیود الهیئة
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 43 ، الفصول / 79 ، هدایة المسترشدین / 192 ، قوانین الأصول 1 / 100 ، البدائع / 304.
2 ـ مطارح الأنظار / 45 ـ 46 و 52 ، فی مقدّمة الواجب.
هو الشیخ مرتضى بن محمد امین الدزفولی الانصاری النجفی ، ولد فی دزفول 1214 ، قرأ أوائل أمره على عمه الشیخ حسین ثم خرج مع والده إلى زیارة مشاهد العراق وهو فی العشرین من عمره ، بقی فی کربلاء آخذا عن الاستاذین السید محمد مجاهد وشریف العلماء أربع
واقعا ، ولزوم کونه من قیود المادة لبّاً ، مع الاعتراف بأن قضیة القواعد العربیة إنّه من قیود الهیئة ظاهراً.
أما امتناع کونه من قیود الهیئة ، فلإنّه لا إطلاق فی الفرد الموجود من الطلب المتعلق بالفعل المنشأ بالهیئة ، حتى یصحّ القول بتقییده بشرط ونحوه ، فکل ما یحتمل رجوعه إلى الطلب الذی یدلّ علیه الهیئة ، فهو عند التحقیق راجع إلى نفس المادة.
وأما لزوم کونه من قیود المادة لبّاً ، فلان العاقل إذا توجه إلى شیء والتفت إلیه ، فإما أن یتعلق طلبه به ، أو لا یتعلق به طلبه أصلاً ، لا کلام على الثانی.
وعلى الأوّل : فإما أن یکون ذاک الشیء مورداً لطلبه وأمره مطلقاً على اختلاف طوارئه ، أو على تقدیر خاص ، وذلک التقدیر ، تارةً یکون من الأمور الاختیاریة ، وأخرى لا یکون کذلک ، وما کان من الأمور الاختیاریة ، قد یکون مأخوذاً فیه على نحو یکون مورداً للتکلیف ، وقد لا یکون کذلک ، على اختلاف الاغراض الداعیة إلى طلبه والأمر به ، من غیر فرق فی ذلک بین القول بتبعیة الأحکام للمصالح والمفاسد ، والقول بعدم التبعیة ، کما لا یخفى. هذا موافق لما أفاده بعضٍ الأفاضل (1) المقرر لبحثه بأدنى تفاوت.
__________________
سنوات ، ثم عاد إلى وطنه ، ثم رجع إلى العراق واخذ من الشیخ موسى الجعفری سنتین ، عزم زیارة مشهد خراسان ماراً فی طریقه على کاشان ، فاز بلقاء استاذه النراقی مما دعاه إلى الاقامة فیها نحو ثلاث سنین ، ورد دزفول سنة 1214 ثم عاد إلى النجف الاشرف سنة 1249 فاختلف إلى مدرسة الشیخ علی بن الشیخ جعفر ، ثم انتقل بالتدریس والتالیف ، ووضع اساس علم الأصول الحدیث ، تخرّج علیه المیرزا الشیرازی والمیرزا حبیب الله الرشتی وغیرهما له مؤلفات منها « الرسائل » فی الأصول و « المکاسب » انتهت إلیه رئاسة الامامیة. توفی فی 18 جمادی الاخرة سنة 1281 ودفن فی المشهد الغروی ( اعیان الشیعة 10 / 117 ).
1 ـ هو العلامة المیرزا أبو القاسم النوری (ره) ، على ما فی مطارح الأنظار ، کما تقدم آنفاً.
ولا یخفى ما فیه. امّا حدیث عدم الإِطلاق فی مفاد الهیئة ، فقد حققناه سابقاً (1) ، إن کلّ واحد من الموضوع له والمستعمل فیه فی الحروف یکون عاماً کوضعها ، وإنما الخصوصیة من قبل الاستعمال کالاسماء ، وإنما الفرق بینهما إنّها وضعت لتستعمل وقصد بها المعنى بما هوهو ، و وضعیت لتستعمل وقصد بما معانیها بما هی آلة وحالة لمعانی المتعلقات ، فلحاظ الآلیة کلحاظ الاستقلالیة لیس من طوارئ المعنى ، بل من مشخصات الاستعمال ، کما لا یخفى على أولی الدرایة والنهى. فالطلب المفاد من الهیئة المستعملة فیه مطلق ، قابل لأن یقید.
مع إنّه لو سلّم إنّه فرد ، فانما یمنع عن التقید لو اُنشىء أولاً غیر مقید ، لا ما إذا اُنشىء من الأوّل مقیداً ، غایة الأمر قد دلّ علیه بدالین ، وهو غیر إنشائه أولاً ثم تقییده ثانیاً ، فافهم.
فإن قلت : على ذلک ، یلزم تفکیک الانشاء من المنشأ ، حیث لا طلب قبل حصول الشرط.
قلت : المنشأ إذا کان هو الطلب على تقدیر حصوله ، فلابد أن لا یکون قبل حصوله طلب وبعث ، وإلاّ لتخلف عن إنشائه ، وإنشاء أمر على تقدیر کالإخبار به بمکان من الإِمکان ، کما یشهد به الوجدان ، فتأمل جیداً.
وأما حدیث (2) لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبّاً ففیه : إن الشیء إذا توجه إلیه ، وکان موافقاً للغرض بحسب ما فیه من المصلحة أو غیرها ، کما یمکن أن یبعث فعلاً إلیه ویطلبه حالاً ، لعدم مانع عن طلبه کذلک ، یمکن أن یبعث إلیه معلّقاً ، ویطلبه استقبالاً على تقدیر شرط متوقّع الحصول لأجل مانع عن الطلب
__________________
1 ـ راجع صفحة 11 و 12 من هذا الکتاب ، الأمر الثّانی فی تعریف الوضع.
2 ـ هذه هی الدعوى الایجابیة التی ادعاها الشیخ ( قده ) ، من رجوع الشرط إلى المادة لباً. مطارح الأنظار / 52 ، فی مقدّمة الواجب.
والبعث فعلاً قبل حصوله ، فلا یصحّ منه إلّا الطلب والبعث معلّقاً بحصوله ، لا مطلقاً ولو متعلقاً بذاک على التقدیر ، فیصحّ منه طلب الإکرام بعد مجیء زید ، ولا یصحّ منه الطلب المطلق الحالی للإکرام المقید بالمجیء ، هذا بناءً على تبعیة الأحکام لمصالح فیها فی غایة الوضوح.
وأما بناءً على تبعیتها للمصالح والمفاسد فی المأمور به ، والمنهی عنه فکذلک ، ضرورة أن التبعیة کذلک ، إنّما تکون فی الأحکام الواقعیة بما هی واقعیة ، لا بما هی فعلیة ، فإن المنع عن فعلیة تلک الأحکام غیر عزیز ، کما فی موارد الأصول والامارات على خلافها ، وفی بعضٍ الأحکام فی أول البعثة ، بل إلى یوم قیام القائم عجل الله فرجه ، مع أن حلال محمد 9 حلال إلى یوم القیامة ، وحرامه حرام إلى یوم القیامة ، ومع ذلک ربما یکون المانع عن فعلیة بعضٍ الأحکام باقیا مر اللیالی والایام ، إلى أن تطلع شمس الهدایة ویرتفع (1) الظلام ، کما یظهر من الإخبار المرویة (2) عن الأئمة :.
فان قلت : فما فائدة الانشاء؟ إذا لم یکن المنشأ به طلباً فعلّیاً ، وبعثاً حالیا.
قلت : کفى فائدة له إنّه یصیر بعثاً فعلّیاً بعد حصول الشرط ، بلا حاجة إلى خطاب آخر ، بحیث لولاه لما کان فعلاً متمکناً من الخطاب ، هذا مع شمول الخطاب کذلک للإیجاب فعلاً بالنسبة إلى الواجد للشرط ، فیکون بعثاً فعلّیاً بالإضافة إلیه ، وتقدیریّاً بالنسبة إلى الفاقد له ، فافهم وتأملّ جیداً.
__________________
1 ـ فی « ب » : ( وارتفع الظلام ).
2 ـ الکافی : 1 ، کتاب فضل العلم ، باب البدع والرأی والمقاییس الحدیث 19.
الکافی : 2 کتاب الایمان والکفر ، باب الشرائع ، الحدیث 2 مع اختلاف یسیر.
ثم الظاهر دخول المقدّمات الوجودیة للواجب المشروط ، فی محلّ النزاع (1) أیضاً ، فلا وجه لتخصیصه بمقدمات الواجب المطلق ، غایة الأمر تکون فی الإِطلاق والاشتراط تابعة لذی المقدمة کأصل الوجوب بناءً على وجوبها من باب الملازمة.
وأما الشرط المعلّق علیه الإِیجاب فی ظاهر الخطاب ، فخروجه مما لا شبهة فیه ، ولا ارتیاب :
أما على ما هو ظاهر المشهور والمتصور ، لکونه مقدّمة وجوبیة.
وأما على المختار لشیخنا العلامة (2) ـ أعلى الله مقامه ـ فلإنّه وأنّ کان من المقدّمات الوجودیة للواجب ، إلّا إنّه أخذ على نحو لا یکاد یترشح علیه الوجوب منه ، فإنّه جعل الشیء واجباً على تقدیر حصول ذاک الشرط ، فمعه کیف یترشح علیه الوجوب ویتعلق به الطلب؟ وهل هو إلّا طلب الحاصل؟ نعم على مختاره _ 1 _ لو کانت له مقدمات وجودیة غیر معلق علیها وجوبه ، لتعلق بها الطلب فی الحال على تقدیر اتفاق وجود الشرط فی الاستقبال ، وذلک لأن إیجاب ذی المقدمة على ذلک حالی ، والواجب إنّما هو استقبالی ، کما یأتی فی الواجب المعلّق (3) ، فإن الواجب المشروط على مختاره ، هو بعینه ما اصطلح علیه صاحب الفصول (4) من المعلّق ، فلا تغفل. هذا فی غیر المعرفة والتعلم من المقدمات.
وأما المعرفة ، فلا یبعد القول بوجوبها ، حتى فی الواجب المشروط ـ بالمعنى المختار ـ قبل حصول شرطه ، لکنه لا بالملازمة ، بل من باب استقلال
__________________
1 ـ کما فی مطارح الأنظار / 44.
2 ـ من رجوع الشرط إلى المادة لبّاً ، مطارح الأنظار / 45 ـ 46 و 52 ، فی مقدّمة الواجب.
3 ـ سیأتی فی الصفحة 103 من هذا الکتاب ، عند قوله : وربما أشکل ... الخ.
4 ـ الفصول / 79 فی آخر الصفحة.
العقل بتنجز الأحکام على الأنام بمجرد قیام احتمالها ، إلّا مع الفحص والیأس عن الظفر بالدلیل على التکلیف ، فیستقل بعده بالبراءة ، وأنّ العقوبة على المخالفة بلا حجة وبیان ، والمؤاخذة علیها بلا برهان ، فافهم.
تذنیب : لا یخفى أن إطلاق الواجب على الواجب المشروط ، بلحاظ حال حصول الشرط على الحقیقة مطلقاً ، وأما بلحاظ حال قبل حصوله فکذلک على الحقیقة على مختاره (1) 1 فی الواجب المشروط ، لأن الواجب وأنّ کان أمراً استقبالیّاً علیه ، إلّا أن تلبسه بالوجوب فی الحال ، ومجاز على المختار ، حیث لا تلبس بالوجوب علیه قبله ، کما عن البهائی (2) ; تصریحه بأن لفظ الواجب مجاز فی المشروط ، بعلاقة الأوّل أو المشارفة.
وأما الصیغة مع الشرط ، فهی حقیقة على کلّ حال لاستعمالها على مختاره (3) _ 1 _ فی الطلب المطلق ، وعلى المختار فی الطلب المقید ، على نحو تعدَّد الدالّ والمدلول ، کما هو الحال فیما إذا أُرید منها المطلق المقابل للمقید ، لا المبهم المقسم ، فافهم.
ومنها : تقسیمه إلى المعلّق والمنجز ، قال فی الفصول (4) : إنّه ینقسم
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 45 ـ 46 و 52 فی مقدّمة الواجب.
2 ـ زبدة الأصول / 46 مخطوط.
هو بهاء الدین محمد بن الحسین بن عبد الصمد الجبعی العاملی ، ولد فی بعلبک عام 953 ه ، انتقل به والده وهو صغیر إلى الدیار العجمیة ، أخذ عن والده وغیره من الجهابذة ، ولی بها شیخ الاسلام ، ثم أخذ فی السیاحة ثلاثین سنة ، واجتمع فی أثناء ذلک بکثیر من أرباب الفضل ، ثم عاد وقطن بأرض العجم ، له کتب کثیرة منها « الحبل المتین » و « الزبدة » فی الأصول و « حاشیة الشرح العضدی على مختصر الأصول » وغیرها ، له شعر کثیر بالعربیة والفارسیة. قال تلمیذه العلامة المولى محمد تقی المجلسی : ما رأیت بکثرة علومه ووفور فضله وعلو مرتبته أحدا ، توفی سنة 1031. ( أمل الآمل 1 / 155 رقم 158 )
3 ـ راجع المصدر المتقدم فی هامش رقم (1).
4 ـ الفصول / 79 آخر الصفحة.
باعتبار آخر إلى ما یتعلق وجوبه بالمکلف ، ولا یتوقف حصوله على أمر غیر مقدور له ، کالمعرفة ، ولْیُسمَّ منجّزاً ، وإلى ما یتعلق وجوبه به ، ویتوقف حصوله على أمر غیر مقدور له ، ولْیُسمَّ معلّقاً کالحج ، فإن وجوبه یتعلق بالمکلف من أول زمن الاستطاعة ، أو خروج الرفقة ، ویتوقف فعله على مجیء وقته ، وهو غیر مقدور له ، والفرق بین هذا النوع وبین الواجب المشروط هو أن التوقف هناک للوجوب ، وهنا للفعل. انتهى کلامه رفع مقامه.
لا یخفى أن شیخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ حیث اختار فی الواجب المشروط ذاک المعنى ، وجعل الشرط لزوماً من قیود المادة ثبوتاً وإثباتاً ، حیث ادعى امتناع کونه من قیود الهیئة کذلک ، أیّ ثبوتاً وإثباتاً ، على خلاف القواعد العربیة وظاهر المشهور ، کما یشهد به ما تقدم آنفا عن البهائی ، أنکر (1) على الفصول هذا التقسیم ، ضرورة أن المعلّق بما فسره ، یکون من المشروط بما اختار له من المعنى على ذلک ، کما هو واضح ، حیث لا یکون حینئذ هناک معنى آخر معقول ، کان هو المعلّق المقابل للمشروط.
ومن هنا انقدح إنّه فی الحقیقة إنّما أنکر الواجب المشروط ، بالمعنى الذی یکون هو ظاهر المشهور ، والقواعد العربیة ، لا الواجب المعلّق بالتفسیر المذکور.
وحیث قد عرفت ـ بما لا مزید علیه ـ امکان رجوع الشرط إلى الهیئة ، کما هو ظاهر المشهور وظاهر القواعد ، فلا یکون مجال لإِنکاره علیه.
نعم یمکن أن یقال : إنّه لا وقع لهذا التقسیم ؛ لأنه بکلا قسمیه من المطلق المقابل للمشروط ، وخصوصیة (2) کونه حالیّاً أو استقبالیّاً لا توجبه ما لم
__________________
1 ـ مطارح الأنظار 51 ـ 52. فی الهدایة 6 من القول فی وجوب مقدّمة الواجب.
2 ـ وفی « ب » : خصوصیته.
توجب الاختلاف فی المهمّ ، وإلاّ لکثر تقسیماته لکثرة الخصوصیات ، ولا اختلاف فیه ، فإن ما رتبه علیه من وجوب المقدمة فعلاً ـ کما یأتی ـ إنّما هو من أثر إطلاق وجوبه وحالیّته ، لا من استقبالیة الواجب ، فافهم.
ثم إنّه ربما حکی عن بعضٍ أهل النظر (1) من أهل العصر إشکال فی الواجب المعلّق ، وهو أن الطلب والإِیجاب ، إنّما یکون بإزاء الإرادة المحرکة للعضلات نحو المراد ، فکما لا تکاد تکون الإرادة منفکة عن المراد ، فلیکن الإِیجاب غیر منفک عما یتعلق به ، فکیف یتعلق بأمر استقبالی؟ فلا یکاد یصحّ الطلب والبعث فعلاً نحو أمر متأخر.
قلت : فیه أن الإرادة تتعلق بأمر متأخَّر استقبالی ، کما تتعلق بأمر حالی ، وهو أوضح من أن یخفى على عاقل فضلاً عن فاضل ، ضرورة أن تحمّل المشاق فی تحصیل المقدّمات ـ فیما إذا کان المقصود بعید المسافة وکثیر المؤونة ـ لیس إلّا لأجل تعلق إرادته به ، وکونه مریداً له قاصداً إیاه ، لا یکاد یحمله على التحمل إلّا ذلک.
ولعل الذی أوقعه فی الغلط ما قرع سمعه من تعریف الإرادة بالشوق المؤکد المحرّک للعضلات نحو المراد ، وتوهمّ أن تحریکها نحو المتأخر مما لا یکاد ، وقد غفل عن أن کونه (2) محرکاً نحوه یختلف حسب اختلافه ، فی کونه مما لا مؤونة له کحرکة نفس العضلات ، أو مما له مؤونة ومقدمات قلیلة أو کثیرة ، فحرکة العضلات تکون أعم من أن تکون بنفسها مقصودة أو مقدّمة له ، والجامع أن یکون نحو المقصود ، بل مرادهم من هذا الوصف ـ فی تعریف الإرادة ـ بیان مرتبة الشوق الذی یکون هو الإرادة ، وأنّ لم یکن هناک فعلاً تحریک ، لکون المراد وما اشتاق إلیه کمال الاشتیاق أمراً استقبالیّاً غیر محتاج إلى تهیئة مؤونة أو تمهید مقدّمة ، ضرورة أن شوقه إلیه ربما یکون أشد من الشوق
__________________
1 ـ هو المحقق النهاوندی ، تشریح الأصول.
2 ـ والصحیح « کونها ».
المحرّک فعلاً نحو أمر حالی أو استقبالی ، محتاج إلى ذلک. هذا.
مع إنّه لا یکاد یتعلق البعث إلّا بأمر متأخَّر عن زمان البعث ، ضرورة أن البعث إنّما یکون لاحداث الداعی للمکلف إلى المکلف به ، بأن یتصوره بما یترتب علیه من المثوبة ، وعلى ترکه من العقوبة ، ولا یکاد یکون هذا إلّا بعد البعث بزمان ، فلا محالة یکون البعث نحو أمر متأخَّر عنه بالزمان ، ولا یتفاوت طوله وقصره ، فیما هو ملاک الاستحالة والإِمکان فی نظر العقل الحاکم فی هذا الباب ، ولعمری ما ذکرناه واضح لا سترة علیه ، والاطناب إنّما هو لأجل رفع المغالطة الواقعة فی أذهان بعضٍ الطلاب.
وربما أُشکل على المعلّق أیضاً ، بعدم القدرة على المکلف به فی حال البعث ، مع إنّها من الشرائط العامة.
وفیه : إن الشرط إنّما هو القدرة على الواجب فی زمإنّه ، لا فی زمان الإِیجاب والتکلیف ، غایة الأمر یکون من باب الشرط المتأخر ، وقد عرفت بما لا مزید علیه إنّه کالمقارن ، من غیر انخرام للقاعدة العقلیة أصلاً ، فراجع.
ثم لا وجه لتخصیص المعلّق بما یتوقف حصوله على أمر غیر مقدور ، بل ینبغی تعمیمه إلى أمر مقدور متأخَّر ، أُخذ على نحو یکون مورداً للتکلیف ، ویترشح علیه الوجوب من الواجب ، أو لا ، لعدم تفاوت فیما یهمه من وجوب تحصیل المقدّمات التی لا یکاد یقدّر علیها فی زمان الواجب المعلّق ، دون المشروط ، لثبوت الوجوب الحالی فیه ، فیترشح منه الوجوب على المقدمة ، بناءً على الملازمة ، دونه لعدم ثبوته فیه إلّا بعد الشرط.
نعم لو کان الشرط على نحو الشرط المتأخر ، وفرض وجوده ، کان الوجوب المشروط به حالیّاً أیضاً ، فیکون وجوب سائر المقدّمات الوجودیة للواجب أیضاً حالیّاً ، ولیس الفرق بینه وبین المعلّق حینئذ إلّا کونه مرتبطاً
بالشرط ، بخلافه ، وأنّ ارتبط به الواجب.
تنبیه : قد انقدح ـ من مطاوی ما ذکرناه ـ أن المناط فی فعلیة وجوب المقدمة الوجودیة ، وکونه فی الحال بحیث یجب على المکلف تحصیلها ، هو فعلیة وجوب ذیها ، ولو کان أمراً استقبالیّاً ، کالصوم فی الغد والمناسک فی الموسم ، کان وجوبه مشروطاً بشرط موجود أخذ فیه ولو متأخراً ، أو مطلقاً ، منجّزاً کان أو معلّقاً ، فیما إذا لم تکن مقدّمة للوجوب أیضاً ، أو مأخوذة فی الواجب على نحو یستحیل أن تکون مورداً للتکلیف ، کما إذا أخذ عنواناً للمکلف ، کالمسافر والحاضر والمستطیع إلى غیر ذلک ، أو جعل الفعل المقید باتفاق حصوله ، وتقدیر وجوده ـ بلا اختیار أو باختیاره ـ مورداً للتکلیف ، ضرورة إنّه لو کان مقدّمة الوجوب أیضاً ، لا یکاد یکون هناک وجوب إلّا بعد حصوله ، وبعد الحصول یکون وجوبه طلب الحاصل ، کما إنّه إذا أخذ على أحد النحوین یکون کذلک ، فلو لم یحصل لما کان الفعل مورداً للتکلیف ، ومع حصوله لا یکاد یصحّ تعلقه به ، فافهم.
إذا عرفت ذلک ، فقد عرفت إنّه لا إشکال أصلاً فی لزوم الإِتیان بالمقدمة قبل زمان الواجب ، إذا لم یقدّر علیه بعد زمإنّه ، فیما کان وجوبه حالیّاً مطلقاً ، ولو کان مشروطاً بشرط متأخَّر ، کان معلوم الوجود فیما بعد ، کما لا یخفى ، ضرورة فعلیة وجوبه وتنجزه بالقدرة علیه بتمهید مقدمته ، فیترشح منه الوجوب علیها على الملازمة ، ولا یلزم منه محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذیها ، وإنما اللازم الإِتیان بها قبل الإِتیان به ، بل لزوم الإِتیان بها عقلاً ، ولو لم نقل بالملازمة ، لا یحتاج إلى مزید بیان ومؤونة برهان ، کالإِتیان بسائر المقدّمات فی زمان الواجب قبل إتیإنّه.
فانقدح بذلک : إنّه لا ینحصر التفصی عن هذه العویصة بالتعلق بالتعلیق ، أو بما یرجع إلیه ، من جعل الشرط من قیود المادة فی المشروط.
فانقدح بذلک : إنّه لا إشکال فی الموارد التی یجب فی الشریعة الإِتیان بالمقدمة قبل زمان الواجب ، کالغسل فی اللیل فی شهر رمضان وغیره مما وجب علیه الصوم فی الغد ، إذ یکشف به بطریق الإِنّ عن سبق وجوب الواجب ، وإنما المتأخر هو زمان إتیإنّه ، ولا محذور فیه أصلاً ، ولو فرض العلم بعدم سبقه ، لاستحال اتصاف مقدمته بالوجوب الغیری ، فلو نهض دلیل على وجوبها ، فلا محالة یکون وجوبها نفسّیاً [ ولو ] (1) تهیؤاً ، لیتهیأ بإتیإنّها ، ویستعد لایجاب ذی المقدمة علیه ، فلا محذور أیضاً.
إن قلت : لو کان وجوب المقدمة فی زمان کاشفاً عن سبق وجوب ذی المقدمة لزم وجوب جمیع مقدماته ولو موسّعاً ، ولیس کذلک بحیث یجب علیه المبادرة لو فرض عدم تمکنه منها لو لم یبادر.
قلت : لا محیص عنه ، إلّا إذا أخذ فی الواجب من قبل سائر المقدّمات قدرة خاصة ، وهی القدرة علیه بعد مجیء زمإنّه ، لا القدرة علیه فی زمإنّه من زمان وجوبه ، فتدبرّ جیداً.
تتمة : قد عرفت اختلاف القیود فی وجوب التحصیل ، وکونه مورداً للتکلیف وعدمه ، فإن علم حال قید فلا إشکال ، وأنّ دار أمره ثبوتاً بین أن یکون راجعاً إلى الهیئة ، نحو الشرط المتأخر أو المقارن ، وأنّ یکون راجعاً إلى المادة على نهج یجب تحصیله أولاً یجب ، فإن کان فی مقام الإِثبات ما یعین حاله ، وإنّه راجع إلى أیهما من القواعد العربیة فهو ، وإلاّ فالمرجع هو الأصول العملیة.
وربما قیل (2) فی الدوران بین الرجوع إلى الهیئة أو المادة ، بترجیح الإِطلاق فی طرف الهیئة ، وتقیید المادة ، بوجهین :
__________________
1 ـ أثبتناها من « أ ».
2 ـ راجع مطارح الأنظار / 49 الهدایة 5 من القول بوجوب المقدمة ، فی الوجه الخامس.
أحدهما : إن إطلاق الهیئة یکون شمولیّاً ، کما فی شمول العام لافراده ، فإن وجوب الإکرام على تقدیر الإِطلاق ، یشمل جمیع التقادیر التی یمکن أن یکون تقدیرا له ، وإطلاق المادة یکون بدلیاً غیر شامل لفردین فی حالة واحدة.
ثانیهما : إن تقیید الهیئة یوجب بطلان محلّ الإِطلاق فی المادة ویرتفع به مورده ، بخلاف العکس ، وکلما دار الأمر بین تقییدین کذلک کان التقیید الذی لا یوجب بطلان الآخر أولى.
أما الصغرى ، فلاجل إنّه لا یبقى مع تقیید الهیئة محلّ حاجة وبیان لإِطلاق المادة ، لإنّها لا محالة لا تنفکّ عن وجود قید الهیئة ، بخلاف تقیید المادة ، فإن محلّ الحاجة إلى إطلاق الهیئة على حاله ، فیمکن الحکم بالوجوب على تقدیر وجود القید وعدمه.
وأما الکبرى ، فلان التقیید وأنّ لم یکن مجازاً إلّا إنّه خلاف الأصل ، ولا فرق فی الحقیقة بین تقیید الإِطلاق ، وبین أن یعمل عملاً یشترک مع التقیید فی الأثر ، وبطلان العمل به.
وما ذکرناه من الوجهین موافق لما أفاده بعضٍ مقرری بحث الأستاذ العلامة أعلى الله مقامه ، وأنت خبیر بما فیهما :
أما فی الأوّل : فلان مفاد إطلاق الهیئة وأنّ کان شمولیّاً بخلاف المادة ، إلّا إنّه لا یوجب ترجیحه على إطلاقها ، لإنّه أیضاً کان بالإِطلاق ومقدمات الحکمة ، غایة الأمر إنّه تارةً یقتضی العموم الشمولی ، وأخرى البدلی ، کما ربما تقتضی التعیین أحیاناً ، کما لا یخفى.
وترجیح عموم العام على إطلاق المطلق إنّما هو لأجل کون دلالته بالوضع ، لا لکونه شمولیّاً ، بخلاف المطلق فإنّه بالحکمة ، فیکون العام أظهر منه ، فیقدّم علیه ، فلو فرض إنّهما فی ذلک على العکس ، فکان عام بالوضع دلّ على العموم البدلی ، ومطلق بإطلاقه دلّ على الشمول ، لکان العام
یقدم بلا کلام.
وأما فی الثانی : فلان التقیید وأنّ کان خلاف الأصل ، إلا أن العمل الی یوجب عدم جریان مقدمات الحکمة ، وانتفاء بعضٍ مقدماته ، لا یکون على خلاف الأصل أصلاً ، إذ معه لا یکون هناک إطلاق ، کی یکون بطلان العمل به فی الحقیقة مثل التقیید الذی یکون على خلاف الأصل. وبالجملة لا معنى لکون التقیید خلاف الأصل ، إلّا کونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببرکة مقدمات الحکمة ، ومع انتفاء المقدّمات لا یکاد ینعقد له هناک ظهور ، کان ذاک العمل المشارک مع التقیید فی الأثر ، وبطلان العمل بإطلاق المطلق ، مشارکا معه فی خلاف الأصل أیضاً.
وکأنه توهّم : أن إطلاق المطلق کعموم العام ثابت ، ورفع الید عن العمل به ، تارةً لأجل التقیید ، وأخرى بالعمل المبطل للعمل به.
وهو فاسد ، لإنّه لا یکون إطلاق إلّا فیما جرت هناک المقدمات.
نعم إذا کان التقیید بمنفصل ، ودار الأمر بین الرجوع إلى المادة أو الهیئة کان لهذا التوهم مجال ، حیث انعقد للمطلق إطلاق ، وقد استقر له ظهور ولو بقرینة الحکمة ، فتأمل.
ومنها : تقسیمه إلى النفسی والغیری.
وحیث کان طلب شیء وإیجابه لا یکاد یکون بلا داع ، فإن کان الداعی فیه هو التوصل به إلى واجب ، لا یکاد التوصل بدونه إلیه ، لتوقفه علیه ، فالواجب غیریّ ، وإلاّ فهو نفسی ، سواء کان الداعی محبوبیة الواجب بنفسه ، کالمعرفة بالله ، أو محبوبیّته بماله من فائدة مترتبة علیه ، کأکثر الواجبات من العبادات والتوصلیات.
هذا ، لکنه لا یخفى أن الداعی لو کان هو محبوبیّته کذلک ـ أیّ بماله من الفائدة المترتبة علیه ـ کان الواجب فی الحقیقة واجباً غیریاً ، فإنّه لو لم یکن وجود هذه الفائدة لازماً ، لما دعا إلى إیجاب ذی الفائدة.
فإن قلت : نعم وأنّ کان وجودها محبوباً لزوماً ، إلّا إنّه حیث کانت من الخواصِّ المترتبة على الأفعال التی لیست داخلة تحت قدرة المکلف ، لما کاد یتعلق بها الإِیجاب.
قلت : بل هی داخلة تحت القدرة ، لدخول أسبابها تحتها ، والقدرة على السبب قدرة على المسبب ، وهو واضح ، وإلاّ لما صحّ وقوع مثل التطهیر والتملیک والتزویج والطلاق والعتاق .. إلى غیر ذلک من المسببات ، مورداً لحکم من الأحکام التکلیفیة.
فالأولى أن یقال : إن الأثر المترتب علیه وأنّ کان لازماً ، إلّا أن ذا الأثر لما کان معنوناً بعنوان حسن یستقل العقل بمدح فاعله ، بل وبذم تارکه ، صار متعلقاً للإیجاب بما هو کذلک ، ولا ینافیه کونه مقدّمة الأمر مطلوب واقعاً ، بخلاف الواجب الغیری ، لتمحض وجوبه فی إنّه لکونه مقدّمة لواجب نفسی. وهذا أیضاً لا ینافی أن یکون معنوناً بعنوان حسن فی نفسه ، إلّا إنّه لا دخل له فی إیجابه الغیری ، ولعله مراد من فسرهما بما أمر به لنفسه ، وما أمر به لأجل غیره ، فلا یتوجه علیه بأنّ جل الواجبات ـ لولا الکلّ ـ یلزم أن یکون من الواجبات الغیریة ، فإن المطلوب النفسی قلّما یوجد فی الأوامر ، فإن جلها مطلوبات لأجل الغایات التی هی خارجة عن حقیقتها ، فتأمل.
ثم إنّه لا إشکال فیما إذا علم بأحد القسمین ، وأما إذا شک فی واجب إنّه نفسی أو غیری ، فالتحقیق أن الهیئة ، وأنّ کانت موضوعة لما یعمهما ، إلّا أن إطلاقها یقتضی کونه نفسیاً ، فإنّه لو کان شرطاً لغیره لوجب التنبیه علیه على المتکلم الحکیم.
وأما ما قیل (1) من إنّه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهیئة ، لدفع الشک
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 67 فی الهدایة 11 من القول بوجوب المقدمة.
المذکور ، بعد کون مفادها الأفراد التی لا یعقل فیها التقیید ، نعم لو کان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب ، صحّ القول بالإِطلاق ، لکنه بمراحل من الواقع ، إذ لا شک فی اتصاف الفعل بالمطلوبیة بالطلب المستفاد من الأمر ، ولا یعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبیة بواسطة مفهوم الطلب ، فإن الفعل یصیر مراداً بواسطة تعلق واقع الإرادة وحقیقتها ، لا بواسطة مفهومها ، وذلک واضح لا یعتریه ریب.
ففیه : إن مفاد الهیئة ـ کما مرت الإِشارة إلیه ـ لیس الأفراد ، بل هو مفهوم الطلب ، کما عرفت تحقیقه فی وضع الحروف (1) ، ولا یکاد یکون فرد الطلب الحقیقی ، والذی یکون بالحمل الشائع طلباً ، وإلاّ لما صحّ إنشاؤه بها ؛ ضرورة إنّه من الصفات الخارجیة الناشئة من الأسباب الخاصة.
نعم ربما یکون هو السبب لإِنشائه ، کما یکون غیره أحیاناً.
واتصاف الفعل بالمطلوبیة الواقعیة والإرادة الحقیقیة ـ الداعیة إلى إیقاع طلبه ، وإنشاء إرادته بعثاً نحو مطلوبه الحقیقی وتحریکا إلى مراده الواقعی ـ لا ینافی اتصافه بالطلب الإنشائی أیضاً ، والوجود الإنشائی لکلّ شیء لیس إلّا قصد حصول مفهومه بلفظه ، کان هناک طلب حقیقی أو لم یکن ، بل کان إنشاؤه بسبب آخر.
ولعل منشأ الخلط والاشتباه تعارف التعبیر عن مفاد الصیغة بالطلب المطلق ، فتوهم منه أن مفاد الصیغة یکون طلباً حقیقیاً ، یصدق علیه الطلب بالحمل الشائع ، ولعمری إنّه من قبیل اشتباه المفهوم بالمصداق ، فالطلب الحقیقی إذا لم یکن قابلاً للتقیید لا یقتضی أن لا یکون مفاد الهیئة قابلاً له ، وأنّ تعارف تسمیته بالطلب أیضاً ، وعدم تقییده بالإنشائی لوضوح إرادة
__________________
1 ـ باعتبار أن الهیئة ملحقة بالحروف ، راجع صفحة 11 من هذا الکتاب.
خصوصه ، وأنّ الطلب الحقیقی لا یکاد ینشأ بها ، کما لا یخفى.
فانقدح بذلک صحة تقیید مفاد الصیغة بالشرط ، کما مرّ هاهنا بعضٍ الکلام ، وقد تقدم (1) فی مسألة اتحاد الطلب والإرادة ما یُجدی [ فی ] المقام.
هذا إذا کان هناک إطلاق ، وأما إذا لم یکن ، فلابد من الإِتیان به فیما إذا کان التکلیف بما احتمل کونه شرطاً له فعلّیاً ، للعلم بوجوبه فعلاً ، وأنّ لم یعلم جهة وجوبه ، وإلاّ فلا ، لصیرورة الشک فیه بدویاً ، کما لا یخفى.
تذنیبان
الأول : لا ریب فی استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسی وموافقته ، واستحقاق العقاب على عصیإنّه ومخالفته عقلاً ، وأما استحقاقهما على امتثال الغیری ومخالفته ، ففیه إشکال ، وأنّ کان التحقیق عدم الاستحقاق على موافقته ومخالفته ، بما هو موافقة ومخالفة ، ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلّا لعقاب واحد ، أو لثواب کذلک ، فیما خالف الواجب ولم یأت بواحدة من مقدماته على کثرتها ، أو وافقه وأتاه بما له من المقدمات.
نعم لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترک المقدمة ، وبزیادة المثوبة على الموافقة فیما لو أتى بالمقدمات بما هی مقدمات له ، من باب إنّه یصیر حینئذ من أفضل الأعمال ، حیث صار أشقّها ، وعلیه ینزّل ما ورد فی الإخبار (2) من الثواب على المقدّمات ، أو على التفضل فتأمل جیداً ، وذلک لبداهة أن موافقة الأمر الغیری ـ بما هو أمر لا بما هو شروع فی إطاعة الأمر النفسی ـ لا توجب قرباً ، ولا مخالفته ـ بما هو کذلک ـ بُعداً ، والمثوبة والعقوبة إنّما تکونان من تبعات القرب والبعد.
__________________
1 ـ راجع صفحة 64 من الکتاب ، الجهة الرابعة ( فی بحث الطلب والإرادة ).
2 ـ کامل الزیارات / 133 ، فیما ورد فی زیارة أبی عبدالله ، من إنّه لکلّ قدم ثواب کذا.
إشکال ودفع :
أما الأوّل : فهو إنّه إذا کان الأمر الغیری بما هو لا إطاعة له ، ولا قرب فی موافقته ، ولا مثوبة على امتثاله ، فکیف حال بعضٍ المقدّمات کالطهارات؟ حیث لا شبهة فی حصول الإطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها ، هذا مضافاً إلى أن الأمر الغیری لا شبهة فی کونه توصلیاً ، وقد اعتبر فی صحتها إتیإنّها بقصد القربة.
وأما الثّانی : فالتحقیق أن یقال : إن المقدمة فیها بنفسها مستحبة وعبادة ، وغایاتها إنّما تکون متوقفة على إحدى هذه العبادات ، فلا بدّ أن یؤتى بها عبادة ، وإلاّ فلم یؤت بما هو مقدّمة لها ، فقصد القربة فیها إنّما هو لأجل کونها فی نفسها أمورا عبادیة ومستحبات نفیسة ، لا لکونها مطلوبات غیریة والاکتفاء بقصد أمرها الغیری ، فإنما هو لأجل إنّه یدعو إلى ما هو کذلک فی نفسه حیث إنّه لا یدعو إلّا إلى ما هو المقدمة ، فافهم.
وقد تفُصّی عن الإِشکال بوجهین آخرین (1) :
أحدهما ما ملخصه : إن الحرکات الخاصة ربما لا تکون محصلة لما هو المقصود منها ، من العنوان الذی یکون بذاک العنوان مقدّمة وموقوفا علیها ، فلا بدّ فی إتیإنّها بذاک العنوان من قصد أمرها ، لکونه لا یدعو إلّا إلى ما هو الموقوف علیه ، فیکون عنواناً إجمالیاً ومرآة لها ، فإتیان الطهارات عبادة وإطاعة لامرها لیس لأجل أن أمرها المقدمی یقضی بالاتیان کذلک ، بل إنّما کان لأجل إحراز نفس العنوان ، الذی یکون بذاک العنوان موقوفاً علیها.
وفیه : مضافاً إلى أن ذلک لا یقتضی الإِتیان بها کذلک ، لإمکان الإِشارة إلى عناوینها التی تکون بتلک العناوین موقوفاً علیها بنحو آخر ، ولو
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 71 فی تنبیهات الهدایة 12 من القول فی وجوب مقدّمة الواجب.
بقصد أمرها وصفاً لا غایة وداعیاً ، بل کان الداعی إلى هذه الحرکات الموصوفة بکونها مأموراً بها شیئاً آخر غیر أمرها ، غیر وافٍ بدفع إشکال ترتب المثوبة علیها ، کما لا یخفى.
ثانیهما : ما مُحَصّله أن لزوم وقوع الطهارات عبادة ، إنّما یکون لأجل أن الغرض من الأمر النفسی بغایاتها ، کما لا یکاد یحصل بدون قصد التقرب بموافقته ، کذلک لا یحصل ما لم یؤت بها کذلک ، لا باقتضاء أمرها الغیری.
وبالجملة وجه لزوم إتیإنّها عبادة ، إنّما هو لأجل أن الغرض فی الغایات ، لا یحصل إلّا بإتیان خصوص الطهارات من بین مقدماتها أیضاً ، بقصد الاطاعة.
وفیه أیضاً : إنّه غیر وافٍ بدفع إشکال ترتب المثوبة علیها.
وأما ما ربما قیل (1) فی تصحیح اعتبارٍ قصد الإطاعة فی العبادات ، من الالتزام بأمرین : أحدهما کان متعلقاً بذات العمل ، والثانی بإتیإنّه بداعی امتثال الأوّل ، لا یکاد یجزئ فی تصحیح اعتبارها فی الطهارات ، إذ لو لم تکن بنفسها مقدّمة لغایاتها ، لا یکاد یتعلق بها أمر من قبل الأمر بالغایات ، فمن أین یجیء طلب آخر من سنخ الطلب الغیری متعلق بذاتها ، لیتمکن به من المقدمة فی الخارج. هذا مع أن فی هذا الالتزام ما فی تصحیح اعتبارٍ قصد الطاعة فی العبادة على ما عرفته مفصلاً سابقا ً(2) ، فتذکرّ.
الثانی : إنّه قد انقدح مما هو التحقیق ، فی وجه اعتبارٍ قصد القربة فی الطهارات صحتها ولو لم یؤت بها بقصد التوصل بها إلى غایة من غایاتها ، نعم لو کان المصحح لاعتبار قصد القربة فیها امرها الغیری ، لکان قصد الغایة مما لابد منه فی وقوعها صحیحة ، فان الأمر الغیری لا یکاد یمتثل إلّا إذا قصد
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 71 ، فی تنبیهات الهدایة 12. 2 ـ راجع ص 72.
التوصل إلى الغیر ، حیث لا یکاد یصیر داعیا إلّا مع هذا القصد ، بل فی الحقیقة یکون هو الملاک لوقوع المقدمة عبادة ، ولو لم یقصد أمرها ، بل ولو لم نقل بتعلق الطلب بها أصلاً.
وهذا هو السر فی اعتبارٍ قصد التوصل فی وقوع المقدمة عبادة ، لا ما توهّم (1) من أن المقدمة إنّما تکون مأموراً بها بعنوان المقدمیة ، فلا بدّ عند إرادة الامتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان ، وقصدها کذلک لا یکاد یکون بدون قصد التوصل إلى ذی المقدمة بها ، فإنّه فاسد جداً ؛ ضرورة أن عنوان المقدمیة لیس بموقوف علیه الواجب ، ولا بالحمل الشائع مقدّمة له ، وإنما کان المقدمة هو نفس المعنونات بعناوینها الأولیة ، والمقدمیة إنّما تکون علّة لوجوبها.
الأمر الرابع : لا شبهة فی أن وجوب المقدمة بناءً على الملازمة ، یتبع فی الإِطلاق والاشتراط وجوب ذی المقدمة ، کما أشرنا إلیه فی مطاوی کلماتنا (2) ، ولا یکون مشروطاً بإرادته ، کما یوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم (3) ; فی بحث الضد ، قال : وأیضاً فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدیر تسلیمها إنّما تنهض دلیلاً على الوجوب ، فی حال کون المکلف مریداً للفعل المتوقف علیها ، کما لا یخفى على من أعطاها حق النظر.
وأنت خبیر بأن نهوضها على التبعیة واضح لا یکاد یخفى ، وأنّ کان نهوضها على أصل الملازمة لم یکن بهذه المثابة ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 72.
2 ـ راجع ص 99.
3 ـ معالم الدین / 74 ، فی آخر مبحث الضد.
هو الشیخ جمال الدین أبو منصور الحسن بن الشیخ زین الدین ، ولد سنة 959 ه ، کان عالماً فاضلاً عاملاً جامعاً للفنون ، اعرف أهل زمإنّه بالفقه والحدیث والرجال ، یروی عن جماعة من تلامذة أبیه ، منهم الشیخ حسین بن عبد الصمد العاملی ، له کتب ورسائل منها « منتقى الجمان فی الأحادیث الصحاح والحسان » و « معالم الدین وملاذ المجتهدین » توفی سنة 1011 ه. () أمل الآمل 1 / 57 رقم 45 ).
وهل یعتبر فی وقوعها على صفة الوجوب أن یکون الإِتیان بها بداعی التوصل بها إلى ذی المقدمة؟ کما یظهر مما نسبه إلى شیخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ بعضٍ أفاضل (1) مقرری بحثه ، أو ترتب ذی المقدمة علیها؟ بحیث لو لم یترتب علیها لکشف (2) عن عدم وقوعها على صفة الوجوب ، کما زعمه صاحب الفصول (3) 1؟ أو لا یعتبر فی وقوعها کذلک شیء منهما؟
الظاهر عدم الاعتبار : امّا عدم اعتبارٍ قصد التوصل ، فلاجل أن الوجوب لم یکن بحکم العقل إلّا لأجل المقدمیة والتوقف ، وعدم دخل قصد التوصل فیه واضح ، ولذا اعترف (4) بالاجتزاء بما لم یقصد به ذلک فی غیر المقدّمات العبادیة ، لحصول ذات الواجب ، فیکون تخصیص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصل من المقدمة بلا مخصص ، فافهم.
نعم إنّما اعتبر ذلک فی الامتثال ، لما عرفت (5) من إنّه لا یکاد یکون الآتی بها بدونه ممتثلا لامرها ، وآخذاً فی امتثال الأمر بذیها ، فُیثاب بثواب أشقِّ الأعمال ، فیقع الفعل المقدمی على صفة الوجوب ، ولو لم یقصد به التوصل ، کسائر الواجبات التوصلیة ، لا على حکمه السابق الثابث له ، لو لا عروض صفة توقف الواجب الفعلّی المنجز علیه ، فیقع الدخول فی ملک الغیر واجباً إذا کان مقدّمة لانقاذ غریق أو إطفاء حریق واجب فعلّی لا حراماً ، وأنّ لم یلتفت إلى التوقف والمقدمیة ، غایة الأمر یکون حینئذ متجرِّئاً فیه ، کما إنّه مع الالتفات یتجّرأ بالنسبة إلى ذی المقدمة ، فیما لم یقصد التوصل إلیه أصلاً.
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 72.
2 ـ فی « ب » : یکشف.
3 ـ الفصول / 86 ، فی مقدّمة الواجب.
4 ـ مطارح الأنظار / 72.
5 ـ راجع صفحة 112.
وأما إذا قصده ، ولکنه لم یأت بها بهذا الداعی ، بل بداعٍ آخر أکّده بقصد التوصل ، فلا یکون متجرِّئاً أصلاً.
وبالجملة : یکون التوصل بها إلى ذی المقدمة من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة ، لا أن یکون قصده قیداً وشرطاً لوقوعها على صفة الوجوب ، لثبوت ملاک الوجوب فی نفسها بلا دخل له فیه أصلاً ، وإلاّ لما حصل ذات الواجب ولما سقط الوجوب به ، کما لا یخفى.
ولا یقاس على ما إذا أتى بالفرد المحرم منها ، حیث یسقط به الوجوب ، مع إنّه لیس بواجب ، وذلک لأن الفرد المحرم إنّما یسقط به الوجوب ، لکونه کغیره فی حصول الغرض به ، بلا تفاوت أصلاً ، إلّا إنّه لأجل وقوعه على صفة الحرمة لا یکاد یقع على صفة الوجوب ، وهذا بخلاف [ ما ] ها هنا ، فإنّه إن کان کغیره مما یقصد به التوصل فی حصول الغرض ، فلابد أن یقع على صفة الوجوب مثله ، لثبوت المقتضی فیه بلا مانع ، وإلاّ لما کان یسقط به الوجوب ضرورة ، والتالی باطل بداهة ، فیکشف هذا عن عدم اعتبارٍ قصده فی الوقوع على صفة الوجوب قطعاً ، وانتظر لذلک تتمة (1) توضیح.
والعجب إنّه شدد النکیر على القول بالمقدمة الموصلة ، واعتبار ترتب ذی المقدمة علیها فی وقوعها على صفة الوجوب ، على ما حرره بعضٍ مقرری (2) بحثه (1) بما یتوجه على اعتبارٍ قصد التوصل فی وقوعها کذلک ، فراجع تمام کلامه زید فی علو مقامه ، وتأمّل فی نقضه وإبرامه.
وأما عدم اعتبارٍ ترتب ذی المقدمة علیها فی وقوعها على صفة الوجوب ، فلأنه لا یکاد یعتبر فی الواجب إلّا ما له دخل فی غرضه الداعی إلى إیجابه
__________________
1 ـ فی « ب » : جهة.
2 ـ راجع مطارح الأنظار / 74 و 75 فی المقدمة الموصلة.
والباعث على طلبه ، ولیس الغرض من المقدمة إلّا حصول ما لولاه لما أمکن حصول ذی المقدمة ، ضرورة إنّه لا یکاد یکون الغرض إلّا ما یترتب علیه من فائدته وأثره ، ولا یترتب على المقدمة إلّا ذلک ، ولا تفاوت فیه بین ما یترتب علیه الواجب ، وما لا یترتب علیه أصلاً ، وإنّه لا محالة یترتب علیهما ، کما لا یخفى.
وأما ترتب الواجب ، فلا یعقل أن یکون الغرض الداعی إلى إیجابها والباعث على طلبها ، فإنّه لیس بأثر تمام المقدّمات ، فضلاً عن أحدها فی غالب الواجبات ، فإن الواجب إلّا ما قل فی الشرعیات والعرفیات فعل اختیاری ، یختار المکلف تارةً إتیإنّه بعد وجود تمام مقدماته ، وأخرى عدم إتیإنّه ، فکیف یکون اختیار إتیإنّه غرضاً من إیجاب کلّ واحدة من مقدماته ، مع عدم ترتبه على تمامها (1) ، فضلاً عن کلّ واحدة منها؟
نعم فیما کان الواجب من الأفعال التسبیبیة والتولیدیة ، کان مترتباً لا محالة على تمام مقدماته ، لعدم تخلف المعلول عن علته.
ومن هنا [ قد ] (2) انقدح أن القول بالمقدمة الموصلة ، یستلزم إنکار وجوب المقدمة فی غالب الواجبات ، والقول بوجوب خصوص العلة التامة فی خصوص الواجبات التولیدیة.
فإن قلت : ما من واجب إلّا وله علّة تامة ، ضرورة استحالة وجود الممکن بدونها ، فالتخصیص بالواجبات التولیدیة بلا مخصص.
قلت : نعم وأنّ استحال صدور الممکن بلا علّة ، إلّا أن مبادىء اختیار الفعل الاختیاری من أجزاء علته ، وهی لا تکاد تتصف بالوجوب ، لعدم کونها
__________________
1 ـ فی « ب » : عامها.
2 ـ أثبتناها من « ب ».
بالاختیار ، وإلاّ لتسلسل ، کما هو واضح لمن تأمل ، ولأنّه لو کان معتبراً فیه الترتب ، لما کان الطلب یسقط بمجرد الإِتیان بها ، من دون انتظار لترتب الواجب علیها ، بحیث لا یبقى فی البین إلّا طلبه وإیجابه ، کما إذا لم تکن هذه بمقدمته (1) ، أو کانت حاصلة من الأوّل قبل إیجابه ، مع أن الطلب لا یکاد یسقط إلّا بالموافقة ، أو بالعصیان والمخالفة ، أو بارتفاع موضوع التکلیف ، کما فی سقوط الأمر بالکفن أو الدفن ، بسبب غرق المیت أحیاناً أو حرقه ، ولا یکون الإِتیان بها بالضرورة من هذه الأمور غیر الموافقة.
إن قلت : کما یسقط الأمر فی تلک الأمور ، کذلک یسقط بما لیس بالمأمور به فیما یحصل به الغرض منه ، کسقوطه فی التوصلیات بفعل الغیر ، أو المحرمات.
قلت : نعم ، ولکن لا محیص عن أن یکون ما یحصل به الغرض ، من الفعل الاختیاری للمکلف متعلقاً للطلب فیما لم یکن فیه مانع ، وهو کونه بالفعل محرماً ، ضرورة إنّه لا یکون بینهما تفاوت أصلاً ، فیکف یکون أحدهما متعلقاً له فعلاً دون الآخر؟
وقد استدل صاحب الفصول (2) على ما ذهب إلیه بوجوه ، حیث قال بعد بیان أن التوصل بها إلى الواجب ، من قبیل شرط الوجود لها لا من قبیل شرط الوجوب ، ما هذا لفظه :
( والذی یدلّک على هذا ـ یعنی الاشتراط بالتوصل ـ أن وجوب المقدمة لما کان من باب الملازمة العقلیة ، فالعقل لا یدلّ علیه زائداً على القدر المذکور ، وأیضاً لا یأبى العقل أن یقول الأمر الحکیم : أُرید الحج ، وأرید المسیر الذی
__________________
1 ـ فی « ب » : بمقدمة.
2 ـ الفصول / 86. فی التنبیه الأوّل من تنبیهات مقدّمة الواجب.
یتوصل به إلى فعل الواجب ، دون ما لم یتوصل به إلیه ؛ بل الضرورة قاضیة بجواز تصریح الآمر بمثل ذلک ، کما إنّها قاضیة بقبح التصریح بعدم مطلوبیتها له مطلقاً ، أو على تقدیر التوصل بها إلیه ، وذلک آیة عدم الملازمة بین وجوبه ووجوب مقدماته على تقدیر عدم التوصل بها إلیه ، وأیضاً حیث أن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله ، فلاجرم یکون التوصل بها إلیه وحصوله معتبراً فی مطلوبیتها ، فلا تکون مطلوبة إذا انفکت عنه ، وصریح الوجدان قاضٍ بأن من یرید شیئاً بمجرد حصول شیء آخر ، لا یریده إذا وقع مجردا عنه ، ویلزم منه أن یکون وقوعه على وجه المطلوب منوطا بحصوله ). انتهى موضع الحاجة من کلامه ، زید فی علو مقامه.
وقد عرفت بما لا مزید علیه ، أن العقل الحاکم بالملازمة دلّ على وجوب مطلق المقدمة ، لا خصوص ما إذا ترتب علیها الواجب ، فیما لم یکن هناک مانع عن وجوبه ، کما إذا کان بعضٍ مصادیقه محکوماً فعلاً بالحرمة ، لثبوت مناط الوجوب حینئذ فی مطلقها ، وعدم اختصاصه بالمقید بذلک منها.
وقد انقدح منه ، إنّه لیس للأمر الحکیم الغیر المجازف بالقول ذلک التصریح ، وأنّ دعوى أن الضرورة قاضیة بجوازه (1) مجازفة ، کیف یکون ذا مع ثبوت الملاک فی الصورتین بلا تفاوت أصلا؟ کما عرفت.
نعم إنّما یکون التفاوت بینهما فی حصول المطلوب النفسی فی إحداهما ، وعدم حصوله فی الأخرى ، من دون دخل لها فی ذلک أصلاً ، بل کان بحسن اختیار المکلف وسوء اختیاره ، وجاز للأمر أن یصرِّح بحصول هذا المطلوب فی إحداهما ، وعدم حصوله فی الأخرى ، [ بل من ] (2) حیث أن الملحوظ بالذات هو
__________________
1 ـ ادعاه صاحب الفصول ، حیث قال : ولا یأبى أن یقول الأمر الحکیم .. الخ ... / الفصول / 86.
2 ـ أثبتناها من « أ ».
هذا المطلوب ، وإنما کان الواجب الغیری ملحوظاً إجمالاً بتبعه ، کما یأتی أن وجوب المقدمة على الملازمة تبعیّ ، جاز فی صورة عدم حصول المطلوب النفسی التصریح بعدم حصول المطلوب أصلاً ، لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدمة ، فضلاً عن کونها مطلوبة ، کما جاز التصریح بحصول الغیری مع عدم فائدته لو التفت إلیها ، کما لا یخفى ، فافهم.
إن قلت : لعل التفاوت بینهما فی صحة اتصاف إحداهما بعنوان الموصلیة دون الأخرى ، أوجب التفاوت بینهما فی المطلوبیة وعدمها ، وجواز التصریح بهما ، وأنّ لم یکن بینهما تفاوت فی الأثر ، کما مرّ.
قلت : إنّما یوجب ذلک تفاوتاً فیهما ، لو کان ذلک لأجل تفاوت فی ناحیة المقدمة ، لا فیما إذا لم یکن فی ناحیتها أصلاً ـ کما هاهنا ـ ضرورة أن الموصلیة إنّما تنتزع من وجود الواجب ، وترتبه علیها من دون اختلاف فی ناحیتها ، وکونها فی کلاّ الصورتین على نحو واحد وخصوصیة واحدة ، ضرورة أن الإِتیان بالواجب بعد الإِتیان بها بالاختیار تارةً ، وعدم الإِتیان به کذلک أُخرى ، لا یوجب تفاوتاً فیها ، کما لا یخفى.
وأما ما أفاده (1) 1 من أن مطلوبیة المقدمة حیث کانت بمجرد التوصل بها ، فلا جرم یکون التوصل بها إلى الواجب معتبراً فیها.
ففیه : إنّه إنّما کانت مطلوبیتها لأجل عدم التمکن من التوصل بدونها ، لا لأجل التوصل بها ، لما عرفت من إنّه لیس من آثارها ، بل مما یترتب علیها أحیاناً بالاختیار بمقدمات أُخرى ، وهی مبادىء اختیاره ، ولا یکاد یکون مثل ذا غایة لمطلوبیتها وداعیاً إلى إیجابها ، وصریح الوجدان إنّما یقتضی بأن ما أُرید لأجل غایة ، وتجرد عن الغایة بسبب عدم حصول سائر ماله دخل فی حصولها ،
__________________
1 ـ الفصول / 86 ، فی تنبیهات مقدّمة الواجب.
یقع على ما هو علیه من المطلوبیة الغیریة ، کیف؟ وإلاّ یلزم أن یکون وجودها من قیوده ، ومقدمة لوقوعه على نحو یکون الملازمة بین وجوبه بذاک النحو ووجوبها.
وهو کما ترى ، ضرورة أن الغایة لا تکاد تکون قیداً لذی الغایة ، بحیث کان تخلفها موجباً لعدم وقوع ذی الغایة على ما هو علیه من المطلوبیة الغیریة ، وإلاّ یلزم أن تکون مطلوبة بطلبه کسائر قیوده ، فلا یکون وقوعه على هذه الصفة منوطا بحصولها ، کما أفاده.
ولعل منشأ توهمه ، خلطه بین الجهة التقییدیة والتعلیلیة. هذا. مع ما عرفت من عدم التخلف ها هنا ، وأنّ الغایة إنّما هو حصول ما لولاه لما تمکن من التوصل إلى المطلوب النفسی ، فافهم واغتنم.
ثم إنّه لا شهادة على الاعتبار فی صحة منع المولى عن مقدماته بأنحائها ، إلّا فیما إذا رتب علیه الواجب لو سلّم أصلاً ، ضرورة إنّه وأنّ لم یکن الواجب منها حینئذ غیر الموصلة ، إلّا إنّه لیس لأجل اختصاص الوجوب بها فی باب المقدمة ، بل لأجل المنع عن غیرها المانع عن الاتصاف بالوجوب هاهنا ، کما لا یخفى.
مع أن فی صحة المنع عنه کذلک نظراً ، وجهه إنّه یلزم أن لا یکون ترک الواجب حینئذ مخالفة وعصیاناً ، لعدم التمکن شرعاً منه ، لاختصاص جواز مقدمته بصورة الإِتیان به.
وبالجملة یلزم أن یکون الإِیجاب مختصاً بصورة الإِتیان ، لاختصاص جواز المقدمة بها وهو محال (1) فإنّه یکون من طلب الحاصل المحال ، فتدبرّ جیداً.
__________________
1 ـ حیث کان الإِیجاب فعلاً متوقفاً على جواز المقدمة شرعاً ، وجوازها کذلک کان متوقفاً على إیصالها المتوقف على الإِتیان بذی المقدمة بداهة ، فلا محیص إلّا عن کون إیجابه على تقدیر الإِتیان به ، وهو من طلب الحاصل الباطل « منه 1 ».
بقی شیء وهو أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة ، هی تصحیح العبادة التی یتوقف على ترکها فعل الواجب ، بناءً على کون ترک الضد مما یتوقف علیه فعل ضدّه ، فإن ترکها على هذا القول لا یکون مطلقاً واجباً ، لیکون فعلها محرماً ، فتکون فاسدة ، بل فیما یترتب علیه الضد الواجب ، ومع الإِتیان بها لا یکاد یکون هناک ترتب ، فلا یکون ترکها مع ذلک واجباً ، فلا یکون فعلها منهیاً عنه ، فلا تکون فاسدة.
وربما أورد (1) على تفریع هذه الثمرة بما حاصله : بأن فعل الضد ، وأنّ لم یکن نقیضاً للترک الواجب مقدّمة ، بناءً على المقدمة الموصلة ، إلّا إنّه لازم لما هو من أفراد النقیض ، حیث إنَّ نقیض ذاک الترک الخاص رفعه ، وهو أعم من الفعل والترک الآخر المجرد ، وهذا یکفی فی إثبات الحرمة ، وإلاّ لم یکن الفعل المطلق محرماً فیما إذا کان الترک المطلق واجباً ، لأن الفعل أیضاً لیس نقیضاً للترک ، لأنه أمر وجودی ، ونقیض الترک إنّما هو رفعه ، ورفع الترک إنّما یلازم الفعل مصداقاً ، ولیس عینه ، فکما أن هذه الملازمة تکفی فی إثبات الحرمة لمطلق الفعل ، فکذلک تکفی فی المقام ، غایة الأمر أن ما هو النقیض فی مطلق الترک ، إنّما ینحصر مصداقه فی الفعل فقط ، وأما النقیض للترک الخاص فله فردان ، وذلک لا یوجب فرقاً فیما نحن بصدده ، کما لا یخفى.
قلت : وأنت خبیر بما بینهما من الفرق ، فإن الفعل فی الأوّل لا یکون إلّا مقارناً لما هو النقیض ، من رفع الترک المجامع معه تارةً ، ومع الترک المجرد أُخرى ، ولا تکاد تسری حرمة الشیء إلى ما یلازمه ، فضلاً عما یقارنه أحیاناً.
نعم لابد أن لا یکون الملازم محکوماً فعلاً بحکم آخر على خلاف حکمه ، لا أن یکون محکوماً بحکمه ، وهذا بخلاف الفعل فی الثّانی ، فإنّه
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 78.
بنفسه یعاند الترک المطلق وینافیه ، لا ملازم لمعانده ومنافیه ، فلو لم یکن عین ما یناقضه بحسب الاصطلاح مفهوماً ، لکنه متحد معه عیناً و خارجاً ، فإذا کان الترک واجباً ، فلا محالة یکون الفعل منهیاً عنه قطعاً ، فتدبرّ جیداً.
ومنها : تقسیمه إلى الأصلی والتبعی ، والظاهر أن یکون هذا التقسیم بلحاظ الاصالة والتبعیة فی الواقع ومقام الثبوت ، حیث یکون الشیء تارةً متعلقاً للارادة والطلب مستقلاً ، للالتفات إلیه بما هو علیه مما یوجب طلبه فیطلبه ، کان طلبه نفسیاً أو غیریاً ، وأخرى متعلقاً للارادة تبعا لارادة غیره ، لأجل کون إرادته لازمة لإِرادته ، من دون التفات إلیه بما یوجب إرادته ، لا بلحاظ الاصالة والتبعیة فی مقام الدلالة والإِثبات (1) ، فإنّه یکون فی هذا المقام ، تارةً مقصودا بالإِفادة ، وأخرى غیر مقصود بها على حدة ، إلّا إنّه لازم الخطاب ، کما فی دلالة الإِشارة ونحوها.
وعلى ذلک ، فلا شبهة فی انقسام الواجب الغیری إلیهما ، واتّصافه بالاصالة والتبعیة کلیهما ، حیث یکون متعلقاً للارادة على حدة عند الالتفات إلیه بما هو مقدّمة ، وأخرى لا یکون متعلقاً لها کذلک عند عدم الالتفات إلیه کذلک ، فإنّه یکون لا محالة مراداً تبعا لارادة ذی المقدمة على الملازمة.
کما لا شبهة فی اتصاف النفسی أیضاً بالاصالة ، ولکنه لا یتصف بالتبعیة ، ضرورة إنّه لا یکاد یتعلق به الطلب النفسی ما لم تکن فیه مصلحة نفسیّة ، ومعها یتعلق الطلب بها مستقلاً ، ولو لم یکن هناک شیء آخر مطلوب أصلاً ، کما لا یخفى.
نعم لو کان الاتصاف بهما بلحاظ الدلالة ، اتصف النفسی بهما أیضاً ،
__________________
1 ـ کما هو مذهب صاحبی القوانین والفصول ( قدس سرهما ).
القوانین 1 / 101 ـ 102 ، فی مقدّمة الواجب ، المقدمة السادسة والسابعة.
الفصول / 82.
ضرورة إنّه قد یکون غیر مقصودة بالإِفادة ، بل اُفید بتبع غیره المقصود بها ، لکن الظاهر ـ کما مر ـ أن الاتصاف بهما إنّما هو فی نفسه ، لا بلحاظ حال الدلالة علیه ، وإلاّ لما اتصف بواحد منهما ، إذا لم یکن بعد مفاد دلیل ، وهو کما ترى.
ثم إنّه إذا کان الواجب التبعی ما لم یتعلق به إرادة مستقلة ، فإذا شک فی واجب إنّه أصلی أو تبعیّ ، فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به یثبت إنّه تبعیّ ، ویترتب علیه آثاره إذا فرض له آثار شرعیة (1) ، کسائر الموضوعاًت المتقومة بأمور عدمیة.
نعم لو کان التبعی أمراً وجودیاً خاصاً غیر متقوّم بعدمی ، وأنّ کان یلزمه ، لما کان یثبت بها إلّا على القول بالأصل المثبت ، کما هو واضح ، فافهم.
تذنیب : فی بیان الثمرة ، وهی فی المسألة الأصولیة ـ کما عرفت سابقاً ـ لیست إلّا أن تکون نتیجتها صالحة للوقوع فی طریق الاجتهاد ، واستنباط حکم فرعیّ ، کما لو قیل بالملازمة فی المسألة ، فإنّه بضمیمة مقدّمة کون شیء مقدّمة لواجب یستنتج إنّه واجب.
ومنه قد انقدح ، إنّه لیس منها مثل برءِ النذر بإتیان مقدّمة واجب ، عند نذر الواجب ، وحصول الفسق بترک الواجب بمقدماته إذا کانت له مقدمات کثیرة ، لصدق الإِصرار على الحرام بذلک ، وعدم جواز أخذ الاجرة على المقدمة.
مع أنَّ البرء وعدمه إنّما یتبعان قصد الناذر ، فلا برء بإتیان المقدمة لو قصد الوجوب النفسی ، کما هو المنصرف عند إطلاقه ولو قیل بالملازمة ، وربما
__________________
1 ـ فی نسختی « أ و ب » : آثار شرعی.
یحصل البرء به لو قصد ما یعم المقدمة ولو قیل بعدمها ، کما لا یخفى.
ولا یکاد یحصل الإِصرار على الحرام بترک واجب ، ولو کانت له مقدمات غیر عدیدة ، لحصول العصیان بترک أول مقدّمة لا یتمکن معه من الواجب ، ولا یکون ترک سائر المقدّمات بحرام أصلاً ، لسقوط التکلیف حینئذ ، کما هو واضح لا یخفى.
وأخذ الاجرة على الواجب لا بأس به ، إذا لم یکن إیجابه على المکلف مجاناً وبلا عوض ، بل کان وجوده المطلق مطلوباً کالصناعات الواجبة کفائیة التی لا یکاد ینتظم بدونها البلاد ، ویختل لولاها معاش العباد ، بل ربما یجب أخذ الاجرة علیها لذلک ، أیّ لزوم الاختلال وعدم الانتظام لولا أخذها ، هذا فی الواجبات التوصلیة.
وأما الواجبات التعبدیة ، فیمکن أن یقال بجواز أخذ الاجرة على إتیإنّها بداعی امتثالها ، لا على نفس الإِتیان ، کی ینافی عبادیتها ، فیکون من قبیل الداعی إلى الداعی ، غایة الأمر یعتبر فیها ـ کغیرها ـ أن یکون فیها منفعة عائدة إلى المستاجر ، کی لا تکون المعاملة سفهیة ، وأخذ الاجرة علیها أکلاً بالباطل.
وربما یجعل (1) من الثمرة ، اجتماع الوجوب والحرمة ـ إذا قیل بالملازمة ـ فیما کانت المقدمة محرمة ، فیبتنی على جواز اجتماع الأمر والنهی وعدمه ، بخلاف ما لو قیل بعدمها ، وفیه :
أولا : إنّه لا یکون من باب الاجتماع ، کی تکون مبتنیة علیه ، لما أشرنا إلیه غیر مرة ، أنَّ الواجب ما هو بالحمل الشائع مقدّمة ، لا بعنوان المقدمة ، فیکون على الملازمة من باب النهی فی العبادة والمعاملة.
__________________
1 ـ نسب إلى الوحید البهبهانی ، مطارح الأنظار / 81.
وثانیاً : (1) إن الاجتماع وعدمه لا دخل له فی التوصل (2) بالمقدمة المحرمة وعدمه أصلاً ، فإنّه یمکن التوصل (3) بها إن کانت توصلیة ، ولو لم نقل بجواز الاجتماع ، وعدم جواز التوصل (4) بها إن کانت تعبدیة على القول بالامتناع ، قیل بوجوب المقدمة أو بعدمه ، وجواز التوصل (5) بها على القول بالجواز کذلک ، أیّ قیل بالوجوب أو بعدمه.
وبالجملة لا یتفاوت الحال فی جواز التوصل (6) بها ، وعدم جوازه أصلاً ، بین أن یقال بالوجوب ، أو یقال بعدمه ، کما لا یخفى.
فی تأسیس الأصل فی المسألة
إعلم إنّه لا أصل فی محلّ البحث فی المسألة ، فإن الملازمة بین وجوب المقدمة ووجوب ذی المقدمة وعدمها لیست لها حالة سابقة ، بل تکون الملازمة أو عدمها أزلیّة ، نعم نفس وجوب المقدمة یکون مسبوقاً بالعدم ، حیث یکون حادثا بحدوث وجوب ذی المقدمة ، فالأصل عدم وجوبها.
وتوهمّ عدم جریإنّه ، لکون وجوبها على الملازمة ، من قبیل لوازم الماهیة ، غیر مجعولة ، ولا أثر آخر مجعول مترتب علیه ، ولو کان لم یکن بمهم ها هنا ، مدفوع بإنّه وأنّ کان غیر مجعول بالذات ، لا بالجعل البسیط الذی هو مفاد کان التامة ، ولا بالجعل التألیفی الذی هو مفاد کان الناقصة ، إلّا إنّه
__________________
1 ـ قد حذف المصنف 1 إشکالاً آخر من نسختی « أ و ب » ، وجعل الثالث مکإنّه ، وهذا یشعر بإضرابه عن الایراد الثّانی وهو قوله : « لا یکاد یلزم الاجتماع أصلاً ، لاختصاص الوجوب بغیر المحرم ، فی غیر صورة الانحصار به ، وفیها امّا لا وجوب للمقدمة ، لعدم وجوب ذی المقدمة لأجل المزاحمة ، واما لاحرمة لها لذلک ، کما لا یخفى ».
2 ـ فی « أ » : التوسل.
3 و 4 و 5 و 6 ـ فی « أ و ب » : التوسل.
مجعول بالعرض ، ویتبع جعل وجوب ذی المقدمة ، وهو کافٍ فی جریان الأصل.
ولزوم التفکیک بین الوجوبین مع الشک لا محالة ، لاصالة عدم وجوب المقدمة مع وجوب ذی المقدمة ، لا ینافی الملازمة بین الواقعیین ، وإنما ینافی الملازمة بین الفعلیین ، نعم لو کانت الدعوى هی الملازمة المطلقة حتى فی المرتبة الفعلیة ، لما صحّ التمسک بالأصل ، کما لا یخفى.
إذا عرفت ما ذکرنا ، فقد تصدى غیر واحد من الأفاضل (1) لاقامة البرهان على الملازمة ، وما أتى منهم بواحد خال عن الخلل ، والأولى إحالة ذلک إلى الوجدان ، حیث إنّه أقوى شاهد على أن الإانسان إذا أراد شیئاً له مقدمات ، أراد تلک المقدّمات ، لو التفت إلیها بحیث ربما یجعلها فی قالب الطلب مثله ، ویقول مولویاً ( أدخل السوق واشتر اللحم ) مثلاً ، بداهة أن الطلب المنشأ بخطاب ( أدخل ) مثل المنشأ بخطاب ( إشتر ) فی کونه بعثاً مولویاً ، وإنّه حیث تعلقت إرادته بإیجاد عبده الاشتراء ، ترشحت منها له إرادة أُخرى بدخو السوق ، بعد الالتفات إلیه وإنّه یکون مقدّمة له ، کما لا یخفى.
ویؤید الوجدان ، بل یکون من أوضح البرهان ، وجود الأوامر الغیریة فی الشرعیات والعرفیات ، لوضوح إنّه لا یکاد یتعلق بمقدمة أمر غیری ، إلّا إذا کان فیها مناطه ، وإذا کان فیها کان فی مثلها ، فیصحّ تعلقه به أیضاً ، لتحقق ملاکه ومناطه ، والتفصیل بین السبب وغیره والشرط الشرعی وغیره سیأتی بطلإنّه ، وإنّه لا تفاوت فی باب الملازمة بین مقدّمة ومقدمة.
ولا بأس بذکر الاستدلال الذی هو کالأصل لغیره ـ مما ذکره الأفاضل (2)
__________________
1 ـ انظر مطارح الأنظار / 83 ، فی أدلة القائلین بوجوب المقدمة.
2 ـ المصدر السابق / 83 ـ 84 ، الفصول / 84 ، هدایة المسترشدین / 205 ، نهایة الأصول / 88 ، فی المبحث الأوّل من الفصل الخامس فی أحکام الوجوب.
من الاستدلالات ـ وهو ما ذکره أبو الحسن [ الحسین ] (1) البصری (2) ، وهو إنّه لو لم یجب المقدمة لجاز ترکها ، وحینئذ ، فإن بقی الواجب على وجوبه یلزم التکلیف بما لا یطاق ، وإلاّ خرج الواجب المطلق عن وجوبه.
وفیه : ـ بعد إصلاحه بإرادة عدم المنع الشرعی من التالی فی الشرطیّة الأولى ، لا الإِباحة الشرعیة ، وإلاّ کانت الملازمة واضحة البطلان ، وإرادة الترک عما أضیف إلیه الظرف ، لا نفس الجواز ، وإلاّ فمجرد الجواز بدون الترک ، لا یکاد یتوهم معه (3) صدق القضیة الشرطیّة الثانیة ـ ما لا یخفى ؛ فان الترک بمجرد عدم المنع شرعاً لا یوجب صدق إحدى الشرطیتین ، ولا یلزم أحد المحذورین ، فإنّه وأنّ لم یبق له وجوب معه ، إلّا إنّه کان ذلک بالعصیان ، لکونه متمکناً من الإطاعة والإِتیان ، وقد اختار ترکه بترک مقدمته بسوء اختیاره ، مع حکم العقل بلزوم إتیإنّها ، إرشاداً إلى ما فی ترکها من العصیان المستتبع للعقاب.
نعم لو کان المراد من الجواز الترک شرعاً وعقلاً ، یلزم أحد المحذورین ، إلّا أن الملازمة على هذا فی الشرطیّة الأولى ممنوعة ، بداهة إنّه لو لم یجب شرعاً لا یلزم أن یکون جائزاً شرعاً وعقلاً ، لإمکان أن لا یکون محکوماً بحکم شرعاً ، وأنّ کان واجباً عقلاً إرشاداً ، وهذا واضح.
وأما التفصیل بین السبب وغیره ، فقد استدل (4) على وجوب السبب ،
__________________
1 ـ ما أثبتناه هو الصواب ، راجع المعتمد فی أصول الفقه 1 / 94 ، لأبی الحسین البصری.
2 ـ هو أبو الحسن علی بن إسماعیل بن إسحاق الاشعری من نسل أبی موسى الاشعری ولد فی البصرة سنة 260 ه ، تلقى مذهب المعتزلة وتقدم فیهم ، ثم رجع وجاهر بخلافهم ، وأسس مذهب الأشاعرة ، بلغت مصنفاته ثلاثمأة کتاب ، توفی ببغداد سنة 326 ه ( اعلام الزرکلی 4 / 263 ).
3 ـ فی «ب» قضیة.
4 ـ بدائع الأفکار / 353 ، القول الثالث فی وجوب المقدمة.
بأن التکلیف لا یکاد یتعلق إلّا بالمقدور ، والمقدور لا یکون إلّا هو السبب ، وإنما المسبب من آثاره المترتبة علیه قهرا ، ولا یکون من أفعال المکلف وحرکاته أو سکناته ، فلا د من صرف الأمر المتوجه إلیه عنه إلى سببه.
ولا یخفى ما فیه ، من إنّه لیس بدلیل على التفصیل ، بل على أن الأمر النفسی إنّما یکون متعلقاً بالسبب دون المسبب ، مع وضوح فساده ، ضرورة أن المسبب مقدور المکلف ، وهو متمکن عنه بواسطة السبب ، ولا یعتبر فی التکلیف أزید من القدرة ، کانت بلا واسطة أو معها ، کما لا یخفى.
وأما التفصیل بین الشرط الشرعی وغیره ، فقد استدل (1) على الوجوب فی الأوّل بإنّه لولا وجوبه شرعاً لما کان شرطاً ، حیث إنّه لیس مما لا بدّ منه عقلاً أو عادة.
وفیه ـ مضافاً إلى ما عرفت من رجوع الشرط الشرعی إلى العقلی ـ إنّه لا یکاد یتعلق الأمر الغیری إلّا بما هو مقدّمة الواجب ، فلو کانت مقدمیته متوقفة على تعلقه بها لدار ، والشرطیة وأنّ کانت منتزعة عن التکلیف ، إلّا إنّه عن التکلیف النفسی المتعلق بما قید بالشرط ، لا عن الغیری ، فافهم.
تتمة : لا شبهة فی أن مقدّمة المستحب کمقدمة الواجب ، فتکون مستحبة ـ لو قیل بالملازمة ـ وأما مقدّمة الحرام والمکروه فلا تکاد تتصف بالحرمة أو الکراهة ، إذ منها ما یتمکن معه من ترک الحرام أو المکروه اختیاراً ، کما کان متمکناً قبله ، فلا دخل له أصلاً فی حصول ما هو المطلوب من ترک الحرام أو المکروه ، فلم یترشح من طلبه طلب ترک مقدمتهما ، نعم ما لا یتمکن معه من الترک المطلوب ، لا محالة یکون مطلوب الترک ، ویترشح من طلب ترکهما طلب ترک خصوص هذه المقدمة ، فلو لم یکن للحرام مقدّمة لا یبقى
__________________
1 ـ المصدر المتقدم / 354 ، القول الرابع فی وجوب المقدمة.
معها اختیار ترکه لما اتصف بالحرمة مقدّمة من مقدماته.
لا یقال : کیف؟ ولا یکاد یکون فعل إلّا عن مقدّمة لا محالة معها یوجد ، ضرورة أن الشیء ما لم یجب لم یوجد.
فإنّه یقال : نعم لا محالة یکون من جملتها ما یجب معه صدور الحرام ، لکنه لا یلزم أن یکون ذلک من المقدّمات الاختیاریة ، بل من المقدّمات الغیر الاختیاریة ، کمبادىء الاختیار التی لا تکون بالاختیار ، وإلاّ لتسلسل ، فلا تغفل ، وتأمل.
فصل
الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضدّه ، أو لا؟
فیه أقوال ، وتحقیق الحال یستدعی رسم أمور :
الأول : الاقتضاء فی العنوان أعم من أن یکون بنحو العینیة ، أو الجزئیة ، أو اللزوم من جهة التلازم بین طلب أحد الضدین ، وطلب ترک الآخر ، أو المقدمیة على ما سیظهر ، کما أن المراد بالضد هاهنا ، هو مطلق المعاند والمنافی وجودیاً کان أو عدمیاً.
الثانی : إن الجهة المبحوثة عنها فی المسألة ، وأنّ کانت إنّه هل یکون للأمر اقتضاء بنحو من الأنحاء المذکورة ، إلّا إنّه لما کان عمدة القائلین بالاقتضاء فی الضد الخاص ، إنّما ذهبوا إلیه لأجل توهّم مقدمیة ترک الضد ، کان المهمّ صرف عنان الکلام فی المقام إلى بیان الحال وتحقیق المقال ، فی المقدمیة وعدمها ، فنقول وعلى الله الاتکال :
إن توهّم توقف الشیء على ترک ضدّه ، لیس إلّا من جهة المضادًة والمعاندة بین الوجودین ، وقضیتها الممانعة بینهما ، ومن الواضحات أن عدم
القضاء بطریق أولى ، نعم لو دلّ دلیله على أن سببه فوت الواقع ، ولو لم یکن هو فریضة ، کان القضاء واجباً علیه ، لتحقق سببه ، وأنّ أتى بالفرض لکنه مجرد الفرض.
المقام الثّانی : فی إجزاء الإِتیان بالمأمور به بالأمر الظاهری وعدمه.
والتحقیق : أن ما کان منه یجری فی تنقیح ما هو موضوع التکلیف وتحقیق متعلقه ، وکان بلسان تحقق ما هو شرطه أو شطره ، کقاعدة الطهارة أو الحلیة ، بل واستصحابهما فی وجه قوی ، ونحوها بالنسبة إلى کلّ ما اشترط بالطهارة أو الحلیة یجری ، فإن دلیله یکون حاکماً على دلیل الاشتراط ، ومبیّناً لدائرة الشرط ، وإنّه أعم من الطهارة الواقعیة والظاهریة ، فانکشاف الخلاف فیه لا یکون موجباً لانکشاف فقدان العمل لشرطه ، بل بالنسبة إلیه یکون من قبیل ارتفاعه من حین ارتفاع الجهل ، وهذا بخلاف ما کان منها بلسان إنّه ما هو الشرط واقعاً ، کما هو لسان الأمارات ، فلا یجزئ ، فإن دلیل حجیته حیث کان بلسان إنّه واجد لما هو شرطه الواقعی ، فبارتفاع الجهل ینکشف إنّه لم یکن کذلک ، بل کان لشرطه فاقداً (1). هذا على ما هو الأظهر الأقوى فی الطرق والامارات ، من أن حجیتها لیست بنحو السببیة.
وأما بناءً علیها ، وأنّ العمل بسبب أداءً أمارة إلى وجدان شرطه أو شطره ، یصیر حقیقة صحیحاً کإنّه واجد له ، مع کونه فاقده ، فیجزئ لو کان الفاقد معه ـ فی هذا الحال ـ کالواجد فی کونه وافیاً بتمام الغرض ، ولا یجزئ لو لم یکن کذلک ، ویجب الإِتیان بالواجد لاستیفاء الباقی ـ إن وجب ـ وإلاّ لاستحب. هذا مع إمکان استیفائه ، وإلاّ فلا مجال لاتیإنّه ، کما عرفت فی الأمر الاضطراری.
__________________
1 ـ فی « أ و ب » : فاقد.
ولا یخفى أن قضیة إطلاق دلیل الحجیة ـ على هذا ـ هو الاجتزاء بموافقته أیضاً ، هذا فیما إذا أحرز أن الحجیة بنحو الکشف والطریقیة ، أیّ بنحو الموضوعیة والسببیة.
وأما إذا شک [ فیها ] (1) ولم یحرز إنّها على أیّ الوجهین ، فأصالة عدم الإِتیان بما یسقط معه التکلیف مقتضیة للاعادة فی الوقت ، واستصحاب عدم کون التکلیف بالواقع فعلّیاً فی الوقت لا یجدی ، ولا یثبت کون ما أتى به مسقطاً ، إلّا على القول بالأصل المثبت ، وقد علم اشتغال ذمته بما یشک فی فراغها عنه بذلک المأتی.
وهذا بخلاف ما إذا علم إنّه مأمور به واقعاً ، وشک فی إنّه یجزئ عما هو المأمور به الواقعی الأولی ، کما فی الأوامر الاضطراریة أو الظاهریة ، بناءً على أن یکون الحجیة على نحو السببیة ، فقضیة الأصل فیها ـ کما أشرنا إلیه ـ عدم وجوب الإِعادة ، للاتیان بما اشتغلت به الذمة یقیناً ، وأصالة عدم فعلیة التکلیف الواقعی بعد رفع الاضطرار وکشف الخلاف.
وأما القضاء فلا یجب بناءً على إنّه فرض جدید ، وکان الفوت المعلّق علیه وجوب لا یثبت بأصالة عدم الإِتیان ، إلّا على القول بالأصل المثبت ، وإلاّ فهو واجب ، کما لا یخفى على المتأمل ، فتأمل جیداً.
ثم إن هذا کله فیما یجری فی متعلق التکالیف ، من الأمارات الشرعیة و الأصول العملیة.
وأما ما یجری فی إثبات أصل التکلیف ، کما إذا قام الطریق أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة یومها فی زمان الغیبة ، فانکشف بعد أدائها وجوب صلاة الظهر فی زمإنّها ، فلا وجه لاجزائها مطلقاً ، غایة الأمر أن تصیر صلاة الجمعة فیها ـ أیضاً ـ ذات مصلحة لذلک ، ولا ینافی هذا بقاء صلاة الظهر على ما هی علیه من المصلحة ، کما لا یخفى ، إلّا أن یقوم دلیل بالخصوص على عدم وجوب صلاتین فی یوم واحد.
__________________
1 ـ أثبتناها من « أ ».
تذنیبان :
الأول : لا ینبغی توهّم الإِجزاء فی القطع بالأمر فی صورة الخطأ ، فإنّه لا یکون موافقة للأمر فیها ، وبقی الأمر بلا موافقة أصلاً ، وهو أوضح من أن یخفى ، نعم ربما یکون ما قطع بکونه مأموراً به مشتملاً على المصلحة فی هذا الحال ، أو على مقدار منها ، ولو فی غیر الحال ، غیر ممکن مع استیفائه استیفاء الباقی منها ، ومعه لا یبقى مجال لامتثال الأمر الواقعی ، وهکذا الحال فی الطرق ، فالإجزاء لیس لأجل اقتضاء امتثال الأمر القطعی أو الطریقی للإِجزاء ـ بل إنّما هو لخصوصیة اتفاقیة فی متعلقهما ، کما فی الإتمام والقصر ، والإِخفات والجهر.
الثانی : لا یذهب علیک أن الإِجزاء فی بعضٍ موارد الأصول والطرق والامارات ، على ما عرفت تفصیله ، لا یوجب التصویب المجمع على بطلإنّه فی تلک الموارد ، فإن الحکم الواقعی بمرتبته محفوظ فیها ، فإن الحکم المشترک بین العالم والجاهل والملتفت والغافل ، لیس إلّا الحکم الإنشائی المدلول علیه بالخطابات المشتملة على بیان الأحکام للموضوعاًت بعناوینها الأولیة ، بحسب ما یکون فیها من المقتضیات ، وهو ثابت فی تلک الموارد کسائر موارد الأمارات ، وإنما المنفی فیها لیس إلّا الحکم الفعلّی البعثی ، وهو منفی فی غیر موارد الإصابة ، وأنّ لم نقل بالإجزاء ، فلا فرق بین الإِجزاء وعدمه ، إلّا فی سقوط التکلیف بالواقع بموافقة الأمر الظاهری ، وعدم سقوطه بعد انکشاف عدم الإصابة ، وسقوط التکلیف بحصول غرضه ، أو لعدم إمکان تحصیله غیر التصویب المجمع على بطلإنّه ، وهو خلو الواقعة عن الحکم غیر ما أدت إلیه الامارة ، کیف؟ وکان الجهل بها ـ بخصوصیتها أو بحکمها ـ مأخوذاً فی موضوعها ، فلا بد من أن یکون الحکم الواقعی بمرتبته محفوظاً فیها ، کما لا یخفى.
فصل
فی مقدّمة الواجب
وقبل الخوض فی المقصود ، ینبغی رسم أمور :
الأول : الظاهر أن المهم المبحوث عنه فی هذه المسألة ، البحث عن الملازمة بین وجوب الشیء ووجوب مقدمته ، فتکون مسألة أُصولیة ، لا عن نفس وجوبها ، کما هو المتوهم من بعضٍ العناوین (1) ، کی تکون فرعیة ، وذلک لوضوح أن البحث کذلک لا یناسب الأُصولی ، والاستطراد لا وجه له ، بعد إمکان أن یکون البحث على وجه تکون عن المسائل الأصولیة.
ثم الظاهر أیضاً أن المسألة عقلیة ، والکلام فی استقلال العقل بالملازمة وعدمه ، لا لفظیة کما ربما یظهر من صاحب المعالم (2) ، حیث استدل على النفی بانتفاء الدلالات الثلاث ، مضافاً إلى إنّه ذکرها فی مباحث الألفاظ ، ضرورة (3) إنّه إذا کان نفس الملازمة بین وجوب الشیء ووجوب مقدمته ثبوتاً محلّ الإِشکال ، فلا مجال لتحریر النزاع فی الإِثبات والدلالة علیها بإحدى الدلالات الثلاث ، کما لا یخفى.
الأمر الثّانی : إنّه ربما تقسم المقدمة إلى تقسیمات :
منها : تقسیمها إلى [ ال ] داخلیة وهی الإِجزاء المأخوذة فی الماهیة المأمور بها ، والخارجیة وهی الأمور الخارجة عن ماهیته مما لا یکاد یوجد بدونه.
__________________
1 ـ کما فی حاشیة القزوینی (ره) على القوانین.
وربما یتوهم من عنوان البدائع ، البدائع / 296 عند قوله أحدهما ... فی آخر الصفحة.
2 ـ معالم الدین فی الأصول / 61 ، فی مقدّمة الواجب.
3 ـ اشارة إلى ما اورده صاحب التقریرات على صاحب المعالم مطارح الأنظار / 37 ، فی مقدّمة الواجب.
وربما یشکل (1) فی کون الإِجزاء مقدّمة له وسابقة علیه ، بأن المرکب لیس إلّا نفس الأجزاء بأسرها.
والحل : إن المقدمة هی نفس الإِجزاء بالأسر ، وذو المقدمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع ، فیحصل المغایرة بینهما.
وبذلک ظهر إنّه لابد فی اعتبارٍ الجزئیة أخذ الشیء بلا شرط ، کما لابد فی اعتبارٍ الکلیة من اعتبارٍ اشتراط الاجتماع.
وکون الإِجزاء الخارجیة کالهیولى والصورة ، هی الماهیة المأخوذة بشرط لا ینافی ذلک ، فإنّه إنّما یکون فی مقام الفرق بین نفس الإِجزاء الخارجیة والتحلیلیة ، من الجنس والفصل ، وأنّ الماهیة إذا أخذت بشرط لا تکون هیولى أو صورة ، وإذا أخذت لا بشرط تکون جنساً أو فصلاً ، لا بالإضافة إلى المرکب ، فافهم.
ثم لا یخفى إنّه ینبغی خروج الأجزاء عن محلّ النزاع ، کما صرح به بعضٍ (2) وذلک لما عرفت من کون الإِجزاء بالأسر عین المأمور به ذاتاً ، وإنما کانت المغایرة بینهما اعتباراً ، فتکون واجبة بعین وجوبه ، ومبعوثاً إلیها بنفس الأمر الباعث إلیه ، فلا تکاد تکون واجبة بوجوب آخر ، لامتناع اجتماع المثلین ، ولو قیل بکفایة تعدَّد الجهة ، وجواز اجتماع الأمر والنهی معه ، لعدم تعددها ها هنا ، لأن الواجب بالوجوب الغیری ، لو کان إنّما هو نفس الإِجزاء ، لا عنوان مقدمیتها والتوسل بها إلى المرکب المأمور به ؛ ضرورة أن الواجب بهذا الوجوب ما کان بالحمل الشائع مقدّمة ، لإنّه المتوقف علیه ، لا عنوإنّها ، نعم یکون هذا العنوان علّة لترشح الوجوب على المعنون.
__________________
1 ـ هو المحقق صاحب حاشیة المعالم. هدایة المسترشدین/ 216.
2 ـ وهو سلطان العلماء کما فی بدائع الأفکار / 299.
فانقدح بذلک فساد توهّم اتصاف کلّ جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسی والغیری ، باعتبارین ، فباعتبار کونه فی ضمن الکلّ واجب نفسی ، وباعتبار کونه مما یتوسل به إلى الکلّ واجب غیری ، اللهم إلّا أن یرید أن فیه ملاک الوجوبین ، وأنّ کان واجباً بوجوب واحد نفسی لسبقه ، فتأمل (1). هذا کله فی المقدمة الداخلیة.
وأما المقدمة الخارجیة ، فهی ما کان خارجاً عن المأمور به ، وکان له دخل فی تحققه ، لا یکاد یتحقق بدونه ، وقد ذکر لها أقسام ، وأطیلَ الکلامُ فی تحدیدها بالنقض والأبرام ، إلّا إنّه غیر مهم فی المقام.
ومنها : تقسیمها إلى العقلیة والشرعیة والعادیة :
فالعقلیة هی (2) ما استحیل واقعاً وجود ذی المقدمة بدونه.
والشرعیة على ما قیل : ما استحیل وجوده بدونه شرعاً ، ولکنه لا یخفى رجوع الشرعیة إلى العقلیة ، ضرورة إنّه لا یکاد یکون مستحیلاً ذلک شرعاً ، إلّا إذا أخذ فیه شرطاً وقیدا ، واستحالة المشروط والمقید بدون شرطه وقیده ، یکون عقلّیاً.
وأما العادیة ، فإن کانت بمعنى أن یکون التوقف علیها بحسب العادة ، بحیث یمکن تحقق ذیها بدونها ، إلّا أن العادة جرت على الإِتیان به بواسطتها ، فهی وأنّ کانت غیر راجعة إلى العقلیة ، إلّا إنّه لا ینبغی توهّم دخولها فی محلّ النزاع.
__________________
1 ـ وجهه : إنّه لا یکون فیه أیضاً ملاک الوجوب الغیری ، حیث إنّه لا وجود له غیر وجوده فی ضمن الکلّ یتوقف على وجوده ، وبدونه لا وجه لکونه مقدّمة ، کی یجب بوجوبه أصلاً ، کما لا یخفى. وبالجملة : لا یکاد یجدی تعدَّد الاعتبار الموجب للمغایرة بین الإِجزاء والکل فی هذا الباب ، وحصول ملاک وجوب الغیری المترشح من وجوب ذی المقدمة علیها ، لو قیل بوجوبها ، فافهم ( منه 1 ).
2 ـ فی « أ و ب » فهی.
وإن کانت بمعنى أن التوقف علیها وأنّ کان فعلاً واقعیاً ، کنصب السلم ونحوه للصعود على السطح ، إلّا إنّه لأجل عدم التمکن من الطیران الممکن عقلاً فهی أیضاً راجعة إلى العقلیة ، ضرورة استحالة الصعود بدون مثل النصب عقلاً لغیر الطائر فعلاً ، وأنّ کان طیرإنّه ممکناً ذاتاً ، فافهم.
ومنها : تقسیمها إلى مقدّمة الوجود ، ومقدمة الصحة ، ومقدمة الوجوب ، ومقدمة العلم.
لا یخفى رجوع مقدّمة الصحة إلى مقدّمة الوجود ، ولو على القول بکون الاسامی موضوعة للأعم ، ضرورة أن الکلام فی مقدّمة الواجب ، لا فی مقدّمة المسمى بأحدها ، کما لا یخفى.
ولا إشکال فی خروج مقدّمة الوجوب عن محلّ النزاع ، وبداهة عدم اتصافها بالوجوب من قبل الوجوب المشروط بها ، وکذلک المقدمة العلمیة ، وأنّ استقل العقل بوجوبها ، إلّا إنّه من باب وجوب الإطاعة إرشاداً لیؤمن من العقوبة على مخالفة الواجب المنجز ، لا مولویاً من باب الملازمة ، وترشح الوجوب علیها من قبل وجوب ذی المقدمة.
ومنها : تقسیمها إلى المتقدم ، والمقارن ، والمتأخر ، بحسب الوجود بالإضافة إلى ذی المقدمة.
وحیث إنّها کانت من أجزاء العلة ، ولابدّ من تقدمها بجمیع أجزائها على المعلول أشکل الأمر فی المقدمة المتأخرة ، کالأغسال اللیلیة المعتبرة فی صحة صوم المستحاضة عند بعضٍ ، والاجازة فی صحة العقد على الکشف کذلک ، بل فی الشرط أو المقتضی المتقدم على المشروط زماناً المتصرم حینه ، کالعقد فی الوصیة والصرف والسلم ، بل فی کلّ عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه ، لتصرمها حین تأثیره ، مع ضرورة اعتبارٍ مقارنتها معه زماناً ، فلیس إشکال انخرام القاعدة العقلیة مختصاً بالشرط المتأخر فی
الشرعیات ـ کما اشتهر فی الألسنة ـ بل یعم الشرط والمقتضی المتقدّمین المتصرَّمین حین الاثر.
والتحقیق فی رفع هذا الإِشکال أن یقال : إن الموارد التی توهّم انخرام القاعدة فیها ، لا تخلو امّا یکون المتقدم أو المتأخر شرطاً للتکلیف ، أو الوضع ، أو المأمور به.
أما الأوّل : فکون أحدهما شرطاً له ، لیس إلّا أن للحاظه دخلاً فی تکلیف الأمر ، کالشرط المقارن بعینه ، فکما أن اشتراطه بما یقارنه لیس إلّا أن لتصوره دخلاً فی أمره ، بحیث لولاه لما کاد یحصل له الداعی إلى الأمر ، کذلک المتقدم أو المتأخر.
وبالجملة : حیث کان الأمر من الأفعال الاختیاریة ، کان من مبادئه بما هو کذلک تصور الشیء بأطرافه ، لیرغب فی طلبه والأمر به ، بحیث لولاه لما رغب فیه ولما أراده واختاره ، فیسمى کلّ واحد من هذه الأطراف التی لتصورها دخل فی حصول الرغبة فیه وإرادته شرطاً ، لأجل دخل لحاظه فی حصوله ، کان مقارناً له أو لم یکن کذلک ، متقدما أو متأخراً ، فکما فی المقارن یکون لحاظه فی الحقیقة شرطاً ، کان فیهما کذلک ، فلا إشکال ، وکذا الحال فی شرائط الوضع مطلقاً ولو کان مقارناً ، فإن دخل شیء فی الحکم به وصحة انتزاعه لدى الحاکم به ، لیس إلّا ما کان بلحاظه یصحّ انتزاعه ، وبدونه لا یکاد یصحّ اختراعه عنده ، فیکون دخل کلّ من المقارن وغیره بتصوره ولحاظه وهو مقارن ، فأین انخرام القاعدة العقلیة فی غیر المقارن؟ فتأمل تعرف.
وأما الثّانی : فکون شیء شرطاً للمأمور به لیس إلّا ما یحصل لذات المأمور به بالإضافة إلیه وجه وعنوان ، به یکون حسناً أو متعلقاً للغرض ، بحیث لولاها لما کان کذلک ، واختلاف الحسن والقبح والغرض باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من الاضافات ، مما لا شبهة فیه ولا شک یعتریه ، والاضافة کما تکون إلى المقارن تکون إلى المتأخر أو المتقدم بلا تفاوت أصلاً ، کما لا یخفى على المتأمل ، فکما تکون إضافة شیء إلى مقارن له موجباً لکونه
معنونا بعنوان ، یکون بذلک العنوان حسناً و متعلقاً للغرض ، کذلک إضافته إلى متأخَّر أو متقدم ، بداهة أن الاضافة إلى أحدهما ربما توجب ذلک أیضاً ، فلو لا حدوث المتأخر فی محله ، لما کانت للمتقدم تلک الاضافة الموجبة لحسنه الموجب لطلبه والأمر به ، کما هو الحال فی المقارن أیضاً ، ولذلک أطلق علیه الشرط مثله ، بلا انخرام للقاعدة أصلاً ، لأن المتقدم أو المتأخر کالمقارن لیس إلّا طرف الاضافة الموجبة للخصوصیة الموجبة للحسن ، وقد حقق فی محله إنّه بالوجوه والاعتبارات ، ومن الواضح إنّها تکون بالإضافات.
فمنشأ توهّم الانخرام إطلاق الشرط على المتأخر ، وقد عرفت أن إطلاقه علیه فیه ، کإطلاقه على المقارن ، إنّما یکون لأجل کونه طرفا للاضافة الموجبة للوجه ، الذی یکون بذاک الوجه مرغوباً ومطلوباً ، کما کان فی الحکم لأجل دخل تصوره فیه ، کدخل تصور سائر الأطراف والحدود ، التی لو لا لحاظها لما حصل له الرغبة فی التکلیف ، أو لما صحّ عنده الوضع.
وهذه خلاصة ما بسطناه من المقال فی دفع هذا الإِشکال ، فی بعضٍ فوائدنا (1) ، ولم یسبقنی إلیه أحد فیما أعلم ، فافهم واغتنم.
ولا یخفى إنّها بجمیع أقسامها داخلة فی محلّ النزاع ، وبناء على الملازمة یتصف اللاحق بالوجوب کالمقارن والسابق ، إذ بدونه لا تکاد تحصل الموافقة ، ویکون سقوط الأمر بإتیان المشروط به مراعى بإتیإنّه ، فلولا اغتسالها فی اللیل ـ على القول بالاشتراط ـ لما صحّ الصوم فی الیوم.
الأمر الثالث : فی تقسیمات الواجب
منها : تقسیمه إلى المطلق والمشروط.
__________________
1 ـ تعلیقة المصنف على فرائد الأصول ، کتاب الفوائد / 302 ، فائدة فی تقدم الشرط على المشروط.
وقد ذکر لکلّ منهما تعریفات وحدود ، تختلف بحسب ما أخذ فیها من القیود.
وربما أطیل الکلام بالنقض والأبرام (1) فی النقض على الطرد والعکس ، مع إنّها ـ کما لا یخفى ـ تعریفات لفظیة لشرح الاسم ، ولیست بالحد ولا بالرسم.
والظاهر إنّه لیس لهم اصطلاح جدید فی لفظ المطلق والمشروط ، بل یطلق کلّ منهما بماله من معناه العرفی ، کما أن الظاهر أن وصفی الإِطلاق والاشتراط ، وصفان إضافیان لا حقیقیان ، وإلاّ لم یکد یوجد واجب مطلق ، ضرورة اشتراط وجوب کلّ واجب ببعض الأمور ، لا أقل من الشرائط العامة ، کالبلوغ والعقل.
فالحری أن یقال : إن الواجب مع کلّ شیء یلاحظ معه ، إن کان وجوبه غیر مشروط به ، فهو مطلق بالإضافة إلیه ، وإلاّ فمشروط کذلک ، وأنّ کانا بالقیاس إلى شیء آخر کانا بالعکس.
ثم الظاهر أن الواجب المشروط کما أشرنا إلیه ، أن نفس الوجوب فیه مشروط بالشرط ، بحیث لا وجوب حقیقة ، ولا طلب واقعاً قبل حصول الشرط ، کما هو ظاهر الخطاب التعلیقی ، ضرورة أن ظاهر خطاب ( إن جاءک زید فأکرمه ) کون الشرط من قیود الهیئة ، وأنّ طلب الإکرام وإیجابه معلق على المجیء ، لا أن الواجب فیه یکون مقیداً به ، بحیث یکون الطلب والإِیجاب فی الخطاب فعلّیاً ومطلقاً ، وإنما الواجب یکون خاصاً ومقیدا ، وهو الإکرام على تقدیر المجیء ، فیکون الشرط من قیود المادة لا الهیئة ، کما نسب ذلک إلى شیخنا العلامة (2) أعلى الله مقامه ، مدعیاً لامتناع کون الشرط من قیود الهیئة
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 43 ، الفصول / 79 ، هدایة المسترشدین / 192 ، قوانین الأصول 1 / 100 ، البدائع / 304.
2 ـ مطارح الأنظار / 45 ـ 46 و 52 ، فی مقدّمة الواجب.
هو الشیخ مرتضى بن محمد امین الدزفولی الانصاری النجفی ، ولد فی دزفول 1214 ، قرأ أوائل أمره على عمه الشیخ حسین ثم خرج مع والده إلى زیارة مشاهد العراق وهو فی العشرین من عمره ، بقی فی کربلاء آخذا عن الاستاذین السید محمد مجاهد وشریف العلماء أربع
واقعا ، ولزوم کونه من قیود المادة لبّاً ، مع الاعتراف بأن قضیة القواعد العربیة إنّه من قیود الهیئة ظاهراً.
أما امتناع کونه من قیود الهیئة ، فلإنّه لا إطلاق فی الفرد الموجود من الطلب المتعلق بالفعل المنشأ بالهیئة ، حتى یصحّ القول بتقییده بشرط ونحوه ، فکل ما یحتمل رجوعه إلى الطلب الذی یدلّ علیه الهیئة ، فهو عند التحقیق راجع إلى نفس المادة.
وأما لزوم کونه من قیود المادة لبّاً ، فلان العاقل إذا توجه إلى شیء والتفت إلیه ، فإما أن یتعلق طلبه به ، أو لا یتعلق به طلبه أصلاً ، لا کلام على الثانی.
وعلى الأوّل : فإما أن یکون ذاک الشیء مورداً لطلبه وأمره مطلقاً على اختلاف طوارئه ، أو على تقدیر خاص ، وذلک التقدیر ، تارةً یکون من الأمور الاختیاریة ، وأخرى لا یکون کذلک ، وما کان من الأمور الاختیاریة ، قد یکون مأخوذاً فیه على نحو یکون مورداً للتکلیف ، وقد لا یکون کذلک ، على اختلاف الاغراض الداعیة إلى طلبه والأمر به ، من غیر فرق فی ذلک بین القول بتبعیة الأحکام للمصالح والمفاسد ، والقول بعدم التبعیة ، کما لا یخفى. هذا موافق لما أفاده بعضٍ الأفاضل (1) المقرر لبحثه بأدنى تفاوت.
__________________
سنوات ، ثم عاد إلى وطنه ، ثم رجع إلى العراق واخذ من الشیخ موسى الجعفری سنتین ، عزم زیارة مشهد خراسان ماراً فی طریقه على کاشان ، فاز بلقاء استاذه النراقی مما دعاه إلى الاقامة فیها نحو ثلاث سنین ، ورد دزفول سنة 1214 ثم عاد إلى النجف الاشرف سنة 1249 فاختلف إلى مدرسة الشیخ علی بن الشیخ جعفر ، ثم انتقل بالتدریس والتالیف ، ووضع اساس علم الأصول الحدیث ، تخرّج علیه المیرزا الشیرازی والمیرزا حبیب الله الرشتی وغیرهما له مؤلفات منها « الرسائل » فی الأصول و « المکاسب » انتهت إلیه رئاسة الامامیة. توفی فی 18 جمادی الاخرة سنة 1281 ودفن فی المشهد الغروی ( اعیان الشیعة 10 / 117 ).
1 ـ هو العلامة المیرزا أبو القاسم النوری (ره) ، على ما فی مطارح الأنظار ، کما تقدم آنفاً.
ولا یخفى ما فیه. امّا حدیث عدم الإِطلاق فی مفاد الهیئة ، فقد حققناه سابقاً (1) ، إن کلّ واحد من الموضوع له والمستعمل فیه فی الحروف یکون عاماً کوضعها ، وإنما الخصوصیة من قبل الاستعمال کالاسماء ، وإنما الفرق بینهما إنّها وضعت لتستعمل وقصد بها المعنى بما هوهو ، و وضعیت لتستعمل وقصد بما معانیها بما هی آلة وحالة لمعانی المتعلقات ، فلحاظ الآلیة کلحاظ الاستقلالیة لیس من طوارئ المعنى ، بل من مشخصات الاستعمال ، کما لا یخفى على أولی الدرایة والنهى. فالطلب المفاد من الهیئة المستعملة فیه مطلق ، قابل لأن یقید.
مع إنّه لو سلّم إنّه فرد ، فانما یمنع عن التقید لو اُنشىء أولاً غیر مقید ، لا ما إذا اُنشىء من الأوّل مقیداً ، غایة الأمر قد دلّ علیه بدالین ، وهو غیر إنشائه أولاً ثم تقییده ثانیاً ، فافهم.
فإن قلت : على ذلک ، یلزم تفکیک الانشاء من المنشأ ، حیث لا طلب قبل حصول الشرط.
قلت : المنشأ إذا کان هو الطلب على تقدیر حصوله ، فلابد أن لا یکون قبل حصوله طلب وبعث ، وإلاّ لتخلف عن إنشائه ، وإنشاء أمر على تقدیر کالإخبار به بمکان من الإِمکان ، کما یشهد به الوجدان ، فتأمل جیداً.
وأما حدیث (2) لزوم رجوع الشرط إلى المادة لبّاً ففیه : إن الشیء إذا توجه إلیه ، وکان موافقاً للغرض بحسب ما فیه من المصلحة أو غیرها ، کما یمکن أن یبعث فعلاً إلیه ویطلبه حالاً ، لعدم مانع عن طلبه کذلک ، یمکن أن یبعث إلیه معلّقاً ، ویطلبه استقبالاً على تقدیر شرط متوقّع الحصول لأجل مانع عن الطلب
__________________
1 ـ راجع صفحة 11 و 12 من هذا الکتاب ، الأمر الثّانی فی تعریف الوضع.
2 ـ هذه هی الدعوى الایجابیة التی ادعاها الشیخ ( قده ) ، من رجوع الشرط إلى المادة لباً. مطارح الأنظار / 52 ، فی مقدّمة الواجب.
والبعث فعلاً قبل حصوله ، فلا یصحّ منه إلّا الطلب والبعث معلّقاً بحصوله ، لا مطلقاً ولو متعلقاً بذاک على التقدیر ، فیصحّ منه طلب الإکرام بعد مجیء زید ، ولا یصحّ منه الطلب المطلق الحالی للإکرام المقید بالمجیء ، هذا بناءً على تبعیة الأحکام لمصالح فیها فی غایة الوضوح.
وأما بناءً على تبعیتها للمصالح والمفاسد فی المأمور به ، والمنهی عنه فکذلک ، ضرورة أن التبعیة کذلک ، إنّما تکون فی الأحکام الواقعیة بما هی واقعیة ، لا بما هی فعلیة ، فإن المنع عن فعلیة تلک الأحکام غیر عزیز ، کما فی موارد الأصول والامارات على خلافها ، وفی بعضٍ الأحکام فی أول البعثة ، بل إلى یوم قیام القائم عجل الله فرجه ، مع أن حلال محمد 9 حلال إلى یوم القیامة ، وحرامه حرام إلى یوم القیامة ، ومع ذلک ربما یکون المانع عن فعلیة بعضٍ الأحکام باقیا مر اللیالی والایام ، إلى أن تطلع شمس الهدایة ویرتفع (1) الظلام ، کما یظهر من الإخبار المرویة (2) عن الأئمة :.
فان قلت : فما فائدة الانشاء؟ إذا لم یکن المنشأ به طلباً فعلّیاً ، وبعثاً حالیا.
قلت : کفى فائدة له إنّه یصیر بعثاً فعلّیاً بعد حصول الشرط ، بلا حاجة إلى خطاب آخر ، بحیث لولاه لما کان فعلاً متمکناً من الخطاب ، هذا مع شمول الخطاب کذلک للإیجاب فعلاً بالنسبة إلى الواجد للشرط ، فیکون بعثاً فعلّیاً بالإضافة إلیه ، وتقدیریّاً بالنسبة إلى الفاقد له ، فافهم وتأملّ جیداً.
__________________
1 ـ فی « ب » : ( وارتفع الظلام ).
2 ـ الکافی : 1 ، کتاب فضل العلم ، باب البدع والرأی والمقاییس الحدیث 19.
الکافی : 2 کتاب الایمان والکفر ، باب الشرائع ، الحدیث 2 مع اختلاف یسیر.
ثم الظاهر دخول المقدّمات الوجودیة للواجب المشروط ، فی محلّ النزاع (1) أیضاً ، فلا وجه لتخصیصه بمقدمات الواجب المطلق ، غایة الأمر تکون فی الإِطلاق والاشتراط تابعة لذی المقدمة کأصل الوجوب بناءً على وجوبها من باب الملازمة.
وأما الشرط المعلّق علیه الإِیجاب فی ظاهر الخطاب ، فخروجه مما لا شبهة فیه ، ولا ارتیاب :
أما على ما هو ظاهر المشهور والمتصور ، لکونه مقدّمة وجوبیة.
وأما على المختار لشیخنا العلامة (2) ـ أعلى الله مقامه ـ فلإنّه وأنّ کان من المقدّمات الوجودیة للواجب ، إلّا إنّه أخذ على نحو لا یکاد یترشح علیه الوجوب منه ، فإنّه جعل الشیء واجباً على تقدیر حصول ذاک الشرط ، فمعه کیف یترشح علیه الوجوب ویتعلق به الطلب؟ وهل هو إلّا طلب الحاصل؟ نعم على مختاره _ 1 _ لو کانت له مقدمات وجودیة غیر معلق علیها وجوبه ، لتعلق بها الطلب فی الحال على تقدیر اتفاق وجود الشرط فی الاستقبال ، وذلک لأن إیجاب ذی المقدمة على ذلک حالی ، والواجب إنّما هو استقبالی ، کما یأتی فی الواجب المعلّق (3) ، فإن الواجب المشروط على مختاره ، هو بعینه ما اصطلح علیه صاحب الفصول (4) من المعلّق ، فلا تغفل. هذا فی غیر المعرفة والتعلم من المقدمات.
وأما المعرفة ، فلا یبعد القول بوجوبها ، حتى فی الواجب المشروط ـ بالمعنى المختار ـ قبل حصول شرطه ، لکنه لا بالملازمة ، بل من باب استقلال
__________________
1 ـ کما فی مطارح الأنظار / 44.
2 ـ من رجوع الشرط إلى المادة لبّاً ، مطارح الأنظار / 45 ـ 46 و 52 ، فی مقدّمة الواجب.
3 ـ سیأتی فی الصفحة 103 من هذا الکتاب ، عند قوله : وربما أشکل ... الخ.
4 ـ الفصول / 79 فی آخر الصفحة.
العقل بتنجز الأحکام على الأنام بمجرد قیام احتمالها ، إلّا مع الفحص والیأس عن الظفر بالدلیل على التکلیف ، فیستقل بعده بالبراءة ، وأنّ العقوبة على المخالفة بلا حجة وبیان ، والمؤاخذة علیها بلا برهان ، فافهم.
تذنیب : لا یخفى أن إطلاق الواجب على الواجب المشروط ، بلحاظ حال حصول الشرط على الحقیقة مطلقاً ، وأما بلحاظ حال قبل حصوله فکذلک على الحقیقة على مختاره (1) 1 فی الواجب المشروط ، لأن الواجب وأنّ کان أمراً استقبالیّاً علیه ، إلّا أن تلبسه بالوجوب فی الحال ، ومجاز على المختار ، حیث لا تلبس بالوجوب علیه قبله ، کما عن البهائی (2) ; تصریحه بأن لفظ الواجب مجاز فی المشروط ، بعلاقة الأوّل أو المشارفة.
وأما الصیغة مع الشرط ، فهی حقیقة على کلّ حال لاستعمالها على مختاره (3) _ 1 _ فی الطلب المطلق ، وعلى المختار فی الطلب المقید ، على نحو تعدَّد الدالّ والمدلول ، کما هو الحال فیما إذا أُرید منها المطلق المقابل للمقید ، لا المبهم المقسم ، فافهم.
ومنها : تقسیمه إلى المعلّق والمنجز ، قال فی الفصول (4) : إنّه ینقسم
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 45 ـ 46 و 52 فی مقدّمة الواجب.
2 ـ زبدة الأصول / 46 مخطوط.
هو بهاء الدین محمد بن الحسین بن عبد الصمد الجبعی العاملی ، ولد فی بعلبک عام 953 ه ، انتقل به والده وهو صغیر إلى الدیار العجمیة ، أخذ عن والده وغیره من الجهابذة ، ولی بها شیخ الاسلام ، ثم أخذ فی السیاحة ثلاثین سنة ، واجتمع فی أثناء ذلک بکثیر من أرباب الفضل ، ثم عاد وقطن بأرض العجم ، له کتب کثیرة منها « الحبل المتین » و « الزبدة » فی الأصول و « حاشیة الشرح العضدی على مختصر الأصول » وغیرها ، له شعر کثیر بالعربیة والفارسیة. قال تلمیذه العلامة المولى محمد تقی المجلسی : ما رأیت بکثرة علومه ووفور فضله وعلو مرتبته أحدا ، توفی سنة 1031. ( أمل الآمل 1 / 155 رقم 158 )
3 ـ راجع المصدر المتقدم فی هامش رقم (1).
4 ـ الفصول / 79 آخر الصفحة.
باعتبار آخر إلى ما یتعلق وجوبه بالمکلف ، ولا یتوقف حصوله على أمر غیر مقدور له ، کالمعرفة ، ولْیُسمَّ منجّزاً ، وإلى ما یتعلق وجوبه به ، ویتوقف حصوله على أمر غیر مقدور له ، ولْیُسمَّ معلّقاً کالحج ، فإن وجوبه یتعلق بالمکلف من أول زمن الاستطاعة ، أو خروج الرفقة ، ویتوقف فعله على مجیء وقته ، وهو غیر مقدور له ، والفرق بین هذا النوع وبین الواجب المشروط هو أن التوقف هناک للوجوب ، وهنا للفعل. انتهى کلامه رفع مقامه.
لا یخفى أن شیخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ حیث اختار فی الواجب المشروط ذاک المعنى ، وجعل الشرط لزوماً من قیود المادة ثبوتاً وإثباتاً ، حیث ادعى امتناع کونه من قیود الهیئة کذلک ، أیّ ثبوتاً وإثباتاً ، على خلاف القواعد العربیة وظاهر المشهور ، کما یشهد به ما تقدم آنفا عن البهائی ، أنکر (1) على الفصول هذا التقسیم ، ضرورة أن المعلّق بما فسره ، یکون من المشروط بما اختار له من المعنى على ذلک ، کما هو واضح ، حیث لا یکون حینئذ هناک معنى آخر معقول ، کان هو المعلّق المقابل للمشروط.
ومن هنا انقدح إنّه فی الحقیقة إنّما أنکر الواجب المشروط ، بالمعنى الذی یکون هو ظاهر المشهور ، والقواعد العربیة ، لا الواجب المعلّق بالتفسیر المذکور.
وحیث قد عرفت ـ بما لا مزید علیه ـ امکان رجوع الشرط إلى الهیئة ، کما هو ظاهر المشهور وظاهر القواعد ، فلا یکون مجال لإِنکاره علیه.
نعم یمکن أن یقال : إنّه لا وقع لهذا التقسیم ؛ لأنه بکلا قسمیه من المطلق المقابل للمشروط ، وخصوصیة (2) کونه حالیّاً أو استقبالیّاً لا توجبه ما لم
__________________
1 ـ مطارح الأنظار 51 ـ 52. فی الهدایة 6 من القول فی وجوب مقدّمة الواجب.
2 ـ وفی « ب » : خصوصیته.
توجب الاختلاف فی المهمّ ، وإلاّ لکثر تقسیماته لکثرة الخصوصیات ، ولا اختلاف فیه ، فإن ما رتبه علیه من وجوب المقدمة فعلاً ـ کما یأتی ـ إنّما هو من أثر إطلاق وجوبه وحالیّته ، لا من استقبالیة الواجب ، فافهم.
ثم إنّه ربما حکی عن بعضٍ أهل النظر (1) من أهل العصر إشکال فی الواجب المعلّق ، وهو أن الطلب والإِیجاب ، إنّما یکون بإزاء الإرادة المحرکة للعضلات نحو المراد ، فکما لا تکاد تکون الإرادة منفکة عن المراد ، فلیکن الإِیجاب غیر منفک عما یتعلق به ، فکیف یتعلق بأمر استقبالی؟ فلا یکاد یصحّ الطلب والبعث فعلاً نحو أمر متأخر.
قلت : فیه أن الإرادة تتعلق بأمر متأخَّر استقبالی ، کما تتعلق بأمر حالی ، وهو أوضح من أن یخفى على عاقل فضلاً عن فاضل ، ضرورة أن تحمّل المشاق فی تحصیل المقدّمات ـ فیما إذا کان المقصود بعید المسافة وکثیر المؤونة ـ لیس إلّا لأجل تعلق إرادته به ، وکونه مریداً له قاصداً إیاه ، لا یکاد یحمله على التحمل إلّا ذلک.
ولعل الذی أوقعه فی الغلط ما قرع سمعه من تعریف الإرادة بالشوق المؤکد المحرّک للعضلات نحو المراد ، وتوهمّ أن تحریکها نحو المتأخر مما لا یکاد ، وقد غفل عن أن کونه (2) محرکاً نحوه یختلف حسب اختلافه ، فی کونه مما لا مؤونة له کحرکة نفس العضلات ، أو مما له مؤونة ومقدمات قلیلة أو کثیرة ، فحرکة العضلات تکون أعم من أن تکون بنفسها مقصودة أو مقدّمة له ، والجامع أن یکون نحو المقصود ، بل مرادهم من هذا الوصف ـ فی تعریف الإرادة ـ بیان مرتبة الشوق الذی یکون هو الإرادة ، وأنّ لم یکن هناک فعلاً تحریک ، لکون المراد وما اشتاق إلیه کمال الاشتیاق أمراً استقبالیّاً غیر محتاج إلى تهیئة مؤونة أو تمهید مقدّمة ، ضرورة أن شوقه إلیه ربما یکون أشد من الشوق
__________________
1 ـ هو المحقق النهاوندی ، تشریح الأصول.
2 ـ والصحیح « کونها ».
المحرّک فعلاً نحو أمر حالی أو استقبالی ، محتاج إلى ذلک. هذا.
مع إنّه لا یکاد یتعلق البعث إلّا بأمر متأخَّر عن زمان البعث ، ضرورة أن البعث إنّما یکون لاحداث الداعی للمکلف إلى المکلف به ، بأن یتصوره بما یترتب علیه من المثوبة ، وعلى ترکه من العقوبة ، ولا یکاد یکون هذا إلّا بعد البعث بزمان ، فلا محالة یکون البعث نحو أمر متأخَّر عنه بالزمان ، ولا یتفاوت طوله وقصره ، فیما هو ملاک الاستحالة والإِمکان فی نظر العقل الحاکم فی هذا الباب ، ولعمری ما ذکرناه واضح لا سترة علیه ، والاطناب إنّما هو لأجل رفع المغالطة الواقعة فی أذهان بعضٍ الطلاب.
وربما أُشکل على المعلّق أیضاً ، بعدم القدرة على المکلف به فی حال البعث ، مع إنّها من الشرائط العامة.
وفیه : إن الشرط إنّما هو القدرة على الواجب فی زمإنّه ، لا فی زمان الإِیجاب والتکلیف ، غایة الأمر یکون من باب الشرط المتأخر ، وقد عرفت بما لا مزید علیه إنّه کالمقارن ، من غیر انخرام للقاعدة العقلیة أصلاً ، فراجع.
ثم لا وجه لتخصیص المعلّق بما یتوقف حصوله على أمر غیر مقدور ، بل ینبغی تعمیمه إلى أمر مقدور متأخَّر ، أُخذ على نحو یکون مورداً للتکلیف ، ویترشح علیه الوجوب من الواجب ، أو لا ، لعدم تفاوت فیما یهمه من وجوب تحصیل المقدّمات التی لا یکاد یقدّر علیها فی زمان الواجب المعلّق ، دون المشروط ، لثبوت الوجوب الحالی فیه ، فیترشح منه الوجوب على المقدمة ، بناءً على الملازمة ، دونه لعدم ثبوته فیه إلّا بعد الشرط.
نعم لو کان الشرط على نحو الشرط المتأخر ، وفرض وجوده ، کان الوجوب المشروط به حالیّاً أیضاً ، فیکون وجوب سائر المقدّمات الوجودیة للواجب أیضاً حالیّاً ، ولیس الفرق بینه وبین المعلّق حینئذ إلّا کونه مرتبطاً
بالشرط ، بخلافه ، وأنّ ارتبط به الواجب.
تنبیه : قد انقدح ـ من مطاوی ما ذکرناه ـ أن المناط فی فعلیة وجوب المقدمة الوجودیة ، وکونه فی الحال بحیث یجب على المکلف تحصیلها ، هو فعلیة وجوب ذیها ، ولو کان أمراً استقبالیّاً ، کالصوم فی الغد والمناسک فی الموسم ، کان وجوبه مشروطاً بشرط موجود أخذ فیه ولو متأخراً ، أو مطلقاً ، منجّزاً کان أو معلّقاً ، فیما إذا لم تکن مقدّمة للوجوب أیضاً ، أو مأخوذة فی الواجب على نحو یستحیل أن تکون مورداً للتکلیف ، کما إذا أخذ عنواناً للمکلف ، کالمسافر والحاضر والمستطیع إلى غیر ذلک ، أو جعل الفعل المقید باتفاق حصوله ، وتقدیر وجوده ـ بلا اختیار أو باختیاره ـ مورداً للتکلیف ، ضرورة إنّه لو کان مقدّمة الوجوب أیضاً ، لا یکاد یکون هناک وجوب إلّا بعد حصوله ، وبعد الحصول یکون وجوبه طلب الحاصل ، کما إنّه إذا أخذ على أحد النحوین یکون کذلک ، فلو لم یحصل لما کان الفعل مورداً للتکلیف ، ومع حصوله لا یکاد یصحّ تعلقه به ، فافهم.
إذا عرفت ذلک ، فقد عرفت إنّه لا إشکال أصلاً فی لزوم الإِتیان بالمقدمة قبل زمان الواجب ، إذا لم یقدّر علیه بعد زمإنّه ، فیما کان وجوبه حالیّاً مطلقاً ، ولو کان مشروطاً بشرط متأخَّر ، کان معلوم الوجود فیما بعد ، کما لا یخفى ، ضرورة فعلیة وجوبه وتنجزه بالقدرة علیه بتمهید مقدمته ، فیترشح منه الوجوب علیها على الملازمة ، ولا یلزم منه محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذیها ، وإنما اللازم الإِتیان بها قبل الإِتیان به ، بل لزوم الإِتیان بها عقلاً ، ولو لم نقل بالملازمة ، لا یحتاج إلى مزید بیان ومؤونة برهان ، کالإِتیان بسائر المقدّمات فی زمان الواجب قبل إتیإنّه.
فانقدح بذلک : إنّه لا ینحصر التفصی عن هذه العویصة بالتعلق بالتعلیق ، أو بما یرجع إلیه ، من جعل الشرط من قیود المادة فی المشروط.
فانقدح بذلک : إنّه لا إشکال فی الموارد التی یجب فی الشریعة الإِتیان بالمقدمة قبل زمان الواجب ، کالغسل فی اللیل فی شهر رمضان وغیره مما وجب علیه الصوم فی الغد ، إذ یکشف به بطریق الإِنّ عن سبق وجوب الواجب ، وإنما المتأخر هو زمان إتیإنّه ، ولا محذور فیه أصلاً ، ولو فرض العلم بعدم سبقه ، لاستحال اتصاف مقدمته بالوجوب الغیری ، فلو نهض دلیل على وجوبها ، فلا محالة یکون وجوبها نفسّیاً [ ولو ] (1) تهیؤاً ، لیتهیأ بإتیإنّها ، ویستعد لایجاب ذی المقدمة علیه ، فلا محذور أیضاً.
إن قلت : لو کان وجوب المقدمة فی زمان کاشفاً عن سبق وجوب ذی المقدمة لزم وجوب جمیع مقدماته ولو موسّعاً ، ولیس کذلک بحیث یجب علیه المبادرة لو فرض عدم تمکنه منها لو لم یبادر.
قلت : لا محیص عنه ، إلّا إذا أخذ فی الواجب من قبل سائر المقدّمات قدرة خاصة ، وهی القدرة علیه بعد مجیء زمإنّه ، لا القدرة علیه فی زمإنّه من زمان وجوبه ، فتدبرّ جیداً.
تتمة : قد عرفت اختلاف القیود فی وجوب التحصیل ، وکونه مورداً للتکلیف وعدمه ، فإن علم حال قید فلا إشکال ، وأنّ دار أمره ثبوتاً بین أن یکون راجعاً إلى الهیئة ، نحو الشرط المتأخر أو المقارن ، وأنّ یکون راجعاً إلى المادة على نهج یجب تحصیله أولاً یجب ، فإن کان فی مقام الإِثبات ما یعین حاله ، وإنّه راجع إلى أیهما من القواعد العربیة فهو ، وإلاّ فالمرجع هو الأصول العملیة.
وربما قیل (2) فی الدوران بین الرجوع إلى الهیئة أو المادة ، بترجیح الإِطلاق فی طرف الهیئة ، وتقیید المادة ، بوجهین :
__________________
1 ـ أثبتناها من « أ ».
2 ـ راجع مطارح الأنظار / 49 الهدایة 5 من القول بوجوب المقدمة ، فی الوجه الخامس.
أحدهما : إن إطلاق الهیئة یکون شمولیّاً ، کما فی شمول العام لافراده ، فإن وجوب الإکرام على تقدیر الإِطلاق ، یشمل جمیع التقادیر التی یمکن أن یکون تقدیرا له ، وإطلاق المادة یکون بدلیاً غیر شامل لفردین فی حالة واحدة.
ثانیهما : إن تقیید الهیئة یوجب بطلان محلّ الإِطلاق فی المادة ویرتفع به مورده ، بخلاف العکس ، وکلما دار الأمر بین تقییدین کذلک کان التقیید الذی لا یوجب بطلان الآخر أولى.
أما الصغرى ، فلاجل إنّه لا یبقى مع تقیید الهیئة محلّ حاجة وبیان لإِطلاق المادة ، لإنّها لا محالة لا تنفکّ عن وجود قید الهیئة ، بخلاف تقیید المادة ، فإن محلّ الحاجة إلى إطلاق الهیئة على حاله ، فیمکن الحکم بالوجوب على تقدیر وجود القید وعدمه.
وأما الکبرى ، فلان التقیید وأنّ لم یکن مجازاً إلّا إنّه خلاف الأصل ، ولا فرق فی الحقیقة بین تقیید الإِطلاق ، وبین أن یعمل عملاً یشترک مع التقیید فی الأثر ، وبطلان العمل به.
وما ذکرناه من الوجهین موافق لما أفاده بعضٍ مقرری بحث الأستاذ العلامة أعلى الله مقامه ، وأنت خبیر بما فیهما :
أما فی الأوّل : فلان مفاد إطلاق الهیئة وأنّ کان شمولیّاً بخلاف المادة ، إلّا إنّه لا یوجب ترجیحه على إطلاقها ، لإنّه أیضاً کان بالإِطلاق ومقدمات الحکمة ، غایة الأمر إنّه تارةً یقتضی العموم الشمولی ، وأخرى البدلی ، کما ربما تقتضی التعیین أحیاناً ، کما لا یخفى.
وترجیح عموم العام على إطلاق المطلق إنّما هو لأجل کون دلالته بالوضع ، لا لکونه شمولیّاً ، بخلاف المطلق فإنّه بالحکمة ، فیکون العام أظهر منه ، فیقدّم علیه ، فلو فرض إنّهما فی ذلک على العکس ، فکان عام بالوضع دلّ على العموم البدلی ، ومطلق بإطلاقه دلّ على الشمول ، لکان العام
یقدم بلا کلام.
وأما فی الثانی : فلان التقیید وأنّ کان خلاف الأصل ، إلا أن العمل الی یوجب عدم جریان مقدمات الحکمة ، وانتفاء بعضٍ مقدماته ، لا یکون على خلاف الأصل أصلاً ، إذ معه لا یکون هناک إطلاق ، کی یکون بطلان العمل به فی الحقیقة مثل التقیید الذی یکون على خلاف الأصل. وبالجملة لا معنى لکون التقیید خلاف الأصل ، إلّا کونه خلاف الظهور المنعقد للمطلق ببرکة مقدمات الحکمة ، ومع انتفاء المقدّمات لا یکاد ینعقد له هناک ظهور ، کان ذاک العمل المشارک مع التقیید فی الأثر ، وبطلان العمل بإطلاق المطلق ، مشارکا معه فی خلاف الأصل أیضاً.
وکأنه توهّم : أن إطلاق المطلق کعموم العام ثابت ، ورفع الید عن العمل به ، تارةً لأجل التقیید ، وأخرى بالعمل المبطل للعمل به.
وهو فاسد ، لإنّه لا یکون إطلاق إلّا فیما جرت هناک المقدمات.
نعم إذا کان التقیید بمنفصل ، ودار الأمر بین الرجوع إلى المادة أو الهیئة کان لهذا التوهم مجال ، حیث انعقد للمطلق إطلاق ، وقد استقر له ظهور ولو بقرینة الحکمة ، فتأمل.
ومنها : تقسیمه إلى النفسی والغیری.
وحیث کان طلب شیء وإیجابه لا یکاد یکون بلا داع ، فإن کان الداعی فیه هو التوصل به إلى واجب ، لا یکاد التوصل بدونه إلیه ، لتوقفه علیه ، فالواجب غیریّ ، وإلاّ فهو نفسی ، سواء کان الداعی محبوبیة الواجب بنفسه ، کالمعرفة بالله ، أو محبوبیّته بماله من فائدة مترتبة علیه ، کأکثر الواجبات من العبادات والتوصلیات.
هذا ، لکنه لا یخفى أن الداعی لو کان هو محبوبیّته کذلک ـ أیّ بماله من الفائدة المترتبة علیه ـ کان الواجب فی الحقیقة واجباً غیریاً ، فإنّه لو لم یکن وجود هذه الفائدة لازماً ، لما دعا إلى إیجاب ذی الفائدة.
فإن قلت : نعم وأنّ کان وجودها محبوباً لزوماً ، إلّا إنّه حیث کانت من الخواصِّ المترتبة على الأفعال التی لیست داخلة تحت قدرة المکلف ، لما کاد یتعلق بها الإِیجاب.
قلت : بل هی داخلة تحت القدرة ، لدخول أسبابها تحتها ، والقدرة على السبب قدرة على المسبب ، وهو واضح ، وإلاّ لما صحّ وقوع مثل التطهیر والتملیک والتزویج والطلاق والعتاق .. إلى غیر ذلک من المسببات ، مورداً لحکم من الأحکام التکلیفیة.
فالأولى أن یقال : إن الأثر المترتب علیه وأنّ کان لازماً ، إلّا أن ذا الأثر لما کان معنوناً بعنوان حسن یستقل العقل بمدح فاعله ، بل وبذم تارکه ، صار متعلقاً للإیجاب بما هو کذلک ، ولا ینافیه کونه مقدّمة الأمر مطلوب واقعاً ، بخلاف الواجب الغیری ، لتمحض وجوبه فی إنّه لکونه مقدّمة لواجب نفسی. وهذا أیضاً لا ینافی أن یکون معنوناً بعنوان حسن فی نفسه ، إلّا إنّه لا دخل له فی إیجابه الغیری ، ولعله مراد من فسرهما بما أمر به لنفسه ، وما أمر به لأجل غیره ، فلا یتوجه علیه بأنّ جل الواجبات ـ لولا الکلّ ـ یلزم أن یکون من الواجبات الغیریة ، فإن المطلوب النفسی قلّما یوجد فی الأوامر ، فإن جلها مطلوبات لأجل الغایات التی هی خارجة عن حقیقتها ، فتأمل.
ثم إنّه لا إشکال فیما إذا علم بأحد القسمین ، وأما إذا شک فی واجب إنّه نفسی أو غیری ، فالتحقیق أن الهیئة ، وأنّ کانت موضوعة لما یعمهما ، إلّا أن إطلاقها یقتضی کونه نفسیاً ، فإنّه لو کان شرطاً لغیره لوجب التنبیه علیه على المتکلم الحکیم.
وأما ما قیل (1) من إنّه لا وجه للاستناد إلى إطلاق الهیئة ، لدفع الشک
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 67 فی الهدایة 11 من القول بوجوب المقدمة.
المذکور ، بعد کون مفادها الأفراد التی لا یعقل فیها التقیید ، نعم لو کان مفاد الأمر هو مفهوم الطلب ، صحّ القول بالإِطلاق ، لکنه بمراحل من الواقع ، إذ لا شک فی اتصاف الفعل بالمطلوبیة بالطلب المستفاد من الأمر ، ولا یعقل اتصاف المطلوب بالمطلوبیة بواسطة مفهوم الطلب ، فإن الفعل یصیر مراداً بواسطة تعلق واقع الإرادة وحقیقتها ، لا بواسطة مفهومها ، وذلک واضح لا یعتریه ریب.
ففیه : إن مفاد الهیئة ـ کما مرت الإِشارة إلیه ـ لیس الأفراد ، بل هو مفهوم الطلب ، کما عرفت تحقیقه فی وضع الحروف (1) ، ولا یکاد یکون فرد الطلب الحقیقی ، والذی یکون بالحمل الشائع طلباً ، وإلاّ لما صحّ إنشاؤه بها ؛ ضرورة إنّه من الصفات الخارجیة الناشئة من الأسباب الخاصة.
نعم ربما یکون هو السبب لإِنشائه ، کما یکون غیره أحیاناً.
واتصاف الفعل بالمطلوبیة الواقعیة والإرادة الحقیقیة ـ الداعیة إلى إیقاع طلبه ، وإنشاء إرادته بعثاً نحو مطلوبه الحقیقی وتحریکا إلى مراده الواقعی ـ لا ینافی اتصافه بالطلب الإنشائی أیضاً ، والوجود الإنشائی لکلّ شیء لیس إلّا قصد حصول مفهومه بلفظه ، کان هناک طلب حقیقی أو لم یکن ، بل کان إنشاؤه بسبب آخر.
ولعل منشأ الخلط والاشتباه تعارف التعبیر عن مفاد الصیغة بالطلب المطلق ، فتوهم منه أن مفاد الصیغة یکون طلباً حقیقیاً ، یصدق علیه الطلب بالحمل الشائع ، ولعمری إنّه من قبیل اشتباه المفهوم بالمصداق ، فالطلب الحقیقی إذا لم یکن قابلاً للتقیید لا یقتضی أن لا یکون مفاد الهیئة قابلاً له ، وأنّ تعارف تسمیته بالطلب أیضاً ، وعدم تقییده بالإنشائی لوضوح إرادة
__________________
1 ـ باعتبار أن الهیئة ملحقة بالحروف ، راجع صفحة 11 من هذا الکتاب.
خصوصه ، وأنّ الطلب الحقیقی لا یکاد ینشأ بها ، کما لا یخفى.
فانقدح بذلک صحة تقیید مفاد الصیغة بالشرط ، کما مرّ هاهنا بعضٍ الکلام ، وقد تقدم (1) فی مسألة اتحاد الطلب والإرادة ما یُجدی [ فی ] المقام.
هذا إذا کان هناک إطلاق ، وأما إذا لم یکن ، فلابد من الإِتیان به فیما إذا کان التکلیف بما احتمل کونه شرطاً له فعلّیاً ، للعلم بوجوبه فعلاً ، وأنّ لم یعلم جهة وجوبه ، وإلاّ فلا ، لصیرورة الشک فیه بدویاً ، کما لا یخفى.
تذنیبان
الأول : لا ریب فی استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسی وموافقته ، واستحقاق العقاب على عصیإنّه ومخالفته عقلاً ، وأما استحقاقهما على امتثال الغیری ومخالفته ، ففیه إشکال ، وأنّ کان التحقیق عدم الاستحقاق على موافقته ومخالفته ، بما هو موافقة ومخالفة ، ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلّا لعقاب واحد ، أو لثواب کذلک ، فیما خالف الواجب ولم یأت بواحدة من مقدماته على کثرتها ، أو وافقه وأتاه بما له من المقدمات.
نعم لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترک المقدمة ، وبزیادة المثوبة على الموافقة فیما لو أتى بالمقدمات بما هی مقدمات له ، من باب إنّه یصیر حینئذ من أفضل الأعمال ، حیث صار أشقّها ، وعلیه ینزّل ما ورد فی الإخبار (2) من الثواب على المقدّمات ، أو على التفضل فتأمل جیداً ، وذلک لبداهة أن موافقة الأمر الغیری ـ بما هو أمر لا بما هو شروع فی إطاعة الأمر النفسی ـ لا توجب قرباً ، ولا مخالفته ـ بما هو کذلک ـ بُعداً ، والمثوبة والعقوبة إنّما تکونان من تبعات القرب والبعد.
__________________
1 ـ راجع صفحة 64 من الکتاب ، الجهة الرابعة ( فی بحث الطلب والإرادة ).
2 ـ کامل الزیارات / 133 ، فیما ورد فی زیارة أبی عبدالله ، من إنّه لکلّ قدم ثواب کذا.
إشکال ودفع :
أما الأوّل : فهو إنّه إذا کان الأمر الغیری بما هو لا إطاعة له ، ولا قرب فی موافقته ، ولا مثوبة على امتثاله ، فکیف حال بعضٍ المقدّمات کالطهارات؟ حیث لا شبهة فی حصول الإطاعة والقرب والمثوبة بموافقة أمرها ، هذا مضافاً إلى أن الأمر الغیری لا شبهة فی کونه توصلیاً ، وقد اعتبر فی صحتها إتیإنّها بقصد القربة.
وأما الثّانی : فالتحقیق أن یقال : إن المقدمة فیها بنفسها مستحبة وعبادة ، وغایاتها إنّما تکون متوقفة على إحدى هذه العبادات ، فلا بدّ أن یؤتى بها عبادة ، وإلاّ فلم یؤت بما هو مقدّمة لها ، فقصد القربة فیها إنّما هو لأجل کونها فی نفسها أمورا عبادیة ومستحبات نفیسة ، لا لکونها مطلوبات غیریة والاکتفاء بقصد أمرها الغیری ، فإنما هو لأجل إنّه یدعو إلى ما هو کذلک فی نفسه حیث إنّه لا یدعو إلّا إلى ما هو المقدمة ، فافهم.
وقد تفُصّی عن الإِشکال بوجهین آخرین (1) :
أحدهما ما ملخصه : إن الحرکات الخاصة ربما لا تکون محصلة لما هو المقصود منها ، من العنوان الذی یکون بذاک العنوان مقدّمة وموقوفا علیها ، فلا بدّ فی إتیإنّها بذاک العنوان من قصد أمرها ، لکونه لا یدعو إلّا إلى ما هو الموقوف علیه ، فیکون عنواناً إجمالیاً ومرآة لها ، فإتیان الطهارات عبادة وإطاعة لامرها لیس لأجل أن أمرها المقدمی یقضی بالاتیان کذلک ، بل إنّما کان لأجل إحراز نفس العنوان ، الذی یکون بذاک العنوان موقوفاً علیها.
وفیه : مضافاً إلى أن ذلک لا یقتضی الإِتیان بها کذلک ، لإمکان الإِشارة إلى عناوینها التی تکون بتلک العناوین موقوفاً علیها بنحو آخر ، ولو
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 71 فی تنبیهات الهدایة 12 من القول فی وجوب مقدّمة الواجب.
بقصد أمرها وصفاً لا غایة وداعیاً ، بل کان الداعی إلى هذه الحرکات الموصوفة بکونها مأموراً بها شیئاً آخر غیر أمرها ، غیر وافٍ بدفع إشکال ترتب المثوبة علیها ، کما لا یخفى.
ثانیهما : ما مُحَصّله أن لزوم وقوع الطهارات عبادة ، إنّما یکون لأجل أن الغرض من الأمر النفسی بغایاتها ، کما لا یکاد یحصل بدون قصد التقرب بموافقته ، کذلک لا یحصل ما لم یؤت بها کذلک ، لا باقتضاء أمرها الغیری.
وبالجملة وجه لزوم إتیإنّها عبادة ، إنّما هو لأجل أن الغرض فی الغایات ، لا یحصل إلّا بإتیان خصوص الطهارات من بین مقدماتها أیضاً ، بقصد الاطاعة.
وفیه أیضاً : إنّه غیر وافٍ بدفع إشکال ترتب المثوبة علیها.
وأما ما ربما قیل (1) فی تصحیح اعتبارٍ قصد الإطاعة فی العبادات ، من الالتزام بأمرین : أحدهما کان متعلقاً بذات العمل ، والثانی بإتیإنّه بداعی امتثال الأوّل ، لا یکاد یجزئ فی تصحیح اعتبارها فی الطهارات ، إذ لو لم تکن بنفسها مقدّمة لغایاتها ، لا یکاد یتعلق بها أمر من قبل الأمر بالغایات ، فمن أین یجیء طلب آخر من سنخ الطلب الغیری متعلق بذاتها ، لیتمکن به من المقدمة فی الخارج. هذا مع أن فی هذا الالتزام ما فی تصحیح اعتبارٍ قصد الطاعة فی العبادة على ما عرفته مفصلاً سابقا ً(2) ، فتذکرّ.
الثانی : إنّه قد انقدح مما هو التحقیق ، فی وجه اعتبارٍ قصد القربة فی الطهارات صحتها ولو لم یؤت بها بقصد التوصل بها إلى غایة من غایاتها ، نعم لو کان المصحح لاعتبار قصد القربة فیها امرها الغیری ، لکان قصد الغایة مما لابد منه فی وقوعها صحیحة ، فان الأمر الغیری لا یکاد یمتثل إلّا إذا قصد
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 71 ، فی تنبیهات الهدایة 12. 2 ـ راجع ص 72.
التوصل إلى الغیر ، حیث لا یکاد یصیر داعیا إلّا مع هذا القصد ، بل فی الحقیقة یکون هو الملاک لوقوع المقدمة عبادة ، ولو لم یقصد أمرها ، بل ولو لم نقل بتعلق الطلب بها أصلاً.
وهذا هو السر فی اعتبارٍ قصد التوصل فی وقوع المقدمة عبادة ، لا ما توهّم (1) من أن المقدمة إنّما تکون مأموراً بها بعنوان المقدمیة ، فلا بدّ عند إرادة الامتثال بالمقدمة من قصد هذا العنوان ، وقصدها کذلک لا یکاد یکون بدون قصد التوصل إلى ذی المقدمة بها ، فإنّه فاسد جداً ؛ ضرورة أن عنوان المقدمیة لیس بموقوف علیه الواجب ، ولا بالحمل الشائع مقدّمة له ، وإنما کان المقدمة هو نفس المعنونات بعناوینها الأولیة ، والمقدمیة إنّما تکون علّة لوجوبها.
الأمر الرابع : لا شبهة فی أن وجوب المقدمة بناءً على الملازمة ، یتبع فی الإِطلاق والاشتراط وجوب ذی المقدمة ، کما أشرنا إلیه فی مطاوی کلماتنا (2) ، ولا یکون مشروطاً بإرادته ، کما یوهمه ظاهر عبارة صاحب المعالم (3) ; فی بحث الضد ، قال : وأیضاً فحجة القول بوجوب المقدمة على تقدیر تسلیمها إنّما تنهض دلیلاً على الوجوب ، فی حال کون المکلف مریداً للفعل المتوقف علیها ، کما لا یخفى على من أعطاها حق النظر.
وأنت خبیر بأن نهوضها على التبعیة واضح لا یکاد یخفى ، وأنّ کان نهوضها على أصل الملازمة لم یکن بهذه المثابة ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 72.
2 ـ راجع ص 99.
3 ـ معالم الدین / 74 ، فی آخر مبحث الضد.
هو الشیخ جمال الدین أبو منصور الحسن بن الشیخ زین الدین ، ولد سنة 959 ه ، کان عالماً فاضلاً عاملاً جامعاً للفنون ، اعرف أهل زمإنّه بالفقه والحدیث والرجال ، یروی عن جماعة من تلامذة أبیه ، منهم الشیخ حسین بن عبد الصمد العاملی ، له کتب ورسائل منها « منتقى الجمان فی الأحادیث الصحاح والحسان » و « معالم الدین وملاذ المجتهدین » توفی سنة 1011 ه. () أمل الآمل 1 / 57 رقم 45 ).
وهل یعتبر فی وقوعها على صفة الوجوب أن یکون الإِتیان بها بداعی التوصل بها إلى ذی المقدمة؟ کما یظهر مما نسبه إلى شیخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ بعضٍ أفاضل (1) مقرری بحثه ، أو ترتب ذی المقدمة علیها؟ بحیث لو لم یترتب علیها لکشف (2) عن عدم وقوعها على صفة الوجوب ، کما زعمه صاحب الفصول (3) 1؟ أو لا یعتبر فی وقوعها کذلک شیء منهما؟
الظاهر عدم الاعتبار : امّا عدم اعتبارٍ قصد التوصل ، فلاجل أن الوجوب لم یکن بحکم العقل إلّا لأجل المقدمیة والتوقف ، وعدم دخل قصد التوصل فیه واضح ، ولذا اعترف (4) بالاجتزاء بما لم یقصد به ذلک فی غیر المقدّمات العبادیة ، لحصول ذات الواجب ، فیکون تخصیص الوجوب بخصوص ما قصد به التوصل من المقدمة بلا مخصص ، فافهم.
نعم إنّما اعتبر ذلک فی الامتثال ، لما عرفت (5) من إنّه لا یکاد یکون الآتی بها بدونه ممتثلا لامرها ، وآخذاً فی امتثال الأمر بذیها ، فُیثاب بثواب أشقِّ الأعمال ، فیقع الفعل المقدمی على صفة الوجوب ، ولو لم یقصد به التوصل ، کسائر الواجبات التوصلیة ، لا على حکمه السابق الثابث له ، لو لا عروض صفة توقف الواجب الفعلّی المنجز علیه ، فیقع الدخول فی ملک الغیر واجباً إذا کان مقدّمة لانقاذ غریق أو إطفاء حریق واجب فعلّی لا حراماً ، وأنّ لم یلتفت إلى التوقف والمقدمیة ، غایة الأمر یکون حینئذ متجرِّئاً فیه ، کما إنّه مع الالتفات یتجّرأ بالنسبة إلى ذی المقدمة ، فیما لم یقصد التوصل إلیه أصلاً.
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 72.
2 ـ فی « ب » : یکشف.
3 ـ الفصول / 86 ، فی مقدّمة الواجب.
4 ـ مطارح الأنظار / 72.
5 ـ راجع صفحة 112.
وأما إذا قصده ، ولکنه لم یأت بها بهذا الداعی ، بل بداعٍ آخر أکّده بقصد التوصل ، فلا یکون متجرِّئاً أصلاً.
وبالجملة : یکون التوصل بها إلى ذی المقدمة من الفوائد المترتبة على المقدمة الواجبة ، لا أن یکون قصده قیداً وشرطاً لوقوعها على صفة الوجوب ، لثبوت ملاک الوجوب فی نفسها بلا دخل له فیه أصلاً ، وإلاّ لما حصل ذات الواجب ولما سقط الوجوب به ، کما لا یخفى.
ولا یقاس على ما إذا أتى بالفرد المحرم منها ، حیث یسقط به الوجوب ، مع إنّه لیس بواجب ، وذلک لأن الفرد المحرم إنّما یسقط به الوجوب ، لکونه کغیره فی حصول الغرض به ، بلا تفاوت أصلاً ، إلّا إنّه لأجل وقوعه على صفة الحرمة لا یکاد یقع على صفة الوجوب ، وهذا بخلاف [ ما ] ها هنا ، فإنّه إن کان کغیره مما یقصد به التوصل فی حصول الغرض ، فلابد أن یقع على صفة الوجوب مثله ، لثبوت المقتضی فیه بلا مانع ، وإلاّ لما کان یسقط به الوجوب ضرورة ، والتالی باطل بداهة ، فیکشف هذا عن عدم اعتبارٍ قصده فی الوقوع على صفة الوجوب قطعاً ، وانتظر لذلک تتمة (1) توضیح.
والعجب إنّه شدد النکیر على القول بالمقدمة الموصلة ، واعتبار ترتب ذی المقدمة علیها فی وقوعها على صفة الوجوب ، على ما حرره بعضٍ مقرری (2) بحثه (1) بما یتوجه على اعتبارٍ قصد التوصل فی وقوعها کذلک ، فراجع تمام کلامه زید فی علو مقامه ، وتأمّل فی نقضه وإبرامه.
وأما عدم اعتبارٍ ترتب ذی المقدمة علیها فی وقوعها على صفة الوجوب ، فلأنه لا یکاد یعتبر فی الواجب إلّا ما له دخل فی غرضه الداعی إلى إیجابه
__________________
1 ـ فی « ب » : جهة.
2 ـ راجع مطارح الأنظار / 74 و 75 فی المقدمة الموصلة.
والباعث على طلبه ، ولیس الغرض من المقدمة إلّا حصول ما لولاه لما أمکن حصول ذی المقدمة ، ضرورة إنّه لا یکاد یکون الغرض إلّا ما یترتب علیه من فائدته وأثره ، ولا یترتب على المقدمة إلّا ذلک ، ولا تفاوت فیه بین ما یترتب علیه الواجب ، وما لا یترتب علیه أصلاً ، وإنّه لا محالة یترتب علیهما ، کما لا یخفى.
وأما ترتب الواجب ، فلا یعقل أن یکون الغرض الداعی إلى إیجابها والباعث على طلبها ، فإنّه لیس بأثر تمام المقدّمات ، فضلاً عن أحدها فی غالب الواجبات ، فإن الواجب إلّا ما قل فی الشرعیات والعرفیات فعل اختیاری ، یختار المکلف تارةً إتیإنّه بعد وجود تمام مقدماته ، وأخرى عدم إتیإنّه ، فکیف یکون اختیار إتیإنّه غرضاً من إیجاب کلّ واحدة من مقدماته ، مع عدم ترتبه على تمامها (1) ، فضلاً عن کلّ واحدة منها؟
نعم فیما کان الواجب من الأفعال التسبیبیة والتولیدیة ، کان مترتباً لا محالة على تمام مقدماته ، لعدم تخلف المعلول عن علته.
ومن هنا [ قد ] (2) انقدح أن القول بالمقدمة الموصلة ، یستلزم إنکار وجوب المقدمة فی غالب الواجبات ، والقول بوجوب خصوص العلة التامة فی خصوص الواجبات التولیدیة.
فإن قلت : ما من واجب إلّا وله علّة تامة ، ضرورة استحالة وجود الممکن بدونها ، فالتخصیص بالواجبات التولیدیة بلا مخصص.
قلت : نعم وأنّ استحال صدور الممکن بلا علّة ، إلّا أن مبادىء اختیار الفعل الاختیاری من أجزاء علته ، وهی لا تکاد تتصف بالوجوب ، لعدم کونها
__________________
1 ـ فی « ب » : عامها.
2 ـ أثبتناها من « ب ».
بالاختیار ، وإلاّ لتسلسل ، کما هو واضح لمن تأمل ، ولأنّه لو کان معتبراً فیه الترتب ، لما کان الطلب یسقط بمجرد الإِتیان بها ، من دون انتظار لترتب الواجب علیها ، بحیث لا یبقى فی البین إلّا طلبه وإیجابه ، کما إذا لم تکن هذه بمقدمته (1) ، أو کانت حاصلة من الأوّل قبل إیجابه ، مع أن الطلب لا یکاد یسقط إلّا بالموافقة ، أو بالعصیان والمخالفة ، أو بارتفاع موضوع التکلیف ، کما فی سقوط الأمر بالکفن أو الدفن ، بسبب غرق المیت أحیاناً أو حرقه ، ولا یکون الإِتیان بها بالضرورة من هذه الأمور غیر الموافقة.
إن قلت : کما یسقط الأمر فی تلک الأمور ، کذلک یسقط بما لیس بالمأمور به فیما یحصل به الغرض منه ، کسقوطه فی التوصلیات بفعل الغیر ، أو المحرمات.
قلت : نعم ، ولکن لا محیص عن أن یکون ما یحصل به الغرض ، من الفعل الاختیاری للمکلف متعلقاً للطلب فیما لم یکن فیه مانع ، وهو کونه بالفعل محرماً ، ضرورة إنّه لا یکون بینهما تفاوت أصلاً ، فیکف یکون أحدهما متعلقاً له فعلاً دون الآخر؟
وقد استدل صاحب الفصول (2) على ما ذهب إلیه بوجوه ، حیث قال بعد بیان أن التوصل بها إلى الواجب ، من قبیل شرط الوجود لها لا من قبیل شرط الوجوب ، ما هذا لفظه :
( والذی یدلّک على هذا ـ یعنی الاشتراط بالتوصل ـ أن وجوب المقدمة لما کان من باب الملازمة العقلیة ، فالعقل لا یدلّ علیه زائداً على القدر المذکور ، وأیضاً لا یأبى العقل أن یقول الأمر الحکیم : أُرید الحج ، وأرید المسیر الذی
__________________
1 ـ فی « ب » : بمقدمة.
2 ـ الفصول / 86. فی التنبیه الأوّل من تنبیهات مقدّمة الواجب.
یتوصل به إلى فعل الواجب ، دون ما لم یتوصل به إلیه ؛ بل الضرورة قاضیة بجواز تصریح الآمر بمثل ذلک ، کما إنّها قاضیة بقبح التصریح بعدم مطلوبیتها له مطلقاً ، أو على تقدیر التوصل بها إلیه ، وذلک آیة عدم الملازمة بین وجوبه ووجوب مقدماته على تقدیر عدم التوصل بها إلیه ، وأیضاً حیث أن المطلوب بالمقدمة مجرد التوصل بها إلى الواجب وحصوله ، فلاجرم یکون التوصل بها إلیه وحصوله معتبراً فی مطلوبیتها ، فلا تکون مطلوبة إذا انفکت عنه ، وصریح الوجدان قاضٍ بأن من یرید شیئاً بمجرد حصول شیء آخر ، لا یریده إذا وقع مجردا عنه ، ویلزم منه أن یکون وقوعه على وجه المطلوب منوطا بحصوله ). انتهى موضع الحاجة من کلامه ، زید فی علو مقامه.
وقد عرفت بما لا مزید علیه ، أن العقل الحاکم بالملازمة دلّ على وجوب مطلق المقدمة ، لا خصوص ما إذا ترتب علیها الواجب ، فیما لم یکن هناک مانع عن وجوبه ، کما إذا کان بعضٍ مصادیقه محکوماً فعلاً بالحرمة ، لثبوت مناط الوجوب حینئذ فی مطلقها ، وعدم اختصاصه بالمقید بذلک منها.
وقد انقدح منه ، إنّه لیس للأمر الحکیم الغیر المجازف بالقول ذلک التصریح ، وأنّ دعوى أن الضرورة قاضیة بجوازه (1) مجازفة ، کیف یکون ذا مع ثبوت الملاک فی الصورتین بلا تفاوت أصلا؟ کما عرفت.
نعم إنّما یکون التفاوت بینهما فی حصول المطلوب النفسی فی إحداهما ، وعدم حصوله فی الأخرى ، من دون دخل لها فی ذلک أصلاً ، بل کان بحسن اختیار المکلف وسوء اختیاره ، وجاز للأمر أن یصرِّح بحصول هذا المطلوب فی إحداهما ، وعدم حصوله فی الأخرى ، [ بل من ] (2) حیث أن الملحوظ بالذات هو
__________________
1 ـ ادعاه صاحب الفصول ، حیث قال : ولا یأبى أن یقول الأمر الحکیم .. الخ ... / الفصول / 86.
2 ـ أثبتناها من « أ ».
هذا المطلوب ، وإنما کان الواجب الغیری ملحوظاً إجمالاً بتبعه ، کما یأتی أن وجوب المقدمة على الملازمة تبعیّ ، جاز فی صورة عدم حصول المطلوب النفسی التصریح بعدم حصول المطلوب أصلاً ، لعدم الالتفات إلى ما حصل من المقدمة ، فضلاً عن کونها مطلوبة ، کما جاز التصریح بحصول الغیری مع عدم فائدته لو التفت إلیها ، کما لا یخفى ، فافهم.
إن قلت : لعل التفاوت بینهما فی صحة اتصاف إحداهما بعنوان الموصلیة دون الأخرى ، أوجب التفاوت بینهما فی المطلوبیة وعدمها ، وجواز التصریح بهما ، وأنّ لم یکن بینهما تفاوت فی الأثر ، کما مرّ.
قلت : إنّما یوجب ذلک تفاوتاً فیهما ، لو کان ذلک لأجل تفاوت فی ناحیة المقدمة ، لا فیما إذا لم یکن فی ناحیتها أصلاً ـ کما هاهنا ـ ضرورة أن الموصلیة إنّما تنتزع من وجود الواجب ، وترتبه علیها من دون اختلاف فی ناحیتها ، وکونها فی کلاّ الصورتین على نحو واحد وخصوصیة واحدة ، ضرورة أن الإِتیان بالواجب بعد الإِتیان بها بالاختیار تارةً ، وعدم الإِتیان به کذلک أُخرى ، لا یوجب تفاوتاً فیها ، کما لا یخفى.
وأما ما أفاده (1) 1 من أن مطلوبیة المقدمة حیث کانت بمجرد التوصل بها ، فلا جرم یکون التوصل بها إلى الواجب معتبراً فیها.
ففیه : إنّه إنّما کانت مطلوبیتها لأجل عدم التمکن من التوصل بدونها ، لا لأجل التوصل بها ، لما عرفت من إنّه لیس من آثارها ، بل مما یترتب علیها أحیاناً بالاختیار بمقدمات أُخرى ، وهی مبادىء اختیاره ، ولا یکاد یکون مثل ذا غایة لمطلوبیتها وداعیاً إلى إیجابها ، وصریح الوجدان إنّما یقتضی بأن ما أُرید لأجل غایة ، وتجرد عن الغایة بسبب عدم حصول سائر ماله دخل فی حصولها ،
__________________
1 ـ الفصول / 86 ، فی تنبیهات مقدّمة الواجب.
یقع على ما هو علیه من المطلوبیة الغیریة ، کیف؟ وإلاّ یلزم أن یکون وجودها من قیوده ، ومقدمة لوقوعه على نحو یکون الملازمة بین وجوبه بذاک النحو ووجوبها.
وهو کما ترى ، ضرورة أن الغایة لا تکاد تکون قیداً لذی الغایة ، بحیث کان تخلفها موجباً لعدم وقوع ذی الغایة على ما هو علیه من المطلوبیة الغیریة ، وإلاّ یلزم أن تکون مطلوبة بطلبه کسائر قیوده ، فلا یکون وقوعه على هذه الصفة منوطا بحصولها ، کما أفاده.
ولعل منشأ توهمه ، خلطه بین الجهة التقییدیة والتعلیلیة. هذا. مع ما عرفت من عدم التخلف ها هنا ، وأنّ الغایة إنّما هو حصول ما لولاه لما تمکن من التوصل إلى المطلوب النفسی ، فافهم واغتنم.
ثم إنّه لا شهادة على الاعتبار فی صحة منع المولى عن مقدماته بأنحائها ، إلّا فیما إذا رتب علیه الواجب لو سلّم أصلاً ، ضرورة إنّه وأنّ لم یکن الواجب منها حینئذ غیر الموصلة ، إلّا إنّه لیس لأجل اختصاص الوجوب بها فی باب المقدمة ، بل لأجل المنع عن غیرها المانع عن الاتصاف بالوجوب هاهنا ، کما لا یخفى.
مع أن فی صحة المنع عنه کذلک نظراً ، وجهه إنّه یلزم أن لا یکون ترک الواجب حینئذ مخالفة وعصیاناً ، لعدم التمکن شرعاً منه ، لاختصاص جواز مقدمته بصورة الإِتیان به.
وبالجملة یلزم أن یکون الإِیجاب مختصاً بصورة الإِتیان ، لاختصاص جواز المقدمة بها وهو محال (1) فإنّه یکون من طلب الحاصل المحال ، فتدبرّ جیداً.
__________________
1 ـ حیث کان الإِیجاب فعلاً متوقفاً على جواز المقدمة شرعاً ، وجوازها کذلک کان متوقفاً على إیصالها المتوقف على الإِتیان بذی المقدمة بداهة ، فلا محیص إلّا عن کون إیجابه على تقدیر الإِتیان به ، وهو من طلب الحاصل الباطل « منه 1 ».
بقی شیء وهو أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة ، هی تصحیح العبادة التی یتوقف على ترکها فعل الواجب ، بناءً على کون ترک الضد مما یتوقف علیه فعل ضدّه ، فإن ترکها على هذا القول لا یکون مطلقاً واجباً ، لیکون فعلها محرماً ، فتکون فاسدة ، بل فیما یترتب علیه الضد الواجب ، ومع الإِتیان بها لا یکاد یکون هناک ترتب ، فلا یکون ترکها مع ذلک واجباً ، فلا یکون فعلها منهیاً عنه ، فلا تکون فاسدة.
وربما أورد (1) على تفریع هذه الثمرة بما حاصله : بأن فعل الضد ، وأنّ لم یکن نقیضاً للترک الواجب مقدّمة ، بناءً على المقدمة الموصلة ، إلّا إنّه لازم لما هو من أفراد النقیض ، حیث إنَّ نقیض ذاک الترک الخاص رفعه ، وهو أعم من الفعل والترک الآخر المجرد ، وهذا یکفی فی إثبات الحرمة ، وإلاّ لم یکن الفعل المطلق محرماً فیما إذا کان الترک المطلق واجباً ، لأن الفعل أیضاً لیس نقیضاً للترک ، لأنه أمر وجودی ، ونقیض الترک إنّما هو رفعه ، ورفع الترک إنّما یلازم الفعل مصداقاً ، ولیس عینه ، فکما أن هذه الملازمة تکفی فی إثبات الحرمة لمطلق الفعل ، فکذلک تکفی فی المقام ، غایة الأمر أن ما هو النقیض فی مطلق الترک ، إنّما ینحصر مصداقه فی الفعل فقط ، وأما النقیض للترک الخاص فله فردان ، وذلک لا یوجب فرقاً فیما نحن بصدده ، کما لا یخفى.
قلت : وأنت خبیر بما بینهما من الفرق ، فإن الفعل فی الأوّل لا یکون إلّا مقارناً لما هو النقیض ، من رفع الترک المجامع معه تارةً ، ومع الترک المجرد أُخرى ، ولا تکاد تسری حرمة الشیء إلى ما یلازمه ، فضلاً عما یقارنه أحیاناً.
نعم لابد أن لا یکون الملازم محکوماً فعلاً بحکم آخر على خلاف حکمه ، لا أن یکون محکوماً بحکمه ، وهذا بخلاف الفعل فی الثّانی ، فإنّه
__________________
1 ـ مطارح الأنظار / 78.
بنفسه یعاند الترک المطلق وینافیه ، لا ملازم لمعانده ومنافیه ، فلو لم یکن عین ما یناقضه بحسب الاصطلاح مفهوماً ، لکنه متحد معه عیناً و خارجاً ، فإذا کان الترک واجباً ، فلا محالة یکون الفعل منهیاً عنه قطعاً ، فتدبرّ جیداً.
ومنها : تقسیمه إلى الأصلی والتبعی ، والظاهر أن یکون هذا التقسیم بلحاظ الاصالة والتبعیة فی الواقع ومقام الثبوت ، حیث یکون الشیء تارةً متعلقاً للارادة والطلب مستقلاً ، للالتفات إلیه بما هو علیه مما یوجب طلبه فیطلبه ، کان طلبه نفسیاً أو غیریاً ، وأخرى متعلقاً للارادة تبعا لارادة غیره ، لأجل کون إرادته لازمة لإِرادته ، من دون التفات إلیه بما یوجب إرادته ، لا بلحاظ الاصالة والتبعیة فی مقام الدلالة والإِثبات (1) ، فإنّه یکون فی هذا المقام ، تارةً مقصودا بالإِفادة ، وأخرى غیر مقصود بها على حدة ، إلّا إنّه لازم الخطاب ، کما فی دلالة الإِشارة ونحوها.
وعلى ذلک ، فلا شبهة فی انقسام الواجب الغیری إلیهما ، واتّصافه بالاصالة والتبعیة کلیهما ، حیث یکون متعلقاً للارادة على حدة عند الالتفات إلیه بما هو مقدّمة ، وأخرى لا یکون متعلقاً لها کذلک عند عدم الالتفات إلیه کذلک ، فإنّه یکون لا محالة مراداً تبعا لارادة ذی المقدمة على الملازمة.
کما لا شبهة فی اتصاف النفسی أیضاً بالاصالة ، ولکنه لا یتصف بالتبعیة ، ضرورة إنّه لا یکاد یتعلق به الطلب النفسی ما لم تکن فیه مصلحة نفسیّة ، ومعها یتعلق الطلب بها مستقلاً ، ولو لم یکن هناک شیء آخر مطلوب أصلاً ، کما لا یخفى.
نعم لو کان الاتصاف بهما بلحاظ الدلالة ، اتصف النفسی بهما أیضاً ،
__________________
1 ـ کما هو مذهب صاحبی القوانین والفصول ( قدس سرهما ).
القوانین 1 / 101 ـ 102 ، فی مقدّمة الواجب ، المقدمة السادسة والسابعة.
الفصول / 82.
ضرورة إنّه قد یکون غیر مقصودة بالإِفادة ، بل اُفید بتبع غیره المقصود بها ، لکن الظاهر ـ کما مر ـ أن الاتصاف بهما إنّما هو فی نفسه ، لا بلحاظ حال الدلالة علیه ، وإلاّ لما اتصف بواحد منهما ، إذا لم یکن بعد مفاد دلیل ، وهو کما ترى.
ثم إنّه إذا کان الواجب التبعی ما لم یتعلق به إرادة مستقلة ، فإذا شک فی واجب إنّه أصلی أو تبعیّ ، فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به یثبت إنّه تبعیّ ، ویترتب علیه آثاره إذا فرض له آثار شرعیة (1) ، کسائر الموضوعاًت المتقومة بأمور عدمیة.
نعم لو کان التبعی أمراً وجودیاً خاصاً غیر متقوّم بعدمی ، وأنّ کان یلزمه ، لما کان یثبت بها إلّا على القول بالأصل المثبت ، کما هو واضح ، فافهم.
تذنیب : فی بیان الثمرة ، وهی فی المسألة الأصولیة ـ کما عرفت سابقاً ـ لیست إلّا أن تکون نتیجتها صالحة للوقوع فی طریق الاجتهاد ، واستنباط حکم فرعیّ ، کما لو قیل بالملازمة فی المسألة ، فإنّه بضمیمة مقدّمة کون شیء مقدّمة لواجب یستنتج إنّه واجب.
ومنه قد انقدح ، إنّه لیس منها مثل برءِ النذر بإتیان مقدّمة واجب ، عند نذر الواجب ، وحصول الفسق بترک الواجب بمقدماته إذا کانت له مقدمات کثیرة ، لصدق الإِصرار على الحرام بذلک ، وعدم جواز أخذ الاجرة على المقدمة.
مع أنَّ البرء وعدمه إنّما یتبعان قصد الناذر ، فلا برء بإتیان المقدمة لو قصد الوجوب النفسی ، کما هو المنصرف عند إطلاقه ولو قیل بالملازمة ، وربما
__________________
1 ـ فی نسختی « أ و ب » : آثار شرعی.
یحصل البرء به لو قصد ما یعم المقدمة ولو قیل بعدمها ، کما لا یخفى.
ولا یکاد یحصل الإِصرار على الحرام بترک واجب ، ولو کانت له مقدمات غیر عدیدة ، لحصول العصیان بترک أول مقدّمة لا یتمکن معه من الواجب ، ولا یکون ترک سائر المقدّمات بحرام أصلاً ، لسقوط التکلیف حینئذ ، کما هو واضح لا یخفى.
وأخذ الاجرة على الواجب لا بأس به ، إذا لم یکن إیجابه على المکلف مجاناً وبلا عوض ، بل کان وجوده المطلق مطلوباً کالصناعات الواجبة کفائیة التی لا یکاد ینتظم بدونها البلاد ، ویختل لولاها معاش العباد ، بل ربما یجب أخذ الاجرة علیها لذلک ، أیّ لزوم الاختلال وعدم الانتظام لولا أخذها ، هذا فی الواجبات التوصلیة.
وأما الواجبات التعبدیة ، فیمکن أن یقال بجواز أخذ الاجرة على إتیإنّها بداعی امتثالها ، لا على نفس الإِتیان ، کی ینافی عبادیتها ، فیکون من قبیل الداعی إلى الداعی ، غایة الأمر یعتبر فیها ـ کغیرها ـ أن یکون فیها منفعة عائدة إلى المستاجر ، کی لا تکون المعاملة سفهیة ، وأخذ الاجرة علیها أکلاً بالباطل.
وربما یجعل (1) من الثمرة ، اجتماع الوجوب والحرمة ـ إذا قیل بالملازمة ـ فیما کانت المقدمة محرمة ، فیبتنی على جواز اجتماع الأمر والنهی وعدمه ، بخلاف ما لو قیل بعدمها ، وفیه :
أولا : إنّه لا یکون من باب الاجتماع ، کی تکون مبتنیة علیه ، لما أشرنا إلیه غیر مرة ، أنَّ الواجب ما هو بالحمل الشائع مقدّمة ، لا بعنوان المقدمة ، فیکون على الملازمة من باب النهی فی العبادة والمعاملة.
__________________
1 ـ نسب إلى الوحید البهبهانی ، مطارح الأنظار / 81.
وثانیاً : (1) إن الاجتماع وعدمه لا دخل له فی التوصل (2) بالمقدمة المحرمة وعدمه أصلاً ، فإنّه یمکن التوصل (3) بها إن کانت توصلیة ، ولو لم نقل بجواز الاجتماع ، وعدم جواز التوصل (4) بها إن کانت تعبدیة على القول بالامتناع ، قیل بوجوب المقدمة أو بعدمه ، وجواز التوصل (5) بها على القول بالجواز کذلک ، أیّ قیل بالوجوب أو بعدمه.
وبالجملة لا یتفاوت الحال فی جواز التوصل (6) بها ، وعدم جوازه أصلاً ، بین أن یقال بالوجوب ، أو یقال بعدمه ، کما لا یخفى.
فی تأسیس الأصل فی المسألة
إعلم إنّه لا أصل فی محلّ البحث فی المسألة ، فإن الملازمة بین وجوب المقدمة ووجوب ذی المقدمة وعدمها لیست لها حالة سابقة ، بل تکون الملازمة أو عدمها أزلیّة ، نعم نفس وجوب المقدمة یکون مسبوقاً بالعدم ، حیث یکون حادثا بحدوث وجوب ذی المقدمة ، فالأصل عدم وجوبها.
وتوهمّ عدم جریإنّه ، لکون وجوبها على الملازمة ، من قبیل لوازم الماهیة ، غیر مجعولة ، ولا أثر آخر مجعول مترتب علیه ، ولو کان لم یکن بمهم ها هنا ، مدفوع بإنّه وأنّ کان غیر مجعول بالذات ، لا بالجعل البسیط الذی هو مفاد کان التامة ، ولا بالجعل التألیفی الذی هو مفاد کان الناقصة ، إلّا إنّه
__________________
1 ـ قد حذف المصنف 1 إشکالاً آخر من نسختی « أ و ب » ، وجعل الثالث مکإنّه ، وهذا یشعر بإضرابه عن الایراد الثّانی وهو قوله : « لا یکاد یلزم الاجتماع أصلاً ، لاختصاص الوجوب بغیر المحرم ، فی غیر صورة الانحصار به ، وفیها امّا لا وجوب للمقدمة ، لعدم وجوب ذی المقدمة لأجل المزاحمة ، واما لاحرمة لها لذلک ، کما لا یخفى ».
2 ـ فی « أ » : التوسل.
3 و 4 و 5 و 6 ـ فی « أ و ب » : التوسل.
مجعول بالعرض ، ویتبع جعل وجوب ذی المقدمة ، وهو کافٍ فی جریان الأصل.
ولزوم التفکیک بین الوجوبین مع الشک لا محالة ، لاصالة عدم وجوب المقدمة مع وجوب ذی المقدمة ، لا ینافی الملازمة بین الواقعیین ، وإنما ینافی الملازمة بین الفعلیین ، نعم لو کانت الدعوى هی الملازمة المطلقة حتى فی المرتبة الفعلیة ، لما صحّ التمسک بالأصل ، کما لا یخفى.
إذا عرفت ما ذکرنا ، فقد تصدى غیر واحد من الأفاضل (1) لاقامة البرهان على الملازمة ، وما أتى منهم بواحد خال عن الخلل ، والأولى إحالة ذلک إلى الوجدان ، حیث إنّه أقوى شاهد على أن الإانسان إذا أراد شیئاً له مقدمات ، أراد تلک المقدّمات ، لو التفت إلیها بحیث ربما یجعلها فی قالب الطلب مثله ، ویقول مولویاً ( أدخل السوق واشتر اللحم ) مثلاً ، بداهة أن الطلب المنشأ بخطاب ( أدخل ) مثل المنشأ بخطاب ( إشتر ) فی کونه بعثاً مولویاً ، وإنّه حیث تعلقت إرادته بإیجاد عبده الاشتراء ، ترشحت منها له إرادة أُخرى بدخو السوق ، بعد الالتفات إلیه وإنّه یکون مقدّمة له ، کما لا یخفى.
ویؤید الوجدان ، بل یکون من أوضح البرهان ، وجود الأوامر الغیریة فی الشرعیات والعرفیات ، لوضوح إنّه لا یکاد یتعلق بمقدمة أمر غیری ، إلّا إذا کان فیها مناطه ، وإذا کان فیها کان فی مثلها ، فیصحّ تعلقه به أیضاً ، لتحقق ملاکه ومناطه ، والتفصیل بین السبب وغیره والشرط الشرعی وغیره سیأتی بطلإنّه ، وإنّه لا تفاوت فی باب الملازمة بین مقدّمة ومقدمة.
ولا بأس بذکر الاستدلال الذی هو کالأصل لغیره ـ مما ذکره الأفاضل (2)
__________________
1 ـ انظر مطارح الأنظار / 83 ، فی أدلة القائلین بوجوب المقدمة.
2 ـ المصدر السابق / 83 ـ 84 ، الفصول / 84 ، هدایة المسترشدین / 205 ، نهایة الأصول / 88 ، فی المبحث الأوّل من الفصل الخامس فی أحکام الوجوب.
من الاستدلالات ـ وهو ما ذکره أبو الحسن [ الحسین ] (1) البصری (2) ، وهو إنّه لو لم یجب المقدمة لجاز ترکها ، وحینئذ ، فإن بقی الواجب على وجوبه یلزم التکلیف بما لا یطاق ، وإلاّ خرج الواجب المطلق عن وجوبه.
وفیه : ـ بعد إصلاحه بإرادة عدم المنع الشرعی من التالی فی الشرطیّة الأولى ، لا الإِباحة الشرعیة ، وإلاّ کانت الملازمة واضحة البطلان ، وإرادة الترک عما أضیف إلیه الظرف ، لا نفس الجواز ، وإلاّ فمجرد الجواز بدون الترک ، لا یکاد یتوهم معه (3) صدق القضیة الشرطیّة الثانیة ـ ما لا یخفى ؛ فان الترک بمجرد عدم المنع شرعاً لا یوجب صدق إحدى الشرطیتین ، ولا یلزم أحد المحذورین ، فإنّه وأنّ لم یبق له وجوب معه ، إلّا إنّه کان ذلک بالعصیان ، لکونه متمکناً من الإطاعة والإِتیان ، وقد اختار ترکه بترک مقدمته بسوء اختیاره ، مع حکم العقل بلزوم إتیإنّها ، إرشاداً إلى ما فی ترکها من العصیان المستتبع للعقاب.
نعم لو کان المراد من الجواز الترک شرعاً وعقلاً ، یلزم أحد المحذورین ، إلّا أن الملازمة على هذا فی الشرطیّة الأولى ممنوعة ، بداهة إنّه لو لم یجب شرعاً لا یلزم أن یکون جائزاً شرعاً وعقلاً ، لإمکان أن لا یکون محکوماً بحکم شرعاً ، وأنّ کان واجباً عقلاً إرشاداً ، وهذا واضح.
وأما التفصیل بین السبب وغیره ، فقد استدل (4) على وجوب السبب ،
__________________
1 ـ ما أثبتناه هو الصواب ، راجع المعتمد فی أصول الفقه 1 / 94 ، لأبی الحسین البصری.
2 ـ هو أبو الحسن علی بن إسماعیل بن إسحاق الاشعری من نسل أبی موسى الاشعری ولد فی البصرة سنة 260 ه ، تلقى مذهب المعتزلة وتقدم فیهم ، ثم رجع وجاهر بخلافهم ، وأسس مذهب الأشاعرة ، بلغت مصنفاته ثلاثمأة کتاب ، توفی ببغداد سنة 326 ه ( اعلام الزرکلی 4 / 263 ).
3 ـ فی «ب» قضیة.
4 ـ بدائع الأفکار / 353 ، القول الثالث فی وجوب المقدمة.
بأن التکلیف لا یکاد یتعلق إلّا بالمقدور ، والمقدور لا یکون إلّا هو السبب ، وإنما المسبب من آثاره المترتبة علیه قهرا ، ولا یکون من أفعال المکلف وحرکاته أو سکناته ، فلا د من صرف الأمر المتوجه إلیه عنه إلى سببه.
ولا یخفى ما فیه ، من إنّه لیس بدلیل على التفصیل ، بل على أن الأمر النفسی إنّما یکون متعلقاً بالسبب دون المسبب ، مع وضوح فساده ، ضرورة أن المسبب مقدور المکلف ، وهو متمکن عنه بواسطة السبب ، ولا یعتبر فی التکلیف أزید من القدرة ، کانت بلا واسطة أو معها ، کما لا یخفى.
وأما التفصیل بین الشرط الشرعی وغیره ، فقد استدل (1) على الوجوب فی الأوّل بإنّه لولا وجوبه شرعاً لما کان شرطاً ، حیث إنّه لیس مما لا بدّ منه عقلاً أو عادة.
وفیه ـ مضافاً إلى ما عرفت من رجوع الشرط الشرعی إلى العقلی ـ إنّه لا یکاد یتعلق الأمر الغیری إلّا بما هو مقدّمة الواجب ، فلو کانت مقدمیته متوقفة على تعلقه بها لدار ، والشرطیة وأنّ کانت منتزعة عن التکلیف ، إلّا إنّه عن التکلیف النفسی المتعلق بما قید بالشرط ، لا عن الغیری ، فافهم.
تتمة : لا شبهة فی أن مقدّمة المستحب کمقدمة الواجب ، فتکون مستحبة ـ لو قیل بالملازمة ـ وأما مقدّمة الحرام والمکروه فلا تکاد تتصف بالحرمة أو الکراهة ، إذ منها ما یتمکن معه من ترک الحرام أو المکروه اختیاراً ، کما کان متمکناً قبله ، فلا دخل له أصلاً فی حصول ما هو المطلوب من ترک الحرام أو المکروه ، فلم یترشح من طلبه طلب ترک مقدمتهما ، نعم ما لا یتمکن معه من الترک المطلوب ، لا محالة یکون مطلوب الترک ، ویترشح من طلب ترکهما طلب ترک خصوص هذه المقدمة ، فلو لم یکن للحرام مقدّمة لا یبقى
__________________
1 ـ المصدر المتقدم / 354 ، القول الرابع فی وجوب المقدمة.
معها اختیار ترکه لما اتصف بالحرمة مقدّمة من مقدماته.
لا یقال : کیف؟ ولا یکاد یکون فعل إلّا عن مقدّمة لا محالة معها یوجد ، ضرورة أن الشیء ما لم یجب لم یوجد.
فإنّه یقال : نعم لا محالة یکون من جملتها ما یجب معه صدور الحرام ، لکنه لا یلزم أن یکون ذلک من المقدّمات الاختیاریة ، بل من المقدّمات الغیر الاختیاریة ، کمبادىء الاختیار التی لا تکون بالاختیار ، وإلاّ لتسلسل ، فلا تغفل ، وتأمل.
فصل
الأمر بالشیء هل یقتضی النهی عن ضدّه ، أو لا؟
فیه أقوال ، وتحقیق الحال یستدعی رسم أمور :
الأول : الاقتضاء فی العنوان أعم من أن یکون بنحو العینیة ، أو الجزئیة ، أو اللزوم من جهة التلازم بین طلب أحد الضدین ، وطلب ترک الآخر ، أو المقدمیة على ما سیظهر ، کما أن المراد بالضد هاهنا ، هو مطلق المعاند والمنافی وجودیاً کان أو عدمیاً.
الثانی : إن الجهة المبحوثة عنها فی المسألة ، وأنّ کانت إنّه هل یکون للأمر اقتضاء بنحو من الأنحاء المذکورة ، إلّا إنّه لما کان عمدة القائلین بالاقتضاء فی الضد الخاص ، إنّما ذهبوا إلیه لأجل توهّم مقدمیة ترک الضد ، کان المهمّ صرف عنان الکلام فی المقام إلى بیان الحال وتحقیق المقال ، فی المقدمیة وعدمها ، فنقول وعلى الله الاتکال :
إن توهّم توقف الشیء على ترک ضدّه ، لیس إلّا من جهة المضادًة والمعاندة بین الوجودین ، وقضیتها الممانعة بینهما ، ومن الواضحات أن عدم