کفایة الاصول - قسمت چهارم
المانع من المقدمات.
وهو توهّم فاسد ، وذلک لأن المعاندة والمنافرة بین الشیئین ، لا تقتضی إلّا عدم اجتماعهما فی التحقّق ، وحیث لا منافاة أصلاً بین أحد العینین وما هو نقیض الآخر وبدیله ، بل بینهما کمال الملاءمة ، کان أحد العینین مع نقیض الآخر وما هو بدیله فی مرتبة واحدة من دون أن یکون فی البین ما یقتضی تقدم أحدهما على الآخر ، کما لا یخفى.
فکما أن قضیة المنافاة بین المتناقضین لا تقتضی تقدم ارتفاع أحدهما فی ثبوت الآخر ، کذلک فی المتضادین ، کیف؟ ولو اقتضى التضاد توقف وجود الشیء على عدم ضدّه ، توقف الشیء على عدم مانعه ، لاقتضى توقف عدم الضد على وجود الشیء توقف عدم الشیء على مانعه ، بداهیة ثبوت المانعیة فی الطرفین ، وکون المطاردة من الجانبین ، وهو دور (1) واضح.
وما قیل (2) فی التفصی عن هذا الدور بأن التوقف من طرف الوجود فعلّی ، بخلاف التوقف من طرف العدم ، فإنّه بتوقف على فرض ثبوت المقتضی له ، مع شراشر شرائطه غیر عدم وجود ضدّه ، ولعله کان محالاً ، لأجل انتهاء عدم وجود أحد الضدین مع وجود الآخر إلى عدم تعلق الإرادة الازلیة به ، وتعلقها بالآخر حسب ما اقتضته الحکمة البالغة ، فیکون العدم دائماً مستنداً إلى عدم المقتضی ، فلا یکاد یکون مستنداً إلى وجود المانع ، کی یلزم الدور.
إن قلت : هذا إذا لوحظا منتهیین إلى إرادة شخص واحد ، وأما إذا کان کلّ منهما متعلقاً لارادة شخص ، فأراد مثلاً أحد الشخصین حرکة شیء ، وأراد الآخر سکونه ، فیکون المقتضی لکلّ منهما حینئذ موجوداً ، فالعدم ـ لا محالة ـ یکون فعلاً مستنداً إلى وجود المانع.
__________________
1 ـ راجع هدایة المسترشدین / 230 عند قوله : ثانیها.
2 ـ المتفصی هو المحقق الخوانساری (1 )على ما فی مطارح الأنظار / 109.
قلت : هاهنا أیضاً مستند إلى عدم قدرة المغلوب منهما فی إرادته ، وهی مما لابد منه فی وجود المراد ، ولا یکاد یکون بمجرد الإرادة بدونها لا إلى وجود الضد ، لکونه مسبوقاً بعدم قدرته ـ کما لا یخفى ـ غیر سدید ، فإنّه وأنّ کان قد ارتفع به الدور ، إلّا إنّه غائلة لزوم توقف الشیء على ما یصلح أن یتوقف علیه على حالها ، لاستحالة أن یکون الشیء الصالح لأن یکون موقوفاً علیه [ الشیء ] (1) موقوفاً علیه ، ضرورة إنّه لو کان فی مرتبة یصلح لأن یستند إلیه ، لما کاد یصحّ أن یستند فعلاً إلیه.
والمنع عن صلوحه لذلک بدعوى : أن قضیة کون العدم مستنداً إلى وجود الضد ، لو کان مجتمعا مع وجود المقتضی ، وأنّ کانت صادقة ، إلّا أن صدقها لا یقتضی کون الضد صالحا لذلک ، لعدم اقتضاء صدق الشرطیّة صدق طرفیها ، مساوق (2) لمنع مانعیة الضد ، وهو یوجب رفع التوقف رأساً من البین ، ضرورة إنّه لا منشأ لتوهم توقف أحد الضدین على عدم الآخر ، إلا توهّم مانعیة الضد ـ کما أشرنا إلیه ـ وصلوحه لها.
إن قلت : التمانع بین الضدین کالنار على المنار ، بل کالشمس فی رابعة النهار ، وکذا کون عدم المانع مما یتوقف علیه ، مما لا یقبل الإِنکار ، فلیس ما ذکر إلّا شبهة فی مقابل البدیهة.
__________________
1 ـ أثبتناها من « ب ».
2 ـ مع أن حدیث عدم اقتضاء صدق الشرطیّة لصدق طرفیها ، وأنّ کان صحیحاً ، إلّا أن الشرطیّة ـ هاهنا ـ غیر صحیحة ، فإن وجود المقتضی لضد ، لا یستلزم بوجه استناد عدمه إلى ضدّه ، ولا یکون الاستناد مترتباً على وجوده ؛ ضرورة أن المقتضی لا یکاد یقتضی وجود ما یمنع عما یقتضیه أصلاً کما لا یخفى ، فلیکن المقتضی لاستناد عدم الضد إلى وجود ضدّه فعلاً عند ثبوت مقتضی وجوده ، هی الخصوصیة التی فیه الموجبة للمنع عن اقتضاء مقتضیه ، کما هو الحال فی کلّ مانع ، ولیست فی الضد تلک الخصوصیة ، کیف؟ وقد عرفت إنّه لا یکاد یکون مانعاً إلّا على وجه دائر ، نعم إنّما المانع عن الضد هو العلة التامة لضدّه ، لاقتضائها ما یعانده وینافیه ، فیکون عدمه کوجود ضدّه مستنداً إلیها ، فافهم ( منه 1 ).
قلت : التمانع بمعنى التنافی والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع مما لا ریب فیه ولا شبهة تعتریه ، إلّا إنّه لا یقتضی إلّا امتناع الاجتماع ، وعدم وجود أحدهما إلّا مع عدم الآخر ، الذی هو بدیل وجوده المعاند له ، فیکون فی مرتبته لا مقدما علیه ولو طبعا ، والمانع الذی یکون موقوفاً على عدمه (1) الوجود هو ماکان ینافی ویزاحم المقتضی فی تأثیره ، لا ما یعاند الشیء ویزاحمه فی وجوده.
نعم العلة التامة لاحد الضدین ، ربما تکون مانعاً عن الآخر ، ومزاحما لمقتضیه فی تأثیره ، مثلاً تکون شدة الشفقة على الولد الغریق وکثرة المحبة له ، تمنع عن أن یؤثر ما فی الأخ الغریق من المحبة والشفقة ، لارادة إنقاذه مع المزاحمة فینقذ به الولد دونه ، فتأمل جیداً.
ومما ذکرنا ظهر إنّه لا فرق بین الضد الموجود والمعدوم ، فی أن عدمه الملائم للشیء المناقض لوجوده المعاند لذاک ، لابد أن یجامع معه من غیر مقتض لسبقه ، بل عرفت ما یقتضی عدم سبقه.
فانقدح بذلک ما فی تفصیل بعضٍ الأعلام (2) ، حیث قال بالتوقف على رفع الضد الموجود ، وعدم التوقف على عدم الضد المعدوم ، فتأمل فی أطراف ما ذکرناه ، فإنّه دقیق وبذلک حقیق.
فقد ظهر عدم حرمة الضد من جهة المقدمیة.
وأما من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمین فی الوجود ، فی الحکم ، فغایته أن لا یکون أحدهما فعلاً محکوماً بغیر ما حکم به الآخر ، لا أن یکون محکوماً بحکمه.
وعدم خلو الواقعة عن الحکم ، فهو إنّما یکون بحسب الحکم الواقعی لا الفعلّی ، فلا حرمة للضد من هذه الجهة أیضاً ، بل على ما هو علیه ، لولا
__________________
1 ـ الصحیح ما اثبتناه و فی « أ » و « ب » موقونا علیه الوجود.
2 ـ هو المحقق الخونساری ، راجع مطارح الأنظار / 109.
الابتلاء بالمضادّة للواجب الفعلّی ، من الحکم الواقعی.
الأمر الثالث : إنّه قیل (1) بدلالة الأمر بالشیء بالتضمن على النهی عن الضد العام ، بمعنى الترک ، حیث إنّه یدلّ على الوجوب المرکب من طلب الفعل والمنع عن الترک. والتحقیق إنّه لا یکون الوجوب إلّا طلباً بسیطاً ، ومرتبة وحیدة أکیدة من الطلب ، لا مرکباً من طلبین ، نعم فی مقام تحدید تلک المرتبة وتعیینها ، ربما یقال : الوجوب یکون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن الترک ، ویتخیل منه إنّه یذکر له حداً ، فالمنع عن الترک لیس من أجزاء الوجوب ومقوماته ، بل من خواصه ولوازمه ، بمعنى إنّه لو التفت الأمر إلى الترک لما کان راضیا به لا محالة ، وکان یبغضه البتة.
ومن هنا انقدح إنّه لا وجه لدعوى العینیة ، ضرورة أن اللزوم یقتضی الاثنینیة ، لا الاتحاد والعینیة.
نعم لا بأس بها ، بأن یکون المراد بها إنّه یکون هناک طلب واحد ، وهو کما یکون حقیقة منسوباً إلى الوجود وبعثاً إلیه ، کذلک یصحّ أن ینسب إلى الترک بالعرض والمجاز ویکون زجراً وردعاً عنه ، فافهم.
الأمر الرابع : تظهر الثمرة فی أن نتیجة المسألة ، وهی النهی عن الضد بناءً على الاقتضاء ، بضمیمة أن النهی فی العبادات یقتضی الفساد ، یتنج فساده إذا کان عبادة.
وعن البهائی ; (2) إنّه أنکر الثمرة ، بدعوى إنّه لا یحتاج فی استنتاج الفساد إلى النهی عن الضد ، بل یکفی عدم الأمر به ، لاحتیاج العبادة إلى الأمر.
__________________
1 ـ القائل هو صاحب المعالم ، المعالم / 63.
2 ـ زبدة الأصول / 82 ، مخطوط.
وفیه : أنّه یکفی مجرد الرجحان والمحبوبیة للمولى ، کی یصحّ أن یتقرب به منه ، کما لا یخفى ، والضد بناءً على عدم حرمته یکون کذلک ، فإن المزاحمة على هذا لا یوجب إلّا ارتفاع الأمر المتعلق به فعلاً ، مع بقائه على ما هو علیه من ملاکه من المصلحة ، کما هو مذهب العدلیة ، أو غیرها أیّ شیء کان ، کما هو مذهب الأشاعرة ، وعدم حدوث ما یوجب مبغوضیته وخروجه عن قابلیة التقرب به کما حدث ، بناءً على الاقتضاء.
ثم إنّه تصدى جماعة من الأفاضل (1) ، لتصحیح الأمر بالضد بنحو الترتب على العصیان ، وعدم إطاعة الأمر بالشیء بنحو الشرط المتأخر ، أو البناء على معصیته (2) بنحو الشرط المتقدم ، أو المقارن ، بدعوى إنّه لا مانع عقلاً عن تعلق الأمر بالضدین کذلک ، أیّ بأن یکون الأمر بالأهم مطلقاً ، والأمر بغیره معلّقاً على عصیان ذاک الأمر ، أو البناء والعزم علیه ، بل هو واقع کثیراً عرفاً.
قلت : ما هو ملاک استحالة طلب الضدین فی عرض واحد ، آت فی طلبهما کذلک ، فإنّه وأنّ لم یکن فی مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما ، إلّا إنّه کان فی مرتبة الأمر بغیره اجتماعهما ، بداهة فعلیة الأمر بالأهم فی هذه المرتبة ، وعدم سقوطه بعد بمجرد المعصیة فیما بعد ما لم یعص أو العزم علیها ، مع فعلیة الأمر بغیره أیضاً ، لتحقق ما هو شرط فعلیته فرضاً.
لا یقال : نعم لکنه بسوء اختیار المکلف حیق یعصی فیما بعد بالاختیار ، فلولاه لما کان متوجهاً إلیه إلّا الطلب بالأهم ، ولا برهان على امتناع الاجتماع ، إذا کان بسوء الاختیار.
فإنّه یقال : استحالة طلب الضدین ، لیس إلّا لأجل استحالة طلب المحال ، واستحالة طلبه من الحکیم الملتفت إلى محالیته ، لا تختص بحال دون
__________________
1 ـ منهم صاحب کشف الغطاء ، کشف الغطاء / 27 ، البحث الثامن عشر.
2 ـ فی « ب » معصیة ، وفی بعضٍ النسخ المطبوعة « المعصیة ».
حال ، وإلاّ لصحّ فیما علق على أمر اختیاری فی عرض واحد ، بلا حاجة فی تصحیحه إلى الترتب ، مع إنّه محال بلا ریب ولا إشکال.
إن قلت : فرق بین الاجتماع فی عرض واحد والاجتماع کذلک ، فإن الطلب فی کلّ منهما فی الأوّل یطارد الآخر ، بخلافه فی الثّانی ، فإن الطلب بغیر الأهم لا یطارد طلب الأهم ، فإنّه یکون على تقدیر عدم الإِتیان بالأهم ، فلا یکاد یرید غیره على تقدیر إتیإنّه ، وعدم عصیان أمره.
قلت : لیت شعری کیف لا یطارده الأمر بغیر الأهم؟ وهل یکون طرده له إلّا من جهة فعلیته ، ومضادة متعلقه للاهم؟ والمفروض فعلیته ، ومضادة متعلقه له. وعدم إرادة غیر الأهم على تقدیر الإِتیان به لا یوجب عدم طرده لطلبه مع تحققه ، على تقدیر عدم الإِتیان به وعصیان أمره ، فیلزم اجتماعهما على هذا التقدیر ، مع ما هما علیه من المطاردة ، من جهة المضادًة بین المتعلقین ، مع إنّه یکفی الطرد من طرف الأمر بالأهم ، فإنّه على هذا الحال یکون طاردا لطلب الضد ، کما کان فی غیر هذا الحال ، فلا یکون له معه أصلاً بمجال.
إن قلت : فما الحیلة فیما وقع کذلک من طلب الضدین فی العرفیات؟
قلت : لا یخلو : امّا أن یکون الأمر بغیر الأهم ، بعد التجاوز عن الأمر به وطلبه حقیقة.
وإما أن یکون الأمر به إرشاداً إلى محبوبیّته وبقائه على ما هو علیه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة ، وأنّ الإِتیان به یوجب استحقاق المثوبة فیذهب بها بعضٍ ما استحقه من العقوبة على مخالفة الأمر بالأهم ، لا إنّه أمر مولوی فعلّی کالأمر به ، فافهم وتأملّ جیداً.
ثم إنّه لا أظن أن یلتزم القائل بالترتب ، بما هو لازمه من الاستحقاق فی
صورة مخالفة الأمرین لعقوبتین ، ضرورة قبح العقاب على ما لا یقدّر علیه العبد ، ولذا کان سیدنا الأستاذ (1) (1) لا یلتزم به ـ على ما هو ببالی ـ وکنا نورد به على الترتب ، وکان بصدد تصحیحه.
فقد ظهر إنّه لا وجه لصحة العبادة ، مع مضادتها لما هو أهم منها ، إلّا ملاک الأمر.
نعم فیما إذا کانت موسعة ، وکانت مزاحمة بالأهم ببعض الوقت ، لا فی تمامه ، یمکن أن یقال : إنّه حیث کان الأمر بها على حاله ، وأنّ صارت مضیقة بخروج ما زاحمه الأهم من أفرادها من تحتها ، أمکن أن یؤتى بما زوحم منها بداعی ذاک الأمر ، فإنّه وأنّ کان خارجاً عن تحتها بما هی مأمور بها ، إلّا إنّه لما کان وافیاً بغرضها کالباقی تحتها ، کان عقلاً مثله فی الإِتیان به فی مقام الامتثال ، والإِتیان به بداعی ذاک الأمر ، بلا تفاوت فی نظره بینهما أصلاً.
ودعوى أن الأمر لا یکاد یدعو إلّا إلى ما هو من أفراد الطبیعة المأمور بها ، وما زوحم منها بالأهم ، وأنّ کان من أفراد الطبیعة ، لکنه لیس من أفرادها بما هی مأمور بها ، فاسدة ، فإنّه إنّما یوجب ذلک ، إذا کان خروجه عنها بما هی کذلک تخصیصا لا مزاحمة ، فإنّه معها وأنّ کان لا تعمه الطبیعة المأمور بها ، إلّا إنّه لیس لقصور فیه ، بل لعدم إمکان تعلق الأمر بما تعمه عقلاً ، وعلى کلّ حال ، فالعقل لا یرى تفاوتاً فی مقام الامتثال وإطاعة الأمر بها ، بین هذا الفرد وسائر الأفراد أصلاً.
__________________
1 ـ هو آیة الله مجدد المذهب الحاج میرزا محمد حسن بن السید میرزا محمود الحسینی الشیرازی ولد فی 15 ج 1230، حضر درس المحقق السید حسن المدرس والمحقق الکلباسی قصد العراق عام 1259 ، حضر الاندیة العلمیة ، اختصّ فی التلمذة والحضور بأبحاث المحقق الانصاری ، عین مرجعاً بعده ، حج سنة 1288 ، وهاجر إلى سأمراًء شعبان سنة 1291 ثم تبعه تلامیذه ، أخذ منه کثیر من فحول العلماء ، منهم : آقا رضا الهمدانی والشیخ فضل الله النوری والآخوند الخراسانی ، توفی لیلة الاربعاء 24 شعبان 1312 ه. () الکنى والالقاب 3 / 184 )
هذا على القول بکون الأوامر متعلقة بالطبائع.
وأما بناءً على تعلقها بالأفراد فکذلک ، وأنّ کان جریإنّه علیه أخفى ، کما لا یخفى ، فتأمل.
ثم لا یخفى إنّه بناءً على إمکان الترتب وصحته ، لا بد من الالتزام بوقوعه ، من دون انتطار دلیل آخر علیه ، وذلک لوضوح أن المزاحمة على صحة الترتب لا تقتضی عقلاً إلّا امتنع الاجتماع فی عرض واحد ، لا کذلک ، فلو قیل بلزوم الأمر فی صحة العبادة : ولم یکن فی الملاک کفایة ، کانت العبادة مع ترک الأهم صحیحة لثبوت الأمر بها فی هذا الحال ، کما إذا لم تکن هناک مضادة.
فصل
لا یجوز أمر الأمر ، مع علمه بانتفاء شرطه ، خلافاً لما نسب (1) إلى أکثر مخالفینا (2) ، ضرورة إنّه لا یکاد یکون الشیء مع عدم علته ، کما هو المفروض ها هنا ، فإن الشرط من أجزائها ، وانحلال المرکب بانحلال بعضٍ أجزائه مما لا یخفى ، وکون الجواز فی العنوان بمعنى الإِمکان الذاتی بعید عن محلّ الخلاف بین الأعلام.
نعم لو کان المراد من لفظ الأمر ، الأمر ببعض مراتبه ، ومن الضمیر الراجع إلیه بعضٍ مراتبه الآخر ، بأن یکون النزاع فی أن أمر الأمر یجوز إنشاءً مع علمه بانتفاء شرطه ، بمرتبة فعلیة.
وبعبارة أُخرى : کان النزاع فی جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعلیة لعدم شرطه ، لکان جائزاً ، وفی وقوعه فی الشرعیات والعرفیات
__________________
1 ـ کما فی معالم الأصول / 85 ، وقوانین الأصول / 125.
2 ـ راجع شرح مختصر الأصول للعضدی / 107 ، وتیسیر التحریر 2 / 240.
غنىً وکفایة ، ولا یحتاج معه إلى مزید بیان أو مؤونة برهان.
وقد عرفت سابقاً (1) أن داعی إنشاءً الطلب ، لا ینحصر بالبعث والتحریک جداً حقیقة ، بل قد یکون صوریا امتحاناً ، وربما یکون غیر ذلک.
ومنع کونه أمراً إذا لم یکن بداعی البعث جداً واقعاً ، وأنّ کان فی محله ، إلّا أن إطلاق الأمر علیه ، إذا کانت هناک قرینة على إنّه بداعٍ آخر غیر البعث توسعاً ، مما لا بأس به أصلاً ، کما لا یخفى.
وقد ظهر بذلک حال ما ذکره الأعلام فی المقام من النقض والأبرام ، وربما یقع به التصالح بین الجانبین ویرتفع النزاع من البین ، فتأمل جداً.
فصل
الحق أن الأوامر والنواهی تکون متعلقة بالطبائع دون الأفراد ، ولا یخفى أن المراد أن متعلق الطلب فی الأوامر هو صرف الایجاد ، کما أن متعلقه فی النواهی هو محض الترک ، ومتعلقهما هو نفس الطبیعة المحدودة بحدود والمقیدة بقیود ، تکون بها موافقة للغرض والمقصود ، من دون تعلق غرض بإحدى الخصوصیات اللازمة للوجودات ، بحیث لو کان الانفکاک عنها بأسرها ممکناً ، لما کان ذلک مما یضر بالمقصود أصلاً ، کما هو الحال فی القضیة الطبیعیة فی غیر الأحکام ، بل فی المحصورة ، على ما حقق فی غیر المقام.
وفی مراجعة الوجدان للانسان غنىً وکفایة عن إقامة البرهان على ذلک ، حیث یرى إذا راجعه إنّه لا غرض له فی مطلوباته إلّا نفس الطبائع ، ولا نظر له إلّا إلیها من دون نظر إلى خصوصیاتها الخارجیة ، وعوارضها العینیة ، وأنّ نفس وجودها السعی بما هو وجودها تمام المطلوب ، وأنّ کان ذاک الوجود
__________________
1 ـ فی المقصد الأوّل ، الفصل الثّانی ، المبحث الأوّل صفحة / 69.
لا یکاد ینفک فی الخارج عن الخصوصیة.
فانقدح بذلک أن المراد بتعلق الأوامر بالطبائع دون الأفراد ، إنّها بوجودها السعی بما هو وجودها قبالاً لخصوص الوجود ، متعلقة للطلب ، لا إنّها بما هی هی کانت متعلقة له ، کما ربما یتوهم ، فإنّها کذلک لیست إلّا هی ، نعم هی کذلک تکون متعلقة للأمر ، فإنّه طلب الوجود ، فافهم.
دفع وهم : لا یخفى أن کون وجود الطبیعة أو الفرد متعلقاً للطلب ، إنّما یکون بمعنى أن الطالب یرید صدور الوجود من العبد ، وجعله بسیطاً الذی هو مفاد کان التامة ، وإفاضته ، لا إنّه یرید ما هو صادر وثابت فی الخارج کی یلزم طلب الحاصل ، کما توهّم ، ولا جعل الطلب متعلقاً بنفس الطبیعة ، وقد جعل وجودها غایة لطلبها.
وقد عرفت أن الطبیعة بما هی هی لیست إلّا هی ، لا یعقل أن یتعلق بها طلب لتوجد أو تترک ، وإنّه لابد فی تعلق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها ، فیلاحظ وجودها فیطلبه ویبعث إلیه ، کی یکون ویصدر منه ، هذا بناءً على أصالة الوجود.
وأما بناءً على أصالة الماهیة ، فمتعلق الطلب لیس هو الطبیعة بما هی أیضاً ، بل بما هی بنفسها فی الخارج ، فیطلبها کذلک لکی یجعلها بنفسها من الخارجیات والاعیان الثابتات ، لا بوجودها کما کان الأمر بالعکس على أصالة الوجود.
وکیف کان فیلحظ الأمر ما هو المقصود من الماهیة الخارجیة أو الوجود ، فیطلبه ویبعث نحوه لیصدر منه ویکون ما لم یکن ، فافهم وتأملّ جیداً.
فصل
إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدلیل الناسخ ولا المنسوخ ، على بقاء الجواز
بالمعنى الأعم ، ولا بالمعنى الأخص ، کما لا دلالة لهما على ثبوت غیره من الأحکام ، ضرورة أن ثبوت کلّ واحد من الأحکام الأربعة الباقیة بعد ارتفاع الوجوب واقعاً ممکن ، ولا دلالة لواحد من دلیلی الناسخ والمنسوخ ـ بإحدى الدلالات ـ على تعیین واحد منها ، کما هو أوضح من أن یخفى ، فلا بد للتعیین من دلیل آخر ، ولا مجال لاستصحاب الجواز ، إلّا بناءً على جریإنّه فی القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلی ، وهو ما إذا شک فی حدوث فرد کلی مقارناً لارتفاع فرده الآخر ، وقد حققنا فی محله (1) ، إنّه لا یجری الاستصحاب فیه ، ما لم یکن الحادث المشکوک من المراتب القویة أو الضعیفة المتصلة بالمرتفع ، بحیث عد عرفاً ـ لو کان ـ إنّه باق ، لا إنّه أمر حادث غیره.
ومن المعلوم أن کلّ واحد من الأحکام مع الآخر عقلاً وعرفاً ، من المباینات والمتضادات ، غیر الوجوب والاستحباب ، فإنّه وأنّ کان بینهما التفاوت بالمرتبة والشدة والضعف عقلاً إلّا إنّهما متباینان عرفاً ، فلا مجال للاستصحاب إذا شک فی تبدل أحدهما بالآخر ، فإن حکم العرف ونظره یکون متّبعاً فی هذا الباب.
فصل
إذا تعلق الأمر بأحد (2) الشیئین أو الاشیاء ، ففی وجوب کلّ واحد على التخییر ، بمعنى عدم جواز ترکه إلّا إلى بدل ، أو وجوب الواحد بعینه ، أو وجوب کلّ منهما مع السقوط بفعل أحدهما ، أو وجوب المعینّ عند الله ، أقوال.
والتحقیق أن یقال : إنّه إن کان الأمر بأحد الشیئین ، بملاک إنّه هناک غرض واحد یقوم به کلّ واحد منهما ، بحیث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام
__________________
1 ـ فی التنبیه الثالث من تنبیهات الاستصحاب / 406.
2 ـ فی « ب » باحدى.
الغرض ، ولذا یسقط به الأمر ، کان الواجب فی الحقیقة هو الجامع بینهما ، وکان التخییر بینهما بحسب الواقع عقلّیاً لا شرعیاً ، وذلک لوضوح أن الواحد لا یکاد یصدر من الاثنین بما هما اثنان ، ما لم یکن بینهما جامع فی البین ، لاعتبار نحو من السنخیة بین العلة والمعلول.
وعلیه : فجعلهما متعلقین للخطاب الشرعی ، لبیان أن الواجب هو الجامع بین هذین الاثنین.
وإن کان بملاک إنّه یکون فی کلّ واحد منهما غرض ، لا یکاد یحصل مع حصول الغرض فی الآخر بإتیإنّه ، کان کلّ واحد واجباً بنحو من الوجوب ، یستکشف عنه تبعاته ، من عدم جواز ترکه إلّا إلى الآخر ، وترتب الثواب على فعل الواحد منهما ، والعقاب على ترکهما ، فلا وجه فی مثله للقول بکون الواجب هو (1) أحدهما لا بعینه مصداقاً ولا مفهوماً ، کما هو واضح ، إلّا أن یرجع إلى ما ذکرنا فیما إذا کان الأمر بأحدهما بالملاک الأوّل ، من أن الواجب هو الواحد الجامع بینهما ؛ ولا أحدهما م عیناً ، مع کون کلّ منهما مثل الآخر فی إنّه وافٍ بالغرض [ ولا کلّ واحد منهما تعیناً مع السقوط بفعل أحدهما ، بداهة عدم السقوط مع إمکان استیفاء ما فی کلّ منهما من الغرض ، وعدم جواز الإِیجاب کذلک مع عدم إمکانه ] (2) فتدبر.
بقی الکلام فی إنّه هل یمکن التخییر عقلاً أو شرعاً بین الأقلّ والأکثر ، أولاً؟
__________________
1 ـ فإنّه وأنّ کان مما یصحّ أن یتعلق به بعضٍ الصفات الحقیقیة ذات الاضافة کالعلم ، فضلاً عن الصفات الاعتباریة المحضة کالوجوب والحرمة وغیرهما ، مما کان من خارج المحمول الذی لیس بحذائه فی الخارج شیء غیر ما هو منشأ انتزاعه ، إلّا إنّه لا یکاد یصحّ البعث حقیقة إلیه ، والتحریک نحوه ، کما لا یکاد یتحقق الداعی لإِرادته ، والعزم علیه ، ما لم یکن مائلا إلى إرادة الجامع ، والتحرک نحوه ، فتأمل جیداً ( منه 1 ).
2 ـ أثبتناها من « ب ».
ربما یقال ، بإنّه محال ، فإن الأقلّ إذا وجد کان هو الواجب لا محالة ، ولو کان فی ضمن الأکثر ، لحصول الغرض به ، وکان الزائد علیه من أجزاء الأکثر زائداً على الواجب ، لکنه لیس کذلک ، فإنّه إذا فرض أن المحصل للغرض فیما إذا وجد الأکثر ، هو الأکثر لا الأقلّ الذی فی ضمنه ، بمعنى أن یکون لجمیع أجزائه حینئذ دخل فی حصوله ، وأنّ کان الأقلّ لو لم یکن فی ضمنه کان وافیاً به أیضاً ، فلا محیص عن التخییر بینهما ، إذ تخصیص الأقلّ بالوجوب حینئذ کان بلا مخصص ، فإن الأکثر بحدَّه یکون مثله على الفرض ، مثل أن یکون الغرض الحاصل من رسم الخط مترتباً على الطویل إذا رسم بماله من الحد ، لا على القصیر فی ضمنه ، ومعه کیف یجوز تخصیصه بما لا یعمه؟ ومن الواضح کون هذا الفرض بمکان من الأمکان.
إن قلت : هبه فی مثل ما إذا کان للاکثر وجود واحد ، لم یکن للاقل فی ضمنه وجود على حدة ، کالخط الطویل الذی رسم دفعة بلا تخلل سکون فی البین ، لکنه ممنوع فیما کان له فی ضمنه وجود ، کتسبیحة فی ضمن تسبیحات ثلاث ، أو خط طویل رسم مع تخلل العدم فی رسمه ، فإن الأقلّ قد وجد بحدَّه ، وبه یحصل الغرض على الفرض ، ومعه لا محالة یکون الزائة علیه مما لا دخل له فی حصوله ، فیکون زائداً على الواجب ، لا من أجزائه.
قلت : لا یکاد یختلف الحال بذاک ، فإنّه مع الفرض لا یکاد یترتب الغرض على الأقلّ فی ضمن الأکثر ، وإنما یترتب علیه بشرط عدم الانضمام ، ومعه کان مترتباً على الأکثر بالتمام.
وبالجملة إذا کان کلّ واحد من الأقلّ والأکثر بحدَّه مما یترتب علیه الغرض ، فلا محالة یکون الواجب هو الجامع بینهما ، وکان التخییر بینهما عقلّیاً إن کان هناک غرض واحد ، وتخییرا شرعیاً فیما کان هناک غرضان ، على ما عرفت.
نعم لو کان الغرض مترتباً على الأقلّ ، من دون دخل للزائد ، لما کان الأکثر مثل الأقلّ وعدلاً له ، بل کان فیه اجتماع الواجب وغیره ، مستحباً کان أو غیره ، حسب اختلاف الموارد ، فتدبرّ جیداً.
فصل
فی الوجوب (1) الکفائی :
والتحقیق إنّه سنخ من الوجوب ، وله تعلق بکل واحد ، بحیث لو أخلّ بامتثاله الکلّ لعوقبوا على مخالفته جمیعاً ، وأنّ سقط عنهم لو أتى به بعضهم ، وذلک لإنّه قضیة ما إذا کان هناک غرض واحد ، حصل بفعل واحد ، صادر عن الکلّ أو البعض.
کما أن الظاهر هو امتثال الجمیع لو أتوا به دفعة ، واستحقاقهم للمثوبة ، وسقوط الغرض بفعل الکلّ ، کما هو قضیة توارد العلل المتعدِّدة على معلول واحد.
فصل
لا یخفى إنّه وأنّ کان الزمان مما لا بدّ منه عقلاً فی الواجب ، إلّا إنّه تارةً مما له دخل فیه شرعاً فیکون موقتا ، وأخرى لا دخل له فیه أصلاً فهو غیر موقت ، والموقت امّا أن یکون الزمان المأخوذ فیه بقدره فمضّیق ، وإما أن یکون أوسع منه فموسّع.
ولا یذهب علیک أن الموسّع کلی ، کما کان له أفراد دفعیة ، کان له أفراد تدریجیة ، یکون التخییر بینها کالتخییر بین أفرادها الدفعیة عقلّیاً.
ولا وجه لتوهم أن یکون التخییر بینها شرعیاً ، ضرورة أن نسبتها إلى الواجب نسبة أفراد الطبائع إلیها ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ فی « ب » : فی الوجوب الواجب الکفائی.
ووقوع الموسّع فضلاً عن إمکانه ، مما لا ریب فیه ، ولا شبهة تعتریه ، ولا اعتناء ببعض التسویلات کما یظهر من المطّولات.
ثم إنّه لا دلالة للأمر بالموقّت بوجه على الأمر به فی خارج الوقت ، بعد فوته فی الوقت ، لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به.
نعم لو کان التوقیت بدلیل منفصل ، لم یکن له إطلاق على التقیید بالوقت ، وکان لدلیل الواجب إطلاق ، لکان قضیة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت ، وکون التقیید به بحسب تمام المطلوب لا أصله.
وبالجملة : التقیید بالوقت کما یکون بنحو وحدة المطلوب ، کذلک ربما یکون بنحو تعدَّد المطلوب ، بحیث کان أصل الفعل ، ولو فی خارج الوقت مطلوباً فی الجملة ، وأنّ لم یکن بتمام المطلوب ، إلّا إنّه لابد فی إثبات إنّه بهذا النحو من دلالة ، ولا یکفی الدلیل على الوقت إلّا فیما عرفت ، ومع عدم الدلالة فقضیة أصالة البراءة عدم وجوبها فی خارج الوقت ، ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت ، فتدبرّ جیداً.
فصل
الأمر بالأمر بشیء ، أمر به لو کان الغرض حصوله ، ولم یکن له غرض فی توسیط أمر الغیر به إلّا تبلیغ (1) أمره به ، کما هو المتعارف فی أمر الرسل بالأمر أو النهی. وأما لو کان الغرض من ذلک یحصل بأمره بذاک الشیء ، من دون تعلق غرضه به ، أو مع تعلق غرضه به لا مطلقاً ، بل بعد تعلق أمره به ، فلا یکون أمراً بذاک الشیء ، کما لا یخفى.
وقد انقدح بذلک إنّه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر ، على کونه أمراً به ، ولا بدّ فی الدلالة
__________________
1 ـ فی « ب » : بتبلیغ.
علیه من قرینة علیه.
فصل
إذا ورد أمر بشیء بعد الأمر به قبل امتثاله ، فهل یوجب تکرار ذاک الشیء ، أو تأکید الأمر الأوّل ، والبعث الحاصل به؟ قضیة إطلاق المادة هو التأکید ، فإن الطلب تأسیساً لا یکاد یتعلق بطبیعة واحدة مرتین ، من دون أن یجیء تقیید لها فی البین ، ولو کان بمثل ( مرّة أُخرى ) کی یکون متعلق کلّ منهما غیر متعلق الآخر ، کما لا یخفى ، والمنساق من إطلاق الهیئة ، وأنّ کان هو تأسیس الطلب لا تأکیده ، إلّا أن الظاهر هو انسباق التأکید عنها ، فیما کانت مسبوقة بمثلها ، ولم یذکر هناک سبب ، أو ذکر سبب واحد.
المقصد الثّانی : فی النواهی
فصل
الظاهر أن النهی بمادته وصیغته فی الدلالة على الطلب ، مثل الأمر بمادته وصیغته ، غیر أن متعلق الطلب فی أحدهما الوجود ، وفی الآخر العدم ، فیعتبر فیه ما استظهرنا اعتباره فیه بلا تفاوت أصلاً ، نعم یختص النهی بخلاف ، وهو : إن متعلق الطلب فیه ، هل هو الکف ، أو مجرد الترک وأنّ لا یفعل؟ والظاهر هو الثانی.
وتوهمّ أن الترک ومجرد أن لا یفعل خارج عن تحت الاختیار ، فلا یصحّ أن یتعلق به البعث والطلب ، فاسد ، فإن الترک أیضاً یکون مقدوراً ، وإلاّ لما کان الفعل مقدوراً وصادراً بالإِرادة والاختیار ، وکون العدم الازلی لا بالاختیار ، لا یوجب أن یکون بحسب البقاء والاستمرار الذی یکون بحسبه محلاً للتکلیف.
ثم إنّه لا دلالة لصیغته على الدوام والتکرار ، کما لا دلالة لصیغة الأمر وأنّ کان قضیتهما عقلاً تختلف ولو مع وحدة متعلقهما ، بأن یکون طبیعة واحدة بذاتها وقیدها تعلق بها الأمر مرة والنهی أُخرى ، ضرورة أن وجودها یکون بوجود فرد واحد ، وعدمها لا یکاد یکون إلّا بعدم الجمیع ، کما لا یخفى.
ومن ذلک یظهر أن الدوام والاستمرار ، إنّما یکون فی النهی إذا کان متعلقه طبیعة مطلقة غیر مقیدة بزمان أو حال ، فإنّه حینئذ لا یکاد یکون مثل هذه الطبیعة معدومة ، إلّا بعدم جمیع أفرادها الدفعیة والتدریجیة.
وبالجملة قضیة النهی ، لیس إلّا ترک تلک الطبیعة التی تکون متعلقة له ، کانت مقیدة أو مطلقة ، وقضیة ترکها عقلاً ، إنّما هو ترک جمیع أفرادها.
ثم إنّه لا دلالة للنهی على إرادة الترک لو خولف ، أو عدم إرادته ، بل لابد فی تعیین ذلک من دلالة ، ولو کان إطلاق المتعلق من هذه الجهة ، ولا یکفی إطلاقها من سائر الجهات ، فتدبرّ جیداً.
فصل
اختلفوا فی جواز اجتماع الأمر والنهی فی واحد ، وامتناعه ، على أقوال : (1) ثالثها (2) : جوازه عقلاً وامتناعه عرفاً ، وقبل الخوض فی المقصود یقدم أمور :
الأول : المراد بالواحد مطلق ما کان ذا وجهین ، ومندرجا تحت عنوانین ، بأحدهما کان مورداً للأمر ، وبالآخر للنهی ، وأنّ کان کلیاً مقولاً على کثیرین ، کالصلاة فی المغصوب ، وإنما ذکر لاخراج ما إذا تعدَّد متعلق الأمر والنهی ولم یجتمعا وجوداً ، ولو جمعهما واحد مفهوماً ، کالسجود لله تعالى ، والسجود للصنم مثلاً ، لا لاخراج الواحد الجنسی أو النوعی کالحرکة والسکون الکلیین المعنونین بالصلاتیة والغصبیة.
الثانی : الفرق بین هذه المسألة ومسألة النهی فی العبادة (3) ، هو أن الجهة المبحوث عنها فیها التی بها تمتاز المسائل ، هی أن تعدَّد الوجه والعنوان فی الواحد یوجب تعدَّد متعلق الأمر والنهی ، بحیث یرتفع به غائلة استحالة الاجتماع فی الواحد بوجه واحد ، أو لا یوجبه ، بل یکون حاله حاله ، فالنزاع فی سرایة کلّ
__________________
1 ـ راجع مطارح الأنظار / 129. فی اجتماع الأمر والنهی.
2 ـ مجمع الفائدة والبرهان للأردبیلی 2 : 110.
3 ـ فی « ب » العبادات.
من الأمر والنهی إلى متعلق الآخر ، لاتحاد متعلقیهما وجوداً ، وعدم سرایته لتعددهما وجهاً ، وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها فی المسألة الأخرى ، فإن البحث فیها فی أن النهی فی العبادة [ أو المعاملة ] (1) یوجب فسادها ، بعد الفراغ عن التوجه إلیها.
نعم لو قیل بالامتناع مع ترجیح جانب النهی فی مسألة الاجتماع ، یکون مثل الصلاة فی الدار المغصوبة من صغریات تلک المسألة.
فانقدح أن الفرق بین المسألتین فی غایة الوضوح.
وأما ما أفاده فی الفصول (2) ، من الفرق بما هذه عبارته :
( ثم اعلم أن الفرق بین المقام والمقام المتقدم ، وهو أن الأمر والنهی هل یجتمعان فی شیء واحد أو لا؟ امّا فی المعاملات فظاهر ، وأما فی العبادات ، فهو أن النزاع هناک فیما إذا تعلق الأمر والنهی بطبیعتین متغایرتین بحسب الحقیقة ، وأنّ کان بینهما عموم مطلق ، وهنا فیما إذا اتحدتا حقیقة وتغایرتا بمجرد الإِطلاق والتقیید ، بأن تعلق الأمر بالمطلق ، والنهی بالمقید ) انتهى موضع الحاجة ، فاسد ، فإن مجرد تعدَّد الموضوعاًت وتغایرها بحسب الذوات ، لا یوجب التمایز بین المسائل ، ما لم یکن هناک اختلاف الجهات ، ومعه لا حاجة أصلاً إلى تعددها ، بل لابد من عقد مسألتین ، مع وحدة الموضوع وتعدد الجهة المبحوث عنها ، وعقد مسألة واحدة فی صورة العکس ، کما لا یخفى.
ومن هنا انقدح أیضاً فساد الفرق ، بأن النزاع هنا فی جواز الاجتماع عقلاً ، وهناک فی دلالة النهی لفظاً. فإن مجرد ذلک لو لم یکن تعدَّد الجهة فی البین ، لا یوجب إلّا تفصیلا فی المسألة الواحدة ، لا عقد مسألتین ، هذا مع
__________________
1 ـ أثبتناها من « ب ».
2 ـ الفصول / 140 ، فصل فی دلالة النهی على فساد المنهی عنه.
عدم اختصاص النزاع فی تلک المسألة بدلالة اللفظ ، کما سیظهر.
الثالث : إنّه حیث کانت نتیجة هذه المسألة مما تقع فی طریق الاستنباط ، کانت المسألة من المسائل الأصولیة ، لا من مبادئها الاحکامیة ، ولا التصدیقیة ، ولا من المسائل الکلامیة ، ولا من المسائل الفرعیة ، وأنّ کانت فیها جهاتها ، کما لا یخفى ، ضرورة أن مجرد ذلک لا یوجب کونها منها إذا کانت فیها جهة أُخرى ، یمکن عقدها معها من المسائل ، إذ لا مجال حینئذ لتوهم عقدها من غیرها فی الأصول ، وأنّ عقدت کلامیة فی الکلام ، وصحّ عقدها فرعیة أو غیرها بلا کلام ، وقد عرفت فی أول الکتاب (1) إنّه لا ضیر فی کون مسألة واحدة ، یبحث فیها عن جهة خاصة من مسائل علمین ، لانطباق جهتین عامتین على تلک الجهة ، کانت بإحداهما من مسائل علم ، وبالأُخرى من آخر ، فتذکرّ.
الرابع : إنّه قد ظهر من مطاوی ما ذکرناه ، أن المسألة عقلیة ، ولا اختصاص للنزاع فی جواز الاجتماع والامتناع فیها بما إذا کان الإِیجاب والتحریم باللفظ ، کما ربما یوهمه التعبیر بالأمر والنهی الظاهرین فی الطلب بالقول ، إلّا إنّه لکون الدلالة علیهما غالباً بهما ، کما هو أوضح من أن یخفى. وذهاب البعض (2) إلى الجواز عقلاً والامتناع عرفاً ، لیس بمعنى دلالة اللفظ ، بل بدعوى أن الواحد بالنظر الدقیق العقلی اثنان ، وإنّه بالنظر المسامحی العرفی واحد ذو وجهین ، وإلاّ فلا یکون معنى محصلا للامتناع العرفی ، غایة الأمر دعوى دلالة اللفظ على عدم الوقوع بعد اختیار جواز الاجتماع ، فتدبرّ جیداً.
الخامس : لا یخفى أن ملاک النزاع فی جواز الاجتماع والامتناع یعم جمیع أقسام الإِیجاب والتحریم ، کما هو قضیة إطلاق لفظ الأمر والنهی ،
__________________
1 ـ فی الأمر الأوّل من مقدّمة الکتاب / 7.
2 ـ الأردبیلی فی شرح الإِرشاد 2 / 110.
ودعوى الانصراف إلى النفسیین التعیینیین العینیین فی مادتهما ، غیر خالیة عن الاعتساف ، وأن سلّم فی صیغتهما ، مع إنّه فیها ممنوع (1).
نعم لا یبعد دعوى الظهور والانسباق من الإِطلاق ، بمقدمات الحکمة الغیر الجاریة فی المقام ، لما عرفت من عموم الملاک لجمیع الأقسام ، وکذا ما وقع فی البین من النقض والأبرام. مثلاً إذا أمر بالصلاة والصوم تخییراً بینهما ، وکذلک نهى عن التصرف فی الدار والمجالسة مع الاغیار ، فصلى فیها مع مجالستهم ، کان حال الصلاة فیها حالها ، کما إذا أمر بها تعییناً (2) ، ونهى عن التصرف فیها کذلک فی جریان النزاع فی الجواز والامتناع ، ومجیء أدلة الطرفین ، وما وقع من النقض والأبرام فی البین ، فتفطن.
السادس : إنّه ربما یؤخذ فی محلّ النزاع قید المندوحة فی مقام الامتثال ، بل ربما قیل : بأن الإِطلاق إنّما هو للاتکال على الوضوح ، إذ بدونها یلزم التکلیف بالمحال.
ولکن التحقیق مع ذلک عدم اعتبارها فی ما هو المهمّ فی محلّ النزاع من لزوم المحال ، وهو اجتماع الحکمین المتضادین ، وعدم الجدوى فی کون موردهما موجهاً بوجهین فی رفع غائلة اجتماع الضدین ، أو عدم لزومه ، وأنّ تعدَّد الوجه یجدی فی رفعها ، ولا یتفاوت فی ذلک أصلاً وجود المندوحة وعدمها ، ولزوم التکلیف بالمحال بدونها محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع.
نعم لابد من اعتبارها فی الحکم بالجواز فعلاً ، لمن یرى التکلیف بالمحال محذوراً ومحالاً ، کما ربما لابد من اعتبارٍ أمر آخر فی الحکم به کذلک أیضاً.
وبالجملة لا وجه لاعتبارها ، إلّا لأجل اعتبارٍ القدرة على الامتثال ، وعدم
__________________
1 ـ فی « ب » : ممنوعة.
2 ـ فی « ب » : ت عیناً.
لزوم التکلیف بالمحال ، ولا دخل له بما هو المحذور فی المقام من التکلیف المحال ، فافهم واغتنم.
السابع : إنّه ربما یتوهم تارةً أن النزاع فی الجواز والامتناع ، یبتنی على القول بتعلق الأحکام بالطبائع ، وأما الامتناع على القول بتعلقها بالأفراد فلا یکاد یخفى ، ضرورة لزوم تعلق الحکمین بواحد شخصی ، ولو کان ذا وجهین على هذا القول.
وأخرى أن القول بالجواز مبنی على القول بالطبائع ، لتعدد متعلق الأمر والنهی ذاتاً علیه ، وأنّ اتحد وجوداً ، والقول بالامتناع على القول بالأفراد ، لاتحاد متعلقهما شخصاً خارجاً ، وکونه فرداً واحداً.
وأنت خبیر بفساد کلاّ التوهمین ، فإن تعدَّد الوجه إن کان یجدی بحیث لا یضر معه الاتحاد بحسب الوجود والایجاد ، لکان یجدی ولو على القول بالأفراد ، فإن الموجود الخارجی الموجه بوجهین ، یکون فرداً لکلّ من الطبیعتین ، فیکون مجمعاً لفردین موجودین بوجود واحد ، فکما لا یضر وحدة الوجود بتعدد الطبیعتین ، لا یضر بکون المجمع اثنین بما هو مصداق وفرد لکلّ من الطبیعتین ، وإلاّ لما کان یجدی أصلاً ، حتى على القول بالطبائع ، کما لا یخفى ، لوحدة الطبیعتین وجوداً واتحادهما خارجاً ، فکما أن وحدة الصلاتیة والغصبیة فی الصلاة فی الدار المغصوبة وجوداً غیر ضائر بتعددهما وکونها طبیعتین ، کذلک وحدة ما وقع فی الخارج من خصوصیات الصلاة فیها وجوداً غیر ضائر بکونه فرداً للصلاة ، فیکون مأموراً به ، وفردا للغصب فیکون منهیاً عنه ، فهو على وحدته وجوداً یکون اثنین ، لکونه مصداقاً للطبیعتین ، فلا تغفل.
الثامن : إنّه لا یکاد یکون من باب الاجتماع ، إلّا إذا کان فی کلّ واحد من متعلقی الإِیجاب والتحریم مناط حکمه مطلقاً ، حتى فی مورد
التصادق والاجتماع ، کی یحکم على الجواز بکونه فعلاً محکوماً بالحکمین وعلى الامتناع بکونه محکوماً بأقوى المناطین ، أو بحکم آخر غیر الحکمین فیما لم یکن هناک أحدهما أقوى ، کما یأتی تفصیله (1).
وأما إذا لم یکن للمتعلقین مناط کذلک ، فلا یکون من هذا الباب ، ولا یکون مورد الاجتماع محکوماً إلّا بحکم واحد منها ، إذا کان له مناطه ، أو حکم آخر غیرهما ، فیما لم یکن لواحد منهما ، قیل بالجواز أو الامتناع ، هذا بحسب مقام الثبوت.
وأما بحسب مقام الدلالة والإِثبات ، فالروایتان الدالّتان على الحکمین متعارضتان ، إذا احرز أن المناط من قبیل الثّانی ، فلابد من حمل المعارضة حینئذ بینهما من الترجیح والتخییر ، وإلاّ فلا تعارض فی البین ، بل کان من باب التزاحم بین المقتضیین ، فربما کان الترجیح مع ما هو أضعف دلیلاً ، لکونه أقوى مناطا ، فلا مجال حینئذ لملاحظة مرجحات الروایات أصلاً ، بل لا بد من مرجحات المقتضیات المتزاحمات ، کما یأتی الإِشارة (2) إلیها.
نعم لو کان کلّ منها متکفلاً للحکم الفعلّی ، لوقع بینهما التعارض ، فلا بدّ من ملاحظة مرجحات باب المعارضة ، لو لم یوفق بینهما بحمل أحدهما على الحکم الاقتضائی بملاحظة مرجحات باب المزاحمة ، فتفطن.
التاسع : إنّه قد عرفت أن المعتبر فی هذا الباب ، أن یکون کلّ واحد من الطبیعة المأمور بها والمنهی عنها ، مشتملة على مناط الحکم مطلقاً ، حتى فی حال الاجتماع ، فلو کان هناک ما دلّ على ذلک من اجماع أو غیره فلا إشکال ، ولو لم یکن إلّا اطلاق دلیلی الحکمین ، ففیه تفصیل وهو :
أن الإِطلاق لو کان فی بیان الحکم الاقتضائی ، لکان دلیلاً على ثبوت
__________________
1 و 2 ـ راجع التنبیه الثّانی من تنبیهات اجتماع الأمر والنهی ، ص 174.
المقتضی والمناط فی مورد الاجتماع ، فیکون من هذا الباب ، ولو کان بصدد الحکم الفعلّی ، فلا إشکال فی استکشاف ثبوت المقتضی فی الحکمین على القول بالجواز ، إلّا إذا علم إجمالاً بکذب أحد الدلیلین ، فیعامل معهما معاملة المتعارضین. وأما على القول بالامتناع فالإطلاقان متنافیان ، من غیر دلالة على ثبوت المقتضی للحکمین فی مورد الاجتماع أصلاً ، فإن انتفاء أحد المتنافیین ، کما یمکن أن یکون لأجل المانع مع ثبوت المقتضی له ، یمکن أن یکون لأجل انتفائه ، إلّا أن یقال : إن قضیة التوفیق بینهما ، هو حمل کلّ منهما على الحکم الاقتضائی ، لو لم یکن أحدهما أظهر ، وإلاّ فخصوص الظاهر منهما.
فتلخص إنّه کلما کانت هناک دلالة على ثبوت المقتضی فی الحکمین ، کان من مسألة الاجتماع ، وکلما لم تکن هناک دلالة علیه ، فهو من باب التعارض مطلقاً ، إذا کانت هناک دلالة على انتفائه فی أحدهما بلا تعیین ولو على الجواز ، وإلاّ فعلى الامتناع.
العاشر (1) : أنّه لا إشکال فی سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتیان المجمع بداعی الأمر على الجواز مطلقاً ، ولو فی العبادات ، وأنّ کان معصیة للنهی أیضاً. وکذا الحال على الامتناع مع ترجیح جانب الأمر ، إلّا إنّه لا معصیة علیه ، وأما علیه وترجیح جانب النهی فیسقط به الأمر به مطلقاً فی غیر العبادات ، لحصول الغرض الموجب له. وأما فیها فلا ، مع الالتفات إلى الحرمة أو بدونه تقصیراً ، فإنّه وأنّ کان متمکناً ـ مع عدم الالتفات ـ من قصد القربة ، وقد قصدها ، إلّا أنه مع التقصیر لا یصلح لأن یتقرب به أصلاً ، فلا یقع مقربا ، وبدونه لا یکاد یحصل به الغرض الموجب للأمر به عبادة ، کما لا یخفى. وأما إذا لم یلتفت إلیها قصوراً ، وقد قصد القربة بإتیإنّه ، فالأمر
__________________
1 ـ من هنا إلى ص 184 عند قوله « ضرورة إنّه لو لا جلعه » سقط من نسخة ( أ ) المعتمدة عندنا.
یسقط ، لقصد التقرب بما یصلح أن یتقرب به ، لاشتماله على المصلحة ، مع صدوره حسناً لأجل الجهل بحرمته قصوراً ، فیحصل به الغرض من الأمر ، فیسقط به قطعاً ، وأنّ لم یکن امتثالاً له بناءً على تبعیة الأحکام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعاً ، لا لما هو المؤثر منها فعلاً للحسن أو القبح ، لکونهما تابعین لما علم منهما کما حقق فی محله.
مع إنّه یمکن أن یقال بحصول الامتثال مع ذلک ، فإن العقل لا یرى تفاوتاً بینه وبین سائر الأفراد فی الوفاء بغرض (1) الطبیعة المأمور بها ، وأنّ لم تعمه بما هی مأمور بها ، لکنه لوجود المانع لا لعدم المقتضی.
ومن هنا انقدح إنّه یجزئ ، ولو قیل باعتبار قصد الامتثال فی صحة العبادة ، وعدم کفایة الإِتیان بمجرد المحبوبیة ، کما یکون کذلک فی ضد الواجب ، حیث لا یکون هناک أمر یقصد أصلاً.
وبالجملة مع الجهل قصوراً بالحرمة موضوعاً أو حکماً ، یکون الإِتیان بالمجمع امتثالاً ، وبداعی الأمر بالطبیعة لا محالة ، غایة الأمر إنّه لا یکون مما تسعه بما هی مأمور بها ، لو قیل بتزاحم الجهات فی مقام تأثیرها للاحکام الواقعیة ، وأما لو قیل بعدم التزاحم إلّا فی مقام فعلیة الأحکام ، لکان مما تسعه وامتثالا لامرها بلا کلام.
وقد انقدح بذلک الفرق بین ما إذا کان دلیلاً الحرمة والوجوب متعارضین ، وقدم دلیل الحرمة تخییراً أو ترجیحاً ، حیث لا یکون معه مجال للصحة أصلاً ، وبین ما إذا کانا من باب الاجتماع. وقیل بالامتناع ، وتقدیم جانب الحرمة ، حیث یقع صحیحاً فی غیر مورد من موارد الجهل والنسیان ، لموافقته للغرض بل للأمر ، ومن هنا علم أن
__________________
1 ـ فی « ب » : لغرض ، وما أثبتناه من النسخ المطبوعة هو الأصحّ.
الثواب علیه من قبیل الثواب على الإطاعة ، لا الانقیاد ومجرد اعتقاد الموافقة.
وقد ظهر بما ذکرناه ، وجه حکم الأصحاب بصحة الصلاة فی الدار المغصوبة ، مع النسیان أو الجهل بالموضوع ، بل أو الحکم إذا کان عن قصور ، مع أن الجلّ لو لا الکلّ قائلون بالامتناع وتقدیم الحرمة ، ویحکمون بالبطلان فی غیر موارد العذر ، فلتکن من ذلک على ذکر.
إذا عرفت هذه الأمور ، فالحق هو القول بالامتناع ، کما ذهب إلیه المشهور ، وتحقیقه على وجه یتضح به فساد ما قیل ، أو یمکن أن یقال ، من وجوه الاستدلال لسائر الأقوال ، یتوقف على تمهید مقدمات :
أحدها : إنّه لاریب فی أن الأحکام الخمسة متضادة فی مقام فعلیتها ، وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر ، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بین البعث نحو واحد فی زمان والزجر عنه فی ذاک الزمان ، وأنّ لم یکن بینها مضادة ما لم یبلغ إلى تلک المرتبة ، لعدم المنافاة والمعاندة بین وجوداتها الإنشائیة قبل البلوغ إلیها ، کما لا یخفى ، فاستحالة اجتماع الأمر والنهی فی واحد لا تکون من باب التکلیف بالمحال ، بل من جهة إنّه بنفسه محال ، فلا یجوز عند من یجوز التکلیف بغیر المقدور أیضاً.
ثانیتها : إنّه لا شبهة فی أن متعلق الأحکام ، هو فعل المکلف وما هو فی الخارج یصدر عنه ، وهو فاعله وجاعله ، لا ما هو اسمه ، وهو واضح ، ولا ما هو عنوإنّه مما قد انتزع عنه ، بحیث لو لا انتزاعه تصوراً واختراعه ذهنا ، لا کان بحذائه شیء خارجاً ویکون خارج المحمول ، کالملکیة والزوجیة والرقیة والحریة والمغصوبیة (1) ، إلى غیر ذلک من الاعتبارات والإضافات ، ضرورة أن البعث لیس نحوه ، والزجر لا یکون عنه ، وإنما یؤخذ فی متعلق الأحکام آلة للحاظ
__________________
1 ـ فی « ب » : الغصبیة.
متعلقاتها ، والإِشارة إلیها ، بمقدار الغرض منها والحاجة إلیها ، لا بما هو هو وبنفسه ، وعلى استقلاله وحیاله.
ثالثتها : إنّه لا یوجب تعدَّد الوجه والعنوان تعدَّد المعنون ، ولا ینثلم به وحدته ، فإن المفاهیم المتعدِّدة والعناوین الکثیرة ربما تنطبق على الواحد ، وتصدق على الفارد الذی لا کثرة فیه من جهة ، بل بسیط من جمبع الجهات ، لیس فیه حیث غیر حیث ، وجهة مغایرة لجهة أصلاً ، کالواجب تبارک وتعالى ، فهو على بساطته ووحدته وأحدیته ، تصدق علیه مفاهیم الصفات الجلالیة والجمالیة ، له الأسماء الحسنى والامثال العلیا ، لکنها بأجمعها حاکیة عن ذاک الواحد الفرد الاحد.
عباراتنا شتى وحسنک واحد
وکل إلى ذاک الجمال یشیر
رابعتها : إنّه لا یکاد یکون للموجود بوجود واحد ، إلّا ماهیة واحدة وحقیقة فاردة ، لا یقع فی جواب السؤال عن حقیقته بما هو إلّا تلک الماهیة ، فال مفهوماً ن المتصادقان على ذاک لا یکاد یکون کلّ منهما ماهیة وحقیقة ، وکانت عینه فی الخارج کما هو شأن الطبیعی وفرده ، فیکون الواحد وجوداً واحداً ماهیة وذاتا لا محالة ، فالمجمع وأنّ تصادق علیه متعلقاً الأمر والنهی ، إلّا إنّه کما یکون واحداً وجوداً ، یکون واحداً ماهیة وذاتا ، ولا یتفاوت فیه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهیة.
ومنه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع فی المسألة ، على القولین فی تلک المسألة ، کما توهّم فی الفصول (1) ، کما ظهر عدم الابتناء على تعدَّد وجود الجنس والفصل فی الخارج ، وعدم تعدده ، ضرورة عدم کون العنوانین المتصادقین علیه من قبیل الجنس والفصل له ، وأن مثل الحرکة فی دار من أیّ
__________________
1 ـ راجع الفصول / 125.
مقولة کانت ، لا یکاد یختلف حقیقتها وماهیتها ویتخلف ذاتیاتها ، وقعت جزءا للصلاة أو لا ، کانت تلک الدار مغصوبة أو لا (1).
إذا عرفت ما مهدناه ، عرفت أن المجمع حیث کان واحداً وجوداً وذاتا ، کان تعلق الأمر والنهی به محالاً ، ولو کان تعلقهما به بعنوانین ، لما عرفت من کون فعل المکلف بحقیقته وواقعیته الصادرة عنه ، متعلقاً للأحکام لا بعناوینه الطارئة علیه ، وأنّ غائلة اجتماع الضدین فیه لا تکاد ترتفع بکون الأحکام تتعلق بالطبائع لا الأفراد (2) ، فإن غایة تقریبه أن یقال : إن الطبائع من حیث هی هی ، وأنّ کانت لیست إلّا هی ، ولا تتعلق بها الأحکام الشرعیة ، کالآثار العادیة والعقلیة ، إلّا إنّها مقیدة بالوجود ، بحیث کان القید خارجاً والتقید داخلا ، صالحة لتعلق الأحکام بها ، ومتعلقاً الأمر والنهی على هذا لا یکونان متحدین أصلاً ، لا فی مقام تعلق البعث والزجر ، ولا فی مقام عصیان النهی وإطاعة الأمر بإتیان المجمع بسوء الاختیار.
أما فی المقام الأوّل ، فلتعددهما بما هما متعلقان لهما وأنّ کانا متحدین فیما هو خارج عنهما ، بما هما کذلک.
وأما فی المقام الثّانی ، فلسقوط أحدهما بالاطاعة ، والآخر بالعصیان بمجرد الإِتیان ، ففی أیّ مقام اجتمع الحکمان فی واحد؟
وأنت خبیر بإنّه لا یکاد یجدی بعد ما عرفت ، من أن تعدَّد العنوان لا یوجب تعدَّد المعنون لا وجوداً ولا ماهیة ، ولا تنثلم به وحدته أصلاً ، وأنّ المتعلق للاحکام هو المعنونات لا العنوانات ، وإنّها إنّما تؤخذ فی المتعلقات بما
__________________
1 ـ وقد عرفت أن صدق العناوین المتعدِّدة ، لا تکاد تنثلم به وحدة المعنون ـ لا ذاتاً ولا وجوداً ـ غایته أن تکون له خصوصیة بها یستحق الاتصاف بها ، ومحدودا بحدود موجبة لانطباقها علیه ، کما لا یخفى ، وحدوده ومخصصاته لا توجب تعدده بوجه أصلاً ، فتدبرّ جیداً ( منه 1 ).
2 ـ کما فی قوانین الأصول 1 / 140.
هی حاکیات کالعبارات ، لا بما هی على حیالها واستقلالها.
کما ظهر مما حققناه : إنّه لا یکاد یجدی أیضاً کون الفرد مقدّمة لوجود الطبیعی المأمور به أو المنهی عنه ، وإنّه لا ضیر فی کون المقدمة محرمة فی صورة عدم الانحصار بسوء الاختیار ، وذلک ـ مضافاً إلى وضوح فساده ، وأنّ الفرد هو عین الطبیعی فی الخارج ، کیف؟ والمقدمیة تقتضی الاثنینیة بحسب الوجود ، ولا تعدَّد کما هو واضح ـ إنّه إنّما یجدی لو لم یکن المجمع واحداً ماهیة ، وقد عرفت بما لا مزید علیه إنّه بحسبها أیضاً واحد.
ثم إنّه قد استدل (1) على الجواز بأمور :
منها (2) : إنّه لو لم یجز اجتماع الأمر والنهی ، لما وقع نظیره ، وقد وقع ، کما فی العبادات المکروهة ، کالصلاة فی مواضع التهمة وفی الحمام والصیام فی السفر وفی بعضٍ الایام.
بیان الملازمة : إنّه لو لم یکن تعدَّد الجهة مجدیاً فی إمکان اجتماعهما لما جاز اجتماع حکمین آخرین فی مورد مع تعددهما ، لعدم اختصاصهما من بین الأحکام بما یوجب الامتناع من التضاد ، بداهة تضادّها بأسرها ، والتالی باطل ، لوقوع اجتماع الکراهة والإِیجاب أو الاستحباب ، فی مثل الصلاة فی الحمام ، والصیام فی السفر ، وفی عاشوراء ولو فی الحضر ، واجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الإِباحة أو الاستحباب ، فی مثل الصلاة فی المسجد أو الدار.
والجواب عنه امّا إجمالاً : فبإنّه لا بدّ من التصرف والتأویل فیما وقع فی الشریعة مما ظاهره الاجتماع ، بعد قیام الدلیل على الامتناع ، ضرورة أن
__________________
1 ـ انظر قوانین الأصول 1 / 140.
2 ـ هذا هو الوجه الثّانی الذی استدل له ، قوانین الأصول 1 / 142.
الظهور لا یصادم البرهان ، مع أن قضیة ظهور تلک الموارد ، اجتماع الحکمین فیها بعنوان واحد ، ولا یقول الخصم بجوازه کذلک ، بل بالامتناع ما لم یکن بعنوانین وبوجهین ، فهو أیضاً لا بد [ له ] من التفصی عن إشکال الاجتماع فیها لا سیما إذا لم یکن هناک مندوحة ، کما فی العبادات المکروهة التی لا بدل لها ، فلا یبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فیها على جوازه أصلاً ، کما لا یخفى.
وأما تفصیلا : فقد أُجیب عنه بوجوه (1) ، یوجب ذکرها بما فیها من النقض والأبرام طول الکلام بما لا یسعه المقام ، فالأولى الاقتصار على ما هو التحقیق فی حسم مادة الإِشکال ، فیقال وعلى الله الاتکال : إن العبادات المکروهة على ثلاثة أقسام :
أحدها : ما تعلق به النهی بعنوإنّه وذاته ، ولا بدل له ، کصوم یوم عاشوراء (2) ، والنوافل المبتدأئة فی بعضٍ الأوقات (3).
ثانیها : ما تعلق به النهی کذلک ، ویکون له البدل ، کالنهی عن الصلاة فی الحمام (4).
ثالثها : ما تعلق النهی به لا بذاته ، بل بما هو مجامع معه وجوداً ،
__________________
1 ـ راجع مطارح الأنظار / 130 وما بعده.
2 ـ الکافی 4 / 146 ، باب صوم عرفة وعاشوراء ، الأحادیث 3 إلى 7 ـ وللمزید راجع وسائل الشیعة ، 7 / 339 الباب 21 من أبواب الصوم المندوب.
3 ـ الکافی 3 / 288 باب التطوع فی وقت الفریضة والساعات التی لا یصلّى فیها ـ الاستبصار 1 / 277 باب وقت نوافل النهار ـ وللمزید راجع وسائل الشیعة 3 / 170 ، الباب 38 من أبواب المواقیت.
4 ـ الکافی 3 / 390 الحدیث 12 من باب الصلاة فی الکعبة ... الخ.
أو ملازم له خارجاً ، کالصلاة فی مواضع التهمة (1) ، بناءً على کون النهی عنها لأجل اتحادها مع الکون فی مواضعها.
أما القسم الأوّل : فالنهی تنزیهًا عنه بعد الاجتماع على إنّه یقع صحیحاً ، ومع ذلک یکون ترکه أرجح ، کما یظهر من مداومة الأئمة : على الترک ، امّا لأجل انطباق عنوان ذی مصلحة على الترک ، فیکون الترک کالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض ، وأنّ کان مصلحة الترک أکثر ، فهما حینئذ یکونان من قبیل المستحبین المتزاحمین ، فیحکم بالتخییر بینهما لو لم یکن أهم فی البین ، وإلاّ فیتعین الأهم وأنّ کان الآخر یقع صحیحاً ، حیث إنّه کان راجحاً وموافقا للغرض ، کما هو الحال فی سائر المستحبات المتزاحمات بل الواجبات ، وارجحیة الترک من الفعل لا توجب (2) حزازة ومنقصة فیه أصلاً ، کما یوجبها ما إذا کان فیه مفسدة غالبة على مصلحته ، ولذا لا یقع صحیحاً على الامتناع ، فإن الحزازة والمنقصة فیه مانعة عن صلاحیة التقرب به ، بخلاف المقام ، فإنّه على ما هو علیه من الرجحان وموافقة الغرض ،
__________________
1 ـ التهذیب 2 / 219 الحدیث 71 من باب 11 ما یجوز الصلاة فیه من اللباس والمکان ... الخ. وللمزید راجع وسائل الشیعة 3 / 466 الباب 34 من أبواب مکان المصلی.
2 ـ ربما یقال : إن أرجحیة الترک ، وأنّ لم توجب منقصة وحزازة فی الفعل أصلاً ، إلّا إنّه توجب المنع منه فعلاً ، والبعث إلى الترک قطعاً ، کما لا یخفى ، ولذا کان ضد الواجب ـ بناءً على کونه مقدّمة له ـ حراماً ، ویفسد لو کان عبادة ، مع إنّه لا حزازة فی فعله ، وإنما کان النهی عنه وطلب ترکه لما فیه من المقدمیة له ، وهو على ما هو علیه من المصلحة ، فالمنع عنه لذلک کافٍ فی فساده لو کان عبادة.
قلت : یمکن أن یقال : إن لنهی التحریمی لذلک وأنّ کان کافیاً فی ذلک بلا إشکال ، إلّا أن التنزیهی غیر کافٍ ، إلّا إذا کان عن حزازة فیه ، وذلک لبداهة عدم قابلیة الفعل للتقرب به منه تعالى مع المنع عنه وعدم ترخیصه فی ارتکابه ، بخلاف التنزیهی عنه إذا کان لا لحزازة فیه ، بل لما فی الترک من المصلحة الراجحة ، حیث إنّه معه مرخوص فیه ، وهو على ما هو علیه من الرجحان والمحبوبیة له تعالى ، ولذلک لم تفسد العبادة إذا کانت ضد المستحبة أهم اتفاقاً ، فتأمل ( منه 1 ).
کما إذا لم یکن ترکه راجحاً بلا حدوث حزازة فیه أصلاً.
وإما لأجل ملازمة الترک لعنوان کذلک ، من دون انطباقه علیه ، فیکون کما إذا انطبق علیه من غیر تفاوت ، إلّا فی أن الطلب المتعلق به حینئذ لیس بحقیقی ، بل بالعرض والمجاز ، فإنما یکون فی الحقیقة متعلقاً بما یلازمه من العنوان ، بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به حقیقة ، کما فی سائر المکروهات من غیر فرق ، إلّا أن منشأه فیها حزازة ومنقصة فی نفس الفعل ، وفیه رجحان فی الترک ، من دون حزازة فی الفعل أصلاً ، غایة الأمر کون الترک أرجح.
نعم یمکن أن یحمل النهی ـ فی کلاّ القسمین ـ على الإِرشاد إلى الترک الذی هو أرجح من الفعل ، أو ملازم لما هو الارجح وأکثر ثواباً لذلک ، وعلیه یکون النهی على نحو الحقیقة ، لا بالعرض والمجاز ، فلا تغفل.
وأما القسم الثّانی : فالنهی فیه یمکن أن یکون لأجل ما ذکر فی القسم الأوّل ، طابق النعل بالنعل ، کما یمکن أن یکون بسبب حصول منقصة فی الطبیعة المأمور بها ، لأجل تشخصها فی هذا القسم بمشخص غیر ملائم لها ، کما فی الصلاة فی الحمام ، فإن تشخصها بتشخص وقوعها فیه ، لا یناسب کونها معراجاً ، وأنّ لم یکن نفس الکون فی الحمام بمکروه ولا حزازة فیه أصلاً ، بل کان راجحاً ، کما لا یخفى.
وربما یحصل لها لأجل تخصصها بخصوصیة شدیدة الملاءمة معها مزیة فیها کما فی الصلاة فی المسجد والامکنة الشریفة ، وذلک لأن الطبیعة المأمور بها فی حد نفسها ، إذا کانت مع تشخص لا یکون له شدة الملاءمة ، ولا عدم الملاءمة لها مقدار من المصلحة والمزیة ، کالصلاة فی الدار مثلاً ، وتزداد تلک المزیة فیما کان تشخصها بماله شدة الملاءمة ، وتنقص فیما إذا لم تکن له ملاءمة ، ولذلک ینقص ثوابها تارةً ویزید أُخرى ، ویکون النهی فیه لحدوث نقصان فی مزیتها فیه إرشاداً إلى ما لا نقصان فیه من سائر الأفراد ، ویکون أکثر ثواباً منه ، ولیکن
هذا مراد من قال : إن الکراهة فی العبادة بمعنى إنّها تکون أقل ثواباً ، ولا یرد علیه بلزوم اتصاف العبادة التی تکون أقل ثواباً من الأخرى بالکراهة ، ولزوم اتصاف ما لا مزّیة فیه ولا منقصة بالاستحباب ، لإنّه أکثر ثواباً مما فیه المنقصة ، لما عرفت من أن المراد من کونه أقل ثواباً ، إنّما هو بقیاسه إلى نفس الطبیعة المتشخصة بما لا یحدث معه مزیة لها ، ولا منقصة من المشخصات ، وکذا کونه أکثر ثوابا.
ولا یخفى أن النهی فی هذا القسم لا یصحّ إلا للإِرشاد ، بخلاف القسم الأوّل ، فإنّه یکون فیه مولویاً ، وأنّ کان حمله على الإِرشاد بمکان من الأمکان.
وأما القسم الثالث : فیمکن أن یکون النهی فیه عن العبادة المتحدة مع ذاک العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز ، وکان المنهی عنه به حقیقة ذاک العنوان ، ویمکن أن یکون على الحقیقة إرشاداً إلى غیرها من سائر الأفراد ، مما لا یکون متحداً معه أو ملازماً له ، إذ المفروض التمکن من استیفاء مزیة العبادة ، بلا ابتلاء بحزازة ذاک العنوان أصلاً ، هذا على القول بجواز الاجتماع.
وأما على الامتناع ، فکذلک فی صورة الملازمة ، وأما فی صورة الاتحاد وترجیح جانب الأمر ـ کما هو المفروض ، حیث إنّه صحة العبادة ـ فیکون حال النهی فیه حاله فی القسم الثّانی ، فیحمل على ما حمل علیه فیه ، طابق النعل بالنعل ، حیث إنّه بالدقة یرجع إلیه ، إذا على الامتناع ، لیس الاتحاد مع العنوان الآخر إلّا من مخصصاته ومشخصاته التی تختلف الطبیعة المأمور بها فی المزیة زیادة ونقیصة بحسب اختلافها فی الملاءمة کما عرفت.
وقد انقدح بما ذکرناه ، إنّه لا مجال أصلاً لتفسیر الکراهة فی العبادة بأقلیة الثواب فی القسم الأوّل مطلقاً ، وفی هذا القسم على القول بالجواز ، کما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب فیها ، وأنّ الأمر الاستحبابی یکون على نحو
الإِرشاد إلى أفضل الأفراد مطلقاً على نحو الحقیقة ، ومولویاً اقتضائیاً کذلک ، وفعلیاً بالعرض والمجاز فیما کان ملاکه ملازمتها لما هو مستحب ، أو متحداً (1) معه على القول بالجواز.
ولا یخفى إنّه لا یکاد یأتی القسم الأوّل هاهنا ، فإن انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الذی لا بدل له إنّما یؤکد إیجابه ، لا إنّه یوجب استحبابه أصلاً ، ولو بالعرض والمجاز ، إلّا على القول بالجواز ، وکذا فیما إذا لازم مثل هذا العنوان ، فإنّه لو لم یؤکد الإِیجاب لما یصحح الاستحباب إلّا اقتضائیاً بالعرض والمجاز ، فتفطن.
ومنها : إن أهل العرف یعدون من اتى بالمأمور به فی ضمن الفرد المحرم ، مطیعاً وعاصیاً من وجهین (2) ، فإذا أمر المولى عبده بخیاطة ثوب ونهاه عن الکون فی مکان خاص ، کما مثل به الحاجبی (3) والعضدی (4) ، فلو خاطه فی ذاک المکان ، عد مطیعاً الأمر الخیاطة وعاصیاً للنهی عن الکون فی ذلک المکان.
وفیه ـ مضافاً إلى المناقشة فی المثال ، بإنّه لیس من باب الاجتماع ، ضرورة أن الکون المنهی عنه غیر متحد مع الخیاطة وجوداً أصلاً ، کما لا یخفى ـ
__________________
1 ـ فی « ب » : متحدة.
2 ـ دلیل آخر للمجوزین ، قوانین الأصول 1 / 148.
3 و 4 ـ انظر شرح العضدی على مختصر المنتهى لابن الحاجب / 92 ، 93. مسألة استحالة کون الشیء واجباً حراماً من جهة واحدة.
ابن الحاجب ابو عمرو عثمان بن عمر بن ابی بکر المالکی ، تولد سنة 570 ه باسناد کان ابوه جندیاً ، اشتغل ابنه فی صغره بالقاهرة ، وحفظ القرآن المجید ، واخذ بعضٍ القراءات عن الشاطبی وسمع من البوصیری وجماعة ، لزم الإِشتغال حتى برع فی الأصول والعربیة ، ثم قدم دمشق ودرس بجامعها ، کان الاغلب علیه النحو ، وصنف فی عدة علوم ، له کتاب « الکافیة » فی النحو و « الشافیة » فی الصرف و « مختصر الأصول » ثم انتقل إلى الاسکندریة ، مات بها سنة 646 ه. ) الکنى والالقاب 1 / 244 ).
المنع إلّا عن صدق أحدهما ، امّا الإطاعة بمعنى الامتثال فیما غلب جانب الأمر ، أو العصیان فیما غلب جانب النهی ، لما عرفت من البرهان على الامتناع.
نعم لا بأس بصدق الإطاعة بمعنى حصول الغرض والعصیان فی التوصلیات ، وأما فی العبادات فلا یکاد یحصل الغرض منها ، إلّا فیما صدر من المکلف فعلاً غیر محرم وغیر مبغوض علیه ، کما تقدم (1).
بقی الکلام فی حال التفصیل من بعضٍ الأعلام (2) ، والقول بالجواز عقلاً والامتناع عرفاً.
وفیه : إنّه لا سبیل للعرف فی الحکم بالجواز أو الامتناع ، إلّا طریق العقل ، فلا معنى لهذا التفصیل إلّا ما أشرنا إلیه من النظر المسامحی الغیر المبتنی على التدقیق والتحقیق ، وأنت خبیر بعدم العبرة به ، بعد الاطلاع على خلافه بالنظر الدقیق ، وقد عرفت فیما تقدم (3) أن النزاع لیس فی خصوص مدلول صیغة الأمر والنهی ، بل فی الأعم ، فلا مجال لأن یتوهم أن العرف هو المحکم فی تعیین المدالیل ، ولعله کان بین مدلولیهما حسب تعیینه (4) تناف ، لا یجتمعان فی واحد ولو بعنوانین ، وأنّ کان العقل یرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة فی واحد بوجهین ، فتدبر.
وینبغی التنبیه على أمور :
الأول : إن الاضطرار إلى ارتکاب الحرام ، وأنّ کان یوجب ارتفاع حرمته ، والعقوبة علیه مع بقاء ملاک وجوبه ـ لو کان ـ مؤثراً له ، کما إذا لم یکن
__________________
1 ـ فی الأمر العاشر / 156.
2 ـ المحقق الأردبیلی فی شرح الإِرشاد 2 : 110 ، وقد ینسب ذلک إلى صاحب الریاض ( قده ) أیضاً وکأنه مسموع منه شفاهاً ، على حد تعبیر صاحب مطارح الأنظار / 129.
3 ـ فی الأمر الرابع / 152.
4 ـ فی « ب » تعینه.
المانع من المقدمات.
وهو توهّم فاسد ، وذلک لأن المعاندة والمنافرة بین الشیئین ، لا تقتضی إلّا عدم اجتماعهما فی التحقّق ، وحیث لا منافاة أصلاً بین أحد العینین وما هو نقیض الآخر وبدیله ، بل بینهما کمال الملاءمة ، کان أحد العینین مع نقیض الآخر وما هو بدیله فی مرتبة واحدة من دون أن یکون فی البین ما یقتضی تقدم أحدهما على الآخر ، کما لا یخفى.
فکما أن قضیة المنافاة بین المتناقضین لا تقتضی تقدم ارتفاع أحدهما فی ثبوت الآخر ، کذلک فی المتضادین ، کیف؟ ولو اقتضى التضاد توقف وجود الشیء على عدم ضدّه ، توقف الشیء على عدم مانعه ، لاقتضى توقف عدم الضد على وجود الشیء توقف عدم الشیء على مانعه ، بداهیة ثبوت المانعیة فی الطرفین ، وکون المطاردة من الجانبین ، وهو دور (1) واضح.
وما قیل (2) فی التفصی عن هذا الدور بأن التوقف من طرف الوجود فعلّی ، بخلاف التوقف من طرف العدم ، فإنّه بتوقف على فرض ثبوت المقتضی له ، مع شراشر شرائطه غیر عدم وجود ضدّه ، ولعله کان محالاً ، لأجل انتهاء عدم وجود أحد الضدین مع وجود الآخر إلى عدم تعلق الإرادة الازلیة به ، وتعلقها بالآخر حسب ما اقتضته الحکمة البالغة ، فیکون العدم دائماً مستنداً إلى عدم المقتضی ، فلا یکاد یکون مستنداً إلى وجود المانع ، کی یلزم الدور.
إن قلت : هذا إذا لوحظا منتهیین إلى إرادة شخص واحد ، وأما إذا کان کلّ منهما متعلقاً لارادة شخص ، فأراد مثلاً أحد الشخصین حرکة شیء ، وأراد الآخر سکونه ، فیکون المقتضی لکلّ منهما حینئذ موجوداً ، فالعدم ـ لا محالة ـ یکون فعلاً مستنداً إلى وجود المانع.
__________________
1 ـ راجع هدایة المسترشدین / 230 عند قوله : ثانیها.
2 ـ المتفصی هو المحقق الخوانساری (1 )على ما فی مطارح الأنظار / 109.
قلت : هاهنا أیضاً مستند إلى عدم قدرة المغلوب منهما فی إرادته ، وهی مما لابد منه فی وجود المراد ، ولا یکاد یکون بمجرد الإرادة بدونها لا إلى وجود الضد ، لکونه مسبوقاً بعدم قدرته ـ کما لا یخفى ـ غیر سدید ، فإنّه وأنّ کان قد ارتفع به الدور ، إلّا إنّه غائلة لزوم توقف الشیء على ما یصلح أن یتوقف علیه على حالها ، لاستحالة أن یکون الشیء الصالح لأن یکون موقوفاً علیه [ الشیء ] (1) موقوفاً علیه ، ضرورة إنّه لو کان فی مرتبة یصلح لأن یستند إلیه ، لما کاد یصحّ أن یستند فعلاً إلیه.
والمنع عن صلوحه لذلک بدعوى : أن قضیة کون العدم مستنداً إلى وجود الضد ، لو کان مجتمعا مع وجود المقتضی ، وأنّ کانت صادقة ، إلّا أن صدقها لا یقتضی کون الضد صالحا لذلک ، لعدم اقتضاء صدق الشرطیّة صدق طرفیها ، مساوق (2) لمنع مانعیة الضد ، وهو یوجب رفع التوقف رأساً من البین ، ضرورة إنّه لا منشأ لتوهم توقف أحد الضدین على عدم الآخر ، إلا توهّم مانعیة الضد ـ کما أشرنا إلیه ـ وصلوحه لها.
إن قلت : التمانع بین الضدین کالنار على المنار ، بل کالشمس فی رابعة النهار ، وکذا کون عدم المانع مما یتوقف علیه ، مما لا یقبل الإِنکار ، فلیس ما ذکر إلّا شبهة فی مقابل البدیهة.
__________________
1 ـ أثبتناها من « ب ».
2 ـ مع أن حدیث عدم اقتضاء صدق الشرطیّة لصدق طرفیها ، وأنّ کان صحیحاً ، إلّا أن الشرطیّة ـ هاهنا ـ غیر صحیحة ، فإن وجود المقتضی لضد ، لا یستلزم بوجه استناد عدمه إلى ضدّه ، ولا یکون الاستناد مترتباً على وجوده ؛ ضرورة أن المقتضی لا یکاد یقتضی وجود ما یمنع عما یقتضیه أصلاً کما لا یخفى ، فلیکن المقتضی لاستناد عدم الضد إلى وجود ضدّه فعلاً عند ثبوت مقتضی وجوده ، هی الخصوصیة التی فیه الموجبة للمنع عن اقتضاء مقتضیه ، کما هو الحال فی کلّ مانع ، ولیست فی الضد تلک الخصوصیة ، کیف؟ وقد عرفت إنّه لا یکاد یکون مانعاً إلّا على وجه دائر ، نعم إنّما المانع عن الضد هو العلة التامة لضدّه ، لاقتضائها ما یعانده وینافیه ، فیکون عدمه کوجود ضدّه مستنداً إلیها ، فافهم ( منه 1 ).
قلت : التمانع بمعنى التنافی والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع مما لا ریب فیه ولا شبهة تعتریه ، إلّا إنّه لا یقتضی إلّا امتناع الاجتماع ، وعدم وجود أحدهما إلّا مع عدم الآخر ، الذی هو بدیل وجوده المعاند له ، فیکون فی مرتبته لا مقدما علیه ولو طبعا ، والمانع الذی یکون موقوفاً على عدمه (1) الوجود هو ماکان ینافی ویزاحم المقتضی فی تأثیره ، لا ما یعاند الشیء ویزاحمه فی وجوده.
نعم العلة التامة لاحد الضدین ، ربما تکون مانعاً عن الآخر ، ومزاحما لمقتضیه فی تأثیره ، مثلاً تکون شدة الشفقة على الولد الغریق وکثرة المحبة له ، تمنع عن أن یؤثر ما فی الأخ الغریق من المحبة والشفقة ، لارادة إنقاذه مع المزاحمة فینقذ به الولد دونه ، فتأمل جیداً.
ومما ذکرنا ظهر إنّه لا فرق بین الضد الموجود والمعدوم ، فی أن عدمه الملائم للشیء المناقض لوجوده المعاند لذاک ، لابد أن یجامع معه من غیر مقتض لسبقه ، بل عرفت ما یقتضی عدم سبقه.
فانقدح بذلک ما فی تفصیل بعضٍ الأعلام (2) ، حیث قال بالتوقف على رفع الضد الموجود ، وعدم التوقف على عدم الضد المعدوم ، فتأمل فی أطراف ما ذکرناه ، فإنّه دقیق وبذلک حقیق.
فقد ظهر عدم حرمة الضد من جهة المقدمیة.
وأما من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمین فی الوجود ، فی الحکم ، فغایته أن لا یکون أحدهما فعلاً محکوماً بغیر ما حکم به الآخر ، لا أن یکون محکوماً بحکمه.
وعدم خلو الواقعة عن الحکم ، فهو إنّما یکون بحسب الحکم الواقعی لا الفعلّی ، فلا حرمة للضد من هذه الجهة أیضاً ، بل على ما هو علیه ، لولا
__________________
1 ـ الصحیح ما اثبتناه و فی « أ » و « ب » موقونا علیه الوجود.
2 ـ هو المحقق الخونساری ، راجع مطارح الأنظار / 109.
الابتلاء بالمضادّة للواجب الفعلّی ، من الحکم الواقعی.
الأمر الثالث : إنّه قیل (1) بدلالة الأمر بالشیء بالتضمن على النهی عن الضد العام ، بمعنى الترک ، حیث إنّه یدلّ على الوجوب المرکب من طلب الفعل والمنع عن الترک. والتحقیق إنّه لا یکون الوجوب إلّا طلباً بسیطاً ، ومرتبة وحیدة أکیدة من الطلب ، لا مرکباً من طلبین ، نعم فی مقام تحدید تلک المرتبة وتعیینها ، ربما یقال : الوجوب یکون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن الترک ، ویتخیل منه إنّه یذکر له حداً ، فالمنع عن الترک لیس من أجزاء الوجوب ومقوماته ، بل من خواصه ولوازمه ، بمعنى إنّه لو التفت الأمر إلى الترک لما کان راضیا به لا محالة ، وکان یبغضه البتة.
ومن هنا انقدح إنّه لا وجه لدعوى العینیة ، ضرورة أن اللزوم یقتضی الاثنینیة ، لا الاتحاد والعینیة.
نعم لا بأس بها ، بأن یکون المراد بها إنّه یکون هناک طلب واحد ، وهو کما یکون حقیقة منسوباً إلى الوجود وبعثاً إلیه ، کذلک یصحّ أن ینسب إلى الترک بالعرض والمجاز ویکون زجراً وردعاً عنه ، فافهم.
الأمر الرابع : تظهر الثمرة فی أن نتیجة المسألة ، وهی النهی عن الضد بناءً على الاقتضاء ، بضمیمة أن النهی فی العبادات یقتضی الفساد ، یتنج فساده إذا کان عبادة.
وعن البهائی ; (2) إنّه أنکر الثمرة ، بدعوى إنّه لا یحتاج فی استنتاج الفساد إلى النهی عن الضد ، بل یکفی عدم الأمر به ، لاحتیاج العبادة إلى الأمر.
__________________
1 ـ القائل هو صاحب المعالم ، المعالم / 63.
2 ـ زبدة الأصول / 82 ، مخطوط.
وفیه : أنّه یکفی مجرد الرجحان والمحبوبیة للمولى ، کی یصحّ أن یتقرب به منه ، کما لا یخفى ، والضد بناءً على عدم حرمته یکون کذلک ، فإن المزاحمة على هذا لا یوجب إلّا ارتفاع الأمر المتعلق به فعلاً ، مع بقائه على ما هو علیه من ملاکه من المصلحة ، کما هو مذهب العدلیة ، أو غیرها أیّ شیء کان ، کما هو مذهب الأشاعرة ، وعدم حدوث ما یوجب مبغوضیته وخروجه عن قابلیة التقرب به کما حدث ، بناءً على الاقتضاء.
ثم إنّه تصدى جماعة من الأفاضل (1) ، لتصحیح الأمر بالضد بنحو الترتب على العصیان ، وعدم إطاعة الأمر بالشیء بنحو الشرط المتأخر ، أو البناء على معصیته (2) بنحو الشرط المتقدم ، أو المقارن ، بدعوى إنّه لا مانع عقلاً عن تعلق الأمر بالضدین کذلک ، أیّ بأن یکون الأمر بالأهم مطلقاً ، والأمر بغیره معلّقاً على عصیان ذاک الأمر ، أو البناء والعزم علیه ، بل هو واقع کثیراً عرفاً.
قلت : ما هو ملاک استحالة طلب الضدین فی عرض واحد ، آت فی طلبهما کذلک ، فإنّه وأنّ لم یکن فی مرتبة طلب الأهم اجتماع طلبهما ، إلّا إنّه کان فی مرتبة الأمر بغیره اجتماعهما ، بداهة فعلیة الأمر بالأهم فی هذه المرتبة ، وعدم سقوطه بعد بمجرد المعصیة فیما بعد ما لم یعص أو العزم علیها ، مع فعلیة الأمر بغیره أیضاً ، لتحقق ما هو شرط فعلیته فرضاً.
لا یقال : نعم لکنه بسوء اختیار المکلف حیق یعصی فیما بعد بالاختیار ، فلولاه لما کان متوجهاً إلیه إلّا الطلب بالأهم ، ولا برهان على امتناع الاجتماع ، إذا کان بسوء الاختیار.
فإنّه یقال : استحالة طلب الضدین ، لیس إلّا لأجل استحالة طلب المحال ، واستحالة طلبه من الحکیم الملتفت إلى محالیته ، لا تختص بحال دون
__________________
1 ـ منهم صاحب کشف الغطاء ، کشف الغطاء / 27 ، البحث الثامن عشر.
2 ـ فی « ب » معصیة ، وفی بعضٍ النسخ المطبوعة « المعصیة ».
حال ، وإلاّ لصحّ فیما علق على أمر اختیاری فی عرض واحد ، بلا حاجة فی تصحیحه إلى الترتب ، مع إنّه محال بلا ریب ولا إشکال.
إن قلت : فرق بین الاجتماع فی عرض واحد والاجتماع کذلک ، فإن الطلب فی کلّ منهما فی الأوّل یطارد الآخر ، بخلافه فی الثّانی ، فإن الطلب بغیر الأهم لا یطارد طلب الأهم ، فإنّه یکون على تقدیر عدم الإِتیان بالأهم ، فلا یکاد یرید غیره على تقدیر إتیإنّه ، وعدم عصیان أمره.
قلت : لیت شعری کیف لا یطارده الأمر بغیر الأهم؟ وهل یکون طرده له إلّا من جهة فعلیته ، ومضادة متعلقه للاهم؟ والمفروض فعلیته ، ومضادة متعلقه له. وعدم إرادة غیر الأهم على تقدیر الإِتیان به لا یوجب عدم طرده لطلبه مع تحققه ، على تقدیر عدم الإِتیان به وعصیان أمره ، فیلزم اجتماعهما على هذا التقدیر ، مع ما هما علیه من المطاردة ، من جهة المضادًة بین المتعلقین ، مع إنّه یکفی الطرد من طرف الأمر بالأهم ، فإنّه على هذا الحال یکون طاردا لطلب الضد ، کما کان فی غیر هذا الحال ، فلا یکون له معه أصلاً بمجال.
إن قلت : فما الحیلة فیما وقع کذلک من طلب الضدین فی العرفیات؟
قلت : لا یخلو : امّا أن یکون الأمر بغیر الأهم ، بعد التجاوز عن الأمر به وطلبه حقیقة.
وإما أن یکون الأمر به إرشاداً إلى محبوبیّته وبقائه على ما هو علیه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة ، وأنّ الإِتیان به یوجب استحقاق المثوبة فیذهب بها بعضٍ ما استحقه من العقوبة على مخالفة الأمر بالأهم ، لا إنّه أمر مولوی فعلّی کالأمر به ، فافهم وتأملّ جیداً.
ثم إنّه لا أظن أن یلتزم القائل بالترتب ، بما هو لازمه من الاستحقاق فی
صورة مخالفة الأمرین لعقوبتین ، ضرورة قبح العقاب على ما لا یقدّر علیه العبد ، ولذا کان سیدنا الأستاذ (1) (1) لا یلتزم به ـ على ما هو ببالی ـ وکنا نورد به على الترتب ، وکان بصدد تصحیحه.
فقد ظهر إنّه لا وجه لصحة العبادة ، مع مضادتها لما هو أهم منها ، إلّا ملاک الأمر.
نعم فیما إذا کانت موسعة ، وکانت مزاحمة بالأهم ببعض الوقت ، لا فی تمامه ، یمکن أن یقال : إنّه حیث کان الأمر بها على حاله ، وأنّ صارت مضیقة بخروج ما زاحمه الأهم من أفرادها من تحتها ، أمکن أن یؤتى بما زوحم منها بداعی ذاک الأمر ، فإنّه وأنّ کان خارجاً عن تحتها بما هی مأمور بها ، إلّا إنّه لما کان وافیاً بغرضها کالباقی تحتها ، کان عقلاً مثله فی الإِتیان به فی مقام الامتثال ، والإِتیان به بداعی ذاک الأمر ، بلا تفاوت فی نظره بینهما أصلاً.
ودعوى أن الأمر لا یکاد یدعو إلّا إلى ما هو من أفراد الطبیعة المأمور بها ، وما زوحم منها بالأهم ، وأنّ کان من أفراد الطبیعة ، لکنه لیس من أفرادها بما هی مأمور بها ، فاسدة ، فإنّه إنّما یوجب ذلک ، إذا کان خروجه عنها بما هی کذلک تخصیصا لا مزاحمة ، فإنّه معها وأنّ کان لا تعمه الطبیعة المأمور بها ، إلّا إنّه لیس لقصور فیه ، بل لعدم إمکان تعلق الأمر بما تعمه عقلاً ، وعلى کلّ حال ، فالعقل لا یرى تفاوتاً فی مقام الامتثال وإطاعة الأمر بها ، بین هذا الفرد وسائر الأفراد أصلاً.
__________________
1 ـ هو آیة الله مجدد المذهب الحاج میرزا محمد حسن بن السید میرزا محمود الحسینی الشیرازی ولد فی 15 ج 1230، حضر درس المحقق السید حسن المدرس والمحقق الکلباسی قصد العراق عام 1259 ، حضر الاندیة العلمیة ، اختصّ فی التلمذة والحضور بأبحاث المحقق الانصاری ، عین مرجعاً بعده ، حج سنة 1288 ، وهاجر إلى سأمراًء شعبان سنة 1291 ثم تبعه تلامیذه ، أخذ منه کثیر من فحول العلماء ، منهم : آقا رضا الهمدانی والشیخ فضل الله النوری والآخوند الخراسانی ، توفی لیلة الاربعاء 24 شعبان 1312 ه. () الکنى والالقاب 3 / 184 )
هذا على القول بکون الأوامر متعلقة بالطبائع.
وأما بناءً على تعلقها بالأفراد فکذلک ، وأنّ کان جریإنّه علیه أخفى ، کما لا یخفى ، فتأمل.
ثم لا یخفى إنّه بناءً على إمکان الترتب وصحته ، لا بد من الالتزام بوقوعه ، من دون انتطار دلیل آخر علیه ، وذلک لوضوح أن المزاحمة على صحة الترتب لا تقتضی عقلاً إلّا امتنع الاجتماع فی عرض واحد ، لا کذلک ، فلو قیل بلزوم الأمر فی صحة العبادة : ولم یکن فی الملاک کفایة ، کانت العبادة مع ترک الأهم صحیحة لثبوت الأمر بها فی هذا الحال ، کما إذا لم تکن هناک مضادة.
فصل
لا یجوز أمر الأمر ، مع علمه بانتفاء شرطه ، خلافاً لما نسب (1) إلى أکثر مخالفینا (2) ، ضرورة إنّه لا یکاد یکون الشیء مع عدم علته ، کما هو المفروض ها هنا ، فإن الشرط من أجزائها ، وانحلال المرکب بانحلال بعضٍ أجزائه مما لا یخفى ، وکون الجواز فی العنوان بمعنى الإِمکان الذاتی بعید عن محلّ الخلاف بین الأعلام.
نعم لو کان المراد من لفظ الأمر ، الأمر ببعض مراتبه ، ومن الضمیر الراجع إلیه بعضٍ مراتبه الآخر ، بأن یکون النزاع فی أن أمر الأمر یجوز إنشاءً مع علمه بانتفاء شرطه ، بمرتبة فعلیة.
وبعبارة أُخرى : کان النزاع فی جواز إنشائه مع العلم بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعلیة لعدم شرطه ، لکان جائزاً ، وفی وقوعه فی الشرعیات والعرفیات
__________________
1 ـ کما فی معالم الأصول / 85 ، وقوانین الأصول / 125.
2 ـ راجع شرح مختصر الأصول للعضدی / 107 ، وتیسیر التحریر 2 / 240.
غنىً وکفایة ، ولا یحتاج معه إلى مزید بیان أو مؤونة برهان.
وقد عرفت سابقاً (1) أن داعی إنشاءً الطلب ، لا ینحصر بالبعث والتحریک جداً حقیقة ، بل قد یکون صوریا امتحاناً ، وربما یکون غیر ذلک.
ومنع کونه أمراً إذا لم یکن بداعی البعث جداً واقعاً ، وأنّ کان فی محله ، إلّا أن إطلاق الأمر علیه ، إذا کانت هناک قرینة على إنّه بداعٍ آخر غیر البعث توسعاً ، مما لا بأس به أصلاً ، کما لا یخفى.
وقد ظهر بذلک حال ما ذکره الأعلام فی المقام من النقض والأبرام ، وربما یقع به التصالح بین الجانبین ویرتفع النزاع من البین ، فتأمل جداً.
فصل
الحق أن الأوامر والنواهی تکون متعلقة بالطبائع دون الأفراد ، ولا یخفى أن المراد أن متعلق الطلب فی الأوامر هو صرف الایجاد ، کما أن متعلقه فی النواهی هو محض الترک ، ومتعلقهما هو نفس الطبیعة المحدودة بحدود والمقیدة بقیود ، تکون بها موافقة للغرض والمقصود ، من دون تعلق غرض بإحدى الخصوصیات اللازمة للوجودات ، بحیث لو کان الانفکاک عنها بأسرها ممکناً ، لما کان ذلک مما یضر بالمقصود أصلاً ، کما هو الحال فی القضیة الطبیعیة فی غیر الأحکام ، بل فی المحصورة ، على ما حقق فی غیر المقام.
وفی مراجعة الوجدان للانسان غنىً وکفایة عن إقامة البرهان على ذلک ، حیث یرى إذا راجعه إنّه لا غرض له فی مطلوباته إلّا نفس الطبائع ، ولا نظر له إلّا إلیها من دون نظر إلى خصوصیاتها الخارجیة ، وعوارضها العینیة ، وأنّ نفس وجودها السعی بما هو وجودها تمام المطلوب ، وأنّ کان ذاک الوجود
__________________
1 ـ فی المقصد الأوّل ، الفصل الثّانی ، المبحث الأوّل صفحة / 69.
لا یکاد ینفک فی الخارج عن الخصوصیة.
فانقدح بذلک أن المراد بتعلق الأوامر بالطبائع دون الأفراد ، إنّها بوجودها السعی بما هو وجودها قبالاً لخصوص الوجود ، متعلقة للطلب ، لا إنّها بما هی هی کانت متعلقة له ، کما ربما یتوهم ، فإنّها کذلک لیست إلّا هی ، نعم هی کذلک تکون متعلقة للأمر ، فإنّه طلب الوجود ، فافهم.
دفع وهم : لا یخفى أن کون وجود الطبیعة أو الفرد متعلقاً للطلب ، إنّما یکون بمعنى أن الطالب یرید صدور الوجود من العبد ، وجعله بسیطاً الذی هو مفاد کان التامة ، وإفاضته ، لا إنّه یرید ما هو صادر وثابت فی الخارج کی یلزم طلب الحاصل ، کما توهّم ، ولا جعل الطلب متعلقاً بنفس الطبیعة ، وقد جعل وجودها غایة لطلبها.
وقد عرفت أن الطبیعة بما هی هی لیست إلّا هی ، لا یعقل أن یتعلق بها طلب لتوجد أو تترک ، وإنّه لابد فی تعلق الطلب من لحاظ الوجود أو العدم معها ، فیلاحظ وجودها فیطلبه ویبعث إلیه ، کی یکون ویصدر منه ، هذا بناءً على أصالة الوجود.
وأما بناءً على أصالة الماهیة ، فمتعلق الطلب لیس هو الطبیعة بما هی أیضاً ، بل بما هی بنفسها فی الخارج ، فیطلبها کذلک لکی یجعلها بنفسها من الخارجیات والاعیان الثابتات ، لا بوجودها کما کان الأمر بالعکس على أصالة الوجود.
وکیف کان فیلحظ الأمر ما هو المقصود من الماهیة الخارجیة أو الوجود ، فیطلبه ویبعث نحوه لیصدر منه ویکون ما لم یکن ، فافهم وتأملّ جیداً.
فصل
إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدلیل الناسخ ولا المنسوخ ، على بقاء الجواز
بالمعنى الأعم ، ولا بالمعنى الأخص ، کما لا دلالة لهما على ثبوت غیره من الأحکام ، ضرورة أن ثبوت کلّ واحد من الأحکام الأربعة الباقیة بعد ارتفاع الوجوب واقعاً ممکن ، ولا دلالة لواحد من دلیلی الناسخ والمنسوخ ـ بإحدى الدلالات ـ على تعیین واحد منها ، کما هو أوضح من أن یخفى ، فلا بد للتعیین من دلیل آخر ، ولا مجال لاستصحاب الجواز ، إلّا بناءً على جریإنّه فی القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلی ، وهو ما إذا شک فی حدوث فرد کلی مقارناً لارتفاع فرده الآخر ، وقد حققنا فی محله (1) ، إنّه لا یجری الاستصحاب فیه ، ما لم یکن الحادث المشکوک من المراتب القویة أو الضعیفة المتصلة بالمرتفع ، بحیث عد عرفاً ـ لو کان ـ إنّه باق ، لا إنّه أمر حادث غیره.
ومن المعلوم أن کلّ واحد من الأحکام مع الآخر عقلاً وعرفاً ، من المباینات والمتضادات ، غیر الوجوب والاستحباب ، فإنّه وأنّ کان بینهما التفاوت بالمرتبة والشدة والضعف عقلاً إلّا إنّهما متباینان عرفاً ، فلا مجال للاستصحاب إذا شک فی تبدل أحدهما بالآخر ، فإن حکم العرف ونظره یکون متّبعاً فی هذا الباب.
فصل
إذا تعلق الأمر بأحد (2) الشیئین أو الاشیاء ، ففی وجوب کلّ واحد على التخییر ، بمعنى عدم جواز ترکه إلّا إلى بدل ، أو وجوب الواحد بعینه ، أو وجوب کلّ منهما مع السقوط بفعل أحدهما ، أو وجوب المعینّ عند الله ، أقوال.
والتحقیق أن یقال : إنّه إن کان الأمر بأحد الشیئین ، بملاک إنّه هناک غرض واحد یقوم به کلّ واحد منهما ، بحیث إذا أتى بأحدهما حصل به تمام
__________________
1 ـ فی التنبیه الثالث من تنبیهات الاستصحاب / 406.
2 ـ فی « ب » باحدى.
الغرض ، ولذا یسقط به الأمر ، کان الواجب فی الحقیقة هو الجامع بینهما ، وکان التخییر بینهما بحسب الواقع عقلّیاً لا شرعیاً ، وذلک لوضوح أن الواحد لا یکاد یصدر من الاثنین بما هما اثنان ، ما لم یکن بینهما جامع فی البین ، لاعتبار نحو من السنخیة بین العلة والمعلول.
وعلیه : فجعلهما متعلقین للخطاب الشرعی ، لبیان أن الواجب هو الجامع بین هذین الاثنین.
وإن کان بملاک إنّه یکون فی کلّ واحد منهما غرض ، لا یکاد یحصل مع حصول الغرض فی الآخر بإتیإنّه ، کان کلّ واحد واجباً بنحو من الوجوب ، یستکشف عنه تبعاته ، من عدم جواز ترکه إلّا إلى الآخر ، وترتب الثواب على فعل الواحد منهما ، والعقاب على ترکهما ، فلا وجه فی مثله للقول بکون الواجب هو (1) أحدهما لا بعینه مصداقاً ولا مفهوماً ، کما هو واضح ، إلّا أن یرجع إلى ما ذکرنا فیما إذا کان الأمر بأحدهما بالملاک الأوّل ، من أن الواجب هو الواحد الجامع بینهما ؛ ولا أحدهما م عیناً ، مع کون کلّ منهما مثل الآخر فی إنّه وافٍ بالغرض [ ولا کلّ واحد منهما تعیناً مع السقوط بفعل أحدهما ، بداهة عدم السقوط مع إمکان استیفاء ما فی کلّ منهما من الغرض ، وعدم جواز الإِیجاب کذلک مع عدم إمکانه ] (2) فتدبر.
بقی الکلام فی إنّه هل یمکن التخییر عقلاً أو شرعاً بین الأقلّ والأکثر ، أولاً؟
__________________
1 ـ فإنّه وأنّ کان مما یصحّ أن یتعلق به بعضٍ الصفات الحقیقیة ذات الاضافة کالعلم ، فضلاً عن الصفات الاعتباریة المحضة کالوجوب والحرمة وغیرهما ، مما کان من خارج المحمول الذی لیس بحذائه فی الخارج شیء غیر ما هو منشأ انتزاعه ، إلّا إنّه لا یکاد یصحّ البعث حقیقة إلیه ، والتحریک نحوه ، کما لا یکاد یتحقق الداعی لإِرادته ، والعزم علیه ، ما لم یکن مائلا إلى إرادة الجامع ، والتحرک نحوه ، فتأمل جیداً ( منه 1 ).
2 ـ أثبتناها من « ب ».
ربما یقال ، بإنّه محال ، فإن الأقلّ إذا وجد کان هو الواجب لا محالة ، ولو کان فی ضمن الأکثر ، لحصول الغرض به ، وکان الزائد علیه من أجزاء الأکثر زائداً على الواجب ، لکنه لیس کذلک ، فإنّه إذا فرض أن المحصل للغرض فیما إذا وجد الأکثر ، هو الأکثر لا الأقلّ الذی فی ضمنه ، بمعنى أن یکون لجمیع أجزائه حینئذ دخل فی حصوله ، وأنّ کان الأقلّ لو لم یکن فی ضمنه کان وافیاً به أیضاً ، فلا محیص عن التخییر بینهما ، إذ تخصیص الأقلّ بالوجوب حینئذ کان بلا مخصص ، فإن الأکثر بحدَّه یکون مثله على الفرض ، مثل أن یکون الغرض الحاصل من رسم الخط مترتباً على الطویل إذا رسم بماله من الحد ، لا على القصیر فی ضمنه ، ومعه کیف یجوز تخصیصه بما لا یعمه؟ ومن الواضح کون هذا الفرض بمکان من الأمکان.
إن قلت : هبه فی مثل ما إذا کان للاکثر وجود واحد ، لم یکن للاقل فی ضمنه وجود على حدة ، کالخط الطویل الذی رسم دفعة بلا تخلل سکون فی البین ، لکنه ممنوع فیما کان له فی ضمنه وجود ، کتسبیحة فی ضمن تسبیحات ثلاث ، أو خط طویل رسم مع تخلل العدم فی رسمه ، فإن الأقلّ قد وجد بحدَّه ، وبه یحصل الغرض على الفرض ، ومعه لا محالة یکون الزائة علیه مما لا دخل له فی حصوله ، فیکون زائداً على الواجب ، لا من أجزائه.
قلت : لا یکاد یختلف الحال بذاک ، فإنّه مع الفرض لا یکاد یترتب الغرض على الأقلّ فی ضمن الأکثر ، وإنما یترتب علیه بشرط عدم الانضمام ، ومعه کان مترتباً على الأکثر بالتمام.
وبالجملة إذا کان کلّ واحد من الأقلّ والأکثر بحدَّه مما یترتب علیه الغرض ، فلا محالة یکون الواجب هو الجامع بینهما ، وکان التخییر بینهما عقلّیاً إن کان هناک غرض واحد ، وتخییرا شرعیاً فیما کان هناک غرضان ، على ما عرفت.
نعم لو کان الغرض مترتباً على الأقلّ ، من دون دخل للزائد ، لما کان الأکثر مثل الأقلّ وعدلاً له ، بل کان فیه اجتماع الواجب وغیره ، مستحباً کان أو غیره ، حسب اختلاف الموارد ، فتدبرّ جیداً.
فصل
فی الوجوب (1) الکفائی :
والتحقیق إنّه سنخ من الوجوب ، وله تعلق بکل واحد ، بحیث لو أخلّ بامتثاله الکلّ لعوقبوا على مخالفته جمیعاً ، وأنّ سقط عنهم لو أتى به بعضهم ، وذلک لإنّه قضیة ما إذا کان هناک غرض واحد ، حصل بفعل واحد ، صادر عن الکلّ أو البعض.
کما أن الظاهر هو امتثال الجمیع لو أتوا به دفعة ، واستحقاقهم للمثوبة ، وسقوط الغرض بفعل الکلّ ، کما هو قضیة توارد العلل المتعدِّدة على معلول واحد.
فصل
لا یخفى إنّه وأنّ کان الزمان مما لا بدّ منه عقلاً فی الواجب ، إلّا إنّه تارةً مما له دخل فیه شرعاً فیکون موقتا ، وأخرى لا دخل له فیه أصلاً فهو غیر موقت ، والموقت امّا أن یکون الزمان المأخوذ فیه بقدره فمضّیق ، وإما أن یکون أوسع منه فموسّع.
ولا یذهب علیک أن الموسّع کلی ، کما کان له أفراد دفعیة ، کان له أفراد تدریجیة ، یکون التخییر بینها کالتخییر بین أفرادها الدفعیة عقلّیاً.
ولا وجه لتوهم أن یکون التخییر بینها شرعیاً ، ضرورة أن نسبتها إلى الواجب نسبة أفراد الطبائع إلیها ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ فی « ب » : فی الوجوب الواجب الکفائی.
ووقوع الموسّع فضلاً عن إمکانه ، مما لا ریب فیه ، ولا شبهة تعتریه ، ولا اعتناء ببعض التسویلات کما یظهر من المطّولات.
ثم إنّه لا دلالة للأمر بالموقّت بوجه على الأمر به فی خارج الوقت ، بعد فوته فی الوقت ، لو لم نقل بدلالته على عدم الأمر به.
نعم لو کان التوقیت بدلیل منفصل ، لم یکن له إطلاق على التقیید بالوقت ، وکان لدلیل الواجب إطلاق ، لکان قضیة إطلاقه ثبوت الوجوب بعد انقضاء الوقت ، وکون التقیید به بحسب تمام المطلوب لا أصله.
وبالجملة : التقیید بالوقت کما یکون بنحو وحدة المطلوب ، کذلک ربما یکون بنحو تعدَّد المطلوب ، بحیث کان أصل الفعل ، ولو فی خارج الوقت مطلوباً فی الجملة ، وأنّ لم یکن بتمام المطلوب ، إلّا إنّه لابد فی إثبات إنّه بهذا النحو من دلالة ، ولا یکفی الدلیل على الوقت إلّا فیما عرفت ، ومع عدم الدلالة فقضیة أصالة البراءة عدم وجوبها فی خارج الوقت ، ولا مجال لاستصحاب وجوب الموقت بعد انقضاء الوقت ، فتدبرّ جیداً.
فصل
الأمر بالأمر بشیء ، أمر به لو کان الغرض حصوله ، ولم یکن له غرض فی توسیط أمر الغیر به إلّا تبلیغ (1) أمره به ، کما هو المتعارف فی أمر الرسل بالأمر أو النهی. وأما لو کان الغرض من ذلک یحصل بأمره بذاک الشیء ، من دون تعلق غرضه به ، أو مع تعلق غرضه به لا مطلقاً ، بل بعد تعلق أمره به ، فلا یکون أمراً بذاک الشیء ، کما لا یخفى.
وقد انقدح بذلک إنّه لا دلالة بمجرد الأمر بالأمر ، على کونه أمراً به ، ولا بدّ فی الدلالة
__________________
1 ـ فی « ب » : بتبلیغ.
علیه من قرینة علیه.
فصل
إذا ورد أمر بشیء بعد الأمر به قبل امتثاله ، فهل یوجب تکرار ذاک الشیء ، أو تأکید الأمر الأوّل ، والبعث الحاصل به؟ قضیة إطلاق المادة هو التأکید ، فإن الطلب تأسیساً لا یکاد یتعلق بطبیعة واحدة مرتین ، من دون أن یجیء تقیید لها فی البین ، ولو کان بمثل ( مرّة أُخرى ) کی یکون متعلق کلّ منهما غیر متعلق الآخر ، کما لا یخفى ، والمنساق من إطلاق الهیئة ، وأنّ کان هو تأسیس الطلب لا تأکیده ، إلّا أن الظاهر هو انسباق التأکید عنها ، فیما کانت مسبوقة بمثلها ، ولم یذکر هناک سبب ، أو ذکر سبب واحد.
المقصد الثّانی : فی النواهی
فصل
الظاهر أن النهی بمادته وصیغته فی الدلالة على الطلب ، مثل الأمر بمادته وصیغته ، غیر أن متعلق الطلب فی أحدهما الوجود ، وفی الآخر العدم ، فیعتبر فیه ما استظهرنا اعتباره فیه بلا تفاوت أصلاً ، نعم یختص النهی بخلاف ، وهو : إن متعلق الطلب فیه ، هل هو الکف ، أو مجرد الترک وأنّ لا یفعل؟ والظاهر هو الثانی.
وتوهمّ أن الترک ومجرد أن لا یفعل خارج عن تحت الاختیار ، فلا یصحّ أن یتعلق به البعث والطلب ، فاسد ، فإن الترک أیضاً یکون مقدوراً ، وإلاّ لما کان الفعل مقدوراً وصادراً بالإِرادة والاختیار ، وکون العدم الازلی لا بالاختیار ، لا یوجب أن یکون بحسب البقاء والاستمرار الذی یکون بحسبه محلاً للتکلیف.
ثم إنّه لا دلالة لصیغته على الدوام والتکرار ، کما لا دلالة لصیغة الأمر وأنّ کان قضیتهما عقلاً تختلف ولو مع وحدة متعلقهما ، بأن یکون طبیعة واحدة بذاتها وقیدها تعلق بها الأمر مرة والنهی أُخرى ، ضرورة أن وجودها یکون بوجود فرد واحد ، وعدمها لا یکاد یکون إلّا بعدم الجمیع ، کما لا یخفى.
ومن ذلک یظهر أن الدوام والاستمرار ، إنّما یکون فی النهی إذا کان متعلقه طبیعة مطلقة غیر مقیدة بزمان أو حال ، فإنّه حینئذ لا یکاد یکون مثل هذه الطبیعة معدومة ، إلّا بعدم جمیع أفرادها الدفعیة والتدریجیة.
وبالجملة قضیة النهی ، لیس إلّا ترک تلک الطبیعة التی تکون متعلقة له ، کانت مقیدة أو مطلقة ، وقضیة ترکها عقلاً ، إنّما هو ترک جمیع أفرادها.
ثم إنّه لا دلالة للنهی على إرادة الترک لو خولف ، أو عدم إرادته ، بل لابد فی تعیین ذلک من دلالة ، ولو کان إطلاق المتعلق من هذه الجهة ، ولا یکفی إطلاقها من سائر الجهات ، فتدبرّ جیداً.
فصل
اختلفوا فی جواز اجتماع الأمر والنهی فی واحد ، وامتناعه ، على أقوال : (1) ثالثها (2) : جوازه عقلاً وامتناعه عرفاً ، وقبل الخوض فی المقصود یقدم أمور :
الأول : المراد بالواحد مطلق ما کان ذا وجهین ، ومندرجا تحت عنوانین ، بأحدهما کان مورداً للأمر ، وبالآخر للنهی ، وأنّ کان کلیاً مقولاً على کثیرین ، کالصلاة فی المغصوب ، وإنما ذکر لاخراج ما إذا تعدَّد متعلق الأمر والنهی ولم یجتمعا وجوداً ، ولو جمعهما واحد مفهوماً ، کالسجود لله تعالى ، والسجود للصنم مثلاً ، لا لاخراج الواحد الجنسی أو النوعی کالحرکة والسکون الکلیین المعنونین بالصلاتیة والغصبیة.
الثانی : الفرق بین هذه المسألة ومسألة النهی فی العبادة (3) ، هو أن الجهة المبحوث عنها فیها التی بها تمتاز المسائل ، هی أن تعدَّد الوجه والعنوان فی الواحد یوجب تعدَّد متعلق الأمر والنهی ، بحیث یرتفع به غائلة استحالة الاجتماع فی الواحد بوجه واحد ، أو لا یوجبه ، بل یکون حاله حاله ، فالنزاع فی سرایة کلّ
__________________
1 ـ راجع مطارح الأنظار / 129. فی اجتماع الأمر والنهی.
2 ـ مجمع الفائدة والبرهان للأردبیلی 2 : 110.
3 ـ فی « ب » العبادات.
من الأمر والنهی إلى متعلق الآخر ، لاتحاد متعلقیهما وجوداً ، وعدم سرایته لتعددهما وجهاً ، وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها فی المسألة الأخرى ، فإن البحث فیها فی أن النهی فی العبادة [ أو المعاملة ] (1) یوجب فسادها ، بعد الفراغ عن التوجه إلیها.
نعم لو قیل بالامتناع مع ترجیح جانب النهی فی مسألة الاجتماع ، یکون مثل الصلاة فی الدار المغصوبة من صغریات تلک المسألة.
فانقدح أن الفرق بین المسألتین فی غایة الوضوح.
وأما ما أفاده فی الفصول (2) ، من الفرق بما هذه عبارته :
( ثم اعلم أن الفرق بین المقام والمقام المتقدم ، وهو أن الأمر والنهی هل یجتمعان فی شیء واحد أو لا؟ امّا فی المعاملات فظاهر ، وأما فی العبادات ، فهو أن النزاع هناک فیما إذا تعلق الأمر والنهی بطبیعتین متغایرتین بحسب الحقیقة ، وأنّ کان بینهما عموم مطلق ، وهنا فیما إذا اتحدتا حقیقة وتغایرتا بمجرد الإِطلاق والتقیید ، بأن تعلق الأمر بالمطلق ، والنهی بالمقید ) انتهى موضع الحاجة ، فاسد ، فإن مجرد تعدَّد الموضوعاًت وتغایرها بحسب الذوات ، لا یوجب التمایز بین المسائل ، ما لم یکن هناک اختلاف الجهات ، ومعه لا حاجة أصلاً إلى تعددها ، بل لابد من عقد مسألتین ، مع وحدة الموضوع وتعدد الجهة المبحوث عنها ، وعقد مسألة واحدة فی صورة العکس ، کما لا یخفى.
ومن هنا انقدح أیضاً فساد الفرق ، بأن النزاع هنا فی جواز الاجتماع عقلاً ، وهناک فی دلالة النهی لفظاً. فإن مجرد ذلک لو لم یکن تعدَّد الجهة فی البین ، لا یوجب إلّا تفصیلا فی المسألة الواحدة ، لا عقد مسألتین ، هذا مع
__________________
1 ـ أثبتناها من « ب ».
2 ـ الفصول / 140 ، فصل فی دلالة النهی على فساد المنهی عنه.
عدم اختصاص النزاع فی تلک المسألة بدلالة اللفظ ، کما سیظهر.
الثالث : إنّه حیث کانت نتیجة هذه المسألة مما تقع فی طریق الاستنباط ، کانت المسألة من المسائل الأصولیة ، لا من مبادئها الاحکامیة ، ولا التصدیقیة ، ولا من المسائل الکلامیة ، ولا من المسائل الفرعیة ، وأنّ کانت فیها جهاتها ، کما لا یخفى ، ضرورة أن مجرد ذلک لا یوجب کونها منها إذا کانت فیها جهة أُخرى ، یمکن عقدها معها من المسائل ، إذ لا مجال حینئذ لتوهم عقدها من غیرها فی الأصول ، وأنّ عقدت کلامیة فی الکلام ، وصحّ عقدها فرعیة أو غیرها بلا کلام ، وقد عرفت فی أول الکتاب (1) إنّه لا ضیر فی کون مسألة واحدة ، یبحث فیها عن جهة خاصة من مسائل علمین ، لانطباق جهتین عامتین على تلک الجهة ، کانت بإحداهما من مسائل علم ، وبالأُخرى من آخر ، فتذکرّ.
الرابع : إنّه قد ظهر من مطاوی ما ذکرناه ، أن المسألة عقلیة ، ولا اختصاص للنزاع فی جواز الاجتماع والامتناع فیها بما إذا کان الإِیجاب والتحریم باللفظ ، کما ربما یوهمه التعبیر بالأمر والنهی الظاهرین فی الطلب بالقول ، إلّا إنّه لکون الدلالة علیهما غالباً بهما ، کما هو أوضح من أن یخفى. وذهاب البعض (2) إلى الجواز عقلاً والامتناع عرفاً ، لیس بمعنى دلالة اللفظ ، بل بدعوى أن الواحد بالنظر الدقیق العقلی اثنان ، وإنّه بالنظر المسامحی العرفی واحد ذو وجهین ، وإلاّ فلا یکون معنى محصلا للامتناع العرفی ، غایة الأمر دعوى دلالة اللفظ على عدم الوقوع بعد اختیار جواز الاجتماع ، فتدبرّ جیداً.
الخامس : لا یخفى أن ملاک النزاع فی جواز الاجتماع والامتناع یعم جمیع أقسام الإِیجاب والتحریم ، کما هو قضیة إطلاق لفظ الأمر والنهی ،
__________________
1 ـ فی الأمر الأوّل من مقدّمة الکتاب / 7.
2 ـ الأردبیلی فی شرح الإِرشاد 2 / 110.
ودعوى الانصراف إلى النفسیین التعیینیین العینیین فی مادتهما ، غیر خالیة عن الاعتساف ، وأن سلّم فی صیغتهما ، مع إنّه فیها ممنوع (1).
نعم لا یبعد دعوى الظهور والانسباق من الإِطلاق ، بمقدمات الحکمة الغیر الجاریة فی المقام ، لما عرفت من عموم الملاک لجمیع الأقسام ، وکذا ما وقع فی البین من النقض والأبرام. مثلاً إذا أمر بالصلاة والصوم تخییراً بینهما ، وکذلک نهى عن التصرف فی الدار والمجالسة مع الاغیار ، فصلى فیها مع مجالستهم ، کان حال الصلاة فیها حالها ، کما إذا أمر بها تعییناً (2) ، ونهى عن التصرف فیها کذلک فی جریان النزاع فی الجواز والامتناع ، ومجیء أدلة الطرفین ، وما وقع من النقض والأبرام فی البین ، فتفطن.
السادس : إنّه ربما یؤخذ فی محلّ النزاع قید المندوحة فی مقام الامتثال ، بل ربما قیل : بأن الإِطلاق إنّما هو للاتکال على الوضوح ، إذ بدونها یلزم التکلیف بالمحال.
ولکن التحقیق مع ذلک عدم اعتبارها فی ما هو المهمّ فی محلّ النزاع من لزوم المحال ، وهو اجتماع الحکمین المتضادین ، وعدم الجدوى فی کون موردهما موجهاً بوجهین فی رفع غائلة اجتماع الضدین ، أو عدم لزومه ، وأنّ تعدَّد الوجه یجدی فی رفعها ، ولا یتفاوت فی ذلک أصلاً وجود المندوحة وعدمها ، ولزوم التکلیف بالمحال بدونها محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع.
نعم لابد من اعتبارها فی الحکم بالجواز فعلاً ، لمن یرى التکلیف بالمحال محذوراً ومحالاً ، کما ربما لابد من اعتبارٍ أمر آخر فی الحکم به کذلک أیضاً.
وبالجملة لا وجه لاعتبارها ، إلّا لأجل اعتبارٍ القدرة على الامتثال ، وعدم
__________________
1 ـ فی « ب » : ممنوعة.
2 ـ فی « ب » : ت عیناً.
لزوم التکلیف بالمحال ، ولا دخل له بما هو المحذور فی المقام من التکلیف المحال ، فافهم واغتنم.
السابع : إنّه ربما یتوهم تارةً أن النزاع فی الجواز والامتناع ، یبتنی على القول بتعلق الأحکام بالطبائع ، وأما الامتناع على القول بتعلقها بالأفراد فلا یکاد یخفى ، ضرورة لزوم تعلق الحکمین بواحد شخصی ، ولو کان ذا وجهین على هذا القول.
وأخرى أن القول بالجواز مبنی على القول بالطبائع ، لتعدد متعلق الأمر والنهی ذاتاً علیه ، وأنّ اتحد وجوداً ، والقول بالامتناع على القول بالأفراد ، لاتحاد متعلقهما شخصاً خارجاً ، وکونه فرداً واحداً.
وأنت خبیر بفساد کلاّ التوهمین ، فإن تعدَّد الوجه إن کان یجدی بحیث لا یضر معه الاتحاد بحسب الوجود والایجاد ، لکان یجدی ولو على القول بالأفراد ، فإن الموجود الخارجی الموجه بوجهین ، یکون فرداً لکلّ من الطبیعتین ، فیکون مجمعاً لفردین موجودین بوجود واحد ، فکما لا یضر وحدة الوجود بتعدد الطبیعتین ، لا یضر بکون المجمع اثنین بما هو مصداق وفرد لکلّ من الطبیعتین ، وإلاّ لما کان یجدی أصلاً ، حتى على القول بالطبائع ، کما لا یخفى ، لوحدة الطبیعتین وجوداً واتحادهما خارجاً ، فکما أن وحدة الصلاتیة والغصبیة فی الصلاة فی الدار المغصوبة وجوداً غیر ضائر بتعددهما وکونها طبیعتین ، کذلک وحدة ما وقع فی الخارج من خصوصیات الصلاة فیها وجوداً غیر ضائر بکونه فرداً للصلاة ، فیکون مأموراً به ، وفردا للغصب فیکون منهیاً عنه ، فهو على وحدته وجوداً یکون اثنین ، لکونه مصداقاً للطبیعتین ، فلا تغفل.
الثامن : إنّه لا یکاد یکون من باب الاجتماع ، إلّا إذا کان فی کلّ واحد من متعلقی الإِیجاب والتحریم مناط حکمه مطلقاً ، حتى فی مورد
التصادق والاجتماع ، کی یحکم على الجواز بکونه فعلاً محکوماً بالحکمین وعلى الامتناع بکونه محکوماً بأقوى المناطین ، أو بحکم آخر غیر الحکمین فیما لم یکن هناک أحدهما أقوى ، کما یأتی تفصیله (1).
وأما إذا لم یکن للمتعلقین مناط کذلک ، فلا یکون من هذا الباب ، ولا یکون مورد الاجتماع محکوماً إلّا بحکم واحد منها ، إذا کان له مناطه ، أو حکم آخر غیرهما ، فیما لم یکن لواحد منهما ، قیل بالجواز أو الامتناع ، هذا بحسب مقام الثبوت.
وأما بحسب مقام الدلالة والإِثبات ، فالروایتان الدالّتان على الحکمین متعارضتان ، إذا احرز أن المناط من قبیل الثّانی ، فلابد من حمل المعارضة حینئذ بینهما من الترجیح والتخییر ، وإلاّ فلا تعارض فی البین ، بل کان من باب التزاحم بین المقتضیین ، فربما کان الترجیح مع ما هو أضعف دلیلاً ، لکونه أقوى مناطا ، فلا مجال حینئذ لملاحظة مرجحات الروایات أصلاً ، بل لا بد من مرجحات المقتضیات المتزاحمات ، کما یأتی الإِشارة (2) إلیها.
نعم لو کان کلّ منها متکفلاً للحکم الفعلّی ، لوقع بینهما التعارض ، فلا بدّ من ملاحظة مرجحات باب المعارضة ، لو لم یوفق بینهما بحمل أحدهما على الحکم الاقتضائی بملاحظة مرجحات باب المزاحمة ، فتفطن.
التاسع : إنّه قد عرفت أن المعتبر فی هذا الباب ، أن یکون کلّ واحد من الطبیعة المأمور بها والمنهی عنها ، مشتملة على مناط الحکم مطلقاً ، حتى فی حال الاجتماع ، فلو کان هناک ما دلّ على ذلک من اجماع أو غیره فلا إشکال ، ولو لم یکن إلّا اطلاق دلیلی الحکمین ، ففیه تفصیل وهو :
أن الإِطلاق لو کان فی بیان الحکم الاقتضائی ، لکان دلیلاً على ثبوت
__________________
1 و 2 ـ راجع التنبیه الثّانی من تنبیهات اجتماع الأمر والنهی ، ص 174.
المقتضی والمناط فی مورد الاجتماع ، فیکون من هذا الباب ، ولو کان بصدد الحکم الفعلّی ، فلا إشکال فی استکشاف ثبوت المقتضی فی الحکمین على القول بالجواز ، إلّا إذا علم إجمالاً بکذب أحد الدلیلین ، فیعامل معهما معاملة المتعارضین. وأما على القول بالامتناع فالإطلاقان متنافیان ، من غیر دلالة على ثبوت المقتضی للحکمین فی مورد الاجتماع أصلاً ، فإن انتفاء أحد المتنافیین ، کما یمکن أن یکون لأجل المانع مع ثبوت المقتضی له ، یمکن أن یکون لأجل انتفائه ، إلّا أن یقال : إن قضیة التوفیق بینهما ، هو حمل کلّ منهما على الحکم الاقتضائی ، لو لم یکن أحدهما أظهر ، وإلاّ فخصوص الظاهر منهما.
فتلخص إنّه کلما کانت هناک دلالة على ثبوت المقتضی فی الحکمین ، کان من مسألة الاجتماع ، وکلما لم تکن هناک دلالة علیه ، فهو من باب التعارض مطلقاً ، إذا کانت هناک دلالة على انتفائه فی أحدهما بلا تعیین ولو على الجواز ، وإلاّ فعلى الامتناع.
العاشر (1) : أنّه لا إشکال فی سقوط الأمر وحصول الامتثال بإتیان المجمع بداعی الأمر على الجواز مطلقاً ، ولو فی العبادات ، وأنّ کان معصیة للنهی أیضاً. وکذا الحال على الامتناع مع ترجیح جانب الأمر ، إلّا إنّه لا معصیة علیه ، وأما علیه وترجیح جانب النهی فیسقط به الأمر به مطلقاً فی غیر العبادات ، لحصول الغرض الموجب له. وأما فیها فلا ، مع الالتفات إلى الحرمة أو بدونه تقصیراً ، فإنّه وأنّ کان متمکناً ـ مع عدم الالتفات ـ من قصد القربة ، وقد قصدها ، إلّا أنه مع التقصیر لا یصلح لأن یتقرب به أصلاً ، فلا یقع مقربا ، وبدونه لا یکاد یحصل به الغرض الموجب للأمر به عبادة ، کما لا یخفى. وأما إذا لم یلتفت إلیها قصوراً ، وقد قصد القربة بإتیإنّه ، فالأمر
__________________
1 ـ من هنا إلى ص 184 عند قوله « ضرورة إنّه لو لا جلعه » سقط من نسخة ( أ ) المعتمدة عندنا.
یسقط ، لقصد التقرب بما یصلح أن یتقرب به ، لاشتماله على المصلحة ، مع صدوره حسناً لأجل الجهل بحرمته قصوراً ، فیحصل به الغرض من الأمر ، فیسقط به قطعاً ، وأنّ لم یکن امتثالاً له بناءً على تبعیة الأحکام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعاً ، لا لما هو المؤثر منها فعلاً للحسن أو القبح ، لکونهما تابعین لما علم منهما کما حقق فی محله.
مع إنّه یمکن أن یقال بحصول الامتثال مع ذلک ، فإن العقل لا یرى تفاوتاً بینه وبین سائر الأفراد فی الوفاء بغرض (1) الطبیعة المأمور بها ، وأنّ لم تعمه بما هی مأمور بها ، لکنه لوجود المانع لا لعدم المقتضی.
ومن هنا انقدح إنّه یجزئ ، ولو قیل باعتبار قصد الامتثال فی صحة العبادة ، وعدم کفایة الإِتیان بمجرد المحبوبیة ، کما یکون کذلک فی ضد الواجب ، حیث لا یکون هناک أمر یقصد أصلاً.
وبالجملة مع الجهل قصوراً بالحرمة موضوعاً أو حکماً ، یکون الإِتیان بالمجمع امتثالاً ، وبداعی الأمر بالطبیعة لا محالة ، غایة الأمر إنّه لا یکون مما تسعه بما هی مأمور بها ، لو قیل بتزاحم الجهات فی مقام تأثیرها للاحکام الواقعیة ، وأما لو قیل بعدم التزاحم إلّا فی مقام فعلیة الأحکام ، لکان مما تسعه وامتثالا لامرها بلا کلام.
وقد انقدح بذلک الفرق بین ما إذا کان دلیلاً الحرمة والوجوب متعارضین ، وقدم دلیل الحرمة تخییراً أو ترجیحاً ، حیث لا یکون معه مجال للصحة أصلاً ، وبین ما إذا کانا من باب الاجتماع. وقیل بالامتناع ، وتقدیم جانب الحرمة ، حیث یقع صحیحاً فی غیر مورد من موارد الجهل والنسیان ، لموافقته للغرض بل للأمر ، ومن هنا علم أن
__________________
1 ـ فی « ب » : لغرض ، وما أثبتناه من النسخ المطبوعة هو الأصحّ.
الثواب علیه من قبیل الثواب على الإطاعة ، لا الانقیاد ومجرد اعتقاد الموافقة.
وقد ظهر بما ذکرناه ، وجه حکم الأصحاب بصحة الصلاة فی الدار المغصوبة ، مع النسیان أو الجهل بالموضوع ، بل أو الحکم إذا کان عن قصور ، مع أن الجلّ لو لا الکلّ قائلون بالامتناع وتقدیم الحرمة ، ویحکمون بالبطلان فی غیر موارد العذر ، فلتکن من ذلک على ذکر.
إذا عرفت هذه الأمور ، فالحق هو القول بالامتناع ، کما ذهب إلیه المشهور ، وتحقیقه على وجه یتضح به فساد ما قیل ، أو یمکن أن یقال ، من وجوه الاستدلال لسائر الأقوال ، یتوقف على تمهید مقدمات :
أحدها : إنّه لاریب فی أن الأحکام الخمسة متضادة فی مقام فعلیتها ، وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر ، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة بین البعث نحو واحد فی زمان والزجر عنه فی ذاک الزمان ، وأنّ لم یکن بینها مضادة ما لم یبلغ إلى تلک المرتبة ، لعدم المنافاة والمعاندة بین وجوداتها الإنشائیة قبل البلوغ إلیها ، کما لا یخفى ، فاستحالة اجتماع الأمر والنهی فی واحد لا تکون من باب التکلیف بالمحال ، بل من جهة إنّه بنفسه محال ، فلا یجوز عند من یجوز التکلیف بغیر المقدور أیضاً.
ثانیتها : إنّه لا شبهة فی أن متعلق الأحکام ، هو فعل المکلف وما هو فی الخارج یصدر عنه ، وهو فاعله وجاعله ، لا ما هو اسمه ، وهو واضح ، ولا ما هو عنوإنّه مما قد انتزع عنه ، بحیث لو لا انتزاعه تصوراً واختراعه ذهنا ، لا کان بحذائه شیء خارجاً ویکون خارج المحمول ، کالملکیة والزوجیة والرقیة والحریة والمغصوبیة (1) ، إلى غیر ذلک من الاعتبارات والإضافات ، ضرورة أن البعث لیس نحوه ، والزجر لا یکون عنه ، وإنما یؤخذ فی متعلق الأحکام آلة للحاظ
__________________
1 ـ فی « ب » : الغصبیة.
متعلقاتها ، والإِشارة إلیها ، بمقدار الغرض منها والحاجة إلیها ، لا بما هو هو وبنفسه ، وعلى استقلاله وحیاله.
ثالثتها : إنّه لا یوجب تعدَّد الوجه والعنوان تعدَّد المعنون ، ولا ینثلم به وحدته ، فإن المفاهیم المتعدِّدة والعناوین الکثیرة ربما تنطبق على الواحد ، وتصدق على الفارد الذی لا کثرة فیه من جهة ، بل بسیط من جمبع الجهات ، لیس فیه حیث غیر حیث ، وجهة مغایرة لجهة أصلاً ، کالواجب تبارک وتعالى ، فهو على بساطته ووحدته وأحدیته ، تصدق علیه مفاهیم الصفات الجلالیة والجمالیة ، له الأسماء الحسنى والامثال العلیا ، لکنها بأجمعها حاکیة عن ذاک الواحد الفرد الاحد.
عباراتنا شتى وحسنک واحد
وکل إلى ذاک الجمال یشیر
رابعتها : إنّه لا یکاد یکون للموجود بوجود واحد ، إلّا ماهیة واحدة وحقیقة فاردة ، لا یقع فی جواب السؤال عن حقیقته بما هو إلّا تلک الماهیة ، فال مفهوماً ن المتصادقان على ذاک لا یکاد یکون کلّ منهما ماهیة وحقیقة ، وکانت عینه فی الخارج کما هو شأن الطبیعی وفرده ، فیکون الواحد وجوداً واحداً ماهیة وذاتا لا محالة ، فالمجمع وأنّ تصادق علیه متعلقاً الأمر والنهی ، إلّا إنّه کما یکون واحداً وجوداً ، یکون واحداً ماهیة وذاتا ، ولا یتفاوت فیه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهیة.
ومنه ظهر عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع فی المسألة ، على القولین فی تلک المسألة ، کما توهّم فی الفصول (1) ، کما ظهر عدم الابتناء على تعدَّد وجود الجنس والفصل فی الخارج ، وعدم تعدده ، ضرورة عدم کون العنوانین المتصادقین علیه من قبیل الجنس والفصل له ، وأن مثل الحرکة فی دار من أیّ
__________________
1 ـ راجع الفصول / 125.
مقولة کانت ، لا یکاد یختلف حقیقتها وماهیتها ویتخلف ذاتیاتها ، وقعت جزءا للصلاة أو لا ، کانت تلک الدار مغصوبة أو لا (1).
إذا عرفت ما مهدناه ، عرفت أن المجمع حیث کان واحداً وجوداً وذاتا ، کان تعلق الأمر والنهی به محالاً ، ولو کان تعلقهما به بعنوانین ، لما عرفت من کون فعل المکلف بحقیقته وواقعیته الصادرة عنه ، متعلقاً للأحکام لا بعناوینه الطارئة علیه ، وأنّ غائلة اجتماع الضدین فیه لا تکاد ترتفع بکون الأحکام تتعلق بالطبائع لا الأفراد (2) ، فإن غایة تقریبه أن یقال : إن الطبائع من حیث هی هی ، وأنّ کانت لیست إلّا هی ، ولا تتعلق بها الأحکام الشرعیة ، کالآثار العادیة والعقلیة ، إلّا إنّها مقیدة بالوجود ، بحیث کان القید خارجاً والتقید داخلا ، صالحة لتعلق الأحکام بها ، ومتعلقاً الأمر والنهی على هذا لا یکونان متحدین أصلاً ، لا فی مقام تعلق البعث والزجر ، ولا فی مقام عصیان النهی وإطاعة الأمر بإتیان المجمع بسوء الاختیار.
أما فی المقام الأوّل ، فلتعددهما بما هما متعلقان لهما وأنّ کانا متحدین فیما هو خارج عنهما ، بما هما کذلک.
وأما فی المقام الثّانی ، فلسقوط أحدهما بالاطاعة ، والآخر بالعصیان بمجرد الإِتیان ، ففی أیّ مقام اجتمع الحکمان فی واحد؟
وأنت خبیر بإنّه لا یکاد یجدی بعد ما عرفت ، من أن تعدَّد العنوان لا یوجب تعدَّد المعنون لا وجوداً ولا ماهیة ، ولا تنثلم به وحدته أصلاً ، وأنّ المتعلق للاحکام هو المعنونات لا العنوانات ، وإنّها إنّما تؤخذ فی المتعلقات بما
__________________
1 ـ وقد عرفت أن صدق العناوین المتعدِّدة ، لا تکاد تنثلم به وحدة المعنون ـ لا ذاتاً ولا وجوداً ـ غایته أن تکون له خصوصیة بها یستحق الاتصاف بها ، ومحدودا بحدود موجبة لانطباقها علیه ، کما لا یخفى ، وحدوده ومخصصاته لا توجب تعدده بوجه أصلاً ، فتدبرّ جیداً ( منه 1 ).
2 ـ کما فی قوانین الأصول 1 / 140.
هی حاکیات کالعبارات ، لا بما هی على حیالها واستقلالها.
کما ظهر مما حققناه : إنّه لا یکاد یجدی أیضاً کون الفرد مقدّمة لوجود الطبیعی المأمور به أو المنهی عنه ، وإنّه لا ضیر فی کون المقدمة محرمة فی صورة عدم الانحصار بسوء الاختیار ، وذلک ـ مضافاً إلى وضوح فساده ، وأنّ الفرد هو عین الطبیعی فی الخارج ، کیف؟ والمقدمیة تقتضی الاثنینیة بحسب الوجود ، ولا تعدَّد کما هو واضح ـ إنّه إنّما یجدی لو لم یکن المجمع واحداً ماهیة ، وقد عرفت بما لا مزید علیه إنّه بحسبها أیضاً واحد.
ثم إنّه قد استدل (1) على الجواز بأمور :
منها (2) : إنّه لو لم یجز اجتماع الأمر والنهی ، لما وقع نظیره ، وقد وقع ، کما فی العبادات المکروهة ، کالصلاة فی مواضع التهمة وفی الحمام والصیام فی السفر وفی بعضٍ الایام.
بیان الملازمة : إنّه لو لم یکن تعدَّد الجهة مجدیاً فی إمکان اجتماعهما لما جاز اجتماع حکمین آخرین فی مورد مع تعددهما ، لعدم اختصاصهما من بین الأحکام بما یوجب الامتناع من التضاد ، بداهة تضادّها بأسرها ، والتالی باطل ، لوقوع اجتماع الکراهة والإِیجاب أو الاستحباب ، فی مثل الصلاة فی الحمام ، والصیام فی السفر ، وفی عاشوراء ولو فی الحضر ، واجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الإِباحة أو الاستحباب ، فی مثل الصلاة فی المسجد أو الدار.
والجواب عنه امّا إجمالاً : فبإنّه لا بدّ من التصرف والتأویل فیما وقع فی الشریعة مما ظاهره الاجتماع ، بعد قیام الدلیل على الامتناع ، ضرورة أن
__________________
1 ـ انظر قوانین الأصول 1 / 140.
2 ـ هذا هو الوجه الثّانی الذی استدل له ، قوانین الأصول 1 / 142.
الظهور لا یصادم البرهان ، مع أن قضیة ظهور تلک الموارد ، اجتماع الحکمین فیها بعنوان واحد ، ولا یقول الخصم بجوازه کذلک ، بل بالامتناع ما لم یکن بعنوانین وبوجهین ، فهو أیضاً لا بد [ له ] من التفصی عن إشکال الاجتماع فیها لا سیما إذا لم یکن هناک مندوحة ، کما فی العبادات المکروهة التی لا بدل لها ، فلا یبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فیها على جوازه أصلاً ، کما لا یخفى.
وأما تفصیلا : فقد أُجیب عنه بوجوه (1) ، یوجب ذکرها بما فیها من النقض والأبرام طول الکلام بما لا یسعه المقام ، فالأولى الاقتصار على ما هو التحقیق فی حسم مادة الإِشکال ، فیقال وعلى الله الاتکال : إن العبادات المکروهة على ثلاثة أقسام :
أحدها : ما تعلق به النهی بعنوإنّه وذاته ، ولا بدل له ، کصوم یوم عاشوراء (2) ، والنوافل المبتدأئة فی بعضٍ الأوقات (3).
ثانیها : ما تعلق به النهی کذلک ، ویکون له البدل ، کالنهی عن الصلاة فی الحمام (4).
ثالثها : ما تعلق النهی به لا بذاته ، بل بما هو مجامع معه وجوداً ،
__________________
1 ـ راجع مطارح الأنظار / 130 وما بعده.
2 ـ الکافی 4 / 146 ، باب صوم عرفة وعاشوراء ، الأحادیث 3 إلى 7 ـ وللمزید راجع وسائل الشیعة ، 7 / 339 الباب 21 من أبواب الصوم المندوب.
3 ـ الکافی 3 / 288 باب التطوع فی وقت الفریضة والساعات التی لا یصلّى فیها ـ الاستبصار 1 / 277 باب وقت نوافل النهار ـ وللمزید راجع وسائل الشیعة 3 / 170 ، الباب 38 من أبواب المواقیت.
4 ـ الکافی 3 / 390 الحدیث 12 من باب الصلاة فی الکعبة ... الخ.
أو ملازم له خارجاً ، کالصلاة فی مواضع التهمة (1) ، بناءً على کون النهی عنها لأجل اتحادها مع الکون فی مواضعها.
أما القسم الأوّل : فالنهی تنزیهًا عنه بعد الاجتماع على إنّه یقع صحیحاً ، ومع ذلک یکون ترکه أرجح ، کما یظهر من مداومة الأئمة : على الترک ، امّا لأجل انطباق عنوان ذی مصلحة على الترک ، فیکون الترک کالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض ، وأنّ کان مصلحة الترک أکثر ، فهما حینئذ یکونان من قبیل المستحبین المتزاحمین ، فیحکم بالتخییر بینهما لو لم یکن أهم فی البین ، وإلاّ فیتعین الأهم وأنّ کان الآخر یقع صحیحاً ، حیث إنّه کان راجحاً وموافقا للغرض ، کما هو الحال فی سائر المستحبات المتزاحمات بل الواجبات ، وارجحیة الترک من الفعل لا توجب (2) حزازة ومنقصة فیه أصلاً ، کما یوجبها ما إذا کان فیه مفسدة غالبة على مصلحته ، ولذا لا یقع صحیحاً على الامتناع ، فإن الحزازة والمنقصة فیه مانعة عن صلاحیة التقرب به ، بخلاف المقام ، فإنّه على ما هو علیه من الرجحان وموافقة الغرض ،
__________________
1 ـ التهذیب 2 / 219 الحدیث 71 من باب 11 ما یجوز الصلاة فیه من اللباس والمکان ... الخ. وللمزید راجع وسائل الشیعة 3 / 466 الباب 34 من أبواب مکان المصلی.
2 ـ ربما یقال : إن أرجحیة الترک ، وأنّ لم توجب منقصة وحزازة فی الفعل أصلاً ، إلّا إنّه توجب المنع منه فعلاً ، والبعث إلى الترک قطعاً ، کما لا یخفى ، ولذا کان ضد الواجب ـ بناءً على کونه مقدّمة له ـ حراماً ، ویفسد لو کان عبادة ، مع إنّه لا حزازة فی فعله ، وإنما کان النهی عنه وطلب ترکه لما فیه من المقدمیة له ، وهو على ما هو علیه من المصلحة ، فالمنع عنه لذلک کافٍ فی فساده لو کان عبادة.
قلت : یمکن أن یقال : إن لنهی التحریمی لذلک وأنّ کان کافیاً فی ذلک بلا إشکال ، إلّا أن التنزیهی غیر کافٍ ، إلّا إذا کان عن حزازة فیه ، وذلک لبداهة عدم قابلیة الفعل للتقرب به منه تعالى مع المنع عنه وعدم ترخیصه فی ارتکابه ، بخلاف التنزیهی عنه إذا کان لا لحزازة فیه ، بل لما فی الترک من المصلحة الراجحة ، حیث إنّه معه مرخوص فیه ، وهو على ما هو علیه من الرجحان والمحبوبیة له تعالى ، ولذلک لم تفسد العبادة إذا کانت ضد المستحبة أهم اتفاقاً ، فتأمل ( منه 1 ).
کما إذا لم یکن ترکه راجحاً بلا حدوث حزازة فیه أصلاً.
وإما لأجل ملازمة الترک لعنوان کذلک ، من دون انطباقه علیه ، فیکون کما إذا انطبق علیه من غیر تفاوت ، إلّا فی أن الطلب المتعلق به حینئذ لیس بحقیقی ، بل بالعرض والمجاز ، فإنما یکون فی الحقیقة متعلقاً بما یلازمه من العنوان ، بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به حقیقة ، کما فی سائر المکروهات من غیر فرق ، إلّا أن منشأه فیها حزازة ومنقصة فی نفس الفعل ، وفیه رجحان فی الترک ، من دون حزازة فی الفعل أصلاً ، غایة الأمر کون الترک أرجح.
نعم یمکن أن یحمل النهی ـ فی کلاّ القسمین ـ على الإِرشاد إلى الترک الذی هو أرجح من الفعل ، أو ملازم لما هو الارجح وأکثر ثواباً لذلک ، وعلیه یکون النهی على نحو الحقیقة ، لا بالعرض والمجاز ، فلا تغفل.
وأما القسم الثّانی : فالنهی فیه یمکن أن یکون لأجل ما ذکر فی القسم الأوّل ، طابق النعل بالنعل ، کما یمکن أن یکون بسبب حصول منقصة فی الطبیعة المأمور بها ، لأجل تشخصها فی هذا القسم بمشخص غیر ملائم لها ، کما فی الصلاة فی الحمام ، فإن تشخصها بتشخص وقوعها فیه ، لا یناسب کونها معراجاً ، وأنّ لم یکن نفس الکون فی الحمام بمکروه ولا حزازة فیه أصلاً ، بل کان راجحاً ، کما لا یخفى.
وربما یحصل لها لأجل تخصصها بخصوصیة شدیدة الملاءمة معها مزیة فیها کما فی الصلاة فی المسجد والامکنة الشریفة ، وذلک لأن الطبیعة المأمور بها فی حد نفسها ، إذا کانت مع تشخص لا یکون له شدة الملاءمة ، ولا عدم الملاءمة لها مقدار من المصلحة والمزیة ، کالصلاة فی الدار مثلاً ، وتزداد تلک المزیة فیما کان تشخصها بماله شدة الملاءمة ، وتنقص فیما إذا لم تکن له ملاءمة ، ولذلک ینقص ثوابها تارةً ویزید أُخرى ، ویکون النهی فیه لحدوث نقصان فی مزیتها فیه إرشاداً إلى ما لا نقصان فیه من سائر الأفراد ، ویکون أکثر ثواباً منه ، ولیکن
هذا مراد من قال : إن الکراهة فی العبادة بمعنى إنّها تکون أقل ثواباً ، ولا یرد علیه بلزوم اتصاف العبادة التی تکون أقل ثواباً من الأخرى بالکراهة ، ولزوم اتصاف ما لا مزّیة فیه ولا منقصة بالاستحباب ، لإنّه أکثر ثواباً مما فیه المنقصة ، لما عرفت من أن المراد من کونه أقل ثواباً ، إنّما هو بقیاسه إلى نفس الطبیعة المتشخصة بما لا یحدث معه مزیة لها ، ولا منقصة من المشخصات ، وکذا کونه أکثر ثوابا.
ولا یخفى أن النهی فی هذا القسم لا یصحّ إلا للإِرشاد ، بخلاف القسم الأوّل ، فإنّه یکون فیه مولویاً ، وأنّ کان حمله على الإِرشاد بمکان من الأمکان.
وأما القسم الثالث : فیمکن أن یکون النهی فیه عن العبادة المتحدة مع ذاک العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز ، وکان المنهی عنه به حقیقة ذاک العنوان ، ویمکن أن یکون على الحقیقة إرشاداً إلى غیرها من سائر الأفراد ، مما لا یکون متحداً معه أو ملازماً له ، إذ المفروض التمکن من استیفاء مزیة العبادة ، بلا ابتلاء بحزازة ذاک العنوان أصلاً ، هذا على القول بجواز الاجتماع.
وأما على الامتناع ، فکذلک فی صورة الملازمة ، وأما فی صورة الاتحاد وترجیح جانب الأمر ـ کما هو المفروض ، حیث إنّه صحة العبادة ـ فیکون حال النهی فیه حاله فی القسم الثّانی ، فیحمل على ما حمل علیه فیه ، طابق النعل بالنعل ، حیث إنّه بالدقة یرجع إلیه ، إذا على الامتناع ، لیس الاتحاد مع العنوان الآخر إلّا من مخصصاته ومشخصاته التی تختلف الطبیعة المأمور بها فی المزیة زیادة ونقیصة بحسب اختلافها فی الملاءمة کما عرفت.
وقد انقدح بما ذکرناه ، إنّه لا مجال أصلاً لتفسیر الکراهة فی العبادة بأقلیة الثواب فی القسم الأوّل مطلقاً ، وفی هذا القسم على القول بالجواز ، کما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب فیها ، وأنّ الأمر الاستحبابی یکون على نحو
الإِرشاد إلى أفضل الأفراد مطلقاً على نحو الحقیقة ، ومولویاً اقتضائیاً کذلک ، وفعلیاً بالعرض والمجاز فیما کان ملاکه ملازمتها لما هو مستحب ، أو متحداً (1) معه على القول بالجواز.
ولا یخفى إنّه لا یکاد یأتی القسم الأوّل هاهنا ، فإن انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الذی لا بدل له إنّما یؤکد إیجابه ، لا إنّه یوجب استحبابه أصلاً ، ولو بالعرض والمجاز ، إلّا على القول بالجواز ، وکذا فیما إذا لازم مثل هذا العنوان ، فإنّه لو لم یؤکد الإِیجاب لما یصحح الاستحباب إلّا اقتضائیاً بالعرض والمجاز ، فتفطن.
ومنها : إن أهل العرف یعدون من اتى بالمأمور به فی ضمن الفرد المحرم ، مطیعاً وعاصیاً من وجهین (2) ، فإذا أمر المولى عبده بخیاطة ثوب ونهاه عن الکون فی مکان خاص ، کما مثل به الحاجبی (3) والعضدی (4) ، فلو خاطه فی ذاک المکان ، عد مطیعاً الأمر الخیاطة وعاصیاً للنهی عن الکون فی ذلک المکان.
وفیه ـ مضافاً إلى المناقشة فی المثال ، بإنّه لیس من باب الاجتماع ، ضرورة أن الکون المنهی عنه غیر متحد مع الخیاطة وجوداً أصلاً ، کما لا یخفى ـ
__________________
1 ـ فی « ب » : متحدة.
2 ـ دلیل آخر للمجوزین ، قوانین الأصول 1 / 148.
3 و 4 ـ انظر شرح العضدی على مختصر المنتهى لابن الحاجب / 92 ، 93. مسألة استحالة کون الشیء واجباً حراماً من جهة واحدة.
ابن الحاجب ابو عمرو عثمان بن عمر بن ابی بکر المالکی ، تولد سنة 570 ه باسناد کان ابوه جندیاً ، اشتغل ابنه فی صغره بالقاهرة ، وحفظ القرآن المجید ، واخذ بعضٍ القراءات عن الشاطبی وسمع من البوصیری وجماعة ، لزم الإِشتغال حتى برع فی الأصول والعربیة ، ثم قدم دمشق ودرس بجامعها ، کان الاغلب علیه النحو ، وصنف فی عدة علوم ، له کتاب « الکافیة » فی النحو و « الشافیة » فی الصرف و « مختصر الأصول » ثم انتقل إلى الاسکندریة ، مات بها سنة 646 ه. ) الکنى والالقاب 1 / 244 ).
المنع إلّا عن صدق أحدهما ، امّا الإطاعة بمعنى الامتثال فیما غلب جانب الأمر ، أو العصیان فیما غلب جانب النهی ، لما عرفت من البرهان على الامتناع.
نعم لا بأس بصدق الإطاعة بمعنى حصول الغرض والعصیان فی التوصلیات ، وأما فی العبادات فلا یکاد یحصل الغرض منها ، إلّا فیما صدر من المکلف فعلاً غیر محرم وغیر مبغوض علیه ، کما تقدم (1).
بقی الکلام فی حال التفصیل من بعضٍ الأعلام (2) ، والقول بالجواز عقلاً والامتناع عرفاً.
وفیه : إنّه لا سبیل للعرف فی الحکم بالجواز أو الامتناع ، إلّا طریق العقل ، فلا معنى لهذا التفصیل إلّا ما أشرنا إلیه من النظر المسامحی الغیر المبتنی على التدقیق والتحقیق ، وأنت خبیر بعدم العبرة به ، بعد الاطلاع على خلافه بالنظر الدقیق ، وقد عرفت فیما تقدم (3) أن النزاع لیس فی خصوص مدلول صیغة الأمر والنهی ، بل فی الأعم ، فلا مجال لأن یتوهم أن العرف هو المحکم فی تعیین المدالیل ، ولعله کان بین مدلولیهما حسب تعیینه (4) تناف ، لا یجتمعان فی واحد ولو بعنوانین ، وأنّ کان العقل یرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة فی واحد بوجهین ، فتدبر.
وینبغی التنبیه على أمور :
الأول : إن الاضطرار إلى ارتکاب الحرام ، وأنّ کان یوجب ارتفاع حرمته ، والعقوبة علیه مع بقاء ملاک وجوبه ـ لو کان ـ مؤثراً له ، کما إذا لم یکن
__________________
1 ـ فی الأمر العاشر / 156.
2 ـ المحقق الأردبیلی فی شرح الإِرشاد 2 : 110 ، وقد ینسب ذلک إلى صاحب الریاض ( قده ) أیضاً وکأنه مسموع منه شفاهاً ، على حد تعبیر صاحب مطارح الأنظار / 129.
3 ـ فی الأمر الرابع / 152.
4 ـ فی « ب » تعینه.