کفایة الاصول - قسمت هشتم
وکیف کان ، فالمحکی عن السید (1) والقاضی (2) وابن زهرة (3) والطبرسی (4) وابن إدریس (5) عدم حجیة الخبر ، واستدل (6) لهم بالآیات الناهیة (7) عن اتباع غیر العلم ، والروایات (8) الدالة على ردّ ما لم یعلم إنّه قولهم ( علیهم
__________________
1 ـ الذریعة 2 : 528 ، فی التعبد بخبر الواحد ورسالة السیّد فی إبطال العمل بالخبر الواحد ، المطبوعة فی رسائل السید المرتضى 3 : 309 وأجوبته عن مسائل التبانیات المطبوعة فی ضمن رسائله 1 : 21 ، الفصل الثانی. علم الهدى أبو القاسم علی بن الحسین المشهور بالسید المرتضى ، تولد سنة 355 ، حاز من الفضائل ما تفرد به ، له تصانیف مشهورة منها « الشافی » فی الامامة و « الذخیرة » و « الذریعة » وغیرها ، خلف بعد وفاته ثمانین الف مجلد من مقرواته ومصنفاته ، توفی لخمس بقین من شهر ربیع الأوّل سنة 436 ه. ( الکنى والالقاب 2 / 483 ).
2 ـ الشیخ عبد العزیز بن نحریر بن عبد العزیز بن البراج ، وجه الأصحاب وفقیههم ، لقب بالقاضی لکونه قاضیاً فی طرابلس ، قرأ على السید والشیخ فترة ویروی عنهما وعن الکراجکی وأبی الصلاح الحلبی. له « المهذب » و « الموجز » و « الکامل » و « الجواهر ». توفی فی 9 شعبان سنة 481 ( الکنى والالقاب 1 / 224 ).
3 ـ الغنیة : 475 ، ( المطبوعة فی الجوامع الفقهیة ).
أبو المکارم حمزة بن علی بن زهرة الحسینی الحلبی العالم الفاضل الفقیه ، یروی عن والده وغیره ، له « غنیة النزوع إلى علمی الأصول والفروع » و « قبس الانوار فی نصرة العترة الأطهار » توفی سنة 585 فی سن اربع وسبعین ، قبره بحلب بسفح جبل جوشن عند مشهد السقط. ( الکنى والالقاب 1 / 299 ).
4 ـ کذا یظهر من تفسیره آیة النبأ ، مجمع البیان 5 : 133.
أمین الاسلام أبو علی الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسی المشهدی مفسر فقیه صاحب کتاب مجمع البیان وجوامع الجامع ، کان معاصراً لصاحب الکشاف ، یروی عنه جماعة من أفاضل العلماء ، منهم ولده الحسن بن الفضل وابن شهر آشوب والقطب الراوندی ، انتقل من المشهد الرضوی إلى سبزوار سنة 523 وانتقل منها إلى دار الخلود سنة 548 وحمل نعشه إلى المشهد المقدس وقبره معروف ( ریاض العلماء 4 / 340 ).
5 ـ السرائر : 5.
6 ـ المعتمد 2 : 124.
7 ـ الاسراء : 36 ، النجم : 28.
8 ـ مستدرک الوسائل 3 : 186 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 10.
السلام ) ، أو لم یکن علیه شاهد من کتاب الله أو شاهدان (1) ، أو لم یکن موافقاً للقرآن إلیهم (2) ، أو على بطلان ما لا یصدقه کتاب الله (3) ، أو على أن ما لا یوافق کتاب الله زخرف (4) ، أو على النهی عن قبول حدیث إلّا ما وافق الکتاب أو السنة (5) ، إلى غیر ذلک (6). والإجماع المحکی (7) عن السید فی مواضع من کلامه ، بل حکی (8) عنه إنّه جعله بمنزلة القیاس ، فی کون ترکه معروفاً من مذهب الشیعة.
والجواب : امّا عن الآیات ، فبأن الظاهر منها أو المتیقن من إطلاقاًتها هو اتباع غیر العلم فی الأُصول الاعتقادیة ، لا ما یعم الفروع الشرعیة ، ولو سلّم عمومها لها ، فهی مخصصة بالأدلة الآتیة على اعتبارٍ الأخبار.
وأما عن الروایات ، فبأن الاستدلال بها خال عن السداد ، فإنّها أخبار آحاد.
لا یقال : إنّها وأنّ لم تکن متواترة لفظاً ولا معنى ، إلّا إنّها متواترة إجمالاً ، للعلم الإِجمالی بصدور بعضها لا محالة.
فإنّه یقال : إنّها وأنّ کانت کذلک ، إلّا إنّها لا تفید إلّا فیما توافقت علیه ، وهو غیر مفید فی إثبات السلب کلیّاً ، کما هو محلّ الکلام ومورد النقض والإبرام ، وإنما تفید عدم حجیة الخبر المخالف للکتاب والسنة ، والالتزام به لیس بضائر ، بل
__________________
1 ـ وسائل الشیعة 18 : 80 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 18.
2 ـ مستدرک الوسائل 3 : 186 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 5.
3 ـ المحاسن 1 : 221.
4 ـ وسائل الشیعة 18 : 78 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 12.
5 ـ وسائل الشیعة 18 : 78 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 11.
6 ـ راجع وسائل الشیعة 18 : 75 : أحادیث باب 9 من أبواب صفات القاضی.
7 ـ أجوبة المسائل التبانیات 1 : 24 ، الفصل الثانی.
8 ـ رسائل السید المرتضى 3 : 309 ، رسالة إبطال العمل بالخبر الواحد.
لا محیص عنه فی مقام المعارضة.
وأما عن الإجماع ، فبأن المحصّل منه غیر حاصل ، والمنقول منه للاستدلال به غیر قابل ، خصوصاً فی المسألة ، کما یظهر وجهه للمتأمل ، مع إنّه معارض بمثله ، وموهون بذهاب المشهور إلى خلافه.
وقد استدل للمشهور بالادلّة الأربعة :
فصل
فی الآیات التی استدل بها :
فمنها : آیة النبأ ، قال الله تبارک وتعالى : ( إِن جَاءَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا ) (1). ویمکن تقریب الاستدلال بها من وجوه (2) : أظهرها إنّه من جهة مفهوم الشرط ، وأنّ تعلیق الحکم بإیجاب التبین عن النبأ الذی جیء به على کون الجائی به الفاسق (3) ، یقتضی انتفاءه عند انتفائه.
ولا یخفى إنّه على هذا التقریر لا یرد : أن الشرط فی القضیة لبیان تحقق الموضوع فلا مفهوم له ، أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع ، فافهم.
نعم لو کان الشرط هو نفس تحقق النبأ ومجیء الفاسق به ، کانت القضیة الشرطیّة مسوقة لبیان تحقق الموضوع ، مع إنّه یمکن أن یقال : إن القفضیة ولو کانت مسوقة لذلک ، إلّا إنّها ظاهرة فی انحصار موضوع وجوب التبین فی النبأ الذی جاء به الفاسق ، فیقتضی انتفاء وجوب التبین عند انتفائه ووجود موضوع آخر ، فتدبر.
ولکنه یشکل (4) بإنّه لیس لها هاهنا ملهوم ، ولو سلّم أن أمثالها ظاهرة فی
__________________
1 ـ الحجرات : 6.
2 ـ ذکر الوجوه فی حاشیة الفرائد / 60.
3 ـ فی منتهى الدرایة 4 / 441 : فاسقا.
4 ـ وللمزید راجع فرائد الأصول / 72 ، وعدة الأصول / 1 / 44 ، ومعارج الأصول / 145.
المفهوم ، لأن التعلیل بإصابة القوم بالجهالة المشترک بین المفهوم والمنطوق ، یکون قرینة على إنّه لیس لها مفهوم.
ولا یخفى أن الإِشکال إنّما یبتنی على کون الجهالة بمعنى عدم العلم ، مع أن دعوى إنّها بمعنى السفاهة وفعل مالا ینبغی صدوره من العاقل غیر بعیدة.
ثم إنّه لو سلّم تمامیة دلالة الآیة على حجیة خبر العدل ، ربما أشکل شمول مثلها للروایات الحاکیة لقول الإمام 7 بواسطة أو وسائط ، فإنّه کیف یمکن الحکم بوجوب التصدیق الذی لیس إلّا بمعنى وجوب ترتیب ما للمخبر به من الأثر الشرعی بلحاظ نفس هذا الوجوب ، فیما کان المخبر به خبر العدل أو عدالة المخبر ؛ لإنّه وأنّ کان أثراً شرعیاً لهما ، إلّا إنّه بنفس الحکم فی مثل الآیة بوجوب تصدیق خبر العدل حسب الفرض.
نعم لو اُنشىء هذا الحکم ثانیاً ، فلا بأس فی أن یکون بلحاظه أیضاً ، حیث إنّه صار أثراً بجعل آخر ، فلا یلزم اتحاد الحکم والموضوع ، بخلاف ما إذا لم یکن هناک إلّا جعل واحد ، فتدبّر.
ویمکن ذب الإِشکال (1) ، بإنّه إنّما یلزم إذا لم یکن القضیة طبیعیة ، والحکم فیها بلحاظ طبیعة الأثر ، بل بلحاظ أفراده ، وإلاّ فالحکم بوجوب التصدیق یسری إلیه سرایة حکم الطبیعة إلى أفراده ، بلا محذور لزوم اتحاد الحکم والموضوع. هذا مضافاً إلى القطع بتحقق ما هو المناط فی سائر الآثار فی هذا الأثر ـ أیّ وجوب التصدیق ـ بعد تحققه بهذا الخطاب ، وأنّ کان لا یمکن أن یکون ملحوظاً (2) لأجل المحذور ، وإلى عدم القول بالفصل بینه وبین سائر الآثار ، فی وجوب الترتیب لدى الإخبار بموضوع ، صار أثره الشرعی وجوب التصدیق ، وهو خبر العدل ، ولو بنفس الحکم فی الآیة به ، فافهم.
__________________
1 و 2 ـ الصحیح ما أثبتناه وما فی النسخ المطبوعة خطأ ظاهر.
ولا یخفى إنّه لا مجال بعد اندفاع الإِشکال بذلک للاشکال فی خصوص الوسائط من الأخبار ، کخبر الصفار المحکی بخبر المفید مثلاً ، بإنّه لا یکاد یکون خبراً تعبداً إلّا بنفس الحکم بوجوب تصدیق العادل الشامل للمفید ، فکیف یکون هذا الحکم المحقق لخبر الصفار تعبداً مثلاً حکماً له أیضاً ؛ وذلک لأنّه إذا کان خبر العدل ذا أثر شرعی حقیقة بحکم الآیة وجب ترتیب أثره علیه عند إخبار العدل به ، کسائر ذوات الآثار من الموضوعاًت ، لما عرفت من شمول مثل الآیة للخبر الحاکی للخبر بنحو القضیة الطبیعیة ، أو لشمول الحکم فیها له مناطاً ، وأنّ لم یشمله لفظاً ، أو لعدم القول بالفصل ، فتأمل جیداً.
ومنها : آیة النفر ، قال الله تبارک وتعالى : ( فَلَوْلَا نَفَرَ مِن کلّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ ) (1) الآیة ، وربما یستدل بها من وجوه :
أحدها : إن کلمة ( لعل ) وأنّ کانت مستعملة على التحقیق فی معناه الحقیقی ، وهو الترجی الإِیقاعی الإنشائی ، إلّا أن الداعی إلیه حیث یستحیل فی حقه تعالى أن یکون هو الترجی الحقیقی ، کان هو محبوبیة التحذر عند الإنذار ، وإذا ثبت محبوبیّته ثبت وجوبه شرعاً ، لعدم الفصل ، وعقلاً لوجوبه مع وجود ما یقتضیه ، وعدم حسنه ، بل عدم إمکانه بدونه.
ثانیها : إنّه لما وجب الإنذار لکونه غایة للنفر الواجب ، کما هو قضیة کلمة ( لولا ) التحضیضیة ، وجب التحذر ، وإلاّ لغا وجوبه.
ثالثها : إنّه جعل غایة للإنذار الواجب ، وغایة الواجب واجب.
ویشکل الوجه الأوّل ، بأن التحذر لرجاء إدراک الواقع وعدم الوقوع فی محذور مخالفته ، من فوت المصلحة أو الوقوع فی المفسدة ، حسن ، ولیس بواجب فیما لم یکن هناک حجة على التکلیف ، ولم یثبت ها هنا عدم الفصل ، غایته عدم
__________________
1 ـ التوبة : 122.
القول بالفصل.
والوجه الثّانی والثالث بعدم انحصار فائدة الانذار ب [ إیجاب ] (1) التحذر تعبداً ، لعدم إطلاق یقتضی وجوبه على الإِطلاق ، ضرورة أن الآیة مسوقة لبیان وجوب النفر ، لا لبیان غایتیة التحذر ، ولعل وجوبه کان مشروطاً بما إذا أفاد العلم لو لم نقل بکونه مشروطاً به ، فإن النفر إنّما یکون لأجل التفقه وتعلم معالم الدین ، ومعرفة ما جاء به سید المرسلین 9 ، کی ینذروا بها المتخلفین أو النافرین ، على الوجهین فی تفسیر الآیة ، لکی یحذروا إذا أنذروا بها ، وقضیته إنّما هو وجوب الحذر عند إحراز أن الإنذار بها ، کما لا یخفى.
ثم إنّه أشکل أیضاً ، بأن الآیة لو سلّم دلالتها على وجوب الحذر مطلقاً فلا دلالة لها على حجیة الخبر بما هو خبر ، حیث إنّه لیس شأن الراوی إلّا الإخبار بما تحمله ، لا التخویف والإنذار ، وإنما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلد.
قلت : لا یذهب علیک إنّه لیس حال الرواة فی الصدر الأوّل فی نقل ما تحملوا من النبی ( صلّى الله علیه وعلى أهل بیته الکرام ) أو الإمام 7 من الأحکام إلى الأنام ، إلّا کحال نقلة الفتاوى إلى العوام ؛ ولا شبهة فی إنّه یصحّ منهم التخویف فی مقام الإبلاغ والإنذار والتحذیر بالبلاغ ، فکذا من الرواة ، فالآیة لو فرض دلالتها على حجیة نقل الراوی إذا کان مع التخویف ، کان نقله حجة بدونه أیضاً ، لعدم الفصل بینهما جزماً ، فافهم.
ومنها : آیة الکتمان ، ( إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا ) (2) الآیة.
وتقریب الاستدلال بها : إن حرمة الکتمان تستلزم وجوب (3) القبول عقلاً ،
__________________
1 ـ اثبتناها من « ب ».
2 ـ البقرة : 159.
3 ـ أثبتناها من « أ ».
للزوم لغویته بدونه ، ولا یخفى إنّه لو سلمت هذه الملازمة لا مجال (1) للایراد على هذه الآیة بما أورد على آیة النفر ، من دعوى الإِهمال أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم ، فإنّها تنافیهما ، کما لا یخفى ، لکنها ممنوعة ، فإن اللغویة غیر لازمة ، لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبداً ، وإمکان أن تکون حرمة الکتمان لأجل وضوح الحق بسبب کثرة من أفشاه وبینه ، لئلا یکون للناس على الله حجة ، بل کان له علهیم الحجة البالغة.
ومنها : آیة السؤال عن أهل الذکر ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِن کُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (2). وتقریب الاستدلال بها ما فی آیة الکتمان.
وفیه : إن الظاهر منها إیجاب السؤال لتحصیل العلم ، لا للتعبد بالجواب.
وقد أورد (3) علیها : بإنّه لو سلّم دلالتها على التعبد بما أجاب أهل الذکر ، فلا دلالة لها على التعبد بما یروی الراوی ، فإنّه بما هو راو لا یکون من أهل الذکر والعلم ، فالمناسب إنّما هو الاستدلال بها على حجیة الفتوى لا الروایة.
وفیه : إن کثیراً من الرواة یصدق علیهم إنّهم أهل الذکر والاطلاع على رأی الامام 7 کزرارة ومحمد بن مسلم ومثلهما ، ویصدق على السؤال عنهم إنّه السؤال عن [ أهل ] (4) الذکر والعلم ، ولو کان السائل من أضرابهم ، فإذا وجب قبول روایتهم فی مقام الجواب بمقتضى هذه الآیة ، وجب قبول روایتهم وروایة غیرهم من العدول مطلقاً ، لعدم الفصل جزماً فی وجوب القبول بین المبتدأ والمسبوق بالسؤال ، ولا بین أضراب زرارة وغیرهم ممن لا یکون من أهل
__________________
1 ـ دفع لما أورده الشیخ ـ من الاشکالین الأولین فی آیة النفر ـ على الاستدلال بهذه الآیة ، فرائد الأصول / 81.
2 ـ النحل : 43 ، الأنبیاء : 7.
3 ـ هذا هو الایراد الثالث للشیخ على الاستدلال بالآیة ، فرائد الأصول / 82.
4 ـ أثبتناها من « ب ».
الذکر ، وإنما یروی ما سمعه أو رآه ، فافهم.
ومنها : آیة الأذن ( وَمِنْهُمُ الَّذِینَ یُؤْذُونَ النَّبِیَّ وَیَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَیْرٍ لَّکُمْ یُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَیُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ ) (1) فإنّه تبارک وتعالى مدح نبیه بإنّه یصدق المؤمنین ، وقرنه بتصدیقه تعالى.
وفیه : أوّلاً : إنّه إنّما مدحه بإنّه أذن ، وهو سریع القطع ، لا الآخذُ بقول الغیر تعبدا.
وثانیاً : إنّه إنّما المراد بتصدیقه للمؤمنین ، هو ترتیب خصوص الآثار التی تنفعهم ولا تضر غیرهم ، لا التصدیق بترتیب جمیع الآثار ، کما هو المطلوب فی باب حجیة الخبر ، ویظهر ذلک من تصدیقه للنمّام بإنّه ما نمّه ، وتصدیقه لله تعالى بإنّه نمّه ، کما هو المراد من التصدیق فی قوله 7 : ( فصدقه وکذبهم ) ، حیث قال ـ على ما فی الخبر (2) ـ : ( یا محمد (3) کذب سمعک وبصرک عن أخیک : فإن شهد عندک خمسون قسامة إنّه قال قولاً ، وقال : لم أقله ، فصدّقه وکذّبهم ) فیکون مراده تصدیقه بما ینفعه ولا یضرّهم ، وتکذیبهم فیما یضرّه ولا ینفعهم ، وإلاّ فکیف یحکم بتصدیق الواحد وتکذیب خمسین؟ وهکذا المراد بتصدیق المؤمنین فی قصة إسماعیل (4) ، فتأمل جیداً.
فصل
فی الأخبار التی دلت على اعتبارٍ أخبار الآحاد.
وهی وأنّ کانت طوائف کثیرة ، کما یظهر من مراجعة الوسائل (5) وغیرها ،
__________________
1 ـ التوبة : 61.
2 ـ عقاب الأعمال / 295 ، الحدیث 1 ، الکافی 8 / 147 ، الحدیث 125.
3 ـ فی « أ و ب » : یا أبا محمد والصحیح ما أثبتناه ، لإنّه خطاب لمحمد بن فضیل المکنى بأبی جعفر.
4 ـ الکافی 5 / 299 ، باب حفظ المال وکراهة الاضاعة من کتاب المعیشة ، الحدیث 1.
5 ـ الوسائل 18 : 72 الباب 8 من أبواب صفات القاضی والباب 9 ، الحدیث 5 والباب 11 ،
إلا إنّه یشکل الاستدلال بها على حجیة أخبار الآحاد بإنّها أخبار آحاد ، فإنّها غیر متفقة على لفظ ولا على معنى ، فتکون متواترة لفظاً أو معنى.
ولکنه مندفع بإنّها وأنّ کانت کذلک ، إلّا إنّها متواترة إجمالاً ، ضرورة إنّه یعلم إجمالاً بصدور بعضها منهم : ، وقضیته وأنّ کان حجیة خبر دلّ على حجیته أخصها مضموناً (1) إلّا إنّه یتعدى عنه فیما إذا کان بینها ما کان بهذه الخصوصیة ، وقد دلّ على حجیة ما کان أعم ، فافهم.
فصل
فی الاجماع على حجیة الخبر.
وتقریره من وجوه :
أحدها : دعوى الإجماع من تتبع فتاوى الأصحاب على الحجیة من زماننا إلى زمان الشیخ ، فیکشف رضاه 7 بذلک ، ویقطع به ، أو من تتبع الإجماعات المنقولة على الحجیة.
ولا یخفى مجازفة هذه الدعوى ؛ لاختلاف الفتاوى فیما أخذ فی اعتباره من الخصوصیات ، ومعه لا مجال لتحصیل القطع برضاه 7 من تتبعها ، وهکذا حال تتبع الإجماعات المنقولة ، اللهم إلّا أن یَّدعى تواطؤها على الحجیة فی الجملة ، وإنما الاختلاف فی الخصوصیات المعتبرة فیها ، ولکن دون إثباته خرط القتاد.
ثانیها : دعوى اتفاق العلماء عملاً ـ بل کافة المسلمین ـ على العمل بخبر الواحد فی أُمورهم الشرعیة ، کما یظهر من أخذ فتاوى المجتهدین من الناقلین لها.
__________________
الحدیث 4 و 40.
1 ـ فی الحقائق 2 : 132 ، وأنّ کان حجیة خبر أخصها مضموناً ... الخ.
وفیه : مضافاً إلى ما عرفت مما یرد على الوجه الأوّل ، إنّه لو سلّم اتفاقهم على ذلک ، لم یحرز أنّهم اتفقوا بما همّ مسلمون ومتدیّنون بهذا الدین ، أو بما همّ عقلاًء ولو لم یلتزموا بدین ، کما هو لا یزالون یعملون بها فی غیر الأمور الدینیة من الأمور العادیة ، فیرجع إلى ثالث الوجوه ، وهو دعوى استقرار سیرة العقلاء من ذوی الادیان وغیرهم على العمل بخبر الثقة ، واستمرت إلى زماننا ، ولم یردع عنه نبی ولا وصیّ نبی ، ضرورة إنّه لو کان لاشتهر وبان ، ومن الواضح إنّه یکشف عن رضا الشارع به فی الشرعیات أیضاً.
إن قلت : یکفی فی الردع الآیات الناهیة ، والروایات المانعة عن اتباع غیر العلم ، وناهیک قوله تعالى : ( ولا تقف ما لیس لک به علم ) (1) ، وقوله تعالى : ( وأنّ الظَّنَّ لَا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شیئاً ) (2).
قلت : لا یکاد یکفی تلک الآیات فی ذلک ، فإنّه ـ مضافاً إلى إنّها وردت إرشاداً إلى عدم کفایة الظن فی أُصول الدین ، ولو سلّم فإنما المتیقن لو لا إنّه المنصرف إلیه إطلاقها هو خصوص الظن الذی لم یقم على اعتباره حجة ـ لا یکاد یکون الردع بها إلّا على وجه دائر ، وذلک لأن الردع بها یتوقف على عدم تخصیص عمومها ، أو تقیید إطلاقها بالسیرة على اعتبارٍ خبر الثقة ، وهو یتوقف على الردع عنها بها ، وإلاّ لکانت مخصصة أو مقیدة لها ، کما لا یخفى.
لا یقال : على هذا لا یکون اعتبارٍ خبر الثقة بالسیرة أیضاً ، إلّا على وجه دائر ، فإنّ اعتباره بها فعلاً یتوقف على عدم الردع بها عنها ، وهو یتوقف على تخصیصها بها ، وهو یتوقف على عدم الردع بها عنها.
فإنّه یقال : إنّما یکفی فی حجیته بها عدم ثبوت الردع عنها ، لعدم نهوض ما یصلح لردعها ، کما یکفی فی تخصیصها لها ذلک ، کما لا یخفى ، ضرورة أن ما
__________________
1 ـ الاسراء : 36.
2 ـ النجم : 28.
جرت علیه السیرة المستمرة فی مقام الإطاعة والمعصیة ، وفی استحقاق العقوبة بالمخالفة ، وعدم استحقاقها مع الموافقة ، ولو فی صورة المخالفة عن الواقع (1) ، یکون عقلاً فی الشرع متّبعاً ما لم ینهض دلیل على المنع عن اتباعه فی الشرعیات ، فافهم وتأملّ (2).
فصل
فی الوجوه العقلیة التی أقیمت على حجیة الخبر الواحد.
أحدها : إنّه یعلم إجمالاً بصدور کثیر مما بأیدینا من الأخبار من الأئمة الأطهار : بمقدار وافٍ بمعظم الفقه ، بحیث لو علم تفصیلاً ذاک المقدار لا نحل علمنا الإِجمالی بثبوت التکالیف بین الروایات وسائر الأمارات إلى
__________________
1 ـ لعل الانسب : المخالفة للواقع.
2 ـ قولنا : ( فافهم وتأملّ ) إشارة إلى کون خبر الثقة متبعاً ، ولو قیل بسقوط کلّ من السیرة والإِطلاق عن الاعتبار ، بسبب دوران الأمر بین ردعها به وتقییده بها ، وذلک لأجل استصحاب حجّیته الثابتة قبل نزول الآیتین.
فان قلت : لا مجال لاحتمال التقیید بها ، فإن دلیل اعتبارها مغیىّ بعدم الردع به عنها ، ومعه لا تکون صالحة لتقیید الإِطلاق مع صلاحیته للردع عنها ، کما لا یخفى.
قلت : الدلیل لیس إلّا إمضاءً الشارع لها ورضاه بها ، المستکشف بعدم الردع عنها فی زمان مع إمکانه ، وهو غیر مغیى ، نعم یمکن أن یکون له واقعاً ، وفی علمه تعالى أمد خاص ، کحکمه الابتدائی ، حیث إنّه ربما یکون له أمر فینسخ ، فالردع فی الحکم الامضائی لیس إلّا کالنسخ فی الابتدائی وذلک غیر کونه بحسب الدلیل مغیاً ، کما لا یخفى.
وبالجملة : لیس حال السیرة مع الآیات الناهیة إلّا کحال الخاص المقدّم ، والعام المؤخر ، فی دوران الأمر بین التخصیص بالخاص ، أو النسخ بالعام ، ففیهما یدور الأمر أیضاً بین التخصیص بالسیرة أو الردع بالآیات فافهم منه ( 1 ).
العلم التفصیلی بالتکالیف فی مضامین الأخبار الصادرة المعلومة تفصیلاً ، والشک البدوی فی ثبوت التکلیف فی مورد سائر الأمارات الغیر المعتبرة ، ولازم ذلک لزوم العمل على وفق جمیع الأخبار المثبتة ، وجواز العمل على طبق النافی منها فیما إذا لم یکن فی المسألة أصل مثبت له ، من قاعدة الإِشتغال أو الاستصحاب ، بناءً على جریإنّه فی أطراف [ ما ] (1) علم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة فی بعضها ، أو قیام أمارة معتبرة على انتقاضها فیه ، وإلاّ لاختص عدم جواز العمل على وفق النافی بما إذا کان على خلاف قاعدة الاشتغال.
وفیه : إنّه لا یکاد ینهض على حجیة الخبر ، بحیث یقدم تخصیصاً أو تقییداً أو ترجیحاً على غیره ، من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم ، وأنّ کان یسلم عما أورد علیه (2) من أن لازمه الاحتیاط فی سائر الأمارات ، لا فی خصوص الروایات ، لما عرفت من انحلال العلم الإِجمالی بینهما بما علم بین الأخبار بالخصوص ولو بالإِجمال فتأمل جیّداً.
ثانیها : ما ذکره فی الوافیة (3) ، مستدلّاً على حجیة الإخبار الموجودة فی الکتب المعتمدة للشیعة ، کالکتب الأربعة ، مع عمل جمع به من غیر ردّ ظاهر ، وهو :
( إنا نقطع ببقاء التکلیف إلى یوم القیامة ، سیما بالأُصول الضروریة ، کالصلاة والزکاة والصوم والحج والمتاجر والأنکحة ونحوها ، مع أن جل أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما یثبت بالخبر الغیر القطعی ، بحیث نقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن کونها هذه الأمور عند ترک العمل بخبر الواحد ، ومن أنکر فإنما ینکره باللسان وقلبه مطمئن بالإِیمان ). انتهى.
وأُورد (4) علیه : أولاً : بأن العلم الإِجمالی حاصل بوجود الإِجزاء والشرائط
__________________
1 ـ الزیادة من « ب ».
2 ـ أورده الشیخ على الوجه الأوّل بتقریره فلیلاحظ ، فرائد الأصول / 103.
3 ـ الوافیة / 57.
4 ـ إشارة إلى ما أورده الشیخ ( قده ) ، فرائد الأُصول / 105 ، فی جوابه عن التقریر الثّانی من
بین جمیع الأخبار ، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذکره ، فاللازم حینئذ : امّا الاحتیاط ، أو العمل بکل ما دلّ على جزئیة شیء أو شرطیته (1).
قلت : یمکن أن یقال : إن العلم الإِجمالی وأنّ کان حاصلاً بین جمیع الأخبار ، إلّا أن العلم بوجود الإخبار الصادرة عنهم : بقدر الکفایة بین تلک الطائفة ، أو العلم باعتبار طائفة کذلک بینها ، یوجب انحلال ذاک العلم الإِجمالی ، وصیرورة غیره خارجةً عن طرف العلم ، کما مرت إلیه الإِشارة فی تقریب الوجه الأوّل ، اللهم إلّا أن یمنع عن ذلک ، وادعی (2) عدم الکفایة فیما علم بصدوره أو اعتباره ، أو ادعی (3) العلم بصدور أخبار أخر بین غیرها ، فتأمل.
وثانیاً : بأن قضیته إنّما هو العمل بالإخبار المثبتة للجزئیة أو الشرطیّة ، دون الأخبار النافیة لهما.
والأولى أن یورد علیه : بأن قضیته إنّما هو الاحتیاط بالأخبار المثبتة فیما لم تقم حجة معتبرة على نفیهما ، من عموم دلیل أو إطلاقه ، لا الحجیة بحیث یخصص أو یقید بالمثبت منهما ، أو یعمل بالنافی فی قبال حجة على الثبوت ولو کان أصلاً ، کما لا یخفى.
ثالثها : ما أفاده بعضٍ المحققین (4) بما ملخصه : إنا نعلم بکوننا مکلفین بالرجوع إلى الکتاب والسنة إلى یوم القیامة ، فإن تمکنا من الرجوع إلیهما على نحو یحصل العلم بالحکم أو ما بحکمه ، فلابد من الرجوع إلیهما کذلک ، وإلاّ فلا
__________________
دلیل العقل.
1 ـ کذا فی النسختین ، والموجود فی الرسائل : ( فاللازم حینئذٍ امّا الاحتیاط ، والعمل بکل خبر دلّ على جزئیة شیء أو شرطیته ، وإما العمل بکل خبر ظن صدوره مما دلّ على الجزئیة أو الشرطیّة ) ، راجع فرائد الأصول / 105.
2 و 3 ـ الأولى فی الموردین : یدعى.
4 ـ هو العلّامة الشیخ محمد تقی الاصفهانی فی هدایة المسترشدین / 397 ، السادس من وجوه حجیة الخبر.
محیص عن الرجوع على نحو یحصل الظن به فی الخروج عن عهدة هذا التکلیف ، فلو لم یتمکن من القطع بالصدور أو الاعتبار ، فلابد من التنزل إلى الظن بأحدهما.
وفیه : إن قضیة بقاء التکلیف فعلاً بالرجوع إلى الأخبار الحاکیة للسنة ـ کما صرح بإنّها المراد منها فی ذیل کلامه ، زید فی علو مقامه ـ إنّما هی الاقتصار فی الرجوع إلى الأخبار المتیقن الاعتبار ، فإن وفى ، وإلاّ أضیف إلیه الرجوع إلى ما هو المتیقن اعتباره بالإضافة لو کان ، وإلاّ فالاحتیاط بنحو عرفت ، لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره ، وذلک للتمکن من الرجوع علماً تفصیلاً أو إجمالاً ، فلا وجه معه من الاکتفاء بالرجوع إلى ما ظن اعتباره.
هذا مع أنّ مجال المنع عن ثبوت التکلیف بالرجوع إلى السنة ـ بذاک المعنى ـ فیما لم یعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع.
وأما الإیراد (1) علیه : برجوعه امّا إلى دلیل الانسداد لو کان ملاکه دعوى العلم الإِجمالی بتکالیف واقعیة ، وإما إلى الدلیل الأوّل ، لو کان ملاکه دعوى العلم بصدور أخبار کثیرة بین ما بأیدینا من الأخبار.
ففیه : إن ملاکه إنّما هو دعوى العلم بالتکلیف ، بالرجوع إلى الروایات فی الجملة إلى یوم القیامة ، فراجع تمام کلامه تعرف حقیقة مرامه.
__________________
1 ـ المستشکل علیه هو الشیخ ( قده ) ، فرائد الأصول / 106.
فصل
فی الوجوه (1) التی أقاموها على حجیة الظن ، وهی أربعة :
الأول : إن فی مخالفة المجتهد لما ظنه من الحکم الوجوبی أو التحریمی مظنة للضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم.
أما الصغرى ، فلان الظن بوجوب شیء أو حرمته یلازم الظن بالعقوبة على مخالفته أو الظن بالمفسدة فیها ، بناءً على تبعیة الأحکام للمصالح والمفاسد.
وأما الکبرى ، فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون ، ولو لم نقل بالتحسین والتقبیح (2) ، لوضوح عدم انحصار ملاک حکمه بهما ، بل یکون التزامه بدفع الضرر المظنون بل المحتمل بما هو کذلک ولو لم یستقل بالتحسین والتقبیح ، مثل الالتزام بفعل ما استقل بحسنه ، إذا قیل باستقلاله ، ولذا أطبق العقلاء علیه ، مع خلافهم فی استقلاله بالتحسین والتقبیح ، فتدبرّ جیداً.
والصواب فی الجواب : هو منع الصغرى ، امّا العقوبة فلضرورة عدم الملازمة بین الظن بالتکلیف والظن بالعقوبة على مخالفته ، لعدم الملازمة بینه والعقوبة على مخالفته ، وإنما الملازمة بین خصوص معصیته واستحقاق العقوبة علیها ، لا بین
__________________
1 ـ ذکر الشیخ ( قده ) هذه الوجوه أیضاً ، فرائد الأصول / 106.
2 ـ هذا ردّ على الحاجبی : العضدی فی شرحه ، شرح العضدی على مختصر الأصول : 1 / 163.
مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها ، وبمجرد (1) الظن به بدون دلیل على اعتباره لا یتنجز به ، کی یکون مخالفته عصیإنّه.
إلا أن یقال : إن العقل وأنّ لم یستقل بتنجزه بمجرده ، بحیث یحکم باستحقاق العقوبة على مخالفته ، إلّا إنّه لا یستقل أیضاً بعدم استحقاقها معه ، فیحتمل العقوبة حینئذ على المخالفة ، ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشکوک کالمظنون قریبة جداً ، لا سیما إذا کان هو العقوبة الأُخرویة ، کما لا یخفى.
وأما المفسدة فلأنّها وأنّ کان الظن بالتکلیف یوجب الظن بالوقوع فیها لو خالفه ، إلّا إنّها لیست بضرر على کلّ حال ، ضرورة أن کلّ ما یوجب قبح الفعل من المفاسد لا یلزم أن یکون من الضرر على فاعله ، بل ربما یوجب حزازة ومنقصة فی الفعل ، بحیث یذم علیه فاعله بلا ضرر علیه أصلاً ، کما لا یخفى.
وأما تفویت المصلحة ، فلا شبهة فی إنّه لیس فیه مضرة ، بل ربما یکون فی استیفائها المضرة ، کما فی الإحسان بالمال. هذا.
مع منع کون الأحکام تابعة للمصالح والمفاسد فی المأمور به (2) والمنهی عنه (3) ، بل إنّما هی تابعة لمصالح فیها ، کما حققناه فی بعضٍ فوائدنا (4).
وبالجملة : لیست المفسدة ولا المنفعة الفائتة اللتان فی الأفعال وأنیط بهما الأحکام بمضرة ، ولیس مناط حکم العقل بقبح ما فیه المفسدة أو حسن ما فیه المصلحة من الأفعال على القول باستقلاله بذلک ، هو کونه ذا ضرر وارد على فاعله أو نفع عائد إلیه ، ولعمری هذا أوضح من أن یخفى ، فلا مجال لقاعدة رفع
__________________
1 ـ فی « ب » : ومجرد.
2 و 3 ـ أنث الضمیر فی النسخ ، والصواب ما أثبتناه.
4 ـ الفوائد : 337 ، فائدة فی اقتضاء الأفعال للمدح والذم ، عند قوله : فیمکن أن یکون صوریة ... ویمکن أن یکون حقیقیة. وراجع ما ذکره فی حاشیته على الرسائل : 76 ، عند قوله : مع احتمال عدم کون الأحکام تابعة لهما ، بل تابعة لما فی انفسهما من المصلحة ... الخ.
الضرر المظنون ها هنا أصلاً ، ولا استقلال للعقل بقبح فعل ما فیه احتمال المفسدة أو ترک ما فیه احتمال المصلحة ، فافهم.
الثانی : إنّه لو لم یؤخذ بالظن لزم ترجیح المرجوح على الراجح وهو قبیح.
وفیه : إنّه لا یکاد یلزم منه ذلک إلّا فیما إذا کان الأخذ بالظن أو بطرفه لازماً ، مع عدم إمکان الجمع بینهما عقلاً ، أو عدم وجوبه شرعاً ، لیدور الأمر بین ترجیحه وترجیح طرفه ، ولا یکاد یدور الأمر بینهما إلّا بمقدمات دلیل الانسداد ، وإلاّ کان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلمی أو الاحتیاط أو البراءة أو غیرهما على حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال فی اختلاف المقدّمات ، على ما ستطلع على حقیقة الحال.
الثالث : ما عن السید الطباطبائی (1) 1 ، من :
إنّه لا ریب فی وجود واجبات ومحرمات کثیرة بین المشتبهات ، ومقتضى ذلک وجوب الاحتیاط بالإتیان بکل ما یحتمل الوجوب ولو موهوماً ، وترک ما یحتمل الحرمة کذلک ، ولکن مقتضى قاعدة نفی الحرج عدم وجوب ذلک کله ، لإنّه عسر أکید وحرج شدید ، فمقتضى الجمع بین قاعدتی الاحتیاط وانتفاء الحرج العمل بالاحتیاط فی المظنونات دون المشکوکات والموهومات ، لأن الجمع على غیر هذا الوجه بإخراج بعضٍ المظنونات وإدخال بعضٍ المشکوکات والموهومات باطل
__________________
1 ـ هو السید علی بن السید محمد علی الطباطبائی الحائری ، ولد فی الکاظمیة عام 1161 ه اشتغل على ولد الأستاذ العلّامة ثم اشتغل عند خاله الأستاذ العلامة « وحید البهبهانی » وبعد مدة قلیلة اشتغل بالتصنیف والتدریس والتألیف ، له شرحان معروفان على النافع کبیر موسوم ب « ریاض المسائل » وصغیر وغیرهما ، ونقل عنه أیضاً إنّه کان یحضر درس صاحب الحدائق ، وکتب جمیع مجلدات الحدائق بخطه الشریف ، تخرّج علیه صاحب المقابس وصاحب المطالع وصاحب مفتاح الکرامة وشریف العلماء وأمثالهم من الأجلة. توفی سنة 1231 ه ودفن قریبا من قبر خاله العلامة ( روضات الجنات 4 / 399 الرقم 422 ).
إجماعاً (1).
ولا یخفى ما فیه من القدح والفساد ، فإنّه بعضٍ مقدمات دلیل الانسداد ، ولا یکاد ینتج بدون سائر مقدماته ، ومعه لا یکون دلیل آخر ، بل ذاک الدلیل.
الرابع : دلیل الانسداد ، وهو مؤلف من مقدمات ، یستقل العقل مع تحققها بکفایة الإطاعة الظنیة حکومة أو کشفاً على ما تعرف ، ولا یکاد یستقل بها بدونها ، وهی خمس (2).
أولها : إنّه یعلم إجمالاً بثبوت تکالیف کثیرة فعلیة فی الشریعة.
ثانیها : إنّه قد انسد علینا باب العلم والعلمی إلى کثیر منها.
ثالثها : إنّه لا یجوز لنا إهمالها وعدم التعرض لامتثالها أصلاً.
رابعها : إنّه لا یجب علینا الاحتیاط فی أطراف علمنا ، بل لا یجوز فی الجملة ، کما لا یجوز الرجوع إلى الأصل فی المسألة ، من استصحاب وتخییر وبراءة واحتیاط ، ولا إلى فتوى العالم بحکمها.
خامسها : إنّه کان ترجیح المرجوح على الراجح قبیحاً.
فیستقل العقل حینئذٍ بلزوم الإطاعة الظنیة لتلک التکالیف المعلومة ، و إلّا لزم ـ بعد انسداد باب العلم والعلمی بها ـ امّا إهمالها ، وإما لزوم الاحتیاط فی أطرافها ، وإما الرجوع إلى الأصل الجاری فی کلّ مسألة ، مع قطع النظر عن العلم بها ، أو التقلید فیها ، أو الاکتفاء بالاطاعة الشکیة أو الوهمیة مع التمکن من الظنیة.
__________________
1 ـ حکى هذا القول الشیخ الانصاری 1 فی فرائد الأصول / 111 ، نقلاً عن أستاذه شریف العلماء عن أستاذه السید الاجل الاقا میرزا سید علی الطباطبائی 1 « صاحب الریاض » فی مجلس المذاکرة ، کما صرح بذلک العلامة المرحوم المیرزا محمد حسن الاشتیانی 1 راجع بحر الفوائد 189.
2 ـ الصواب ما أثبتناه وفی النسخ : خمسة.
والفرض بطلان کلّ واحد منها.
أما المقدمة الأولى : فهی وأنّ کانت بدیهیة إلّا إنّه قد عرفت انحلال العلم الإِجمالی بما فی الإخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرین : التی تکون فیما بأیدینا ، من الروایات فی الکتب المعتبرة ، ومعه لا موجب للاحتیاط إلّا فی خصوص ما فی الروایات ، وهو غیر مستلزم للعسر فضلاً عما یوجب الاختلال ، ولا إجماع على عدم وجوبه ، ولو سلّم الإجماع على عدم وجوبه لو لم یکن هناک انحلال.
وأما المقدمة الثانیة : امّا بالنسبة إلى العلم ، فهی بالنسبة إلى أمثال زماننا بیّنة وجدانیة ، یعرف الانسداد کلّ من تعرض للاستنباط والاجتهاد.
وأما بالنسبة إلى العلمی ، فالظاهر إنّها غیر ثابتة ، لما عرفت من نهوض الأدلة على حجیة خبر یوثق بصدقه ، وهو بحمد الله وافٍ بمعظم الفقه ، لا سیما بضمیمة ما علم تفصیلاً منها ، کما لا یخفى.
وأما الثالثة : فهی قطعیة ، ولو لم نقل بکون العلم الإِجمالی منجّزاً مطلقاً أو فیما جاز ، أو وجب الاقتحام فی بعضٍ أطرافه ، کما فی المقام حسب ما یأتی ، وذلک لأن إهمال معظم الأحکام وعدم الاجتناب کثیراً عن الحرام ، مما یقطع بإنّه مرغوب عنه شرعاً ومما یلزم ترکه إجماعاً.
إن قلت : إذا لم یکن العلم بها منجّزاً لها للزوم الاقتحام فی بعضٍ الأطراف ـ کما أشیر إلیه ـ فهل کان العقاب على المخالفة فی سائر الأطراف ـ حینئذ ـ على تقدیر المصادفة إلّا عقاباً بلا بیان؟ والمؤاخذة علیها إلّا مؤاخذة بلا برهان؟!
قلت : هذا إنّما یلزم ، لو لم یعلم بإیجاب الاحتیاط ، وقد علم به بنحو اللّم ، حیث علم اهتمام الشارع بمراعاة تکالیفه ، بحیث ینافیه عدم إیجابه الاحتیاط الموجب للزوم المراعاة ، ولو کان بالالتزام ببعض المحتملات ، مع صحة دعوى الاجماع على عدم جواز الإِهمال فی هذا الحال ، وإنّه مرغوب عنه شرعاً قطعاً ، [ وأما
مع استکشافه ] (1) فلا یکون المؤاخذة والعقاب حینئذ بلا بیان وبلا برهان ، کما حققناه فی البحث وغیره.
وأما المقدمة الرابعة : فهی بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتیاط التام بلا کلام ، فیما یوجب عسره اختلال النظام ، وأما فیما لا یوجب ، فمحل نظر بل منع ، لعدم حکومة قاعدة نفی العسر والحرج على قاعدة الاحتیاط ، وذلک لما حققناه (2) فی معنى ما دلّ على نفی الضرر والعسر ، من أن التوفیق بین دلیلهما ودلیل التکلیف أو الوضع المتعلقین بما یعمهما ، هو نفیهما عنهما بلسان نفیهما ، فلا یکون له حکومة على الاحتیاط العسر إذا کان بحکم العقل ، لعدم العسر فی متعلق التکلیف ، وإنما هو فی الجمع بین محتملاته احتیاطاً.
نعم ، لو کان معناه نفی الحکم الناشىء من قبله العسر ـ کما قیل (3) ـ لکانت قاعدة نفیه محکمة على قاعدة الاحتیاط ، لأن العسر حینئذ یکون من قبل التکالیف المجهولة ، فتکون منفیة بنفیه.
ولا یخفى إنّه على هذا لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتیاط فی بعضٍ الأطراف بعد رفع الید عن الاحتیاط فی تمامها ، بل لابد من دعوى وجوبه شرعاً ، کما أشرنا إلیه فی بیان المقدمة الثالثة ، فافهم وتأمل جیّداً.
وأما الرجوع إلى الأُصول ، فبالنسبة إلى الأُصول المثبتة من احتیاط أو استصحاب مثبت للتکلیف ، فلا مانع عن إجرائها عقلاً مع حکم العقل وعموم النقل. هذا ، ولو قیل بعدم جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإِجمالی ،
__________________
1 ـ هکذا فی « أ » وشطب علیها فی « ب ».
2 ـ تعرض المصنف لقاعدة لا ضرر فی ص 72 ( الکتاب ) فلیراجع عند قوله أن الظاهر أن یکون لا لنفی الحقیقة ادعاءً .. وقوله بعد أسطر ثم الحکم الذی أُرید نفیه بنفی الضرر ... الخ.
3 ـ القائل هو الشیخ الأنصاری 1 انظر ، فرائد الأصول / 314 ورسالة قاعدة نفی الضرر فی مکاسبه ، المکاسب / 372.
لاستلزام شمول دلیله لها التناقض فی مدلوله ، بداهة تناقض حرمة النقض فی کلّ منها بمقتضى ( لا تنقض ) لوجوبه فی البعض ، کما هو قضیة ( ولکن تنقضه بیقین آخر ) وذلک لإنّه إنّما یلزم فیما إذا کان الشک فی أطرافه فعلیاً. وأما إذا لم یکن کذلک ، بل لم یکن الشک فعلاً إلّا فی بعضٍ أطرافه ، وکان بعضٍ أطرافه الآخر غیر ملتفت إلیه فعلاً أصلاً ، کما هو حال المجتهد فی مقام استنباط الأحکام ، کما لا یخفى ، فلا یکاد یلزم ذلک ، فإن قضیة ( لا تنقض ) لیس حینئذٍ إلّا حرمة النقض فی خصوص الطرف المشکوک ، ولیس فیه علم بالانتقاض کی یلزم التناقض فی مدلول دلیله من شموله له ، فافهم.
ومنه قد انقدح ثبوت حکم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الأصول النافیة أیضاً ، وإنّه لا یلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدلیل لها لو لم یکن هناک مانع عقلاً أو شرعاً من إجرائها ، ولا مانع کذلک لو کانت موارد الأصول المثبتة بضمیمة ما علم تفصیلا ، أو نهض علیه علمی بمقدار المعلوم إجمالاً ، بل بمقدار لم یکن معه مجال لاستکشاف إیجاب الاحتیاط ، وأنّ لم یکن بذاک المقدار ، ومن الواضح إنّه یختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.
وقد ظهر بذلک أن العلم الإِجمالی بالتکالیف ربما ینحل ببرکة جریان الأُصول المثبتة وتلک الضمیمة ، فلا موجب حینئذ للاحتیاط عقلاً ولا شرعاً أصلاً ، کما لا یخفى.
کما ظهر إنّه لو لم ینحل بذلک ، کان خصوص موارد أصول النافیة مطلقاً ـ ولو من مظنونات [ عدم ] (1) التکلیف ـ محلاً للاحتیاط فعلاً ، ویرفع الید عنه فیها کلاً أو بعضا ، بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر ـ على ما عرفت ـ لا محتملات التکلیف مطلقاً.
__________________
1 ـ أثبتناها من « ب ».
وأما الرجوع إلى فتوى العالم فلا یکاد یجوز ، ضرورة إنّه لا یجوز إلّا للجاهل لا للفاضل الذی یرى خطأ من یدعی انفتاح باب العلم أو العلمی ، فهل یکون رجوعه إلیه بنظره إلّا من قبیل رجوع الفاضل إلى الجاهل؟
وأما المقدمة الخامسة : فلاستقلال العقل بها ، وإنّه لا یجوز التنزل ـ بعد عدم التمکن من الإطاعة العلمیة أو عدم وجوبها ـ إلّا إلى الإطاعة الظنیة دون الشکیة أو الوهمیة ، لبداهة مرجوحیتها بالإضافة إلیها ، وقبح ترجیح المرجوح على الراجح.
لکنک عرفت عدم وصول النوبة إلى الإطاعة الاحتمالیة ، مع دوران الأمر بین الظنیة والشکیة أو الوهمیة ، من جهة ما أوردناه على المقدمة الأولى من انحلال العلم الإِجمالی بما فی أخبار الکتب المعتبرة ، وقضیته الاحتیاط بالالتزام عملاً بما فیها من التکالیف ، ولا بأس به حیث لا یلزم منه عسر فضلاً عما یوجب اختلال النظام ؛ وما أوردنا على المقدمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الأُصول مطلقاً ، ولو کانت نافیة ، لوجود المقتضی وفقد المانع لو کان التکلیف فی موارد الأُصول المثبتة وما علم منه تفصیلاً ، أو نهض علیه دلیل معتبر بمقدار المعلوم بالإِجمال ، و إلّا فإلى الأصول المثبتة وحدها ، وحینئذ کان خصوص موارد الأصول النافیة محلاً لحکومة العقل ، وترجیح مظنونات التکلیف فیها على غیرها ، ولو بعد استکشاف وجوب الاحتیاط فی الجملة شرعاً ، بعد عدم وجوب الاحتیاط التام شرعاً أو عقلاً ـ على ما عرفت تفصیله ـ هذا هو التحقیق على ما یساعد علیه النظر الدقیق ، فافهم وتدبر جیداً.
فصل
هل قضیة المقدّمات على تقدیر سلامتها هی حجیة الظن بالواقع ، أو بالطریق ، أو بهما؟ أقوال.
والتحقیق أن یقال : إنّه لا شبهة فی أن همّ العقل فی کلّ حال إنّما هو
تحصیل الامن من تبعة التکالیف المعلومة ، من العقوبة على مخالفتها ، کما لا شبهة فی استقلاله فی تعیین ما هو المؤمّن منها ، وفی أن کلما کان القطع به مؤمّناً فی حال الانفتاح کان الظن به مؤمّناً حال الانسداد جزماً ، وأنّ المؤمّن فی حال الانفتاح هو القطع بإتیان المکلف به الواقعی بما هو کذلک ، لا بما هو معلوم ومؤدى الطریق ومتعلق العلم ، وهو طریق شرعاً وعقلاً ، أو بإتیإنّه الجعلی ؛ وذلک لأن العقل قد استقل بأن الإِتیان بالمکلف به الحقیقی بما هو هو ، لا بما هو مؤدى الطریق مبریء للذمة قطعاً ، کیف؟ وقد عرفت أن القطع بنفسه طریق لا یکاد تناله ید الجعل إحداثاً وإمضاءً ، إثباتاً ونفیاً. ولا یخفى أن قضیة ذلک هو التنزل إلى الظن بکل واحد من الواقع والطریق.
ولا منشأ لتوهم الاختصاص بالظن بالواقع إلّا توهّم إنّه قضیة اختصاص المقدّمات بالفروع ، لعدم انسداد باب العلم فی الأُصول ، وعدم إلجاء فی التنزل إلى الظن فیها ، والغفلة عن أن جریإنّها فی الفروع موجب لکفایة الظن بالطریق فی مقام یحصل الأمن من عقوبة التکالیف ، وأنّ کان باب العلم فی غالب الأصول مفتوحاً ، وذلک لعدم التفاوت فی نظر العقل فی ذلک بین الظنین.
کما أن منشأ توهّم الاختصاص بالظن بالطریق وجهان :
أحدهما : ما أفاده بعضٍ الفحول (1) وتبعه فی الفصول (2) ، قال فیها :
إنا کما نقطع بأنا مکلفون فی زماننا هذا تکلیفا فعلیاً بأحکام فرعیة کثیرة ، لا سبیل لنا بحکم العیان وشهادة الوجدان إلى تحصیل کثیر منها بالقطع ، ولا بطریق معیّن یقطع من السمع بحکم الشارع بقیامه ، أو قیام طریقه مقام القطع ولو عند تعذره ، کذلک نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلک الأحکام طریقاً مخصوصاً ،
__________________
1 ـ هو العلامة المحقق الشیخ اسد الله الشوشتری ، کشف القناع عن وجوه حجیة الإجماع / 460.
2 ـ الفصول / 277 ، مع اختلاف فی الالفاظ.
وکلفنا تکلیفاً فعلّیاً بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة ، وحیث إنّه لا سبیل غالباً إلى تعیینها بالقطع ، ولا بطریق یقطع من السمع بقیامه بالخصوص ، أو قیام طریقه کذلک مقام القطع ولو بعد تعذره ، فلا ریب أن الوظیفة فی مثل ذلک بحکم العقل إنّما هو الرجوع فی تعیین ذلک الطریق إلى الظن الفعلّی الذی لا دلیل على [ عدم ] (1) حجیته ، لإنّه أقرب إلى العلم ، وإلى إصابة الواقع مما عداه.
وفیه : أولاً ـ بعد تسلیم العلم بنصب طرق خاصة باقیة فیما بأیدینا من الطرق الغیر العلمیة ، وعدم وجود المتیقن بینها أصلاً ـ أن قضیة ذلک هو الاحتیاط فی أطراف هذه الطرق المعلومة بالإِجمال لا تعیینها بالظن.
لا یقال (2) : الفرض هو عدم وجوب الاحتیاط ، بل عدم جوازه ، لأنّ الفرض إنّما هو عدم وجوب الاحتیاط التام فی أطراف الأحکام ، مما یوجب العسر المخل بالنظام ، لا الاحتیاط فی خصوص ما بأیدینا من الطرق. فإن قضیة هذا الاحتیاط هو جواز رفع الید عنه فی غیر مواردها ، والرجوع إلى الأصل فیها ولو کان نافیاً للتکلیف ، وکذا فیما إذا نهض الکلّ على نفیه ، وکذا فیما إذا تعارض فردان من بعضٍ الأطراف فیه نفیاً وإثباتاً مع ثبوت المرجح للنافی ، بل مع عدم رجحان المثبت فی خصوص الخبر منها ، ومطلقاً فی غیره بناءً على عدم ثبوت الترجیح على تقدیر الاعتبار فی غیر الأخبار ، وکذا لو تعارض إثنان منها فی الوجوب والتحریم ، فإن المرجع فی جمیع ما ذکر من موارد التعارض هو الأصل الجاری فیها ولو کان نافیاً ، لعدم نهوض طریق معتبر ولا ما هو من أطراف العلم به على خلافه ، فافهم.
وکذا کلّ مورد لم یجر فیه الأصل المثبت ، للعمل بانتقاض الحالة السابقة فیه
__________________
1 ـ أثبتنا الزیادة من الفصول.
2 ـ إیراد ذکره الشیخ 1 وأمر بالتأمل فیه ، فرائد الأصول / 132 ، عند قوله : أللهم إلّا أن یقال إنّه یلزم الحرج ... الخ.
إجمالاً بسبب العلم به ، أو بقیام أمارة معتبرة علیه فی بعضٍ أطرافه ، بناءً على عدم جریإنّه بذلک.
وثانیاً : لو سلّم أن قضیته (1) لزوم التنزّل إلى الظن ، فتوهّم أن الوظیفة حینئذ هو خصوص الظن بالطریق فاسد قطعاً ، وذلک لعدم کونه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع من الظن ، بکونه مؤدى طریق معتبر من دون الظن بحجیة طریق أصلاً ، ومن الظن بالواقع ، کما لا یخفى.
لا یقال : إنّما لا یکون أقرب من الظن بالواقع ، إذا لم یصرف التکلیف الفعلّی عنه إلى مؤدیّات الطرق ولو بنحو التقیید ، فإن الالتزام به بعید ، إذ الصرف لو لم یکن تصویبا محالاً ، فلا أقل من کونه مجمعاً على بطلإنّه ، ضرورة أنّ القطع بالواقع یجدی فی الإِجزاء بما هو واقع ، لا بما هو مؤدى طریق القطع ، کما عرفت.
ومن هنا انقدح أن التقیید أیضاً غیر سدید ، مع أن الالتزام بذلک غیر مفید ، فإن الظن بالواقع فیما ابتلی به من التکالیف لا یکاد ینفکّ عن الظن بإنّه مؤدى طریق معتبر ، والظن بالطریق ما لم یظن بإصابته (2) الواقع غیر مجد بناءً على التقیید ، لعدم استلزامه الظن بالواقع المقید به بدونه هذا.
مع عدم مساعدة نصب الطریق على الصرف ولا على التقیید ، غایته أن العلم الإِجمالی بنصب طرق وافیة یوجب انحلال العلم بالتکالیف الواقعیة إلى العلم بما هو مضامین الطرق المنصوبة من التکالیف الفعلیة ، والانحلال وأنّ کان یوجب عدم تنجز ما لم یؤد إلیه الطریق من التکالیف الواقعیة ، إلّا إنّه إذا کان رعایة العلم بالنصب لازماً ، والفرض عدم اللزوم ، بل عدم الجواز.
وعلیه یکون التکالیف الواقعیة ، کما إذا لم یکن هناک علم بالنصب فی کفایة
__________________
1 ـ فی « ب » : قضیة.
2 ـ فی « ب » : بإصابة.
الظن بها حال انسداد باب العلم ، کما لا یخفى ؛ ولابد حینئذ من عنایة أُخرى (1) فی لزوم رعایة الواقعیات بنحو من الإطاعة ، وعدم إهمالها رأساً کما أشرنا إلیه (2) ، ولا شبهة فی أن الظن بالواقع لو لم یکن أولى حینئذ لکونه أقرب فی التوسل به إلى ما به الاهتمام من فعل الواجب وترک الحرام ، من الظن بالطریق ، فلا أقل من کونه مساویاً فیما یهم العقل من تحصیل الأمن من العقوبة فی کلّ حال ، هذا مع ما عرفت من إنّه عادةً یلازم الظن بإنّه مؤدى طریق ، وهو بلا شبهة یکفی ، ولو لم یکن هناک ظن بالطریق ، فافهم فإنّه دقیق.
ثانیهما : ما اختصّ به بعضٍ المحققین (3) ، قال :
( لا ریب فی کوننا مکلفین بالأحکام الشرعیة ، ولم یسقط عنا التکلیف بالأحکام الشرعیة ، وأنّ الواجب علینا أولاً هو تحصیل العلم بتفریغ الذمة فی حکم المکلف ، بأن یقطع معه بحکمه بتفریغ ذمتنا عما کلفنا به ، وسقوط تکلیفنا عنا ، سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا ، حسبما مرّ تفصیل القول فیه.
فحینئذ نقول : إن صحّ لنا تحصیل العلم بتفریغ ذمتنا فی حکم الشارع ، فلا إشکال فی وجوبه وحصول البراءة به ، وأنّ انسد علینا سبیل العلم کان الواجب
__________________
1 ـ وهی إیجاب الاحتیاط فی الجملة المستکشف بنحو اللّم ، من عدم الإِهمال فی حال الانسداد قطعاً إجماعا بل ضرورة ، وهو یقتضی التنزل إلى الطن بالواقع حقیقة أو تعبداً ، إذا کان استکشافه فی التکالیف المعلومة إجمالاً ، لما عرفت من وجوب التنزل عن القطع بکل ما یجب تحصیل القطع به فی حال الانفتاح إلى الظن به فی هذا الحال ، وإلى الظن بخصوص الواقعیات التی تکون مؤدیات الطرق المعتبرة ، أو بمطلق المؤدیات لو کان استکشافه فی خصوصها أو فی مطلقها ، فلا یکاد أن تصل النوبة إلى الظن بالطریق بما هو کذلک وأنّ کان یکفی ، لکونه مستلزماً للظن بکون مؤداه مؤدى طریق معتبر ، کما یکفی الظن بکونه کذلک ، ولو لم یکن ظن باعتبار طریق أصلاً کما لا یخفى ، وأنت خبیر بإنّه لا وجه لاحتمال ذلک ، وإنما المتیقن هو لزوم رعایة الواقعیات فی کلّ حال ، بعد عدم لزوم رعایة الطرق المعلومة بالإِجمال بین أطراف کثیرة ، فافهم منه ( 1 ).
2 ـ راجع صفحة / 312.
3 ـ وهو العلامة المحقق الشیخ محمد تقی الأصفهانی ، هدایة المسترشدین / 391.
علینا تحصیل الظن بالبراءة فی حکمه ، إذ هو الأقرب إلى العلم به ، فیتعین الأخذ به عند التنزل من العلم فی حکم العقل ، بعد انسداد سبیل العلم والقطع ببقاء التکلیف ؛ دون ما یحصل معه الظن بأداء الواقع ، کما یدعیه القائل بأصالة حجیة الظن ). انتهى موضع الحاجة من کلامه ، زید فی علو مقامه.
وفیه أولاً : إن الحاکم على الاستقلال فی باب تفریغ الذمة بالإطاعة والامتثال إنّما هو العقل ، ولیس للشاعر فی هذا الباب حکم مولوی یتبعه حکم العقل ، ولو حکم فی هذا الباب کان بتبع حکمه إرشاداً إلیه ، وقد عرفت استقلاله بکون الواقع بما هو هو مفرغاً (1) ، وأنّ القطع به حقیقة أو تعبداً مؤمن جزماً ، وأنّ المؤمّن فی حال الانسداد هو الظن بما کان القطع به مؤمّناً حال الانفتاح ، فیکون الظن بالواقع أیضاً مؤمّناً حال الانسداد.
وثانیاً : سلّمنا ذلک ، لکن حکمه بتفریغ الذمة ـ فیما إذا أتى المکلف بمؤدى الطریق المنصوب ـ لیس إلّا بدعوى أن النصب یستلزمه ، مع أن دعوى أن التکلیف بالواقع یستلزم حکمه بالتفریغ فیما إذا أتى به أولى ، کما لا یخفى ، فیکون الظن به ظناً بالحکم بالتفریغ أیضاً.
إن قلت : کیف یستلزمه (2) الظن بالواقع؟ مع إنّه ربما یقطع بعدم حکمه به معه ، کما إذا کان من القیاس ، وهذا بخلاف الظن بالطریق ، فإنّه یستلزمه ولو کان من القیاس.
قلت : الظن بالواقع أیضاً یستلزم (3) الظن بحکمه بالتفریغ (4) ، ولا ینافی
__________________
1 ـ فی « أ »و « ب » : مفرغ.
2 ـ فی « ب » : یستلزم.
3 ـ وذلک لضرورة الملازمة بین الإِتیان بما کلف به واقعاً وحکمه بالفراغ ویشهد به عدم جواز الحکم بعدمه ، لو سئل عن أن الإِتیان بالمأمور به على وجهه ، هل هو مفرغ؟ ولزوم حکمه بإنّه مفرغ ، وإلاّ لزم عدم إجزاء الأمر الواقعی ، وهو واضح البطلان منه ( 1 ).
4 ـ کذا فی النسخة المصححة ، وفی « أ » : الظن بهما على الأقوى یستلزم الحکم بالتفریغ.
القطع بعدم حجیته لدى الشارع ، وعدم کون المکلف معذوراً ـ إذا عمل به فیهما ـ فیما أخطأ ، بل کان مستحقاً للعقاب ـ ولو فیما أصاب ـ لو بنى على حجیته والاقتصار علیه لتجریه ، فافهم.
وثالثاً : سلمنا أن الظن بالواقع لا یستلزم الظن به ، لکن قضیته لیس إلّا التنزل إلى الظن بإنّه مؤدى طریق معتبر ، لا خصوص الظن بالطریق ، وقد عرفت أن الظن بالواقع لا یکاد ینفک عن الظن بإنّه مؤدى الطریق غالبا.
فصل
لا یخفى عدم مساعدة مقدمات الانسداد على الدلالة على کون الظن طریقاً منصوباً شرعاً ، ضرورة إنّه معها لا یجب عقلاً على الشارع أن ینصب طریقاً ، لجواز اجتزائه بما استقل به العقل فی هذا الحال ، ولا مجال لاستکشاف نصب الشارع من حکم العقل ، لقاعدة الملازمة ، ضرورة إنّها إنّما تکون فی مورد قابل للحکم الشرعی ، والمورد هاهنا غیر قابل له ، فإن الإطاعة الظنیة التی یستقل العقل بکفایتها فی حال الانسداد إنّما هی بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزید منها ، وعدم جواز اقتصار المکلف بدونها ، ومؤاخذة الشارع غیر قابلة لحکمه ، وهو واضح.
واقتصار المکلف بما دونها ، لما کان بنفسه موجباً للعقاب مطلقاً ، أو فیما أصاب الظن ، کما إنّها بنفسها موجبة للثواب أخطأ أو أصاب من دون حاجة إلى أمر بها أو نهی عن مخالفتها ، کان حکم الشارع فیه مولویاً بلا ملاک یوجبه ، کما لا یخفى ، ولا بأس به إرشادیاً ، کما هو شإنّه فی حکمه بوجوب الإطاعة وحرمة المعصیة.
وصحة نصبه الطریق وجعله فی کلّ حال بملاک یوجب نصبه وحکمة داعیة إلیه ، لا تنافی استقلال العقل بلزوم الإطاعة بنحو حال الانسداد ، کما یحکم بلزومها بنحو آخر حال الانفتاح ، من دون استکشاف حکم الشارع بلزومها
مولویاً ، لما عرفت.
فانقدح بذلک عدم صحة تقریر المقدّمات إلّا على نحو الحکومة دون الکشف ، وعلیها فلا إهمال فی النتیجة أصلاً ، سبباً ومورداً ومرتبة ، لعدم تطرق الإِهمال والإِجمال فی حکم العقل ، کما لا یخفى.
أما بحسب الأسباب فلا تفاوت بنظره فیها.
وأما بحسب الموارد ، فیمکن أن یقال بعدم استقلاله بکفایة الإطاعة الظنیة ، إلّا فیما لیس للشارع مزید اهتمام فیه بفعل الواجب وترک الحرام ، واستقلاله بوجوب الاحتیاط فیما فیه مزید الاهتمام ، کما فی الفروج والدماء بل وسائر حقوق الناس مما لا یلزم من الاحتیاط فیها العسر.
وأما بحسب المرتبة ، فکذلک لا یستقل إلّا بلزوم التنزل إلى مرتبة الاطمئنان من الظن بعدم التکلیف (1) ، إلّا على تقدیر عدم کفایتها فی دفع محذور العسر.
وأما على تقریر الکشف ، فلو قیل بکون النتیجة هو نصب الطریق الواصل بنفسه ، فلا إهمال فیها أیضاً بحسب الأسباب ، بل یستکشف حینئذ أن الکلّ حجة لو لم یکن بینها ما هو المتیق ، و إلّا فلا مجال لاستکشاف حجیة (2) غیره ، ولا بحسب الموارد ، بل یحکم بحجیته فی جمیعها ، وإلاّ لزم عدم وصول الحجة ، ولو لأجل التردد فی مواردها ، کما لا یخفى.
ودعوى الإجماع (3) على التعمیم بحسبها فی مثل هذه المسألة المستحدثة مجازفة جدّاً.
__________________
1 ـ کذا صححه فی « ب » ، وفی « أ » : فکذلک لا یستقل إلّا بکفایة مرتبة الاطمئنان من الظن إلّا على ... إلخ.
2 ـ فی « ب » : حجة.
3 ـ ادعاه الشیخ ( قده ) فرائد الأصول / 139.
وأما بحسب المرتبة ، ففیها إهمال ، لأجل احتمال حجیة خصوص الاطمئنانی منه إذا کان وافیاً ، فلابد من الاقتصار علیه.
ولو قیل بأن النتیجة هو نصب الطریق الواصل ولو بطریقه ، فلا إهمال فیها بحسب الأسباب ، لو لم یکن فیها تفاوت أصلاً ، أو لم یکن بینها إلّا واحد ، و إلّا فلابدّ من الاقتصار على متیقن الاعتبار منها أو مظنونه ، بإجراء مقدمات دلیل الانسداد حینئذٍ مرة أو مرّات فی تعیین الطریق المنصوب ، حتى ینتهی إلى ظن واحد أو إلى ظنون متعددة لا تفاوت بینها ، فیحکم بحجیة کلها ، أو متفاوتة یکون بعضها الوافی متیقن الاعتبار ، فیقتصر علیه.
وأما بحسب الموارد والمرتبة ، فکما إذا کانت النتیجة هی الطریق الواصل بنفسه ، فتدبرّ جیداً.
ولو قیل بأن النتیجة هو الطریق ولو لم یصل أصلاً ، فالإهمال فیها یکون من الجهات ، ولا محیص حینئذ إلّا من الاحتیاط فی الطریق بمراعاة اطراف الاحتمال لو لم یکن بینها متیقن الاعتبار ، لو لم یلزم منه محذور ، وإلاّ لزم التنزل إلى حکومة العقل بالاستقلال ، فتأمل فإن المقام من مزال الأقدام.
وهم ودفع : لعلک تقول : إن القدر المتیقن الوافی لو کان فی البین لما کان مجال لدلیل الانسداد ، ضرورة إنّه من مقدماته انسداد باب العلمی أیضاً.
لکنک غفلت عن أن المراد ما إذا کان الیقین بالاعتبار من قبله ، لأجل الیقین بإنّه لو کان شیء حجة شرعاً کان هذا الشیء حجة قطعاً ، بداهة أن الدلیل على أحد المتلازمین إنّما هو الدلیل على الآخر ، لا الدلیل على الملازمة.
ثم لا یخفى أن الظن باعتبار ظن (1) بالخصوص ، یوجب الیقین باعتباره من باب دلیل الانسداد على تقریر الکشف بناءً على کون النتیجة هو الطریق الواصل
__________________
1 ـ فی « ب » : الظن.
بنفسه ، فإنّه حینئذ یقطع بکونه حجة ، کان غیره حجة أو لا ، واحتمال عدم حجیته بالخصوص (1) لا ینافی القطع بحجیته بملاحظة الانسداد ، ضرورة إنّه على الفرض لا یحتمل أن یکون غیره حجة بلا نصب قرینة ، ولکنه من المحتمل أن یکون هو الحجة دون غیره ، لما فیه من خصوصیة الظن بالاعتبار ، وبالجملة الأمر یدور بین حجیة الکلّ وحجیته ، فیکون مقطوع الاعتبار.
ومن هنا ظهر حال القوة ، ولعل نظر من رجح بهما (2) إلى هذا الفرض ، وکان منع شیخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ عن الترجیح بهما (3) ، بناءً على کون النتیجة هو الطریق الواصل ولو بطریقه ، أو الطریق ولو لم یصل أصلاً ، وبذلک ربما یوفق بین کلمات الأعلام فی المقام ، وعلیک بالتأمل التام.
ثم لا یذهب علیک أن الترجیح بهما إنّما هو على تقدیر کفایة الراجح ، وإلاّ فلا بدّ من التعدی إلى غیره بمقدار الکفایة ، فیختلف الحال باختلاف الأنظار بل الأحوال.
وأما تعمیم النتیجة (4) بأن قضیة العلم الإِجمالی بالطریق هو الاحتیاط فی أطرافه ، فهو لا یکاد یتم إلّا على تقدیر کون النتیجة هو نصب الطریق ولو لم یصل أصلاً ، مع أن التعمیم بذلک لا یوجب العمل إلّا على وفق المثبتات من الأطراف دون النافیات ، إلّا فیما إذا کان هناک نافٍ من جمیع الأصناف ، ضرورة أن الاحتیاط فیها لا یقتضی رفع الید عن الاحتیاط فی المسألة الفرعیة إذا لزم ، حیث لا ینافیه ، کیف؟ ویجوز الاحتیاط فیها مع قیام الحجة النافیة ، کما لا یخفى ، فما ظنک بما لا یجب الأخذ بموجبه إلّا من باب الاحتیاط؟ فافهم.
__________________
1 ـ فی « أ » : بخصوصه.
2 ـ فرائد الأصول / 142 ، وأما المرجح الثانی.
3 ـ فی « ب » : بها.
4 ـ هذا ثالث طرق « تعمیم النتیجة » الذی نقله الشیخ ( قده ) عن شیخه المحقق شریف العلماء ( قده ) ، واستشکل علیه ، فرائد الأصول 150.
فصل
قد اشتهر الإِشکال بالقطع بخروج القیاس عن عموم نتیجة دلیل الانسداد بتقریر الحکومة ، وتقریره على ما فی الرسائل (1) إنّه :
( کیف یجامع حکم العقل بکون الظن کالعلم مناطاً للاطاعة والمعصیة ، ویقبح على الأمر والمأمور التعدی عنه ، ومع ذلک یحصل الظن أو خصوص الاطمئنان من القیاس ، ولا یجوّز الشارع العمل به؟ فإن المنع عن العمل بما یقتضیه العقل من الظن ، أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممکناً ، جرى فی غیر القیاس ، فلا یکون العقل مستقلاً ، إذ لعله نهى عن أمارة مثل ما نهى عن القیاس [ بل وأزید ] (2) واختفى علینا ، ولا دافع لهذا الاحتمال إلّا قبح ذلک على الشارع ، إذ احتمال صدور ممکن بالذات عن الحکیم لا یرتفع إلّا بقبحه ، وهذا من أفراد ما اشتهر من أن الدلیل العقلی لا یقبل التخصیص ). انتهى موضع الحاجة من کلامه ، زید فی علو مقامه.
وأنت خبیر بإنّه لا وقع لهذا الإِشکال ، بعد وضوح کون حکم العقل بذلک معلّقاً على عدم نصب الشارع طریقاً واصلاً ، وعدم حکمه به فیما کان هناک منصوب ولو کان أصلاً ، بداهة أن من مقدمات حکمه عدم وجود علم ولا علمی ، فلا موضوع لحکمه مع أحدهما ، والنهی عن ظن حاصل من سبب لیس إلّا کنصب شیء ، بل هو یستلزمه فیما کان فی مورده أصل شرعی ، فلا یکون نهیه عنه رفعاً لحکمه عن موضوعه ، بل به یرتفع موضوعه ، ولیس حال النهی عن سبب مفید للظن إلّا کالأمر بما لا یفیده ، وکما لا حکومة معه للعقل لا حکومة له معه ، وکما لا یصحّ بلحاظ حکمه الإِشکال فیه ، لا یصحّ الإِشکال فیه بلحاظه.
__________________
1 ـ فرائد الأصول / 156.
2 ـ أثبتناها من فرائد الأُصول.
نعم لا بأس بالإشکال فیه فی نفسه ، کما أشکل فیه برأسه بملاحظة توهّم استلزام النصب لمحاذیر ، تقدم الکلام فی تقریرها وما هو التحقیق فی جوابها فی جعل الطرق. غایة الأمر تلک المحاذیر ـ التی تکون فیما إذا أخطأ الطریق المنصوب ـ کانت فی الطریق المنهی عنه فی مورد الإصابة ، ولکن من الواضح إنّه لا دخل لذلک فی الإِشکال على دلیل الانسداد بخروج القیاس ، ضرورة إنّه بعد الفراغ عن صحة النهی عنه فی الجملة ، قد أشکل فی عموم النهی لحال الانسداد بملاحظة حکم العقل ؛ وقد عرفت إنّه بمکان من الفساد.
واستلزام إمکان المنع عنه ، لاحتمال المنع عن أمارة أُخرى وقد اختفى علینا ، وأنّ کان موجباً لعدم استقلال العقل ، إلّا إنّه إنّما یکون بالإضافة إلى تلک الامارة ، لو کان غیرها مما لا یحتمل فیه المنع بمقدار الکفایة ، وإلاّ فلا مجال لاحتمال المنع فیها مع فرض استقلال العقل ، ضرورة عدم استقلاله بحکم مع احتمال وجود مانعه ، على ما یأتی تحقیقه فی الظن المانع والممنوع (1).
وقیاس حکم العقل (2) بکون الظن مناطاً للإطاعة فی هذا الحال على حکمه بکون العلم مناطاً لها فی حال الانفتاح ، لا یکاد یخفى على أحد فساده ، لوضوح إنّه مع الفارق ، ضرورة أن حکمه فی العلم على نحو التنجز ، وفیه على نحو التعلیق.
ثم لا یکاد ینقضی تعجبی لم خصصوا الإِشکال بالنهی عن القیاس ، مع جریإنّه فی الأمر بطریق غیر مفید للظن ، بداهة انتفاء حکمه فی مورد الطریق قطعاً ، مع إنّه لا یظن بأحد أن یستشکل بذلک ، ولیس إلّا لأجل أن حکمه به معلق على عدم النصب ، ومعه لا حکم له ، کما هو کذلک مع النهی عن بعضٍ أفراد الظن ، فتدبر جیّداً.
__________________
1 ـ سیأتی تحقیقه فی الفصل الآتی.
2 ـ ذکره الشیخ ( قده ) فی فرائد الأصول / 156.
وقد انقدح بذلک إنّه لا وقع للجواب عن الإِشکال : تارةً (1) بأن المنع عن القیاس لأجل کونه غالب المخالفة ؛ وأُخرى (2) بأن العمل به یکون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الإصابة ، وذلک لبداهة إنّه إنّما یشکل بخروجه بعد الفراغ عن صحة المنع عنه فی نفسه ، بملاحظة حکم العقل بحجیة الظن ، ولا یکاد یجدی صحته کذلک فی ذب الإِشکال فی صحته بهذا اللحاظ ، فافهم فإنّه لا یخلو عن دقة.
وأما ما قیل فی جوابه (3) ، من منع عموم المنع عنه بحال الانسداد ، أو منع حصول الظن منه بعد انکشاف حاله ، وأنّ ما یفسده أکثر مما یصلحه ، ففی غایة الفساد ، فإنّه مضافاً إلى کون کلّ واحد من المنعین غیر سدید ـ لدعوى الإجماع على عموم المنع مع إطلاق أدلته وعموم علته ، وشهادة الوجدان بحصول الظن منه فی بعضٍ الأحیان ـ لا یکاد یکون فی دفع الإِشکال بالقطع بخروج الظن الناشىء منه بمفید ، غایة الأمر إنّه لا إشکال مع فرض أحد المنعین ، لکنه غیر فرض الإِشکال ، فتدبرّ جیداً.
فصل
إذا قام ظن على عدم حجیة ظن بالخصوص ، فالتحقیق أن یقال بعد تصور المنع عن بعضٍ الظنون فی حال الانسداد : إنّه لا استقلال للعقل بحجیة ظن احتمل المنع عنه ، فضلاً عما إذا ظن ، کما أشرنا إلیه فی الفصل السابق ، فلابد من الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه بالخصوص ، فإن کفى ، وإلاّ فبضمیمة ما لم یظن المنع عنه وأنّ احتمل ، مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد ، وأنّ انسد باب هذا الاحتمال معها ، کما لا یخفى ، وذلک ضرورة إنّه لا احتمال مع الاستقلال
__________________
1 ـ هذا سابع الوجوه التی ذکرها الشیخ ( قده ) فی الجواب عن الإِشکال ، فرائد الأصول / 161.
2 ـ هو الوجه السادس الذی أفاده الشیخ ( قده ) واستشکل علیه ، فرائد الأصول / 160.
3 ـ راجع الوجهین الأولین من الوجوه السبعة التی ذکره الشیخ ( قده ) فرائد الأصول / 157.
حسب الفرض ومنه قد انقدح إنّه لا تتفاوت الحال لو قیل بکون النتیجة هی حجیة الظن فی الأصول أو فی الفروع أو فیهما ، فافهم.
وکیف کان ، فالمحکی عن السید (1) والقاضی (2) وابن زهرة (3) والطبرسی (4) وابن إدریس (5) عدم حجیة الخبر ، واستدل (6) لهم بالآیات الناهیة (7) عن اتباع غیر العلم ، والروایات (8) الدالة على ردّ ما لم یعلم إنّه قولهم ( علیهم
__________________
1 ـ الذریعة 2 : 528 ، فی التعبد بخبر الواحد ورسالة السیّد فی إبطال العمل بالخبر الواحد ، المطبوعة فی رسائل السید المرتضى 3 : 309 وأجوبته عن مسائل التبانیات المطبوعة فی ضمن رسائله 1 : 21 ، الفصل الثانی. علم الهدى أبو القاسم علی بن الحسین المشهور بالسید المرتضى ، تولد سنة 355 ، حاز من الفضائل ما تفرد به ، له تصانیف مشهورة منها « الشافی » فی الامامة و « الذخیرة » و « الذریعة » وغیرها ، خلف بعد وفاته ثمانین الف مجلد من مقرواته ومصنفاته ، توفی لخمس بقین من شهر ربیع الأوّل سنة 436 ه. ( الکنى والالقاب 2 / 483 ).
2 ـ الشیخ عبد العزیز بن نحریر بن عبد العزیز بن البراج ، وجه الأصحاب وفقیههم ، لقب بالقاضی لکونه قاضیاً فی طرابلس ، قرأ على السید والشیخ فترة ویروی عنهما وعن الکراجکی وأبی الصلاح الحلبی. له « المهذب » و « الموجز » و « الکامل » و « الجواهر ». توفی فی 9 شعبان سنة 481 ( الکنى والالقاب 1 / 224 ).
3 ـ الغنیة : 475 ، ( المطبوعة فی الجوامع الفقهیة ).
أبو المکارم حمزة بن علی بن زهرة الحسینی الحلبی العالم الفاضل الفقیه ، یروی عن والده وغیره ، له « غنیة النزوع إلى علمی الأصول والفروع » و « قبس الانوار فی نصرة العترة الأطهار » توفی سنة 585 فی سن اربع وسبعین ، قبره بحلب بسفح جبل جوشن عند مشهد السقط. ( الکنى والالقاب 1 / 299 ).
4 ـ کذا یظهر من تفسیره آیة النبأ ، مجمع البیان 5 : 133.
أمین الاسلام أبو علی الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسی المشهدی مفسر فقیه صاحب کتاب مجمع البیان وجوامع الجامع ، کان معاصراً لصاحب الکشاف ، یروی عنه جماعة من أفاضل العلماء ، منهم ولده الحسن بن الفضل وابن شهر آشوب والقطب الراوندی ، انتقل من المشهد الرضوی إلى سبزوار سنة 523 وانتقل منها إلى دار الخلود سنة 548 وحمل نعشه إلى المشهد المقدس وقبره معروف ( ریاض العلماء 4 / 340 ).
5 ـ السرائر : 5.
6 ـ المعتمد 2 : 124.
7 ـ الاسراء : 36 ، النجم : 28.
8 ـ مستدرک الوسائل 3 : 186 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 10.
السلام ) ، أو لم یکن علیه شاهد من کتاب الله أو شاهدان (1) ، أو لم یکن موافقاً للقرآن إلیهم (2) ، أو على بطلان ما لا یصدقه کتاب الله (3) ، أو على أن ما لا یوافق کتاب الله زخرف (4) ، أو على النهی عن قبول حدیث إلّا ما وافق الکتاب أو السنة (5) ، إلى غیر ذلک (6). والإجماع المحکی (7) عن السید فی مواضع من کلامه ، بل حکی (8) عنه إنّه جعله بمنزلة القیاس ، فی کون ترکه معروفاً من مذهب الشیعة.
والجواب : امّا عن الآیات ، فبأن الظاهر منها أو المتیقن من إطلاقاًتها هو اتباع غیر العلم فی الأُصول الاعتقادیة ، لا ما یعم الفروع الشرعیة ، ولو سلّم عمومها لها ، فهی مخصصة بالأدلة الآتیة على اعتبارٍ الأخبار.
وأما عن الروایات ، فبأن الاستدلال بها خال عن السداد ، فإنّها أخبار آحاد.
لا یقال : إنّها وأنّ لم تکن متواترة لفظاً ولا معنى ، إلّا إنّها متواترة إجمالاً ، للعلم الإِجمالی بصدور بعضها لا محالة.
فإنّه یقال : إنّها وأنّ کانت کذلک ، إلّا إنّها لا تفید إلّا فیما توافقت علیه ، وهو غیر مفید فی إثبات السلب کلیّاً ، کما هو محلّ الکلام ومورد النقض والإبرام ، وإنما تفید عدم حجیة الخبر المخالف للکتاب والسنة ، والالتزام به لیس بضائر ، بل
__________________
1 ـ وسائل الشیعة 18 : 80 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 18.
2 ـ مستدرک الوسائل 3 : 186 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 5.
3 ـ المحاسن 1 : 221.
4 ـ وسائل الشیعة 18 : 78 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 12.
5 ـ وسائل الشیعة 18 : 78 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 11.
6 ـ راجع وسائل الشیعة 18 : 75 : أحادیث باب 9 من أبواب صفات القاضی.
7 ـ أجوبة المسائل التبانیات 1 : 24 ، الفصل الثانی.
8 ـ رسائل السید المرتضى 3 : 309 ، رسالة إبطال العمل بالخبر الواحد.
لا محیص عنه فی مقام المعارضة.
وأما عن الإجماع ، فبأن المحصّل منه غیر حاصل ، والمنقول منه للاستدلال به غیر قابل ، خصوصاً فی المسألة ، کما یظهر وجهه للمتأمل ، مع إنّه معارض بمثله ، وموهون بذهاب المشهور إلى خلافه.
وقد استدل للمشهور بالادلّة الأربعة :
فصل
فی الآیات التی استدل بها :
فمنها : آیة النبأ ، قال الله تبارک وتعالى : ( إِن جَاءَکُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا ) (1). ویمکن تقریب الاستدلال بها من وجوه (2) : أظهرها إنّه من جهة مفهوم الشرط ، وأنّ تعلیق الحکم بإیجاب التبین عن النبأ الذی جیء به على کون الجائی به الفاسق (3) ، یقتضی انتفاءه عند انتفائه.
ولا یخفى إنّه على هذا التقریر لا یرد : أن الشرط فی القضیة لبیان تحقق الموضوع فلا مفهوم له ، أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع ، فافهم.
نعم لو کان الشرط هو نفس تحقق النبأ ومجیء الفاسق به ، کانت القضیة الشرطیّة مسوقة لبیان تحقق الموضوع ، مع إنّه یمکن أن یقال : إن القفضیة ولو کانت مسوقة لذلک ، إلّا إنّها ظاهرة فی انحصار موضوع وجوب التبین فی النبأ الذی جاء به الفاسق ، فیقتضی انتفاء وجوب التبین عند انتفائه ووجود موضوع آخر ، فتدبر.
ولکنه یشکل (4) بإنّه لیس لها هاهنا ملهوم ، ولو سلّم أن أمثالها ظاهرة فی
__________________
1 ـ الحجرات : 6.
2 ـ ذکر الوجوه فی حاشیة الفرائد / 60.
3 ـ فی منتهى الدرایة 4 / 441 : فاسقا.
4 ـ وللمزید راجع فرائد الأصول / 72 ، وعدة الأصول / 1 / 44 ، ومعارج الأصول / 145.
المفهوم ، لأن التعلیل بإصابة القوم بالجهالة المشترک بین المفهوم والمنطوق ، یکون قرینة على إنّه لیس لها مفهوم.
ولا یخفى أن الإِشکال إنّما یبتنی على کون الجهالة بمعنى عدم العلم ، مع أن دعوى إنّها بمعنى السفاهة وفعل مالا ینبغی صدوره من العاقل غیر بعیدة.
ثم إنّه لو سلّم تمامیة دلالة الآیة على حجیة خبر العدل ، ربما أشکل شمول مثلها للروایات الحاکیة لقول الإمام 7 بواسطة أو وسائط ، فإنّه کیف یمکن الحکم بوجوب التصدیق الذی لیس إلّا بمعنى وجوب ترتیب ما للمخبر به من الأثر الشرعی بلحاظ نفس هذا الوجوب ، فیما کان المخبر به خبر العدل أو عدالة المخبر ؛ لإنّه وأنّ کان أثراً شرعیاً لهما ، إلّا إنّه بنفس الحکم فی مثل الآیة بوجوب تصدیق خبر العدل حسب الفرض.
نعم لو اُنشىء هذا الحکم ثانیاً ، فلا بأس فی أن یکون بلحاظه أیضاً ، حیث إنّه صار أثراً بجعل آخر ، فلا یلزم اتحاد الحکم والموضوع ، بخلاف ما إذا لم یکن هناک إلّا جعل واحد ، فتدبّر.
ویمکن ذب الإِشکال (1) ، بإنّه إنّما یلزم إذا لم یکن القضیة طبیعیة ، والحکم فیها بلحاظ طبیعة الأثر ، بل بلحاظ أفراده ، وإلاّ فالحکم بوجوب التصدیق یسری إلیه سرایة حکم الطبیعة إلى أفراده ، بلا محذور لزوم اتحاد الحکم والموضوع. هذا مضافاً إلى القطع بتحقق ما هو المناط فی سائر الآثار فی هذا الأثر ـ أیّ وجوب التصدیق ـ بعد تحققه بهذا الخطاب ، وأنّ کان لا یمکن أن یکون ملحوظاً (2) لأجل المحذور ، وإلى عدم القول بالفصل بینه وبین سائر الآثار ، فی وجوب الترتیب لدى الإخبار بموضوع ، صار أثره الشرعی وجوب التصدیق ، وهو خبر العدل ، ولو بنفس الحکم فی الآیة به ، فافهم.
__________________
1 و 2 ـ الصحیح ما أثبتناه وما فی النسخ المطبوعة خطأ ظاهر.
ولا یخفى إنّه لا مجال بعد اندفاع الإِشکال بذلک للاشکال فی خصوص الوسائط من الأخبار ، کخبر الصفار المحکی بخبر المفید مثلاً ، بإنّه لا یکاد یکون خبراً تعبداً إلّا بنفس الحکم بوجوب تصدیق العادل الشامل للمفید ، فکیف یکون هذا الحکم المحقق لخبر الصفار تعبداً مثلاً حکماً له أیضاً ؛ وذلک لأنّه إذا کان خبر العدل ذا أثر شرعی حقیقة بحکم الآیة وجب ترتیب أثره علیه عند إخبار العدل به ، کسائر ذوات الآثار من الموضوعاًت ، لما عرفت من شمول مثل الآیة للخبر الحاکی للخبر بنحو القضیة الطبیعیة ، أو لشمول الحکم فیها له مناطاً ، وأنّ لم یشمله لفظاً ، أو لعدم القول بالفصل ، فتأمل جیداً.
ومنها : آیة النفر ، قال الله تبارک وتعالى : ( فَلَوْلَا نَفَرَ مِن کلّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ ) (1) الآیة ، وربما یستدل بها من وجوه :
أحدها : إن کلمة ( لعل ) وأنّ کانت مستعملة على التحقیق فی معناه الحقیقی ، وهو الترجی الإِیقاعی الإنشائی ، إلّا أن الداعی إلیه حیث یستحیل فی حقه تعالى أن یکون هو الترجی الحقیقی ، کان هو محبوبیة التحذر عند الإنذار ، وإذا ثبت محبوبیّته ثبت وجوبه شرعاً ، لعدم الفصل ، وعقلاً لوجوبه مع وجود ما یقتضیه ، وعدم حسنه ، بل عدم إمکانه بدونه.
ثانیها : إنّه لما وجب الإنذار لکونه غایة للنفر الواجب ، کما هو قضیة کلمة ( لولا ) التحضیضیة ، وجب التحذر ، وإلاّ لغا وجوبه.
ثالثها : إنّه جعل غایة للإنذار الواجب ، وغایة الواجب واجب.
ویشکل الوجه الأوّل ، بأن التحذر لرجاء إدراک الواقع وعدم الوقوع فی محذور مخالفته ، من فوت المصلحة أو الوقوع فی المفسدة ، حسن ، ولیس بواجب فیما لم یکن هناک حجة على التکلیف ، ولم یثبت ها هنا عدم الفصل ، غایته عدم
__________________
1 ـ التوبة : 122.
القول بالفصل.
والوجه الثّانی والثالث بعدم انحصار فائدة الانذار ب [ إیجاب ] (1) التحذر تعبداً ، لعدم إطلاق یقتضی وجوبه على الإِطلاق ، ضرورة أن الآیة مسوقة لبیان وجوب النفر ، لا لبیان غایتیة التحذر ، ولعل وجوبه کان مشروطاً بما إذا أفاد العلم لو لم نقل بکونه مشروطاً به ، فإن النفر إنّما یکون لأجل التفقه وتعلم معالم الدین ، ومعرفة ما جاء به سید المرسلین 9 ، کی ینذروا بها المتخلفین أو النافرین ، على الوجهین فی تفسیر الآیة ، لکی یحذروا إذا أنذروا بها ، وقضیته إنّما هو وجوب الحذر عند إحراز أن الإنذار بها ، کما لا یخفى.
ثم إنّه أشکل أیضاً ، بأن الآیة لو سلّم دلالتها على وجوب الحذر مطلقاً فلا دلالة لها على حجیة الخبر بما هو خبر ، حیث إنّه لیس شأن الراوی إلّا الإخبار بما تحمله ، لا التخویف والإنذار ، وإنما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلد.
قلت : لا یذهب علیک إنّه لیس حال الرواة فی الصدر الأوّل فی نقل ما تحملوا من النبی ( صلّى الله علیه وعلى أهل بیته الکرام ) أو الإمام 7 من الأحکام إلى الأنام ، إلّا کحال نقلة الفتاوى إلى العوام ؛ ولا شبهة فی إنّه یصحّ منهم التخویف فی مقام الإبلاغ والإنذار والتحذیر بالبلاغ ، فکذا من الرواة ، فالآیة لو فرض دلالتها على حجیة نقل الراوی إذا کان مع التخویف ، کان نقله حجة بدونه أیضاً ، لعدم الفصل بینهما جزماً ، فافهم.
ومنها : آیة الکتمان ، ( إِنَّ الَّذِینَ یَکْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا ) (2) الآیة.
وتقریب الاستدلال بها : إن حرمة الکتمان تستلزم وجوب (3) القبول عقلاً ،
__________________
1 ـ اثبتناها من « ب ».
2 ـ البقرة : 159.
3 ـ أثبتناها من « أ ».
للزوم لغویته بدونه ، ولا یخفى إنّه لو سلمت هذه الملازمة لا مجال (1) للایراد على هذه الآیة بما أورد على آیة النفر ، من دعوى الإِهمال أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم ، فإنّها تنافیهما ، کما لا یخفى ، لکنها ممنوعة ، فإن اللغویة غیر لازمة ، لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبداً ، وإمکان أن تکون حرمة الکتمان لأجل وضوح الحق بسبب کثرة من أفشاه وبینه ، لئلا یکون للناس على الله حجة ، بل کان له علهیم الحجة البالغة.
ومنها : آیة السؤال عن أهل الذکر ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِن کُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (2). وتقریب الاستدلال بها ما فی آیة الکتمان.
وفیه : إن الظاهر منها إیجاب السؤال لتحصیل العلم ، لا للتعبد بالجواب.
وقد أورد (3) علیها : بإنّه لو سلّم دلالتها على التعبد بما أجاب أهل الذکر ، فلا دلالة لها على التعبد بما یروی الراوی ، فإنّه بما هو راو لا یکون من أهل الذکر والعلم ، فالمناسب إنّما هو الاستدلال بها على حجیة الفتوى لا الروایة.
وفیه : إن کثیراً من الرواة یصدق علیهم إنّهم أهل الذکر والاطلاع على رأی الامام 7 کزرارة ومحمد بن مسلم ومثلهما ، ویصدق على السؤال عنهم إنّه السؤال عن [ أهل ] (4) الذکر والعلم ، ولو کان السائل من أضرابهم ، فإذا وجب قبول روایتهم فی مقام الجواب بمقتضى هذه الآیة ، وجب قبول روایتهم وروایة غیرهم من العدول مطلقاً ، لعدم الفصل جزماً فی وجوب القبول بین المبتدأ والمسبوق بالسؤال ، ولا بین أضراب زرارة وغیرهم ممن لا یکون من أهل
__________________
1 ـ دفع لما أورده الشیخ ـ من الاشکالین الأولین فی آیة النفر ـ على الاستدلال بهذه الآیة ، فرائد الأصول / 81.
2 ـ النحل : 43 ، الأنبیاء : 7.
3 ـ هذا هو الایراد الثالث للشیخ على الاستدلال بالآیة ، فرائد الأصول / 82.
4 ـ أثبتناها من « ب ».
الذکر ، وإنما یروی ما سمعه أو رآه ، فافهم.
ومنها : آیة الأذن ( وَمِنْهُمُ الَّذِینَ یُؤْذُونَ النَّبِیَّ وَیَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَیْرٍ لَّکُمْ یُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَیُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِینَ ) (1) فإنّه تبارک وتعالى مدح نبیه بإنّه یصدق المؤمنین ، وقرنه بتصدیقه تعالى.
وفیه : أوّلاً : إنّه إنّما مدحه بإنّه أذن ، وهو سریع القطع ، لا الآخذُ بقول الغیر تعبدا.
وثانیاً : إنّه إنّما المراد بتصدیقه للمؤمنین ، هو ترتیب خصوص الآثار التی تنفعهم ولا تضر غیرهم ، لا التصدیق بترتیب جمیع الآثار ، کما هو المطلوب فی باب حجیة الخبر ، ویظهر ذلک من تصدیقه للنمّام بإنّه ما نمّه ، وتصدیقه لله تعالى بإنّه نمّه ، کما هو المراد من التصدیق فی قوله 7 : ( فصدقه وکذبهم ) ، حیث قال ـ على ما فی الخبر (2) ـ : ( یا محمد (3) کذب سمعک وبصرک عن أخیک : فإن شهد عندک خمسون قسامة إنّه قال قولاً ، وقال : لم أقله ، فصدّقه وکذّبهم ) فیکون مراده تصدیقه بما ینفعه ولا یضرّهم ، وتکذیبهم فیما یضرّه ولا ینفعهم ، وإلاّ فکیف یحکم بتصدیق الواحد وتکذیب خمسین؟ وهکذا المراد بتصدیق المؤمنین فی قصة إسماعیل (4) ، فتأمل جیداً.
فصل
فی الأخبار التی دلت على اعتبارٍ أخبار الآحاد.
وهی وأنّ کانت طوائف کثیرة ، کما یظهر من مراجعة الوسائل (5) وغیرها ،
__________________
1 ـ التوبة : 61.
2 ـ عقاب الأعمال / 295 ، الحدیث 1 ، الکافی 8 / 147 ، الحدیث 125.
3 ـ فی « أ و ب » : یا أبا محمد والصحیح ما أثبتناه ، لإنّه خطاب لمحمد بن فضیل المکنى بأبی جعفر.
4 ـ الکافی 5 / 299 ، باب حفظ المال وکراهة الاضاعة من کتاب المعیشة ، الحدیث 1.
5 ـ الوسائل 18 : 72 الباب 8 من أبواب صفات القاضی والباب 9 ، الحدیث 5 والباب 11 ،
إلا إنّه یشکل الاستدلال بها على حجیة أخبار الآحاد بإنّها أخبار آحاد ، فإنّها غیر متفقة على لفظ ولا على معنى ، فتکون متواترة لفظاً أو معنى.
ولکنه مندفع بإنّها وأنّ کانت کذلک ، إلّا إنّها متواترة إجمالاً ، ضرورة إنّه یعلم إجمالاً بصدور بعضها منهم : ، وقضیته وأنّ کان حجیة خبر دلّ على حجیته أخصها مضموناً (1) إلّا إنّه یتعدى عنه فیما إذا کان بینها ما کان بهذه الخصوصیة ، وقد دلّ على حجیة ما کان أعم ، فافهم.
فصل
فی الاجماع على حجیة الخبر.
وتقریره من وجوه :
أحدها : دعوى الإجماع من تتبع فتاوى الأصحاب على الحجیة من زماننا إلى زمان الشیخ ، فیکشف رضاه 7 بذلک ، ویقطع به ، أو من تتبع الإجماعات المنقولة على الحجیة.
ولا یخفى مجازفة هذه الدعوى ؛ لاختلاف الفتاوى فیما أخذ فی اعتباره من الخصوصیات ، ومعه لا مجال لتحصیل القطع برضاه 7 من تتبعها ، وهکذا حال تتبع الإجماعات المنقولة ، اللهم إلّا أن یَّدعى تواطؤها على الحجیة فی الجملة ، وإنما الاختلاف فی الخصوصیات المعتبرة فیها ، ولکن دون إثباته خرط القتاد.
ثانیها : دعوى اتفاق العلماء عملاً ـ بل کافة المسلمین ـ على العمل بخبر الواحد فی أُمورهم الشرعیة ، کما یظهر من أخذ فتاوى المجتهدین من الناقلین لها.
__________________
الحدیث 4 و 40.
1 ـ فی الحقائق 2 : 132 ، وأنّ کان حجیة خبر أخصها مضموناً ... الخ.
وفیه : مضافاً إلى ما عرفت مما یرد على الوجه الأوّل ، إنّه لو سلّم اتفاقهم على ذلک ، لم یحرز أنّهم اتفقوا بما همّ مسلمون ومتدیّنون بهذا الدین ، أو بما همّ عقلاًء ولو لم یلتزموا بدین ، کما هو لا یزالون یعملون بها فی غیر الأمور الدینیة من الأمور العادیة ، فیرجع إلى ثالث الوجوه ، وهو دعوى استقرار سیرة العقلاء من ذوی الادیان وغیرهم على العمل بخبر الثقة ، واستمرت إلى زماننا ، ولم یردع عنه نبی ولا وصیّ نبی ، ضرورة إنّه لو کان لاشتهر وبان ، ومن الواضح إنّه یکشف عن رضا الشارع به فی الشرعیات أیضاً.
إن قلت : یکفی فی الردع الآیات الناهیة ، والروایات المانعة عن اتباع غیر العلم ، وناهیک قوله تعالى : ( ولا تقف ما لیس لک به علم ) (1) ، وقوله تعالى : ( وأنّ الظَّنَّ لَا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شیئاً ) (2).
قلت : لا یکاد یکفی تلک الآیات فی ذلک ، فإنّه ـ مضافاً إلى إنّها وردت إرشاداً إلى عدم کفایة الظن فی أُصول الدین ، ولو سلّم فإنما المتیقن لو لا إنّه المنصرف إلیه إطلاقها هو خصوص الظن الذی لم یقم على اعتباره حجة ـ لا یکاد یکون الردع بها إلّا على وجه دائر ، وذلک لأن الردع بها یتوقف على عدم تخصیص عمومها ، أو تقیید إطلاقها بالسیرة على اعتبارٍ خبر الثقة ، وهو یتوقف على الردع عنها بها ، وإلاّ لکانت مخصصة أو مقیدة لها ، کما لا یخفى.
لا یقال : على هذا لا یکون اعتبارٍ خبر الثقة بالسیرة أیضاً ، إلّا على وجه دائر ، فإنّ اعتباره بها فعلاً یتوقف على عدم الردع بها عنها ، وهو یتوقف على تخصیصها بها ، وهو یتوقف على عدم الردع بها عنها.
فإنّه یقال : إنّما یکفی فی حجیته بها عدم ثبوت الردع عنها ، لعدم نهوض ما یصلح لردعها ، کما یکفی فی تخصیصها لها ذلک ، کما لا یخفى ، ضرورة أن ما
__________________
1 ـ الاسراء : 36.
2 ـ النجم : 28.
جرت علیه السیرة المستمرة فی مقام الإطاعة والمعصیة ، وفی استحقاق العقوبة بالمخالفة ، وعدم استحقاقها مع الموافقة ، ولو فی صورة المخالفة عن الواقع (1) ، یکون عقلاً فی الشرع متّبعاً ما لم ینهض دلیل على المنع عن اتباعه فی الشرعیات ، فافهم وتأملّ (2).
فصل
فی الوجوه العقلیة التی أقیمت على حجیة الخبر الواحد.
أحدها : إنّه یعلم إجمالاً بصدور کثیر مما بأیدینا من الأخبار من الأئمة الأطهار : بمقدار وافٍ بمعظم الفقه ، بحیث لو علم تفصیلاً ذاک المقدار لا نحل علمنا الإِجمالی بثبوت التکالیف بین الروایات وسائر الأمارات إلى
__________________
1 ـ لعل الانسب : المخالفة للواقع.
2 ـ قولنا : ( فافهم وتأملّ ) إشارة إلى کون خبر الثقة متبعاً ، ولو قیل بسقوط کلّ من السیرة والإِطلاق عن الاعتبار ، بسبب دوران الأمر بین ردعها به وتقییده بها ، وذلک لأجل استصحاب حجّیته الثابتة قبل نزول الآیتین.
فان قلت : لا مجال لاحتمال التقیید بها ، فإن دلیل اعتبارها مغیىّ بعدم الردع به عنها ، ومعه لا تکون صالحة لتقیید الإِطلاق مع صلاحیته للردع عنها ، کما لا یخفى.
قلت : الدلیل لیس إلّا إمضاءً الشارع لها ورضاه بها ، المستکشف بعدم الردع عنها فی زمان مع إمکانه ، وهو غیر مغیى ، نعم یمکن أن یکون له واقعاً ، وفی علمه تعالى أمد خاص ، کحکمه الابتدائی ، حیث إنّه ربما یکون له أمر فینسخ ، فالردع فی الحکم الامضائی لیس إلّا کالنسخ فی الابتدائی وذلک غیر کونه بحسب الدلیل مغیاً ، کما لا یخفى.
وبالجملة : لیس حال السیرة مع الآیات الناهیة إلّا کحال الخاص المقدّم ، والعام المؤخر ، فی دوران الأمر بین التخصیص بالخاص ، أو النسخ بالعام ، ففیهما یدور الأمر أیضاً بین التخصیص بالسیرة أو الردع بالآیات فافهم منه ( 1 ).
العلم التفصیلی بالتکالیف فی مضامین الأخبار الصادرة المعلومة تفصیلاً ، والشک البدوی فی ثبوت التکلیف فی مورد سائر الأمارات الغیر المعتبرة ، ولازم ذلک لزوم العمل على وفق جمیع الأخبار المثبتة ، وجواز العمل على طبق النافی منها فیما إذا لم یکن فی المسألة أصل مثبت له ، من قاعدة الإِشتغال أو الاستصحاب ، بناءً على جریإنّه فی أطراف [ ما ] (1) علم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة فی بعضها ، أو قیام أمارة معتبرة على انتقاضها فیه ، وإلاّ لاختص عدم جواز العمل على وفق النافی بما إذا کان على خلاف قاعدة الاشتغال.
وفیه : إنّه لا یکاد ینهض على حجیة الخبر ، بحیث یقدم تخصیصاً أو تقییداً أو ترجیحاً على غیره ، من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم ، وأنّ کان یسلم عما أورد علیه (2) من أن لازمه الاحتیاط فی سائر الأمارات ، لا فی خصوص الروایات ، لما عرفت من انحلال العلم الإِجمالی بینهما بما علم بین الأخبار بالخصوص ولو بالإِجمال فتأمل جیّداً.
ثانیها : ما ذکره فی الوافیة (3) ، مستدلّاً على حجیة الإخبار الموجودة فی الکتب المعتمدة للشیعة ، کالکتب الأربعة ، مع عمل جمع به من غیر ردّ ظاهر ، وهو :
( إنا نقطع ببقاء التکلیف إلى یوم القیامة ، سیما بالأُصول الضروریة ، کالصلاة والزکاة والصوم والحج والمتاجر والأنکحة ونحوها ، مع أن جل أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما یثبت بالخبر الغیر القطعی ، بحیث نقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن کونها هذه الأمور عند ترک العمل بخبر الواحد ، ومن أنکر فإنما ینکره باللسان وقلبه مطمئن بالإِیمان ). انتهى.
وأُورد (4) علیه : أولاً : بأن العلم الإِجمالی حاصل بوجود الإِجزاء والشرائط
__________________
1 ـ الزیادة من « ب ».
2 ـ أورده الشیخ على الوجه الأوّل بتقریره فلیلاحظ ، فرائد الأصول / 103.
3 ـ الوافیة / 57.
4 ـ إشارة إلى ما أورده الشیخ ( قده ) ، فرائد الأُصول / 105 ، فی جوابه عن التقریر الثّانی من
بین جمیع الأخبار ، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذکره ، فاللازم حینئذ : امّا الاحتیاط ، أو العمل بکل ما دلّ على جزئیة شیء أو شرطیته (1).
قلت : یمکن أن یقال : إن العلم الإِجمالی وأنّ کان حاصلاً بین جمیع الأخبار ، إلّا أن العلم بوجود الإخبار الصادرة عنهم : بقدر الکفایة بین تلک الطائفة ، أو العلم باعتبار طائفة کذلک بینها ، یوجب انحلال ذاک العلم الإِجمالی ، وصیرورة غیره خارجةً عن طرف العلم ، کما مرت إلیه الإِشارة فی تقریب الوجه الأوّل ، اللهم إلّا أن یمنع عن ذلک ، وادعی (2) عدم الکفایة فیما علم بصدوره أو اعتباره ، أو ادعی (3) العلم بصدور أخبار أخر بین غیرها ، فتأمل.
وثانیاً : بأن قضیته إنّما هو العمل بالإخبار المثبتة للجزئیة أو الشرطیّة ، دون الأخبار النافیة لهما.
والأولى أن یورد علیه : بأن قضیته إنّما هو الاحتیاط بالأخبار المثبتة فیما لم تقم حجة معتبرة على نفیهما ، من عموم دلیل أو إطلاقه ، لا الحجیة بحیث یخصص أو یقید بالمثبت منهما ، أو یعمل بالنافی فی قبال حجة على الثبوت ولو کان أصلاً ، کما لا یخفى.
ثالثها : ما أفاده بعضٍ المحققین (4) بما ملخصه : إنا نعلم بکوننا مکلفین بالرجوع إلى الکتاب والسنة إلى یوم القیامة ، فإن تمکنا من الرجوع إلیهما على نحو یحصل العلم بالحکم أو ما بحکمه ، فلابد من الرجوع إلیهما کذلک ، وإلاّ فلا
__________________
دلیل العقل.
1 ـ کذا فی النسختین ، والموجود فی الرسائل : ( فاللازم حینئذٍ امّا الاحتیاط ، والعمل بکل خبر دلّ على جزئیة شیء أو شرطیته ، وإما العمل بکل خبر ظن صدوره مما دلّ على الجزئیة أو الشرطیّة ) ، راجع فرائد الأصول / 105.
2 و 3 ـ الأولى فی الموردین : یدعى.
4 ـ هو العلّامة الشیخ محمد تقی الاصفهانی فی هدایة المسترشدین / 397 ، السادس من وجوه حجیة الخبر.
محیص عن الرجوع على نحو یحصل الظن به فی الخروج عن عهدة هذا التکلیف ، فلو لم یتمکن من القطع بالصدور أو الاعتبار ، فلابد من التنزل إلى الظن بأحدهما.
وفیه : إن قضیة بقاء التکلیف فعلاً بالرجوع إلى الأخبار الحاکیة للسنة ـ کما صرح بإنّها المراد منها فی ذیل کلامه ، زید فی علو مقامه ـ إنّما هی الاقتصار فی الرجوع إلى الأخبار المتیقن الاعتبار ، فإن وفى ، وإلاّ أضیف إلیه الرجوع إلى ما هو المتیقن اعتباره بالإضافة لو کان ، وإلاّ فالاحتیاط بنحو عرفت ، لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره ، وذلک للتمکن من الرجوع علماً تفصیلاً أو إجمالاً ، فلا وجه معه من الاکتفاء بالرجوع إلى ما ظن اعتباره.
هذا مع أنّ مجال المنع عن ثبوت التکلیف بالرجوع إلى السنة ـ بذاک المعنى ـ فیما لم یعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع.
وأما الإیراد (1) علیه : برجوعه امّا إلى دلیل الانسداد لو کان ملاکه دعوى العلم الإِجمالی بتکالیف واقعیة ، وإما إلى الدلیل الأوّل ، لو کان ملاکه دعوى العلم بصدور أخبار کثیرة بین ما بأیدینا من الأخبار.
ففیه : إن ملاکه إنّما هو دعوى العلم بالتکلیف ، بالرجوع إلى الروایات فی الجملة إلى یوم القیامة ، فراجع تمام کلامه تعرف حقیقة مرامه.
__________________
1 ـ المستشکل علیه هو الشیخ ( قده ) ، فرائد الأصول / 106.
فصل
فی الوجوه (1) التی أقاموها على حجیة الظن ، وهی أربعة :
الأول : إن فی مخالفة المجتهد لما ظنه من الحکم الوجوبی أو التحریمی مظنة للضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم.
أما الصغرى ، فلان الظن بوجوب شیء أو حرمته یلازم الظن بالعقوبة على مخالفته أو الظن بالمفسدة فیها ، بناءً على تبعیة الأحکام للمصالح والمفاسد.
وأما الکبرى ، فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون ، ولو لم نقل بالتحسین والتقبیح (2) ، لوضوح عدم انحصار ملاک حکمه بهما ، بل یکون التزامه بدفع الضرر المظنون بل المحتمل بما هو کذلک ولو لم یستقل بالتحسین والتقبیح ، مثل الالتزام بفعل ما استقل بحسنه ، إذا قیل باستقلاله ، ولذا أطبق العقلاء علیه ، مع خلافهم فی استقلاله بالتحسین والتقبیح ، فتدبرّ جیداً.
والصواب فی الجواب : هو منع الصغرى ، امّا العقوبة فلضرورة عدم الملازمة بین الظن بالتکلیف والظن بالعقوبة على مخالفته ، لعدم الملازمة بینه والعقوبة على مخالفته ، وإنما الملازمة بین خصوص معصیته واستحقاق العقوبة علیها ، لا بین
__________________
1 ـ ذکر الشیخ ( قده ) هذه الوجوه أیضاً ، فرائد الأصول / 106.
2 ـ هذا ردّ على الحاجبی : العضدی فی شرحه ، شرح العضدی على مختصر الأصول : 1 / 163.
مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها ، وبمجرد (1) الظن به بدون دلیل على اعتباره لا یتنجز به ، کی یکون مخالفته عصیإنّه.
إلا أن یقال : إن العقل وأنّ لم یستقل بتنجزه بمجرده ، بحیث یحکم باستحقاق العقوبة على مخالفته ، إلّا إنّه لا یستقل أیضاً بعدم استحقاقها معه ، فیحتمل العقوبة حینئذ على المخالفة ، ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشکوک کالمظنون قریبة جداً ، لا سیما إذا کان هو العقوبة الأُخرویة ، کما لا یخفى.
وأما المفسدة فلأنّها وأنّ کان الظن بالتکلیف یوجب الظن بالوقوع فیها لو خالفه ، إلّا إنّها لیست بضرر على کلّ حال ، ضرورة أن کلّ ما یوجب قبح الفعل من المفاسد لا یلزم أن یکون من الضرر على فاعله ، بل ربما یوجب حزازة ومنقصة فی الفعل ، بحیث یذم علیه فاعله بلا ضرر علیه أصلاً ، کما لا یخفى.
وأما تفویت المصلحة ، فلا شبهة فی إنّه لیس فیه مضرة ، بل ربما یکون فی استیفائها المضرة ، کما فی الإحسان بالمال. هذا.
مع منع کون الأحکام تابعة للمصالح والمفاسد فی المأمور به (2) والمنهی عنه (3) ، بل إنّما هی تابعة لمصالح فیها ، کما حققناه فی بعضٍ فوائدنا (4).
وبالجملة : لیست المفسدة ولا المنفعة الفائتة اللتان فی الأفعال وأنیط بهما الأحکام بمضرة ، ولیس مناط حکم العقل بقبح ما فیه المفسدة أو حسن ما فیه المصلحة من الأفعال على القول باستقلاله بذلک ، هو کونه ذا ضرر وارد على فاعله أو نفع عائد إلیه ، ولعمری هذا أوضح من أن یخفى ، فلا مجال لقاعدة رفع
__________________
1 ـ فی « ب » : ومجرد.
2 و 3 ـ أنث الضمیر فی النسخ ، والصواب ما أثبتناه.
4 ـ الفوائد : 337 ، فائدة فی اقتضاء الأفعال للمدح والذم ، عند قوله : فیمکن أن یکون صوریة ... ویمکن أن یکون حقیقیة. وراجع ما ذکره فی حاشیته على الرسائل : 76 ، عند قوله : مع احتمال عدم کون الأحکام تابعة لهما ، بل تابعة لما فی انفسهما من المصلحة ... الخ.
الضرر المظنون ها هنا أصلاً ، ولا استقلال للعقل بقبح فعل ما فیه احتمال المفسدة أو ترک ما فیه احتمال المصلحة ، فافهم.
الثانی : إنّه لو لم یؤخذ بالظن لزم ترجیح المرجوح على الراجح وهو قبیح.
وفیه : إنّه لا یکاد یلزم منه ذلک إلّا فیما إذا کان الأخذ بالظن أو بطرفه لازماً ، مع عدم إمکان الجمع بینهما عقلاً ، أو عدم وجوبه شرعاً ، لیدور الأمر بین ترجیحه وترجیح طرفه ، ولا یکاد یدور الأمر بینهما إلّا بمقدمات دلیل الانسداد ، وإلاّ کان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلمی أو الاحتیاط أو البراءة أو غیرهما على حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال فی اختلاف المقدّمات ، على ما ستطلع على حقیقة الحال.
الثالث : ما عن السید الطباطبائی (1) 1 ، من :
إنّه لا ریب فی وجود واجبات ومحرمات کثیرة بین المشتبهات ، ومقتضى ذلک وجوب الاحتیاط بالإتیان بکل ما یحتمل الوجوب ولو موهوماً ، وترک ما یحتمل الحرمة کذلک ، ولکن مقتضى قاعدة نفی الحرج عدم وجوب ذلک کله ، لإنّه عسر أکید وحرج شدید ، فمقتضى الجمع بین قاعدتی الاحتیاط وانتفاء الحرج العمل بالاحتیاط فی المظنونات دون المشکوکات والموهومات ، لأن الجمع على غیر هذا الوجه بإخراج بعضٍ المظنونات وإدخال بعضٍ المشکوکات والموهومات باطل
__________________
1 ـ هو السید علی بن السید محمد علی الطباطبائی الحائری ، ولد فی الکاظمیة عام 1161 ه اشتغل على ولد الأستاذ العلّامة ثم اشتغل عند خاله الأستاذ العلامة « وحید البهبهانی » وبعد مدة قلیلة اشتغل بالتصنیف والتدریس والتألیف ، له شرحان معروفان على النافع کبیر موسوم ب « ریاض المسائل » وصغیر وغیرهما ، ونقل عنه أیضاً إنّه کان یحضر درس صاحب الحدائق ، وکتب جمیع مجلدات الحدائق بخطه الشریف ، تخرّج علیه صاحب المقابس وصاحب المطالع وصاحب مفتاح الکرامة وشریف العلماء وأمثالهم من الأجلة. توفی سنة 1231 ه ودفن قریبا من قبر خاله العلامة ( روضات الجنات 4 / 399 الرقم 422 ).
إجماعاً (1).
ولا یخفى ما فیه من القدح والفساد ، فإنّه بعضٍ مقدمات دلیل الانسداد ، ولا یکاد ینتج بدون سائر مقدماته ، ومعه لا یکون دلیل آخر ، بل ذاک الدلیل.
الرابع : دلیل الانسداد ، وهو مؤلف من مقدمات ، یستقل العقل مع تحققها بکفایة الإطاعة الظنیة حکومة أو کشفاً على ما تعرف ، ولا یکاد یستقل بها بدونها ، وهی خمس (2).
أولها : إنّه یعلم إجمالاً بثبوت تکالیف کثیرة فعلیة فی الشریعة.
ثانیها : إنّه قد انسد علینا باب العلم والعلمی إلى کثیر منها.
ثالثها : إنّه لا یجوز لنا إهمالها وعدم التعرض لامتثالها أصلاً.
رابعها : إنّه لا یجب علینا الاحتیاط فی أطراف علمنا ، بل لا یجوز فی الجملة ، کما لا یجوز الرجوع إلى الأصل فی المسألة ، من استصحاب وتخییر وبراءة واحتیاط ، ولا إلى فتوى العالم بحکمها.
خامسها : إنّه کان ترجیح المرجوح على الراجح قبیحاً.
فیستقل العقل حینئذٍ بلزوم الإطاعة الظنیة لتلک التکالیف المعلومة ، و إلّا لزم ـ بعد انسداد باب العلم والعلمی بها ـ امّا إهمالها ، وإما لزوم الاحتیاط فی أطرافها ، وإما الرجوع إلى الأصل الجاری فی کلّ مسألة ، مع قطع النظر عن العلم بها ، أو التقلید فیها ، أو الاکتفاء بالاطاعة الشکیة أو الوهمیة مع التمکن من الظنیة.
__________________
1 ـ حکى هذا القول الشیخ الانصاری 1 فی فرائد الأصول / 111 ، نقلاً عن أستاذه شریف العلماء عن أستاذه السید الاجل الاقا میرزا سید علی الطباطبائی 1 « صاحب الریاض » فی مجلس المذاکرة ، کما صرح بذلک العلامة المرحوم المیرزا محمد حسن الاشتیانی 1 راجع بحر الفوائد 189.
2 ـ الصواب ما أثبتناه وفی النسخ : خمسة.
والفرض بطلان کلّ واحد منها.
أما المقدمة الأولى : فهی وأنّ کانت بدیهیة إلّا إنّه قد عرفت انحلال العلم الإِجمالی بما فی الإخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرین : التی تکون فیما بأیدینا ، من الروایات فی الکتب المعتبرة ، ومعه لا موجب للاحتیاط إلّا فی خصوص ما فی الروایات ، وهو غیر مستلزم للعسر فضلاً عما یوجب الاختلال ، ولا إجماع على عدم وجوبه ، ولو سلّم الإجماع على عدم وجوبه لو لم یکن هناک انحلال.
وأما المقدمة الثانیة : امّا بالنسبة إلى العلم ، فهی بالنسبة إلى أمثال زماننا بیّنة وجدانیة ، یعرف الانسداد کلّ من تعرض للاستنباط والاجتهاد.
وأما بالنسبة إلى العلمی ، فالظاهر إنّها غیر ثابتة ، لما عرفت من نهوض الأدلة على حجیة خبر یوثق بصدقه ، وهو بحمد الله وافٍ بمعظم الفقه ، لا سیما بضمیمة ما علم تفصیلاً منها ، کما لا یخفى.
وأما الثالثة : فهی قطعیة ، ولو لم نقل بکون العلم الإِجمالی منجّزاً مطلقاً أو فیما جاز ، أو وجب الاقتحام فی بعضٍ أطرافه ، کما فی المقام حسب ما یأتی ، وذلک لأن إهمال معظم الأحکام وعدم الاجتناب کثیراً عن الحرام ، مما یقطع بإنّه مرغوب عنه شرعاً ومما یلزم ترکه إجماعاً.
إن قلت : إذا لم یکن العلم بها منجّزاً لها للزوم الاقتحام فی بعضٍ الأطراف ـ کما أشیر إلیه ـ فهل کان العقاب على المخالفة فی سائر الأطراف ـ حینئذ ـ على تقدیر المصادفة إلّا عقاباً بلا بیان؟ والمؤاخذة علیها إلّا مؤاخذة بلا برهان؟!
قلت : هذا إنّما یلزم ، لو لم یعلم بإیجاب الاحتیاط ، وقد علم به بنحو اللّم ، حیث علم اهتمام الشارع بمراعاة تکالیفه ، بحیث ینافیه عدم إیجابه الاحتیاط الموجب للزوم المراعاة ، ولو کان بالالتزام ببعض المحتملات ، مع صحة دعوى الاجماع على عدم جواز الإِهمال فی هذا الحال ، وإنّه مرغوب عنه شرعاً قطعاً ، [ وأما
مع استکشافه ] (1) فلا یکون المؤاخذة والعقاب حینئذ بلا بیان وبلا برهان ، کما حققناه فی البحث وغیره.
وأما المقدمة الرابعة : فهی بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتیاط التام بلا کلام ، فیما یوجب عسره اختلال النظام ، وأما فیما لا یوجب ، فمحل نظر بل منع ، لعدم حکومة قاعدة نفی العسر والحرج على قاعدة الاحتیاط ، وذلک لما حققناه (2) فی معنى ما دلّ على نفی الضرر والعسر ، من أن التوفیق بین دلیلهما ودلیل التکلیف أو الوضع المتعلقین بما یعمهما ، هو نفیهما عنهما بلسان نفیهما ، فلا یکون له حکومة على الاحتیاط العسر إذا کان بحکم العقل ، لعدم العسر فی متعلق التکلیف ، وإنما هو فی الجمع بین محتملاته احتیاطاً.
نعم ، لو کان معناه نفی الحکم الناشىء من قبله العسر ـ کما قیل (3) ـ لکانت قاعدة نفیه محکمة على قاعدة الاحتیاط ، لأن العسر حینئذ یکون من قبل التکالیف المجهولة ، فتکون منفیة بنفیه.
ولا یخفى إنّه على هذا لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتیاط فی بعضٍ الأطراف بعد رفع الید عن الاحتیاط فی تمامها ، بل لابد من دعوى وجوبه شرعاً ، کما أشرنا إلیه فی بیان المقدمة الثالثة ، فافهم وتأمل جیّداً.
وأما الرجوع إلى الأُصول ، فبالنسبة إلى الأُصول المثبتة من احتیاط أو استصحاب مثبت للتکلیف ، فلا مانع عن إجرائها عقلاً مع حکم العقل وعموم النقل. هذا ، ولو قیل بعدم جریان الاستصحاب فی أطراف العلم الإِجمالی ،
__________________
1 ـ هکذا فی « أ » وشطب علیها فی « ب ».
2 ـ تعرض المصنف لقاعدة لا ضرر فی ص 72 ( الکتاب ) فلیراجع عند قوله أن الظاهر أن یکون لا لنفی الحقیقة ادعاءً .. وقوله بعد أسطر ثم الحکم الذی أُرید نفیه بنفی الضرر ... الخ.
3 ـ القائل هو الشیخ الأنصاری 1 انظر ، فرائد الأصول / 314 ورسالة قاعدة نفی الضرر فی مکاسبه ، المکاسب / 372.
لاستلزام شمول دلیله لها التناقض فی مدلوله ، بداهة تناقض حرمة النقض فی کلّ منها بمقتضى ( لا تنقض ) لوجوبه فی البعض ، کما هو قضیة ( ولکن تنقضه بیقین آخر ) وذلک لإنّه إنّما یلزم فیما إذا کان الشک فی أطرافه فعلیاً. وأما إذا لم یکن کذلک ، بل لم یکن الشک فعلاً إلّا فی بعضٍ أطرافه ، وکان بعضٍ أطرافه الآخر غیر ملتفت إلیه فعلاً أصلاً ، کما هو حال المجتهد فی مقام استنباط الأحکام ، کما لا یخفى ، فلا یکاد یلزم ذلک ، فإن قضیة ( لا تنقض ) لیس حینئذٍ إلّا حرمة النقض فی خصوص الطرف المشکوک ، ولیس فیه علم بالانتقاض کی یلزم التناقض فی مدلول دلیله من شموله له ، فافهم.
ومنه قد انقدح ثبوت حکم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الأصول النافیة أیضاً ، وإنّه لا یلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدلیل لها لو لم یکن هناک مانع عقلاً أو شرعاً من إجرائها ، ولا مانع کذلک لو کانت موارد الأصول المثبتة بضمیمة ما علم تفصیلا ، أو نهض علیه علمی بمقدار المعلوم إجمالاً ، بل بمقدار لم یکن معه مجال لاستکشاف إیجاب الاحتیاط ، وأنّ لم یکن بذاک المقدار ، ومن الواضح إنّه یختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.
وقد ظهر بذلک أن العلم الإِجمالی بالتکالیف ربما ینحل ببرکة جریان الأُصول المثبتة وتلک الضمیمة ، فلا موجب حینئذ للاحتیاط عقلاً ولا شرعاً أصلاً ، کما لا یخفى.
کما ظهر إنّه لو لم ینحل بذلک ، کان خصوص موارد أصول النافیة مطلقاً ـ ولو من مظنونات [ عدم ] (1) التکلیف ـ محلاً للاحتیاط فعلاً ، ویرفع الید عنه فیها کلاً أو بعضا ، بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر ـ على ما عرفت ـ لا محتملات التکلیف مطلقاً.
__________________
1 ـ أثبتناها من « ب ».
وأما الرجوع إلى فتوى العالم فلا یکاد یجوز ، ضرورة إنّه لا یجوز إلّا للجاهل لا للفاضل الذی یرى خطأ من یدعی انفتاح باب العلم أو العلمی ، فهل یکون رجوعه إلیه بنظره إلّا من قبیل رجوع الفاضل إلى الجاهل؟
وأما المقدمة الخامسة : فلاستقلال العقل بها ، وإنّه لا یجوز التنزل ـ بعد عدم التمکن من الإطاعة العلمیة أو عدم وجوبها ـ إلّا إلى الإطاعة الظنیة دون الشکیة أو الوهمیة ، لبداهة مرجوحیتها بالإضافة إلیها ، وقبح ترجیح المرجوح على الراجح.
لکنک عرفت عدم وصول النوبة إلى الإطاعة الاحتمالیة ، مع دوران الأمر بین الظنیة والشکیة أو الوهمیة ، من جهة ما أوردناه على المقدمة الأولى من انحلال العلم الإِجمالی بما فی أخبار الکتب المعتبرة ، وقضیته الاحتیاط بالالتزام عملاً بما فیها من التکالیف ، ولا بأس به حیث لا یلزم منه عسر فضلاً عما یوجب اختلال النظام ؛ وما أوردنا على المقدمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الأُصول مطلقاً ، ولو کانت نافیة ، لوجود المقتضی وفقد المانع لو کان التکلیف فی موارد الأُصول المثبتة وما علم منه تفصیلاً ، أو نهض علیه دلیل معتبر بمقدار المعلوم بالإِجمال ، و إلّا فإلى الأصول المثبتة وحدها ، وحینئذ کان خصوص موارد الأصول النافیة محلاً لحکومة العقل ، وترجیح مظنونات التکلیف فیها على غیرها ، ولو بعد استکشاف وجوب الاحتیاط فی الجملة شرعاً ، بعد عدم وجوب الاحتیاط التام شرعاً أو عقلاً ـ على ما عرفت تفصیله ـ هذا هو التحقیق على ما یساعد علیه النظر الدقیق ، فافهم وتدبر جیداً.
فصل
هل قضیة المقدّمات على تقدیر سلامتها هی حجیة الظن بالواقع ، أو بالطریق ، أو بهما؟ أقوال.
والتحقیق أن یقال : إنّه لا شبهة فی أن همّ العقل فی کلّ حال إنّما هو
تحصیل الامن من تبعة التکالیف المعلومة ، من العقوبة على مخالفتها ، کما لا شبهة فی استقلاله فی تعیین ما هو المؤمّن منها ، وفی أن کلما کان القطع به مؤمّناً فی حال الانفتاح کان الظن به مؤمّناً حال الانسداد جزماً ، وأنّ المؤمّن فی حال الانفتاح هو القطع بإتیان المکلف به الواقعی بما هو کذلک ، لا بما هو معلوم ومؤدى الطریق ومتعلق العلم ، وهو طریق شرعاً وعقلاً ، أو بإتیإنّه الجعلی ؛ وذلک لأن العقل قد استقل بأن الإِتیان بالمکلف به الحقیقی بما هو هو ، لا بما هو مؤدى الطریق مبریء للذمة قطعاً ، کیف؟ وقد عرفت أن القطع بنفسه طریق لا یکاد تناله ید الجعل إحداثاً وإمضاءً ، إثباتاً ونفیاً. ولا یخفى أن قضیة ذلک هو التنزل إلى الظن بکل واحد من الواقع والطریق.
ولا منشأ لتوهم الاختصاص بالظن بالواقع إلّا توهّم إنّه قضیة اختصاص المقدّمات بالفروع ، لعدم انسداد باب العلم فی الأُصول ، وعدم إلجاء فی التنزل إلى الظن فیها ، والغفلة عن أن جریإنّها فی الفروع موجب لکفایة الظن بالطریق فی مقام یحصل الأمن من عقوبة التکالیف ، وأنّ کان باب العلم فی غالب الأصول مفتوحاً ، وذلک لعدم التفاوت فی نظر العقل فی ذلک بین الظنین.
کما أن منشأ توهّم الاختصاص بالظن بالطریق وجهان :
أحدهما : ما أفاده بعضٍ الفحول (1) وتبعه فی الفصول (2) ، قال فیها :
إنا کما نقطع بأنا مکلفون فی زماننا هذا تکلیفا فعلیاً بأحکام فرعیة کثیرة ، لا سبیل لنا بحکم العیان وشهادة الوجدان إلى تحصیل کثیر منها بالقطع ، ولا بطریق معیّن یقطع من السمع بحکم الشارع بقیامه ، أو قیام طریقه مقام القطع ولو عند تعذره ، کذلک نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلک الأحکام طریقاً مخصوصاً ،
__________________
1 ـ هو العلامة المحقق الشیخ اسد الله الشوشتری ، کشف القناع عن وجوه حجیة الإجماع / 460.
2 ـ الفصول / 277 ، مع اختلاف فی الالفاظ.
وکلفنا تکلیفاً فعلّیاً بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة ، وحیث إنّه لا سبیل غالباً إلى تعیینها بالقطع ، ولا بطریق یقطع من السمع بقیامه بالخصوص ، أو قیام طریقه کذلک مقام القطع ولو بعد تعذره ، فلا ریب أن الوظیفة فی مثل ذلک بحکم العقل إنّما هو الرجوع فی تعیین ذلک الطریق إلى الظن الفعلّی الذی لا دلیل على [ عدم ] (1) حجیته ، لإنّه أقرب إلى العلم ، وإلى إصابة الواقع مما عداه.
وفیه : أولاً ـ بعد تسلیم العلم بنصب طرق خاصة باقیة فیما بأیدینا من الطرق الغیر العلمیة ، وعدم وجود المتیقن بینها أصلاً ـ أن قضیة ذلک هو الاحتیاط فی أطراف هذه الطرق المعلومة بالإِجمال لا تعیینها بالظن.
لا یقال (2) : الفرض هو عدم وجوب الاحتیاط ، بل عدم جوازه ، لأنّ الفرض إنّما هو عدم وجوب الاحتیاط التام فی أطراف الأحکام ، مما یوجب العسر المخل بالنظام ، لا الاحتیاط فی خصوص ما بأیدینا من الطرق. فإن قضیة هذا الاحتیاط هو جواز رفع الید عنه فی غیر مواردها ، والرجوع إلى الأصل فیها ولو کان نافیاً للتکلیف ، وکذا فیما إذا نهض الکلّ على نفیه ، وکذا فیما إذا تعارض فردان من بعضٍ الأطراف فیه نفیاً وإثباتاً مع ثبوت المرجح للنافی ، بل مع عدم رجحان المثبت فی خصوص الخبر منها ، ومطلقاً فی غیره بناءً على عدم ثبوت الترجیح على تقدیر الاعتبار فی غیر الأخبار ، وکذا لو تعارض إثنان منها فی الوجوب والتحریم ، فإن المرجع فی جمیع ما ذکر من موارد التعارض هو الأصل الجاری فیها ولو کان نافیاً ، لعدم نهوض طریق معتبر ولا ما هو من أطراف العلم به على خلافه ، فافهم.
وکذا کلّ مورد لم یجر فیه الأصل المثبت ، للعمل بانتقاض الحالة السابقة فیه
__________________
1 ـ أثبتنا الزیادة من الفصول.
2 ـ إیراد ذکره الشیخ 1 وأمر بالتأمل فیه ، فرائد الأصول / 132 ، عند قوله : أللهم إلّا أن یقال إنّه یلزم الحرج ... الخ.
إجمالاً بسبب العلم به ، أو بقیام أمارة معتبرة علیه فی بعضٍ أطرافه ، بناءً على عدم جریإنّه بذلک.
وثانیاً : لو سلّم أن قضیته (1) لزوم التنزّل إلى الظن ، فتوهّم أن الوظیفة حینئذ هو خصوص الظن بالطریق فاسد قطعاً ، وذلک لعدم کونه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع من الظن ، بکونه مؤدى طریق معتبر من دون الظن بحجیة طریق أصلاً ، ومن الظن بالواقع ، کما لا یخفى.
لا یقال : إنّما لا یکون أقرب من الظن بالواقع ، إذا لم یصرف التکلیف الفعلّی عنه إلى مؤدیّات الطرق ولو بنحو التقیید ، فإن الالتزام به بعید ، إذ الصرف لو لم یکن تصویبا محالاً ، فلا أقل من کونه مجمعاً على بطلإنّه ، ضرورة أنّ القطع بالواقع یجدی فی الإِجزاء بما هو واقع ، لا بما هو مؤدى طریق القطع ، کما عرفت.
ومن هنا انقدح أن التقیید أیضاً غیر سدید ، مع أن الالتزام بذلک غیر مفید ، فإن الظن بالواقع فیما ابتلی به من التکالیف لا یکاد ینفکّ عن الظن بإنّه مؤدى طریق معتبر ، والظن بالطریق ما لم یظن بإصابته (2) الواقع غیر مجد بناءً على التقیید ، لعدم استلزامه الظن بالواقع المقید به بدونه هذا.
مع عدم مساعدة نصب الطریق على الصرف ولا على التقیید ، غایته أن العلم الإِجمالی بنصب طرق وافیة یوجب انحلال العلم بالتکالیف الواقعیة إلى العلم بما هو مضامین الطرق المنصوبة من التکالیف الفعلیة ، والانحلال وأنّ کان یوجب عدم تنجز ما لم یؤد إلیه الطریق من التکالیف الواقعیة ، إلّا إنّه إذا کان رعایة العلم بالنصب لازماً ، والفرض عدم اللزوم ، بل عدم الجواز.
وعلیه یکون التکالیف الواقعیة ، کما إذا لم یکن هناک علم بالنصب فی کفایة
__________________
1 ـ فی « ب » : قضیة.
2 ـ فی « ب » : بإصابة.
الظن بها حال انسداد باب العلم ، کما لا یخفى ؛ ولابد حینئذ من عنایة أُخرى (1) فی لزوم رعایة الواقعیات بنحو من الإطاعة ، وعدم إهمالها رأساً کما أشرنا إلیه (2) ، ولا شبهة فی أن الظن بالواقع لو لم یکن أولى حینئذ لکونه أقرب فی التوسل به إلى ما به الاهتمام من فعل الواجب وترک الحرام ، من الظن بالطریق ، فلا أقل من کونه مساویاً فیما یهم العقل من تحصیل الأمن من العقوبة فی کلّ حال ، هذا مع ما عرفت من إنّه عادةً یلازم الظن بإنّه مؤدى طریق ، وهو بلا شبهة یکفی ، ولو لم یکن هناک ظن بالطریق ، فافهم فإنّه دقیق.
ثانیهما : ما اختصّ به بعضٍ المحققین (3) ، قال :
( لا ریب فی کوننا مکلفین بالأحکام الشرعیة ، ولم یسقط عنا التکلیف بالأحکام الشرعیة ، وأنّ الواجب علینا أولاً هو تحصیل العلم بتفریغ الذمة فی حکم المکلف ، بأن یقطع معه بحکمه بتفریغ ذمتنا عما کلفنا به ، وسقوط تکلیفنا عنا ، سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا ، حسبما مرّ تفصیل القول فیه.
فحینئذ نقول : إن صحّ لنا تحصیل العلم بتفریغ ذمتنا فی حکم الشارع ، فلا إشکال فی وجوبه وحصول البراءة به ، وأنّ انسد علینا سبیل العلم کان الواجب
__________________
1 ـ وهی إیجاب الاحتیاط فی الجملة المستکشف بنحو اللّم ، من عدم الإِهمال فی حال الانسداد قطعاً إجماعا بل ضرورة ، وهو یقتضی التنزل إلى الطن بالواقع حقیقة أو تعبداً ، إذا کان استکشافه فی التکالیف المعلومة إجمالاً ، لما عرفت من وجوب التنزل عن القطع بکل ما یجب تحصیل القطع به فی حال الانفتاح إلى الظن به فی هذا الحال ، وإلى الظن بخصوص الواقعیات التی تکون مؤدیات الطرق المعتبرة ، أو بمطلق المؤدیات لو کان استکشافه فی خصوصها أو فی مطلقها ، فلا یکاد أن تصل النوبة إلى الظن بالطریق بما هو کذلک وأنّ کان یکفی ، لکونه مستلزماً للظن بکون مؤداه مؤدى طریق معتبر ، کما یکفی الظن بکونه کذلک ، ولو لم یکن ظن باعتبار طریق أصلاً کما لا یخفى ، وأنت خبیر بإنّه لا وجه لاحتمال ذلک ، وإنما المتیقن هو لزوم رعایة الواقعیات فی کلّ حال ، بعد عدم لزوم رعایة الطرق المعلومة بالإِجمال بین أطراف کثیرة ، فافهم منه ( 1 ).
2 ـ راجع صفحة / 312.
3 ـ وهو العلامة المحقق الشیخ محمد تقی الأصفهانی ، هدایة المسترشدین / 391.
علینا تحصیل الظن بالبراءة فی حکمه ، إذ هو الأقرب إلى العلم به ، فیتعین الأخذ به عند التنزل من العلم فی حکم العقل ، بعد انسداد سبیل العلم والقطع ببقاء التکلیف ؛ دون ما یحصل معه الظن بأداء الواقع ، کما یدعیه القائل بأصالة حجیة الظن ). انتهى موضع الحاجة من کلامه ، زید فی علو مقامه.
وفیه أولاً : إن الحاکم على الاستقلال فی باب تفریغ الذمة بالإطاعة والامتثال إنّما هو العقل ، ولیس للشاعر فی هذا الباب حکم مولوی یتبعه حکم العقل ، ولو حکم فی هذا الباب کان بتبع حکمه إرشاداً إلیه ، وقد عرفت استقلاله بکون الواقع بما هو هو مفرغاً (1) ، وأنّ القطع به حقیقة أو تعبداً مؤمن جزماً ، وأنّ المؤمّن فی حال الانسداد هو الظن بما کان القطع به مؤمّناً حال الانفتاح ، فیکون الظن بالواقع أیضاً مؤمّناً حال الانسداد.
وثانیاً : سلّمنا ذلک ، لکن حکمه بتفریغ الذمة ـ فیما إذا أتى المکلف بمؤدى الطریق المنصوب ـ لیس إلّا بدعوى أن النصب یستلزمه ، مع أن دعوى أن التکلیف بالواقع یستلزم حکمه بالتفریغ فیما إذا أتى به أولى ، کما لا یخفى ، فیکون الظن به ظناً بالحکم بالتفریغ أیضاً.
إن قلت : کیف یستلزمه (2) الظن بالواقع؟ مع إنّه ربما یقطع بعدم حکمه به معه ، کما إذا کان من القیاس ، وهذا بخلاف الظن بالطریق ، فإنّه یستلزمه ولو کان من القیاس.
قلت : الظن بالواقع أیضاً یستلزم (3) الظن بحکمه بالتفریغ (4) ، ولا ینافی
__________________
1 ـ فی « أ »و « ب » : مفرغ.
2 ـ فی « ب » : یستلزم.
3 ـ وذلک لضرورة الملازمة بین الإِتیان بما کلف به واقعاً وحکمه بالفراغ ویشهد به عدم جواز الحکم بعدمه ، لو سئل عن أن الإِتیان بالمأمور به على وجهه ، هل هو مفرغ؟ ولزوم حکمه بإنّه مفرغ ، وإلاّ لزم عدم إجزاء الأمر الواقعی ، وهو واضح البطلان منه ( 1 ).
4 ـ کذا فی النسخة المصححة ، وفی « أ » : الظن بهما على الأقوى یستلزم الحکم بالتفریغ.
القطع بعدم حجیته لدى الشارع ، وعدم کون المکلف معذوراً ـ إذا عمل به فیهما ـ فیما أخطأ ، بل کان مستحقاً للعقاب ـ ولو فیما أصاب ـ لو بنى على حجیته والاقتصار علیه لتجریه ، فافهم.
وثالثاً : سلمنا أن الظن بالواقع لا یستلزم الظن به ، لکن قضیته لیس إلّا التنزل إلى الظن بإنّه مؤدى طریق معتبر ، لا خصوص الظن بالطریق ، وقد عرفت أن الظن بالواقع لا یکاد ینفک عن الظن بإنّه مؤدى الطریق غالبا.
فصل
لا یخفى عدم مساعدة مقدمات الانسداد على الدلالة على کون الظن طریقاً منصوباً شرعاً ، ضرورة إنّه معها لا یجب عقلاً على الشارع أن ینصب طریقاً ، لجواز اجتزائه بما استقل به العقل فی هذا الحال ، ولا مجال لاستکشاف نصب الشارع من حکم العقل ، لقاعدة الملازمة ، ضرورة إنّها إنّما تکون فی مورد قابل للحکم الشرعی ، والمورد هاهنا غیر قابل له ، فإن الإطاعة الظنیة التی یستقل العقل بکفایتها فی حال الانسداد إنّما هی بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزید منها ، وعدم جواز اقتصار المکلف بدونها ، ومؤاخذة الشارع غیر قابلة لحکمه ، وهو واضح.
واقتصار المکلف بما دونها ، لما کان بنفسه موجباً للعقاب مطلقاً ، أو فیما أصاب الظن ، کما إنّها بنفسها موجبة للثواب أخطأ أو أصاب من دون حاجة إلى أمر بها أو نهی عن مخالفتها ، کان حکم الشارع فیه مولویاً بلا ملاک یوجبه ، کما لا یخفى ، ولا بأس به إرشادیاً ، کما هو شإنّه فی حکمه بوجوب الإطاعة وحرمة المعصیة.
وصحة نصبه الطریق وجعله فی کلّ حال بملاک یوجب نصبه وحکمة داعیة إلیه ، لا تنافی استقلال العقل بلزوم الإطاعة بنحو حال الانسداد ، کما یحکم بلزومها بنحو آخر حال الانفتاح ، من دون استکشاف حکم الشارع بلزومها
مولویاً ، لما عرفت.
فانقدح بذلک عدم صحة تقریر المقدّمات إلّا على نحو الحکومة دون الکشف ، وعلیها فلا إهمال فی النتیجة أصلاً ، سبباً ومورداً ومرتبة ، لعدم تطرق الإِهمال والإِجمال فی حکم العقل ، کما لا یخفى.
أما بحسب الأسباب فلا تفاوت بنظره فیها.
وأما بحسب الموارد ، فیمکن أن یقال بعدم استقلاله بکفایة الإطاعة الظنیة ، إلّا فیما لیس للشارع مزید اهتمام فیه بفعل الواجب وترک الحرام ، واستقلاله بوجوب الاحتیاط فیما فیه مزید الاهتمام ، کما فی الفروج والدماء بل وسائر حقوق الناس مما لا یلزم من الاحتیاط فیها العسر.
وأما بحسب المرتبة ، فکذلک لا یستقل إلّا بلزوم التنزل إلى مرتبة الاطمئنان من الظن بعدم التکلیف (1) ، إلّا على تقدیر عدم کفایتها فی دفع محذور العسر.
وأما على تقریر الکشف ، فلو قیل بکون النتیجة هو نصب الطریق الواصل بنفسه ، فلا إهمال فیها أیضاً بحسب الأسباب ، بل یستکشف حینئذ أن الکلّ حجة لو لم یکن بینها ما هو المتیق ، و إلّا فلا مجال لاستکشاف حجیة (2) غیره ، ولا بحسب الموارد ، بل یحکم بحجیته فی جمیعها ، وإلاّ لزم عدم وصول الحجة ، ولو لأجل التردد فی مواردها ، کما لا یخفى.
ودعوى الإجماع (3) على التعمیم بحسبها فی مثل هذه المسألة المستحدثة مجازفة جدّاً.
__________________
1 ـ کذا صححه فی « ب » ، وفی « أ » : فکذلک لا یستقل إلّا بکفایة مرتبة الاطمئنان من الظن إلّا على ... إلخ.
2 ـ فی « ب » : حجة.
3 ـ ادعاه الشیخ ( قده ) فرائد الأصول / 139.
وأما بحسب المرتبة ، ففیها إهمال ، لأجل احتمال حجیة خصوص الاطمئنانی منه إذا کان وافیاً ، فلابد من الاقتصار علیه.
ولو قیل بأن النتیجة هو نصب الطریق الواصل ولو بطریقه ، فلا إهمال فیها بحسب الأسباب ، لو لم یکن فیها تفاوت أصلاً ، أو لم یکن بینها إلّا واحد ، و إلّا فلابدّ من الاقتصار على متیقن الاعتبار منها أو مظنونه ، بإجراء مقدمات دلیل الانسداد حینئذٍ مرة أو مرّات فی تعیین الطریق المنصوب ، حتى ینتهی إلى ظن واحد أو إلى ظنون متعددة لا تفاوت بینها ، فیحکم بحجیة کلها ، أو متفاوتة یکون بعضها الوافی متیقن الاعتبار ، فیقتصر علیه.
وأما بحسب الموارد والمرتبة ، فکما إذا کانت النتیجة هی الطریق الواصل بنفسه ، فتدبرّ جیداً.
ولو قیل بأن النتیجة هو الطریق ولو لم یصل أصلاً ، فالإهمال فیها یکون من الجهات ، ولا محیص حینئذ إلّا من الاحتیاط فی الطریق بمراعاة اطراف الاحتمال لو لم یکن بینها متیقن الاعتبار ، لو لم یلزم منه محذور ، وإلاّ لزم التنزل إلى حکومة العقل بالاستقلال ، فتأمل فإن المقام من مزال الأقدام.
وهم ودفع : لعلک تقول : إن القدر المتیقن الوافی لو کان فی البین لما کان مجال لدلیل الانسداد ، ضرورة إنّه من مقدماته انسداد باب العلمی أیضاً.
لکنک غفلت عن أن المراد ما إذا کان الیقین بالاعتبار من قبله ، لأجل الیقین بإنّه لو کان شیء حجة شرعاً کان هذا الشیء حجة قطعاً ، بداهة أن الدلیل على أحد المتلازمین إنّما هو الدلیل على الآخر ، لا الدلیل على الملازمة.
ثم لا یخفى أن الظن باعتبار ظن (1) بالخصوص ، یوجب الیقین باعتباره من باب دلیل الانسداد على تقریر الکشف بناءً على کون النتیجة هو الطریق الواصل
__________________
1 ـ فی « ب » : الظن.
بنفسه ، فإنّه حینئذ یقطع بکونه حجة ، کان غیره حجة أو لا ، واحتمال عدم حجیته بالخصوص (1) لا ینافی القطع بحجیته بملاحظة الانسداد ، ضرورة إنّه على الفرض لا یحتمل أن یکون غیره حجة بلا نصب قرینة ، ولکنه من المحتمل أن یکون هو الحجة دون غیره ، لما فیه من خصوصیة الظن بالاعتبار ، وبالجملة الأمر یدور بین حجیة الکلّ وحجیته ، فیکون مقطوع الاعتبار.
ومن هنا ظهر حال القوة ، ولعل نظر من رجح بهما (2) إلى هذا الفرض ، وکان منع شیخنا العلامة ـ أعلى الله مقامه ـ عن الترجیح بهما (3) ، بناءً على کون النتیجة هو الطریق الواصل ولو بطریقه ، أو الطریق ولو لم یصل أصلاً ، وبذلک ربما یوفق بین کلمات الأعلام فی المقام ، وعلیک بالتأمل التام.
ثم لا یذهب علیک أن الترجیح بهما إنّما هو على تقدیر کفایة الراجح ، وإلاّ فلا بدّ من التعدی إلى غیره بمقدار الکفایة ، فیختلف الحال باختلاف الأنظار بل الأحوال.
وأما تعمیم النتیجة (4) بأن قضیة العلم الإِجمالی بالطریق هو الاحتیاط فی أطرافه ، فهو لا یکاد یتم إلّا على تقدیر کون النتیجة هو نصب الطریق ولو لم یصل أصلاً ، مع أن التعمیم بذلک لا یوجب العمل إلّا على وفق المثبتات من الأطراف دون النافیات ، إلّا فیما إذا کان هناک نافٍ من جمیع الأصناف ، ضرورة أن الاحتیاط فیها لا یقتضی رفع الید عن الاحتیاط فی المسألة الفرعیة إذا لزم ، حیث لا ینافیه ، کیف؟ ویجوز الاحتیاط فیها مع قیام الحجة النافیة ، کما لا یخفى ، فما ظنک بما لا یجب الأخذ بموجبه إلّا من باب الاحتیاط؟ فافهم.
__________________
1 ـ فی « أ » : بخصوصه.
2 ـ فرائد الأصول / 142 ، وأما المرجح الثانی.
3 ـ فی « ب » : بها.
4 ـ هذا ثالث طرق « تعمیم النتیجة » الذی نقله الشیخ ( قده ) عن شیخه المحقق شریف العلماء ( قده ) ، واستشکل علیه ، فرائد الأصول 150.
فصل
قد اشتهر الإِشکال بالقطع بخروج القیاس عن عموم نتیجة دلیل الانسداد بتقریر الحکومة ، وتقریره على ما فی الرسائل (1) إنّه :
( کیف یجامع حکم العقل بکون الظن کالعلم مناطاً للاطاعة والمعصیة ، ویقبح على الأمر والمأمور التعدی عنه ، ومع ذلک یحصل الظن أو خصوص الاطمئنان من القیاس ، ولا یجوّز الشارع العمل به؟ فإن المنع عن العمل بما یقتضیه العقل من الظن ، أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممکناً ، جرى فی غیر القیاس ، فلا یکون العقل مستقلاً ، إذ لعله نهى عن أمارة مثل ما نهى عن القیاس [ بل وأزید ] (2) واختفى علینا ، ولا دافع لهذا الاحتمال إلّا قبح ذلک على الشارع ، إذ احتمال صدور ممکن بالذات عن الحکیم لا یرتفع إلّا بقبحه ، وهذا من أفراد ما اشتهر من أن الدلیل العقلی لا یقبل التخصیص ). انتهى موضع الحاجة من کلامه ، زید فی علو مقامه.
وأنت خبیر بإنّه لا وقع لهذا الإِشکال ، بعد وضوح کون حکم العقل بذلک معلّقاً على عدم نصب الشارع طریقاً واصلاً ، وعدم حکمه به فیما کان هناک منصوب ولو کان أصلاً ، بداهة أن من مقدمات حکمه عدم وجود علم ولا علمی ، فلا موضوع لحکمه مع أحدهما ، والنهی عن ظن حاصل من سبب لیس إلّا کنصب شیء ، بل هو یستلزمه فیما کان فی مورده أصل شرعی ، فلا یکون نهیه عنه رفعاً لحکمه عن موضوعه ، بل به یرتفع موضوعه ، ولیس حال النهی عن سبب مفید للظن إلّا کالأمر بما لا یفیده ، وکما لا حکومة معه للعقل لا حکومة له معه ، وکما لا یصحّ بلحاظ حکمه الإِشکال فیه ، لا یصحّ الإِشکال فیه بلحاظه.
__________________
1 ـ فرائد الأصول / 156.
2 ـ أثبتناها من فرائد الأُصول.
نعم لا بأس بالإشکال فیه فی نفسه ، کما أشکل فیه برأسه بملاحظة توهّم استلزام النصب لمحاذیر ، تقدم الکلام فی تقریرها وما هو التحقیق فی جوابها فی جعل الطرق. غایة الأمر تلک المحاذیر ـ التی تکون فیما إذا أخطأ الطریق المنصوب ـ کانت فی الطریق المنهی عنه فی مورد الإصابة ، ولکن من الواضح إنّه لا دخل لذلک فی الإِشکال على دلیل الانسداد بخروج القیاس ، ضرورة إنّه بعد الفراغ عن صحة النهی عنه فی الجملة ، قد أشکل فی عموم النهی لحال الانسداد بملاحظة حکم العقل ؛ وقد عرفت إنّه بمکان من الفساد.
واستلزام إمکان المنع عنه ، لاحتمال المنع عن أمارة أُخرى وقد اختفى علینا ، وأنّ کان موجباً لعدم استقلال العقل ، إلّا إنّه إنّما یکون بالإضافة إلى تلک الامارة ، لو کان غیرها مما لا یحتمل فیه المنع بمقدار الکفایة ، وإلاّ فلا مجال لاحتمال المنع فیها مع فرض استقلال العقل ، ضرورة عدم استقلاله بحکم مع احتمال وجود مانعه ، على ما یأتی تحقیقه فی الظن المانع والممنوع (1).
وقیاس حکم العقل (2) بکون الظن مناطاً للإطاعة فی هذا الحال على حکمه بکون العلم مناطاً لها فی حال الانفتاح ، لا یکاد یخفى على أحد فساده ، لوضوح إنّه مع الفارق ، ضرورة أن حکمه فی العلم على نحو التنجز ، وفیه على نحو التعلیق.
ثم لا یکاد ینقضی تعجبی لم خصصوا الإِشکال بالنهی عن القیاس ، مع جریإنّه فی الأمر بطریق غیر مفید للظن ، بداهة انتفاء حکمه فی مورد الطریق قطعاً ، مع إنّه لا یظن بأحد أن یستشکل بذلک ، ولیس إلّا لأجل أن حکمه به معلق على عدم النصب ، ومعه لا حکم له ، کما هو کذلک مع النهی عن بعضٍ أفراد الظن ، فتدبر جیّداً.
__________________
1 ـ سیأتی تحقیقه فی الفصل الآتی.
2 ـ ذکره الشیخ ( قده ) فی فرائد الأصول / 156.
وقد انقدح بذلک إنّه لا وقع للجواب عن الإِشکال : تارةً (1) بأن المنع عن القیاس لأجل کونه غالب المخالفة ؛ وأُخرى (2) بأن العمل به یکون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الإصابة ، وذلک لبداهة إنّه إنّما یشکل بخروجه بعد الفراغ عن صحة المنع عنه فی نفسه ، بملاحظة حکم العقل بحجیة الظن ، ولا یکاد یجدی صحته کذلک فی ذب الإِشکال فی صحته بهذا اللحاظ ، فافهم فإنّه لا یخلو عن دقة.
وأما ما قیل فی جوابه (3) ، من منع عموم المنع عنه بحال الانسداد ، أو منع حصول الظن منه بعد انکشاف حاله ، وأنّ ما یفسده أکثر مما یصلحه ، ففی غایة الفساد ، فإنّه مضافاً إلى کون کلّ واحد من المنعین غیر سدید ـ لدعوى الإجماع على عموم المنع مع إطلاق أدلته وعموم علته ، وشهادة الوجدان بحصول الظن منه فی بعضٍ الأحیان ـ لا یکاد یکون فی دفع الإِشکال بالقطع بخروج الظن الناشىء منه بمفید ، غایة الأمر إنّه لا إشکال مع فرض أحد المنعین ، لکنه غیر فرض الإِشکال ، فتدبرّ جیداً.
فصل
إذا قام ظن على عدم حجیة ظن بالخصوص ، فالتحقیق أن یقال بعد تصور المنع عن بعضٍ الظنون فی حال الانسداد : إنّه لا استقلال للعقل بحجیة ظن احتمل المنع عنه ، فضلاً عما إذا ظن ، کما أشرنا إلیه فی الفصل السابق ، فلابد من الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه بالخصوص ، فإن کفى ، وإلاّ فبضمیمة ما لم یظن المنع عنه وأنّ احتمل ، مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد ، وأنّ انسد باب هذا الاحتمال معها ، کما لا یخفى ، وذلک ضرورة إنّه لا احتمال مع الاستقلال
__________________
1 ـ هذا سابع الوجوه التی ذکرها الشیخ ( قده ) فی الجواب عن الإِشکال ، فرائد الأصول / 161.
2 ـ هو الوجه السادس الذی أفاده الشیخ ( قده ) واستشکل علیه ، فرائد الأصول / 160.
3 ـ راجع الوجهین الأولین من الوجوه السبعة التی ذکره الشیخ ( قده ) فرائد الأصول / 157.
حسب الفرض ومنه قد انقدح إنّه لا تتفاوت الحال لو قیل بکون النتیجة هی حجیة الظن فی الأصول أو فی الفروع أو فیهما ، فافهم.