کفایة الاصول - قسمت دوم
ومن هنا ظهر الحال فی مثل ( زید ضارب أمس ) وإنّه داخل فی محلّ الخلاف والاشکال. ولو کانت لفظة ( أمس ) أو ( غد ) قرینة على تعیین زمان النسبة والجری أیضاً کان المثالان حقیقة.
وبالجملة : لا ینبغی الإِشکال فی کون المشتق حقیقة ، فیما إذا جرى على الذات ، بلحاظ حال التلبس ، ولو کان فی المضی أو الاستقبال ، وإنما الخلاف فی کونه حقیقة فی خصوصه ، أو فیما یعم ما إذا جرى علیها فی الحال بعد ما انقضى عنه التلبس ، بعد الفراغ عن کونه مجازاً فیما إذا جرى علیها فعلاً بلحاظ التلبس فی الاستقبال ، ویؤیّد ذلک اتفاق أهل العربیة على عدم دلالة الاسم على الزمان ، ومنه الصفات الجاریة على الذوات ، ولا ینافیه اشتراط العمل فی بعضها بکونه بمعنى الحال ، أو الاستقبال ؛ ضرورة أن المراد الدلالة على أحدهما بقرینة ، کیف لا؟ وقد اتفقوا على کونه مجازاً فی الاستقبال.
لا یقال : یمکن أن یکون المراد بالحال فی العنوان زمإنّه ، کما هو الظاهر منه عند إطلاقه ، وادعی إنّه الظاهر فی المشتقات ، امّا لدعوى الانسباق من الإِطلاق ، أو بمعونة قرینة الحکمة.
لأنا نقول : هذا الانسباق ، وأنّ کان مما لا ینکر ، إلّا إنّهم فی هذا العنوان بصدد تعیین ما وضع له المشتق ، لا تعیین ما یراد بالقرینة منه.
سادسها : إنّه لا أصل فی نفس هذه المسألة یعوّل علیه عند الشک ، وأصالة عدم ملاحظة الخصوصیة ، مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم ، لا دلیل على اعتبارها فی تعیین الموضوع له.
وأما ترجیح الاشتراک المعنوی على الحقیقة والمجاز. إذا دار الأمر بینهما لأجل الغلبة ، فممنوع ؛ لمنع الغلبة أولاً ، ومنع نهوض حجة على الترجیح بها ثانیاً.
وأما الأصل العملی فیختلف فی الموارد ، فأصالة البراءة فی مثل ( أَکرم کلّ عالم ) تقتضی عدم وجوب إکرام ما انقضى (1) عنه المبدأ قبل الإِیجاب ، کما أن قضیة الاستصحاب وجوبه لو کان الإِیجاب قبل الانقضاء.
فإذا عرفت ما تلونا علیک ، فاعلم أن الأقوال فی المسألة وأنّ کثرت ، إلّا إنّها حدثت بین المتأخرین ، بعد ما کانت ذات قولین بین المتقدّمین ، لأجل توهّم اختلاف المشتق باختلاف مبادئه فی المعنى ، أو بتفاوت ما یعتریه من الأحوال ، وقد مرت الإِشارة (2) إلى إنّه لا یوجب التفاوت فیما نحن بصدده ، ویأتی له مزید بیان فی أثناء الاستدلال على ما هو المختار ، وهو اعتبارٍ التلبس فی الحال ، وفاقاً لمتأخری الأصحاب والاشاعرة ، وخلافاً لمتقدمیهم والمعتزلة ، ویدل علیه تبادر خصوص المتلبس بالمبدأ فی الحال ، وصحة السلب مطلقاً عما انقضى عنه ، کالمتلبس به فی الاستقبال ، وذلک لوضوح أن مثل : القائم والضارب والعالم ، وما یرادفها من سائر اللغات ، لا یصدق على من لم یکن متلبساً بالمبادىء ، وأنّ کان متلبسا بها قبل الجری والانتساب ، ویصحّ سلبها عنه ، کیف؟ وما یضادها بحسب ما ارتکز من معناها فی الأذهان یصدق علیه ، ضرورة صدق القاعد علیه فی حال تلبسه بالقعود ، بعد انقضاء تلبسه بالقیام ، مع وضوح التضاد بین القاعد والقائم بحسب ما ارتکز لهما من المعنى ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ فی« ب» : من انقضى.
2 ـ تقدم فی الأمر الرابع ، صفحة 43.
وقد یقرَّر هذا وجهاً على حدة ، ویقال (1) : لا ریب فی مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادىء المتضادة ، على ما ارتکز لها من المعانی ، فلو کان المشتق حقیقة فی الأعم ، لما کان بینها مضادة بل مخالفة ، لتصادقها فیما انقضى عنه المبدأ وتلبس بالمبدأ الآخر.
ولا یرد على هذا التقریر ما أورده بعضٍ الأجلّة (2) من المعاصرین ، من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط ، لما عرفت من ارتکازه بینها ، کما فی مبادئها.
إن قلت : لعل ارتکازها لأجل الانسباق من الإِطلاق ، لا الاشتراط.
قلت : لا یکاد یکون لذلک ، لکثرة استعمال المشتق فی موارد الانقضاء ، لو لم یکن بأکثر.
إن قلت : على هذا یلزم أن یکون فی الغالب أو الأغلب مجازاً ، وهذا بعید ، ربما لا یلائمه حکمة الوضع.
لا یقال : کیف؟ وقد قیل : بأن أکثر المحاورات مجازات. فإن ذلک لو سلّم ، فإنما هو لأجل تعدَّد المعانی المجازیة بالنسبة إلى المعنى الحقیقی الواحد. نعم ربما یتفق ذلک بالنسبة إلى معنى مجازی ، لکثرة الحاجة إلى التعبیر عنه. لکن أین هذا مما إذا کان دائماً کذلک؟ فافهم.
__________________
1 ـ البدائع / 181 ، فی المشتق.
2 ـ المراد من بعضٍ الأجلّة ، هو صاحب البدائع ، البدائع / 181.
الشیخ المیرزا حبیب الله بن المیرزا محمد علی خان القوجانی الرشتی ، ولد عام 1234 ه ، حضر بحث صاحب الجواهر والشیخ الانصاری ، کان من أکابر علماء عصره ، أعرض عن الرئاسة ولم یرض أن یقلّده أحد لشدّة توّرعه فی الفتوى ، ولم یتصدّ للوجوه ، له تصانیف کثیرة منها « بدائع الأصول » و « شرح الشرائع » و « کاشف الظلام فی علم الکلام » وغیرها ، توفی لیلة الخمیس 14 / ج 2 عام 1312 ه ودفن فی النجف الاشرف.
( طبقات أعلام الشیعة ، نقباء البشر 1 / 357 رقم 719 )
قلت : مضافاً إلى أن مجرد الاستبعاد غیر ضائر بالمراد ، بعد مساعدة الوجوه المتقدمة علیه ، إن ذلک إنّما یلزم لو لم یکن استعماله فیما انقضى بلحاظ حال التلبس ، مع إنّه بمکان من الإِمکان ، فیراد من ( جاء الضارب أو الشارب ) ـ وقد انقضى عنه الضرب والشرب ـ جاء الذی کان ضاربا وشارباً قبل مجیئه حال التلبس بالمبدأ ، لا حینه بعد الانقضاء ، کی یکون الاستعمال بلحاظ هذا الحال ، وجعله معنوناً بهذا العنوان فعلاً بمجرد تلبسه قبل مجیئه ، ضرورة إنّه لو کان للأعم لصحّ استعماله بلحاظ کلاّ الحالین.
وبالجملة : کثرة الاستعمال فی حال الانقضاء تمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التلبس من الإِطلاق ، إذ مع عموم المعنى وقابلیة کونه حقیقة فی المورد ـ ولو بالانطباق ـ لا وجه لملاحظة حالة أُخرى ، کما لا یخفى ، بخلاف ما إذا لم یکن له العموم ، فإن استعماله ـ حینئذ ـ مجازاً بلحاظ حال الانقضاء وأنّ کان ممکناً ، إلّا إنّه لما کان بلحاظ حال التلبس على نحو الحقیقة بمکان من الإِمکان ، فلا وجه لاستعماله وجریه على الذات مجازاً وبالعنایة وملاحظة العلاقة ، وهذا غیر استعمال اللفظ فیما لا یصحّ استعماله فیه حقیقة ، کما لا یخفى ، فافهم.
ثم إنّه ربما أورد (1) على الاستدلال بصحة السلب ، بما حاصله : إنّه إن أُرید بصحة السلب صحته مطلقاً ، فغیر سدید ، وأنّ أُرید مقیداً ، فغیر مفید ، لأن علامة المجاز هی صحة السلب المطلق.
وفیه : إنّه إن أُرید بالتقیید ، تقیید المسلوب الذی یکون سلبه أعم من سلب المطلق ـ کما هو واضح ـ فصحة سلبه وأنّ لم تکن علامة على کون المطلق مجازاً فیه ، إلّا أن تقییده ممنوع ؛ وأنّ أُرید تقیید السلب ، فغیر ضائر بکونها علامة ، ضرورة صدق المطلق على أفراده على کلّ حال ، مع إمکان
__________________
1 ـ البدائع / 180 ، فی المشتق.
منع تقییده أیضاً ، بأن یلحظ حال الانقضاء فی طرف الذات الجاری علیها المشتق ، فیصحّ سلبه مطلقاً بلحاظ هذا الحال ، کما لا یصحّ سلبه بلحاظ حال التلبس ، فتدبرّ جیداً.
ثم لا یخفى إنّه لا یتفاوت (1) فی صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ ، بین کون المشتق لازماً وکونه متعدیاً ، لصحة سلب الضارب عمن یکون فعلاً غیر متلبس بالضرب ، وکان متلبسا به سابقاً ، وأما إطلاقه علیه فی الحال ، فان کان بلحاظ حال التلبس ، فلا إشکال کما عرفت ، وأنّ کان بلحاظ الحال ، فهو وأنّ کان صحیحاً إلّا إنّه لا دلالة على کونه بنحو الحقیقة ، لکون الاستعمال أعم منها کما لا یخفى.
کما لا یتفاوت فی صحة السلب عنه ، بین تلبسه بضد المبدأ وعدم تلبسه ، لما عرفت من وضوح صحته مع عدم التلبس ـ أیضاً ـ وأنّ کان معه أوضح.
ومما ذکرنا ظهر حال کثیر من التفاصیل ، فلا نطیل بذکرها على التفصیل.
حجة القول بعدم الاشتراط وجوه :
الأول : التبادر.
وقد عرفت أن المتبادر هو خصوص حال التلبس.
الثانی : عدم صحة السلب فی مضروب ومقتول ، عمن انقضى عنه المبدأ.
وفیه : إن عدم صحته فی مثلهما ، إنّما هو لأجل إنّه أُرید من المبدأ
معنى یکون التلبس به باقیاً فی الحال ، ولو مجازاً. وقد انقدح من بعضٍ المقدّمات إنّه لا یتفاوت الحال فیما هو المهمّ فی محلّ البحث والکلام ومورد النقض والأبرام ، اختلاف ما یراد من المبدأ فی کونه حقیقة أو مجازاً ؛ وأما لو أُرید منه نفس ما وقع على الذات ، مما صدر
__________________
1 ـ التفصیل لصاحب الفصول ، الفصول / 60 ، فصل حول إطلاق المشتق.
عن الفاعل ، فإنما لا یصحّ السلب فیما لو کان بلحاظ حال التلبس والوقوع ـ کما عرفت ـ لا بلحاظ الحال أیضاً ، لوضوح صحة أن یقال : إنّه لیس بمضروب الآن ، بل کان.
الثالث : استدلال الامام _ 7 _ تأسیا بالنبی ـ صلوات الله علیه وآله ـ کما عن غیر واحد من الإخبار (1) بقوله تعالی : ( لَا یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ ) (2) على عدم لیاقة من عبد صنماً أو وثنا لمنصب الإمامة والخلافة ، تعریضاً بمن تصدى لها ممن عبد الصنم مدة مدیدة ، ومن الواضح توقف ذلک على کون المشتق موضوعاً للأعم ، وإلاّ لما صحّ التعریض ، لانقضاء تلبسهم بالظلم وعبادتهم للصنم حین التصدی للخلافة.
والجواب منع التوقف على ذلک ، بل یتم الاستدلال ولو کان موضوعاً لخصوص المتلبس.
وتوضیح ذلک یتوقف على تمهید مقدّمة ، وهی : إن الأوصاف العنوانیة التی تؤخذ فی موضوعاًت الأحکام ، تکون على أقسام :
أحدها : أن یکون أخذ العنوان لمجرد الإِشارة إلى ما هو فی الحقیقة موضوعاً للحکم ، لمعهودیته بهذا العنوان ، من دون دخل لاتصافه به فی الحکم أصلاً.
ثانیها : أن یکون لأجل الإِشارة إلى علیة المبدأ للحکم ، مع کفایة مجرد صحة جری المشتق علیه ، ولو فیما مضى.
ثالثها : أن یکون لذلک مع عدم الکفایة ، بل کان الحکم دائراً مدار صحة الجری علیه ، واتّصافه به حدوثاً وبقاء.
إذا عرفت هذا فنقول : إن الاستدلال بهذا الوجه إنّما یتم ، لو کان أخذ العنوان فی الآیة الشریفة على النحو الأخیر ، ضرورة إنّه لو لم یکن المشتق
__________________
1 ـ الکافی 1/175 ، باب طبقات الأنبیاء والرسل والأئمة ، الحدیث 1.
2 ـ البقرة / 124.
للأعم ، لما تم بعد عدم التلبس بالمبدأ ظاهراً حین التصدی ، فلا بدّ أن یکون للأعم ، لیکون حین التصدی حقیقة من الظالمین ، ولو انقضى عنهم التلبس بالظلم. وأما إذا کان على النحو الثّانی ، فلا ، کما لا یخفى.
ولا قرینة على إنّه على النحو الأوّل ، لو لم نقل بنهوضها على النحو الثّانی ، فإن الآیة الشریفة فی مقام بیان جلالة قدر الامامة والخلافة وعظم خطرها ، ورفعة محلها ، وأنّ لها خصوصیة من بین المناصب الإلهیة ، ومن المعلوم أن المناسب لذلک ، هو أن لا یکون المتقمص بها متلبساً بالظلم أصلاً ، کما لا یخفى.
إن قلت : نعم ، ولکن الظاهر أن الإمام 7 إنّما استدل بما هو قضیة ظاهر العنوان وضعاً ، لا بقرینة المقام مجازاً ، فلا بدّ أن یکون للأعم ، وإلاّ لما تم.
قلت : لو سلّم ، لم یکن یستلزم جری المشتق على النحو الثّانی کونه مجازاً ، بل یکون حقیقة لو کان بلحاظ حال التلبس کما عرفت. فیکون معنى الآیة ، والله العالم : من کان ظالماً ولو آناً فی زمان سابق (1) لا ینال عهدی أبداً ، ومن الواضح أن إرادة هذا المعنى لا تستلزم الاستعمال ، لا بلحاظ حال التلبس.
ومنه قد انقدح ما فی الاستدلال على التفصیل بین المحکوم علیه والمحکوم به ، باختیار عدم الاشتراط فی الأوّل ، بآیة حد السارق والسارقة ، والزانی والزانیة ، وذلک حیث ظهر إنّه لا ینافی إرادة خصوص حال التلبس دلالتها على ثبوت القطع والجلد مطلقاً ، ولو بعد انقضاء المبدأ ، مضافاً إلى
__________________
1 ـ فی « ب » : السابق.
وضوح بطلان تعدَّد الوضع ، حسب وقوعه محکوماً علیه أو به ، کما لا یخفى.
ومن مطاوی ما ذکرنا ـ ها هنا وفی المقدّمات ـ ظهر حال سائر الأقوال ، وما ذکر لها من الاستدلال ، ولا یسع المجال لتفصیلها ، ومن أراد الاطلاع علیها فعلیه بالمطولات.
بقی اُمور :
الأول : إن مفهوم المشتق ـ على ما حققه المحقق الشریف (1) فی بعضٍ حواشیه (2) ـ : بسیط منتزع عن الذات ـ باعتبار تلبسها بالمبدأ واتصافها به ـ غیر مرکب. وقد أفاد فی وجه ذلک : أن مفهوم الشیء لا یعتبر فی مفهوم الناطق مثلاً ، وإلاّ لکان العرض العام داخلا فی الفصل ، ولو اعتبر فیه ما صدق علیه الشیء ، انقلبت مادة الإِمکان الخاص ضرورة ، فإن الشیء الذی له الضحک هو الإانسان ، وثبوت الشیء لنفسه ضروری. هذا ملخص ما أفاده الشریف ، على ما لخصه بعضٍ الأعاظم (3).
وقد أورد علیه فی الفصول (4) ، بإنّه یمکن أن یختار الشق الأوّل ، ویدفع الإِشکال بأن کون الناطق ـ مثلاً ـ فصلاً ، مبنی على عرفّ المنطقیین ،
__________________
1 ـ المیر سید علی بن محمّد بن علی الحسینی الاسترابادی ، ولد المحقق الشریف سنة 740 ه بجرجان وکان متکلماً بارعاً ، باهراً فی الحکمة والعربیة ، روى عن جماعة منهم العلامة قطب الدین الرازی ، واخذ منه العلامة المذکور ، له شرح المطالع وشرح على مواقف القاضی عضد الایجی فی علم أصول الکلام ،عده القاضی نور الله من حکماء الشیعة وعلمائها. وتوفی فی شیراز سنة 816 ه. ( الکنى والالقاب 2 / 358 ).
2 ـ فی حاشیته على شرح المطالع عند قول الشارح : إلّا أن معناه شیء له المشتق منه ... الخ ، شرح المطالع / 11.
3 ـ الفصول / 61 ، التنبیهات.
4 ـ الفصول / 61 ، التنبیهات.
حیث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات ، وذلک لا یوجب وضعه لغةً کذلک.
وفیه : إنّه من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلاً بلا تصرف فی معناه أصلاً ، بل بماله من المعنى ، کما لا یخفى.
والتحقیق أن یقال إن مثل الناطق لیس بفصل حقیقی ، بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصه ، وإنما یکون فصلاً مشهوریاً منطقیاً یوضع مکإنّه إذا لم یعلم نفسه ، بل لا یکاد یعلم ، کما حقق فی محله ، ولذا ربما یجعل لازمان مکإنّه إذا کانا متساویین النسبة إلیه ، کالحساس والمتحرک بالإِرادة فی الحیوان ، وعلیه فلا بأس بأخذ مفهوم الشیء فی مثل الناطق ، فإنّه وأنّ کان عرضاً عاماً ، لا فصلاً مقوماً للإنسان ، إلّا إنّه بعد تقییده بالنطق واتّصافه به کان من أظهر خواصه.
وبالجملة لا یلزم من أخذ مفهوم الشیء فی معنى المشتق ، إلّا دخول العرض فی الخاصة التی هی من العرضی ، لا فی الفصل الحقیقی الذی هو من الذاتی ، فتدبرّ جیداً.
ثم قال : إنّه یمکن أن یختار الوجه الثّانی أیضاً ، ویجاب بأن المحمول لیس مصداق الشیء والذات مطلقاً ، بل مقیداً بالوصف ، ولیس ثبوته للموضوع حینئذٍ بالضرورة ، لجواز أن لا یکون ثبوت القید ضروریاً. انتهى.
ویمکن أن یقال : إن عدم کون ثبوت القید ضروریاً لا یضر بدعوى الانقلاب ، فإن المحمول إن کان ذات المقید وکان القید خارجاً ، وأنّ کان التقییّد داخلاً بما هو معنى حرفی ، فالقضیة لا محالة تکون ضروریة ، ضرورة ضروریة ثبوت الإانسان الذی یکون مقیداً بالنطق للإنسان وأنّ کان المقید به بما هو مقید على أن یکون القید داخلاً ، فقضیة ( الإانسان ناطق ) تنحل فی الحقیقة إلى قضیتین إحداهما قضیة ( الإانسان إنسان ) وهی
ضروریة ، والأخرى قضیة ( الإانسان له النطق ) وهی ممکنة ، وذلک لأن الاوصاف قبل العلم بها أخبار کما أن الإخبار بعد العلم تکون أوصافاً ، فعقد الحمل ینحل إلى القضیة ، کما أن عقد الوضع ینحل إلى قضیة مطلقة عامة عند الشیخ ، وقضیة ممکنة عند الفارابی (1) ، فتأمل.
لکنه 1 تنظر فیما أفاده بقوله : وفیه نظر لأن الذات المأخوذة مقیدة بالوصف قوة أو فعلاً ، إن کانت مقیدة به واقعاً صدق الإِیجاب بالضرورة وإلاّ صدق السلب بالضرورة ، مثلاً : لا یصدق زید کاتب بالضرورة لکن یصدق ( زید الکاتب (2) بالقوة أو بالفعل [ کاتب ] بالضرورة ). انتهى.
ولا یذهب علیک أن صدق الإِیجاب بالضرورة ، بشرط کونه مقیداً به واقعاً لا یصحح دعوى الانقلاب إلى الضروریة ، ضرورة صدق الإِیجاب بالضرورة بشرط المحمول فی کلّ قضیة ولو کانت ممکنة ، کما لا یکاد یضر بها صدق السلب کذلک ، بشرط عدم کونه مقیداً به واقعاً ، لضرورة السلب بهذا الشرط ، وذلک لوضوح أن المناط فی الجهات ومواد القضایا ، إنّما هو بملاحظة أن نسبة هذا المحمول إلى ذلک الموضوع موجهة بأی جهة منها ، ومع أیة منها فی نفسها صادقة ، لا بملاحظة ثبوتها له واقعاً أو عدم ثبوتها له کذلک ، وإلاّ کانت الجهة منحصرة بالضرورة ، ضرورة صیرورة الإِیجاب أو السلب ـ بلحاظ الثبوت وعدمه ـ واقعاً ضروریاً ، ویکون من باب الضرورة
__________________
1 ـ أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الحکیم المشهور ، صاحب التصانیف فی الفلسفة والمنطق والموسیقى وغیرها من العلوم ، أقام ببغداد برهة ثم ارتحل إلى مدینة حرَّان ثم رجع إلى بغداد ثم سافر إلى دمشق ثم إلى مصر ، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها وسلطإنّها یومئذٍٍ سیف الدولة بن حمدان ، ویحکى أن الآلة المسماة « القانون » من وضعه ، وکان منفرداً بنفسه لا یجالس الناس ، أکثر تصانیفه فصول وتعالیق ، توفی عام 339 بدمشق وقد ناهز ثمانین سنة وصلّى علیه سیف الدولة ودفن بظاهر دمشق. ( وفیات الأعیان 5 / 153 رقم 701 ).
2 ـ أثبتناها من ( ب )
بشرط المحمول.
وبالجملة : الدعوى هو انقلاب مادة الإِمکان بالضرورة ، فیما لیست مادته واقعاً فی نفسه وبلا شرط غیر الأمکان.
وقد انقدح بذلک عدم نهوض ما أفاده ; بإبطال الوجه الأوّل ، کما زعمه 1 ، فإن لحوق مفهوم الشیء والذات لمصادیقهما ، إنّما یکون ضروریاً مع إطلاقهما ، لا مطلقاً ، ولو مع التقید إلّا بشرط تقید المصادیق به أیضاً ، وقد عرفت حال الشرط ، فافهم.
ثم إنّه لو جعل التالی فی الشرطیّة الثانیة لزوم أخذ النوع فی الفصل ؛ ضرورة أن مصداق الشیء الذی له النطق هو الإانسان ، کان ألیق بالشرطیة الأولى ، بل کان أولى (1) لفساده مطلقاً ، ولو لم یکن مثل الناطق بفصل حقیقی ، ضرورة بطلان أخذ الشیء فی لازمه وخاصته ، فتأمل جیداً.
ثم إنّه یمکن أن یستدل على البساطة ، بضرورة عدم تکرار الموصوف فی مثل ( زید الکاتب ) ، ولزومه من الترکب ، وأخذ الشیء مصداقاً أو مفهوماً فی مفهومه.
إرشاد :
لا یخفى أن معنى البساطة ـ بحسب المفهوم ـ وحدته إدراکاً وتصوراً ، بحیث لا یتصور عند تصوره إلّا شیء واحد لا شیئاًن ، وأنّ انحل بتعمّل من العقل إلى شیئین ، کانحلال مفهوم الشجر والحجر إلى شیء له الحجریة أو الشجریة ، مع وضوح بساطة مفهومهما.
وبالجملة : لا ینثلم بالانحلال إلى الاثنینیة ـ بالتعمّل العقلی ـ وحدة المعنى
__________________
1 ـ فی « ب » : الأولى.
وبساطة المفهوم ، کما لا یخفى ، وإلى ذلک یرجع الإِجمال والتفصیل الفارقان (1) بین المحدود والحد ، مع ما هما علیه من الاتحاد ذاتاً ، فالعقل بالتعمّل یحلل النوع ، ویفصله إلى جنس وفصل ، بعد ما کان أمراً واحداً إدراکاً ، وشیئاً فارداً تصوراً ، فالتحلیل یوجب فتق ما هو علیه من الجمع والرتق.
الثانی : الفرق بین المشتق ومبدئه مفهوماً ، إنّه بمفهومه لا یأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ ، ولا یعصی عن الجری علیه ، لما هما علیه من نحو من الاتحاد ، بخلاف المبدأ ، فإنّه بمعناه یأبى عن ذلک ، بل إذا قیس ونسب إلیه کان غیره ، لا هو هو ، وملاک الحمل والجری إنّما هو نحو من الاتحاد والهوهویة ، وإلى هذا یرجع ما ذکره أهل المعقول فی الفرق بینهما ، من أن المشتق یکون لا بشرط والمبدأ یکون بشرط لا ، أیّ یکون مفهوم المشتق غیر آب عن الحمل ، ومفهوم المبدأ یکون آبیا عنه ، وصاحب الفصول (2) ; ـ حیث توهّم أن مرادهم إنّما هو بیان التفرقة بهذین الاعتبارین ، بلحاظ الطوارىء والعوارض الخارجیة مع حفظ مفهوم واحد ـ أورد علیهم بعدم استقامة الفرق بذلک ، لأجل امتناع حمل العلم والحرکة على الذات ، وأنّ اعتبرا لا بشرط ، وغفل عن أن المراد ما ذکرنا ، کما یظهر منهم من بیان الفرق بین الجنس والفصل ، وبین المادة والصورة ، فراجع.
الثالث : ملاک الحمل ـ کما أشرنا إلیه ـ هو الهوهویة والاتحاد من وجه ،
__________________
1 ـ فی « أ و ب » : الفارقین.
2 ـ الفصول / 62 ، التنبیه الثّانی من تنبیهات المشتق.
هو الشیخ محمد حسین بن محمد رحیم الطهرانی الحائری ، ولد فی « إیوان کیف » ، أخذ مقدمات العلوم فی طهران ، ثم اکتسب من شقیقه الحجة الشیخ محمد تقی الاصفهانی صاحب « هدایة المسترشدین » فی اصفهان ، ثم هاجر إلى العراق فسکن کربلاء ، کان مرجعاً عاماً فی التدریس والتقلید ، وقد تخرّج من معهده جمع من کبار العلماء ، أجاب داعی ربه سنة 1254 ه وله آثار أشهرها « الفصول الغرویة » فی الأصول ( طبقات اعلام الشیعة الکرام البررة 1 / 390 رقم 795 ).
والمغایرة من وجه آخر ، کما یکون بین المشتقات والذوات ، ولا یعتبر معه (1) ملاحظة الترکیب بین المتغایرین ، واعتبار کون مجموعهما ـ بما هو کذلک ـ واحداً ، بل یکون لحاظ ذلک مخلا ، لاستلزامه المغایرة بالجزئیة والکلیة.
ومن الواضح أن ملاک الحمل لحاظ نحو اتحاد بین الموضوع والمحمول ، مع وضوح عدم لحاظ ذلک فی التحدیدات وسائر القضایا فی طرف الموضوعاًت ، بل لا یلحظ فی طرفها إلّا نفس معانیها ، کما هو الحال فی طرف المحمولات ، ولا یکون حملها علیها إلّا بملاحظة ما هما علیه من نحو من الاتحاد ، مع ما هما علیه من المغایرة ولو بنحو من الاعتبار.
فانقدح بذلک فساد ما جعله فی الفصول تحقیقاً للمقام. وفی کلامه موارد للنظر ، تظهر بالتأمل وإمعان النظر.
الرابع : لا ریب فی کفایة مغایرة المبدأ مع ما یجری المشتق علیه مفهوماً ، وأنّ اتحدا عیناً و خارجاً ، فصدق الصفات ـ مثل : العالم ، والقادر ، والرحیم ، والکریم ، إلى غیر ذلک من صفات الکمال والجلال ـ علیه تعالى ، على ما ذهب إلیه أهل الحق من عینیة صفاته ، یکون على الحقیقة ، فإن المبدأ فیها وأنّ کان عین ذاته تعالى خارجاً ، إلّا إنّه غیر ذاته تعالى مفهوماً.
ومنه قد انقدح ما فی الفصول ، من الالتزام بالنقل (2) أو التجوز فی ألفاظ الصفات الجاریة علیه تعالى ، بناءً على الحق من العینیة ، لعدم المغایرة المعتبرة بالاتفاق ، وذلک لما عرفت من کفایة المغایرة مفهوماً ، ولا اتفاق على اعتبارٍ غیرها ، إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره ، کمالا یخفى ، وقد عرفت ثبوت المغایرة کذلک بین الذات ومبادىء الصفات.
__________________
1 ـ اشارة إلى ما افاده صاحب الفصول ، الفصول ، 62 التنبیه الثانی.
2 ـ الفصول / 62 ، التنبیه الثالث من تنبیهات المشتق.
الخامس : إنّه وقع الخلاف بعد الاتفاق على اعتبارٍ المغایرة ـ کما عرفت ـ بین المبدأ وما یجری علیه المشتق ، فی اعتبارٍ قیام المبدأ به ، فی صدقه على نحو الحقیقة.
وقد استدل من قال (1) بعدم الاعتبار ، بصدق الضارب والمؤلم ، مع قیام الضرب والألم بالمضروب والمؤلمَ ـ بالفتح ـ.
والتحقیق : إنّه لا ینبغی أن یرتاب من کان من أولى الالباب ، فی إنّه یعتبر فی صدق المشتق على الذات وجریه علیها ، من التلبس بالمبدأ بنحو خاص ، على اختلاف أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارةً ، واختلاف الهیئات أُخرى ، من القیام صدوراً أو حلولا أو وقوعا علیه أو فیه ، أو انتزاعه عنه مفهوماً مع اتحاده معه خارجاً ، کما فی صفاته تعالى ، على ما أشرنا إلیه آنفا ، أو مع عدم تحقق إلّا للمنتزع عنه ، کما فی الاضافات والاعتبارات التی لا تحقق لها ، ولا یکون بحذائها فی الخارج شیء ، وتکون من الخارج المحمول ، لا المحمول بالضمیمة ، ففی صفاته الجاریة علیه تعالى یکون المبدأ مغایراً له تعالى مفهوماً ،وقائماً به عیناً ، لکنه بنحو من القیام ، لا بأن یکون هناک اثنینیة ، وکان ما بحذائه غیر الذات ، بل بنحو الاتحاد والعینیة ، وکان ما بحذائه عین الذات ، وعدم اطلاع العرف على مثل هذا التلبس من الأمور الخفیة لا یضر بصدقها علیه تعالى على نحو الحقیقة ، إذا کان لها مفهوم صادق علیه تعالى حقیقة ، ولو بتأمل وتعمّل من العقل. والعرف إنّما یکون مرجعاً فی تعیین المفاهیم ، لا فی تطبیقها على مصادیقها.
وبالجملة : یکون مثل ( العالم ) ، ( والعادل ) ، وغیرهما من الصفات الجاریة علیه تعالى وعلى غیره جاریة علیهما بمفهوم واحد ومعنى فارد ، وأنّ اختلفا فیما یعتبر فی الجری من الاتحاد ، وکیفیة التلبس بالمبدأ ، حیث إنّه بنحو العینیة فیه تعالى ، وبنحو الحلول أو الصدور فی غیره ، فلا وجه لما التزم به فی
__________________
1 ـ الفصول / 62 ، التنبیه الثالث من تنبیهات المشتق.
الفصول (1) ، من نقل الصفات الجاریة علیه تعالى عما هی علیها من المعنى ، کما لا یخفى ، کیف؟ ولو کانت بغیر معانیها العامة جاریة علیه تعالى کانت صرف لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنى ، فإن غیر تلک المفاهیم العامة الجاریة على غیره تعالى غیر مفهوم ولا معلوم إلّا بما یقابلها ، ففی مثل ما إذا قلنا : ( إنّه تعالى عالم ) ، امّا أن نعنی إنّه من ینکشف لدیه الشیء فهو ذاک المعنى العام ، أو إنّه مصداق لما یقابل ذاک المعنى ، فتعالى عن ذلک علواً کبیراً، وإما أن لا نعنی شیئاً ، فتکون کما قلناه من کونها صرف اللقلقة ، وکونها بلا معنى ، کما لا یخفى.
والعجب إنّه جعل ذلک علّة لعدم صدقها فی حق غیره ، وهو کما ترى ، وبالتأمل فیما ذکرنا ، ظهر الخلل فیما استدل من الجانبین والمحاکمة بین الطرفین ، فتأمل.
السادس : الظاهر إنّه لا یعتبر فی صدق المشتق وجریه على الذات حقیقة ، التلبس بالمبدأ حقیقة وبلا واسطة فی العروض ، کما فی الماء الجاری ، بل یکفی التلبس به ولو مجازاً ، ومع هذه الواسطة ، کما فی المیزاب الجاری ، فاسناد الجریان إلى المیزاب ، وأنّ کان إسناداً إلى غیر ما هو له وبالمجاز ، إلّا إنّه فی الإِسناد ، لا فی الکلمة ، فالمشتق فی مثل المثال ، بما هو مشتق قد استعمل فی معناه الحقیقی ، وأنّ کان مبدؤه مسنداً إلى المیزاب بالإِسناد المجازی ، ولا منافاة بینهما أصلاً ، کما لا یخفى.
ولکن ظاهر الفصول (2) بل صریحه ، اعتبارٍ الإِسناد الحقیقی فی صدق المشتق حقیقة ، وکأنه من باب الخلط بین المجاز فی الإِسناد والمجاز فی الکلمة ، وهذا ـ هاهنا ـ محلّ الکلام بین الأعلام ، والحمد لله ، وهو خیر ختام.
__________________
1 ـ الفصول / 62 ، التنبیه الثالث من تنبیهات المشتق.
2 ـ الفصول / 62 ، التنبیه الثالث من تنبیهات المشتق.
المقصد الأوّل : فی الاوامر
وفیه فصول :
الأول : فیما یتعلق بمادة الأمر من الجهات ، وهی عدیدة :
الأولى : إنّه قد ذکر للفظ الأمر معانٍ متعددة ، منها الطلب ، کما یقال ، أمره بکذا.
ومنها الشأن ، کما یقال : شغله أمر کذا.
ومنها الفعل ، کما فی قوله تعالى : ( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِیدٍ ) (1).
ومنها الفعل العجیب ، کما فی قوله تعالى : ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) (2).
ومنها الشیء ، کما تقول : رأیت الیوم أمراً عجیبا.
ومنها الحادثة
ومنها الغرض ، کما تقول : جاء زید الأمر کذا.
ولا یخفى أن عد بعضها من معانیه من اشتباه المصداق بالمفهوم ؛ ضرورة أن الأمر فی ( جاء زید الأمر ) ما إستعمل فی معنى الغرض ، بل اللام قد دلّ على الغرض ، نعم یکون مدخوله مصداقه ، فافهم ، وهکذا الحال فی قوله
__________________
1 ـ هود : 97.
2 ـ هود : 66 ، 82.
تعالى ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) (1) یکون مصداقاً للتعجب ، لا مستعملاً فی مفهومه ، وکذا فی الحادثة والشأن.
وبذلک ظهر ما فی دعوى الفصول (2) ، من کون لفظ الأمر حقیقة فی المعنیین الأولین.
ولا یبعد دعوى کونه حقیقة فی الطلب فی الجملة والشیء ، هذا بحسب العرف واللغة.
وأما بحسب الاصطلاح ، فقد نقل (3) الاتفاق على إنّه حقیقة فی القول المخصوص ، ومجاز فی غیره ، ولا یخفى إنّه علیه لا یمکن منه الاشتقاق ، فإن معناه ـ حینئذ ـ لا یکون معنى حدثیاً ، مع أن الاشتقاقات منه ـ ظاهراً ـ تکون بذلک المعنى المصطلح علیه بینهم ، لا بالمعنى الآخر ، فتدبر.
ویمکن أن یکون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه ، تعبیراً عنه بما یدلّ علیه ، نعم القول المخصوص ـ أیّ صیغة الأمر ـ إذا أراد العالی بها الطلب یکون من مصادیق الأمر ، لکنه بما هو طلب مطلق أو مخصوص.
وکیف کان ، فالأمر سهل لو ثبت النقل ، ولا مشاحة فی الاصطلاح ، وإنما المهمّ بیان ما هو معناه عرفاً ولغة ، لیحمل علیه فیما إذا ورد بلا قرینة ، وقد استعمل فی غیر واحد من المعانی فی الکتاب والسنة ، ولا حجة على إنّه على نحو الاشتراک اللفظی أو المعنوی أو الحقیقة والمجاز.
وما ذکر فی الترجیح ، عند تعارض هذه الأحوال ، لو سلّم ، ولم یعارض بمثله ، فلا دلیل على الترجیح به ، فلا بدّ مع التعارض من الرجوع إلى الأصل فی مقام العمل ، نعم لو علم ظهوره فی أحد معانیه ، ولو إحتمل إنّه کان للانسباق من الإِطلاق ، فلیحمل علیه ، وأنّ لم یعلم إنّه حقیقة فیه
__________________
1 ـ هود : 66 ، 82.
2 ـ الفصول / 62 ، القول فی الأمر.
3 ـ الفصول / 62 ـ 63 ، القول فی الأمر.
بالخصوص ، أو فیما یعمه ، کما لا یبعد أن یکون کذلک فی المعنى الأول.
الجهة الثانیة : الظاهر اعتبارٍ العلو فی معنى الأمر ، فلا یکون الطلب من السافل أو المساوی أمراً ، ولو أطلق علیه کان بنحو من العنایة ، کما أن الظاهر عدم اعتبارٍ الاستعلاء ، فیکون الطلب من العالی أمراً ولو کان مستخفضاً لجناحه.
وأما إحتمال اعتبارٍ أحدهما فضعیف. وتقبیح الطالب السافل من العالی المستعلی علیه ، وتوبیخه بمثل : ( إنک لم تأمره ) ، إنّما هو على استعلائه ، لا على أمره حقیقة بعد استعلائه ، وإنما یکون إطلاق الأمر على طلبه بحسب ما هو قضیة استعلائه ، وکیف کان ، ففی صحة سلب الأمر عن طلب السافل ، ولو کان مستعلیاً کفایة.
الجهة الثالثة : لا یبعد کون لفظ الأمر حقیقة فی الوجوب ، لأنسباقه عنه عند إطلاقه ، ویؤیّد قوله تعال ( فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (1) وقوله 9 (2) : ( لولا أن أشقِّ على أمتی لامرتهم بالسواک ) (2) وقوله 9 : لبریرة بعد قولها : أتأمرنی یا رسول الله؟ ـ : ( لا ، بل إنّما أنا شافع ) (3) إلى غیر ذلک ، وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره ، وتوبیخه على مجرد مخالفته ، کما فی قوله تعالى ( مَا مَنَعَکَ إلّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُکَ ) (4).
وتقسیمه إلى الإِیجاب والاستحباب ، إنّما یکون قرینة على إرادة المعنى الأعم منه فی مقام تقسیمه. وصحة الاستعمال فی معنى أعم من کونه على نحو
__________________
1 ـ النور : 63.
2 ـ غوالی اللآلی : 2 / 21 الحدیث 43.
3 ـ الکافی : 5 / 485 ، التهذیب : 7 / 341 ، الخصال : 1 / 190.
4 ـ الأعراف : 12.
الحقیقة ، کما لا یخفى.
وأما ما اُفید (1) من أن الاستعمال فیهما ثابت ، فلو لم یکن موضوعاً للقدر المشترک بینهما لزم الاشتراک أو المجاز ، فهو غیر مفید ، لما مرت الإِشارة إلیه فی الجهة الأولى ، وفی تعارض الأحوال (2) ، فراجع.
والاستدلال بأن فعل المندوب طاعة ، وکل طاعة فهو فعل المأمور به ، فیه ما لا یخفى من منع الکبرى ، لو أُرید من المأمور به معناه الحقیقی ، وإلاّ لا یفید المدعى.
الجهة الرابعة : الظاهر أن الطلب الذی یکون هو معنى الأمر ، لیس هو الطلب الحقیقی الذی یکون طلباً بالحمل الشائع الصناعی ، بل الطلب الإنشائی الذی لا یکون بهذا الحمل طلباً مطلقاً ، بل طلباً إنشائیاً ، سواء اُنشىء بصیغة إفعل ، أو بمادة الطلب ، أو بمادة الأمر ، أو بغیرها.
ولو أبیت إلّا عن کونه موضوعاً للطلب فلا أقل من کونه منصرفاً إلى الإنشائی منه عند إطلاقه کما هو الحال فی لفظ الطلب أیضاً ، وذلک لکثرة الاستعمال فی الطلب الإنشائی ، کما أن الأمر فی لفظ الإرادة على عکس لفظ الطلب ، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقیقیة (3) واختلافهما فی ذلک ألجأ بعضٍ أصحابنا إلى المیل إلى ما ذهب إلیه الأشاعرة ، من المغایرة بین الطلب والإرادة ، خلافاً لقاطبة أهل الحق والمعتزلة ، من اتحادهما.
فلا بأس بصرف عنان الکلام إلى بیان ما هو الحق فی المقام ، وأنّ حققناه فی بعضٍ فوائدنا إلّا أن الحوالة لما تکن عن المحذور خالیة ، والإِعادة بلا فائدة ولا إفادة ، کان المناسب هو التعرض ها هنا أیضاً.
فاعلم ، أن الحق کما علیه أهله ـ وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للاشاعرة ـ هو اتحاد الطلب والإرادة ، بمعنى أن لفظیهما موضوعاًن بإزاء مفهوم واحد وما بإزاء
__________________
1 ـ أفاده العلامة (ره) نهایة الاُصول / 64 مخطوطة.
2 ـ فی الأمر الثامن من المقدمة ص 20.
3 ـ فی « ب » : الحقیقة.
أحدهما فی الخارج یکون بإزاء الآخر ، والطلب المنشأ بلفظه أو بغیره عین الإرادة الإنشائیة ، وبالجملة هما متحدان مفهوماً وإنشاء و خارجاً ، لا أن الطلب الإنشائی الذی هو المنصرف إلیه إطلاقه ـ کما عرفت ـ متحد مع الإرادة الحقیقیة (1) التی ینصرف إلیها إطلاقها أیضاً ، ضرورة أن المغایرة بینهما أظهر من الشمس وأبین من الأمس. فإذا عرفت المراد من حدیث العینیة والاتحاد ، ففی مراجعة الوجدان عند طلب شیء والأمر به حقیقة کفایة ، فلا یحتاج إلى مزید بیان وإقامة برهان ، فإن الإانسان لا یجد غیر الإرادة القائمة بالنفس صفة أُخرى قائمة بها ، یکون هو الطلب غیرها ، سوى ما هو مقدّمة تحققها ، عند خطور الشیء والمیل وهیجان الرغبة إلیه ، والتصدیق لفائدته ، وهو الجزم بدفع ما یوجب توقفه عن طلبه لاجلها.
وبالجملة : لا یکاد یکون غیر الصفات المعروفة والإرادة هناک صفة أُخرى قائمة بها یکون هو الطلب ، فلا محیص (2) عن إتحاد الإرادة والطلب ، وأنّ یکون ذلک الشوق المؤکد المستتبع لتحریک العضلات فی إرادة فعله بالمباشرة ، أو المستتبع الأمر عبیده به فیما لو أراده لا کذلک ، مسمى بالطلب والإرادة کما یعب به تارةً وبها أُخرى ، کما لا یخفى. وکذا الحال فی سائر الصیغ الإنشائیة ، والجمل الخبریة ، فإنّه لا یکون غیر الصفات المعروفة القائمة بالنفس ، من الترجی والتمنی والعلم إلى غیر ذلک ، صفة أُخرى کانت قائمة بالنفس ، وقد دلّ اللفظ علیها ، کما قیل :
إن الکلام لفی الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دلیلا
وقد انقدح بما حققناه ، ما فی استدلال الأشاعرة على المغایرة بالأمر مع عدم الإرادة ، کما فی صورتی الاختبار والاعتذار من الخلل ، فإنّه کما لا إرادة
__________________
1 ـ فی « ب » : الحقیقة.
2 ـ فی النسختین فلا محیص إلّا ، والظاهر « إلّا » هنا مقحمة فی السیاق.
حقیقة فی الصورتین ، لا طلب کذلک فیهما ، والذی یکون فیهما إنّما هو الطلب الإنشائی الإِیقاعی ، الذی هو مدلول الصیغة أو المادة ، ولم یکن بینّاً ولا مبینّاً فی الاستدلال مغایرته مع الإرادة الإنشائیة.
وبالجملة : الذی یتکفله الدلیل ، لیس إلّا الانفکاک بین الإرادة الحقیقیة ، والطلب المنشأ بالصیغة الکاشف عن مغایرتهما. وهو مما لا محیص عن الالتزام به ، کما عرفت ، ولکنه لا یضر بدعوى الاتحاد أصلاً ، لمکان هذه المغایرة والانفکاک بین الطلب الحقیقی والإنشائی ، کما لا یخفی.
ثم إنّه یمکن ـ مما حققناه ـ أن یقع الصلح بین الطرفین ، ولم یکن نزاع فی البین ، بأن یکون المراد بحدیث الاتحاد ما عرفت من العینیة مفهوماً ووجوداً حقیقیاً وإنشائیاً ، ویکون المراد بالمغایرة والاثنینیة هو اثنینیة الإنشائی من الطلب ، کما هو کثیراً ما یراد من إطلاق لفظه ، والحقیقی من الإرادة ، کما هو المراد غالباً منها حین إطلاقها ، فیرجع النزاع لفظیاً ، فافهم.
دفع ووهم (1) : لا یخفى إنّه لیس غرض الأصحاب والمعتزلة ، من نفی غیر الصفات المشهورة ، وإنّه لیس صفة أُخرى قائمة بالنفس کانت کلاماً نفسیاً مدلولأ للکلام اللفظی ، کما یقول به الأشاعرة ، إن هذه الصفات المشهورة مدلولات للکلام.
إن قلت : فماذا یکون مدلولأ علیه عند الأصحاب والمعتزلة؟
قلت : امّا الجمل الخبریة ، فهی دالّة على ثبوت النسبة بین طرفیها ، أو نفیها فی نفس الأمر من ذهن أو خارج ، کالإنسان نوع أو کاتب.
وأما الصیغ الإنشائیة ، فهی ـ على ما حققناه فی بعضٍ فوائدنا (2) ـ موجدة
__________________
1 ـ المتوهم هو القوشجی ، راجع شرح تجرید العقائد للقوشجی / 246 ، عند البحث عن المسموعات.
2 ـ کتاب النوائد / الفائدة الاُولى ص 17.
لمعانیها فی نفس الأمر ، أیّ قصد ثبوت معانیها وتحققها بها ، وهذا نحو من الوجود ، وربما یکون هذا منشأ لانتزاع اعتبارٍ مترتب علیه شرعاً وعرفاً آثار ، کما هو الحال فی صیغ العقود والایقاعات.
نعم لا مضایقة فی دلالة مثل صیغة الطلب والاستفهام والترجی والتمنی ـ بالدلالة الالتزامیة ـ على ثبوت هذه الصفات حقیقة ، امّا لأجل وضعها لإِیقاعها ، فیما إذا کان الداعی إلیه ثبوت هذه الصفات ، أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصورة ، فلو لم تکن هناک قرینة ، کان إنشاءً الطلب أو الاستفهام أو غیرهما بصیغتها ، لأجل کون الطلب والاستفهام وغیرهما قائمة بالنفس ، وضعاً أو إطلاقاً.
إشکال ودفع : امّا الإِشکال ، فهو إنّه یلزم بناءً على اتحاد الطلب والإرادة ، فی تکلیف الکفار بالإِیمان ، بل مطلق أهل العصیان فی العمل بالارکان ، امّا أن لا یکون هناک تکلیف جدّی ، إن لم یکن هناک إرادة ، حیث إنّه لا یکون حینئذ طلب حقیقی ، وإعتباره فی الطلب الجدی ربما یکون من البدیهی ، وأنّ کان هناک إرادة ، فکیف تتخلف عن المراد؟ ولا تکاد تتخلف ، إذا أراد الله شیئاً یقول له : کن فیکون.
وأما الدفع ، فهو إن إستحاله التخلف إنّما تکون فی الإرادة التکوینیة وهی العلم بالنظام على النحو الکامل التام ، دون الإرادة التشریعیة ، وهی العلم بالمصلحة فی فعل المکلف. وما لا محیص عنه فی التکلیف إنّما هو هذه الإرادة التشریعیة لا التکوینیة ، فإذا توافقتا فلابد من الإطاعة والإِیمان ، وإذا تخالفتا ، فلا محیص عن أن یختار الکفر والعصیان.
إن قلت : إذا کان الکفر والعصیان والإطاعة والإِیمان ، بإرادته تعالى التی لا تکاد تتخلف عن المراد ، فلا یصحّ أن یتعلق بها التکلیف ، لکونها خارجة عن الاختیار المعتبر فیه عقلاً.
قلت : إنّما یخرج بذلک عن الاختیار ، لو لم یکن تعلق الإرادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختیاریة ، وإلاّ فلا بدّ من صدورها بالاختیار ، وإلاّ لزم تخلف إرادته عن مراده ، تعالى عن ذلک علواً کبیراً.
إن قلت : إن الکفر والعصیان من الکافر والعاصی ولو کانا مسبوقین بإرادتهما ، إلّا إنّهما منتهیان إلى ما لا بالاختیار ، کیف؟ وقد سبقهما الإرادة الازلیة والمشیة الإلهیة ، ومعه کیف تصحّ المؤاخذة على ما یکون بالاخرة بلا اختیار؟
قلت : العقاب إنّما بتبعة الکفر والعصیان التابعین للاختیار الناشىء عن مقدماته ، الناشئة عن شقاوتهما الذاتیة اللازمة لخصوص ذاتهما ، فإن ( السعید سعید فی بطن أمه ، والشقی شقی فی بطن أمه ) (1) و ( الناس معادن کمعادن الذهب والفضة ) (2) ، کما فی الخبر ، والذاتی لا یعلل ، فانقطع سؤال : إنّه لم جعل السعید سعیدا والشقی شقیا؟ فإن السعید سعید بنفسه والشقی شقی کذلک ، وإنما أوجدهما الله تعالى ( قلم اینجا رسید سر بشکست ) (3) ، قد إنتهى الکلام فی المقام إلى ما ربما لا یسعه کثیر من الافهام ، ومن الله الرشد والهدایة وبه الاعتصام.
وهم ودفع : لعلک تقول : إذا کانت الإرادة التشریعیة منه تعالى عین علمه بصلاح الفعل ، لزم ـ بناءً على أن تکون عین الطلب ـ کون المنشأ بالصیغة فی الخطابات الإلهیة هو العلم ، وهو بمکان من البطلان.
__________________
1 ـ ورد بهذا المضمون فی توحید الصدوق / 356 الباب 58 الحدیث 3.
2 ـ الروضة من الکافی 8 / 177 ، الحدیث 197.
مسند أحمد بن حنبل 2 / 539 وفیه تقدیم الفضّة على الذهب. وقریب منه فی هذا المصدر صفحة 257 ، 260 ، 391 ، 438 ، 485 ، 498 ، 525 والبخاری 4 / 216.
3 ـ یرید المؤلف (ره) : وهنا یقف القلم ، لأن الکلام انتهى إلى ما ربما لا یسعه کثیر من الأفهام ، وما بین القوسین ، تعبیر فارسی ترجمته : لما وصل القلم إلى هنا انکسر رأسه.
لکنک غفلت عن أن اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح ، إنّما یکون خارجاً لا مفهوماً ، وقد عرفت (1) أن المنشأ لیس إلّا المفهوم ، لا الطلب الخارجی ، ولا غرو أصلاً فی اتحاد الإرادة والعلم عیناً و خارجاً ، بل لا محیص عنه فی جمیع صفاته تعالى ؛ لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة ، قال أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه : ( وکمال توحیده الإخلاص له ، وکمال الإخلاص له نفی الصفات عنه ). (2)
الفصل الثانی
فیما یتعلق بصیغة الأمر وفیه مباحث :
الأول : إنّه ربما یذکر للصیغة معانٍ قد استعملت فیها ، وقد عد منها : الترجی ، والتمنی ، والتهدید ، والإنذار ، والإِهانة ، والاحتقار ، والتعجیز ، والتسخیر ، إلى غیر ذلک ، وهذا کما ترى ، ضرورة أن الصیغة ما استعملت فی واحد منها ، بل لم یستعمل إلّا فی إنشاءً الطلب ، إلّا أن الداعی إلى ذلک ، کما یکون تارةً هو البعث والتحریک نحو المطلوب الواقعی ، یکون أُخرى أحد هذه الأمور ، کما لا یخفى.
قصارى ما یمکن أن یَّدعى ، أن تکون الصیغة موضوعة لإِنشاء الطلب ، فیما إذا کان بداعی البعث والتحریک ، لا بداعٍ آخر منها ، فیکون إنشاءً الطلب بها بعثاً حقیقة ، وإنشاؤه بها تهدیداً مجازاً ، وهذا غیر کونها مستعملة فی التهدید وغیره ، فلا تغفل.
إیقاظ : لا یخفى أن ما ذکروه فی صیغة الأمر ، جار فی سائر الصیغ الإنشائیة ، فکما یکون الداعی إلى إنشاءً التمنی أو الترجی أو الاستفهام
__________________
1 ـ مر فی صفحة 66 من هذا الکتاب عند قوله : وأما الصیغ الإنشائیة .. الخ.
2 ـ نهج البلاغة / 39 الخطبة الأولى.
بصیغها ، تارةً هو ثبوت هذه الصفات حقیقة ، یکون الداعی غیرها أُخرى ، فلا وجه للالتزام بانسلاخ صیغها عنها ، واستعمالها فی غیرها ، إذا وقعت فی کلامه تعالى ، لاستحالة مثل هذه المعانی فی حقه تبارک وتعالى ، مما لازمه العجز أو الجهل ، وإنّه لا وجه له ، فإن المستحیل إنّما هو الحقیقی منها لا الإنشائی الإِیقاعی ، الذی یکون بمجرد قصد حصوله بالصیغة ، کما عرفت ، ففی کلامه تعالى قد استعملت فی معانیها الإِیقاعیة الإنشائیة أیضاً ، لا لإِظهار ثبوتها حقیقة ، بل الأمر آخر حسب ما یقتضیه الحال من إظهار المحبة أو الإِنکار أو التقریر إلى غیر ذلک ، ومنه ظهر أن ما ذکر من المعانی الکثیرة لصیغة الاستفهام لیس کما ینبغی أیضاً.
المبحث الثّانی : فی أن الصیغة حقیقة فی الوجوب ، أو فی الندب ، أو فیهما ، أو فی المشترک بینهما ، وجوه بل أقوال.
لا یبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرینة ، ویؤیده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب ، مع الاعتراف بعدم دلالته علیه بحال أو مقال ، وکثرة الاستعمال فیه فی الکتاب والسنة وغیرهما لا یوجب نقله إلیه أو حمله علیه (1) ، لکثرة استعماله فی الوجوب أیضاً ، مع أن الاستعمال وأنّ کثر فیه ، إلّا إنّه کان مع القرینة المصحوبة ، وکثرة الاستعمال کذلک فی المعنى المجازی لا توجب صیرورته مشهوراً فیه ، لیرجح أو یتوقف ، على الخلاف فی المجاز المشهور ، کیف؟ وقد کثر إستعمال العام فی الخاص ، حتى قیل : ( ما من عام إلّا وقد خص ) ولم ینثلم به ظهوره فی العموم ، بل یحمل علیه ما لم تقم قرینة بالخصوص على إرادة الخصوص.
المبحث الثالث : هل الجمل الخبریة التی تستعمل فی مقام الطلب والبعث ـ مثل : یغتسل ، ویتوضأ ، ویعید ـ ظاهرة فی الوجوب أو لا؟ لتعدد
__________________
1 ـ هذا تعریض بصاحب المعالم 1 ، معالم الدین / 48 ، فصل فی الأوامر : فائدة.
المجازات فیها ، ولیس الوجوب بأقواها ، بعد تعذر حملها على معناها من الإخبار ، بثبوت النسبة والحکایة عن وقوعها.
الظاهر الأوّل ، بل تکون أظهر من الصیغة ، ولکنه لا یخفى إنّه لیست الجمل الخبریة الواقعة فی ذلک المقام ـ أیّ الطلب ـ مستعملة فی غیر معناها ، بل تکون مستعملة فیه ، إلّا إنّه لیس بداعی الأعلام ، بل بداعی البعث بنحو آکد ، حیث إنّه أخبر بوقوع مطلوبه فی مقام طلبه ، إظهارا بإنّه لا یرضى إلّا بوقوعه ، فیکون آکد فی البعث من الصیغة ، کما هو الحال فی الصیغ الإنشائیة ، على ما عرفت من إنّها أبدا تستعمل فی معانیها الإِیقاعیة لکن بدواعٍ أخر ، کما مر (1).
لا یقال : کیف؟ ویلزم الکذب کثیراً ، لکثرة عدم وقوع المطلوب کذلک فی الخارج ، تعالى الله وأولیاؤه عن ذلک علواً کبیراً.
فإنّه یقال : إنّما یلزم الکذب ، إذا أتی بها بداعی الإخبار والإِعلام ، لا لداعی البعث ، کیف؟ وإلاّ یلزم الکذب فی غالب الکنایات ، فمثل ( زید کثیر الرماد ) أو ( مهزول الفصیل ) لا یکون کذباً ، إذا قیل کنایة عن جوده ، ولو لم یکن له رماد أو فصیل أصلاً ، وإنما یکون کذباً إذا لم یکن بجواد ، فیکون الطلب بالخبر فی مقام التأکید أبلغ ، فإنّه مقال بمقتضى الحال. هذا مع إنّه إذا أتى بها فی مقام البیان ، فمقدمات الحکمة مقتضیة لحملها على الوجوب ، فإن تلک النکتة إن لم تکن موجبة لظهورها فیه ، فلا أقل من کونها موجبة لتعینه من بین محتملات ما هو بصدده ، فإن شدة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب ، موجبة لتعین إرادته إذا کان بصدد البیان ، مع عدم نصب قرینة خاصة على غیره ، فافهم.
__________________
1 ـ فی المبحث الأوّل من هذا الفصل ، عند قوله 1 : إیقاظ / 69.
المبحث الرابع : إنّه إذا سلّم أن الصیغة لا تکون حقیقة فی الوجوب ، هل لا تکون ظاهرة فیه أیضاً أو تکون؟ قیل بظهورها فیه ، امّا لغلبة الاستعمال فیه ، أو لغلبة وجوده أو أکملیته.
والکل کما ترى ، ضرورة أن الاستعمال فی الندب وکذا وجوده ، لیس بأقل لو لم یکن بأکثر. وأما الأکملیة فغیر موجبة للظهور ، إذ الظهور لا یکاد یکون إلّا لشدة أنس اللفظ بالمعنى ، بحیث یصیر وجهاً له ، ومجرد الأکملیة لا یوجبه ، کما لا یخفى. نعم فیما کان الآمر بصدد البیان ، فقضیة مقدمات الحکمة هو الحمل على الوجوب ، فإن الندب کإنّه یحتاج إلى مؤونة بیان التحدید والتقیید بعدم المنع من الترک ، بخلاف الوجوب ، فإنّه لا تحدید فیه للطلب ولا تقیید ، فإطلاق اللفظ وعدم تقییده مع کون المطلق فی مقام البیان ، کافٍ فی بیإنّه ، فافهم.
المبحث الخامس : إن إطلاق الصیغة هل یقتضی کون الوجوب توصلیاً ، فیجزئ إتیإنّه مطلقاً ، ولو بدون قصد القربة ، أو لا؟ فلا بدّ من الرجوع فیما شک فی تعبدیته وتوصلیته إلى الأصل.
لابد فی تحقیق ذلک من تمهید مقدمات :
أحدها : الوجوب التوصلی ، هو ما کان الغرض منه یحصل بمجرد حصول الواجب ، ویسقط بمجرد وجوده ، بخلاف التعبدی ، فإن الغرض منه لا یکاد یحصل بذلک ، بل لابد ـ فی سقوطه وحصول غرضه ـ من الإِتیان به متقرباً به منه تعالى.
ثانیها : إن التقرب المعتبر فی التعبدی ، إن کان بمعنى قصد الامتثال والإِتیان بالواجب بداعی أمره ، کان مما یعتبر فی الطاعة عقلاً ، لا مما أخذ فی نفس العبادة شرعاً ، وذلک لاستحالة أخذ ما لا یکاد یتأتى إلّا من قبل الأمر بشیء فی متعلق ذاک الأمر مطلقاً شرطاً أو شطراً ، فما لم تکن نفس الصلاة متعلقة للأمر ، لا یکاد یمکن إتیإنّها بقصد امتثال أمرها.
وتوهمّ إمکان تعلق الأمر بفعل الصلاة بداعی الأمر ، وإمکان الإِتیان بها بهذا الداعی ، ضرورة إمکان تصور الأمر بها مقیدة ، والتمکن من إتیإنّها کذلک ، بعد تعلق الأمر بها ، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلاً فی صحة الأمر إنّما هو فی حال الامتثال لا حال الأمر ، واضح الفساد ، ضرورة إنّه وأنّ کان تصورها کذلک بمکان من الإِمکان ، إلّا إنّه لا یکاد یمکن الإِتیان بها بداعی أمرها ، لعدم الأمر بها ، فإن الأمر حسب الفرض تعلق بها مقیدة بداعی الأمر ، ولا یکاد یدعو الأمر إلّا إلى ما تعلق به ، لا إلى غیره.
إن قلت : نعم ، ولکن نفس الصلاة أیضاً صارت مأمورة بها بالأمر بها مقیدة.
قلت : کلاّ ، لأن ذات المقید لا یکون مأموراً بها ، فإن الجزء التحلیلی العقلی لا یتصف بالوجوب أصلاً ، فإنّه لیس إلّا وجود واحد واجب بالوجوب النفسی ، کما ربما یأتی فی باب المقدمة.
إن قلت : نعم ، لکنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطاً ، وأما إذا أخذ شطراً ، فلا محالة نفس الفعل الذی تعلق الوجوب به مع هذا القصد ، یکون متعلقاً للوجوب ، إذ المرکب لیس إلّا نفس الإِجزاء بالأسر ، ویکون تعلقه بکل بعین تعلقه بالکل ، ویصحّ أن یؤتى به بداعی ذاک الوجوب ؛ ضرورة صحة الإِتیان بأجزاء الواجب بداعی وجوبه.
قلت : مع امتناع اعتباره کذلک ، فإنّه یوجب تعلق الوجوب بأمر غیر اختیاری ، فإن الفعل وأنّ کان بالإِرادة اختیاریا ، إلّا أن إرادته ـ حیث لا تکون بإرادة أُخرى ، وإلاّ لتسلسلت ـ لیست باختیاریة ، کما لا یخفى. إنّما یصحّ الإِتیان بجزء الواجب بداعی وجوبه فی ضمن إتیإنّه بهذا الداعی ، ولا یکاد یمکن الإِتیان بالمرکب عن قصد الامتثال ، بداعی امتثال أمره.
إن قلت : نعم (1) ، لکن هذا کله إذا کان إعتباره فی المأمور به بأمر واحد ، وأما إذا کان بأمرین : تعلق أحدهما بذات الفعل ، وثانیهما بإتیإنّه بداعی أمره ، فلا محذور أصلاً ، کما لا یخفى. فللآمر أن یتوسل بذلک فی الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده ، بلا منعة.
قلت : ـ مضافاً إلى القطع بإنّه لیس فی العبادات إلّا أمر واحد ، کغیرها من الواجبات والمستحبات ، غایة الأمر یدور مدار الامتثال وجوداً و عدماً فیها المثوبات والعقوبات ، بخلاف ما عداها ، فیدور فیه خصوص المثوبات ، وأما العقوبة فمترتبة على ترک الطاعة ومطلق الموافقة ـ أن الأمر الأوّل إن کان یسقط بمجرد موافقته ، ولو لم یقصد به الامتثال ، کما هو قضیة الأمر الثّانی ، فلا یبقى مجال لموافقة الثّانی مع موافقة الأوّل بدون قصد امتثاله ، فلا یتوسل الأمر إلى غرضه بهذه الحیلة والوسیلة ، وأنّ لم یکد یسقط بذلک ، فلا یکاد یکون له وجه ، إلّا عدم حصول غرضه بذلک من أمره ، لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله ، وإلاّ لما کان موجباً لحدوثه ، وعلیه فلا حاجة فی الوصول إلى غرضه إلى وسیلة تعدَّد الأمر ، لاستقلال العقل ، مع عدم حصول غرض الأمر بمجرد موافقة الأمر بوجوب الموافقة على نحو یحصل به غرضه ، فیسقط أمره.
هذا کله إذا کان التقرب المعتبر فی العبادة بمعنى قصد الامتثال.
وأما إذا کان بمعنى الإِتیان بالفعل بداعی حسنه ، أو کونه ذا مصلحة [ أو له تعالى ] (2) ، فاعتباره فی متعلق الأمر وأنّ کان بمکان من الإِمکان ، إلّا إنّه غیر معتبر فیه قطعاً ، لکفایة الاقتصار على قصد الامتثال ، الذی عرفت
__________________
1 ـ إشارة إلى ما أفاده صاحب التقریرات فی مطارح الأنظار / 60 ، السطر الأخیر ، فی التعبدی والتوصلی.
2 ـ سقطت من « أ ».
عدم إمکان أخذه فیه بدیهة.
تأمل فیما ذکرناه فی المقام ، تعرف حقیقة المرام ، کی لا تقع فیما وقع فیه من الاشتباه بعضٍ الأعلام.
ثالثتها : إنّه إذا عرفت بما لا مزید علیه ، عدم إمکان أخذ قصد الامتثال فی المأمور به أصلاً ، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه ـ ولو کان مسوقاً فی مقام البیان ـ على عدم اعتباره ، کما هو أوضح من أن یخفى ، فلا یکاد یصحّ التمسک به إلّا فیما یمکن اعتباره فیه.
فانقدح بذلک إنّه لا وجه لاستظهار التوصلیة من إطلاق الصیغة بمادتها ، ولا لاستظهار عدم اعتبارٍ مثل الوجه مما هو ناشىء من قبل الأمر ، من إطلاق المادة فی العبادة لو شک فی اعتباره فیها ، نعم إذا کان الأمر فی مقام بصدد بیان تمام ماله دخل فی حصول غرضه ، وأنّ لم یکن له دخل فی متعلق أمره ، ومعه سکت فی المقام ، ولم ینصب دلالة على دخل قصد الامتثال فی حصوله ، کان هذا قرینة على عدم دخله فی غرضه ، وإلاّ لکان سکوته نقضاً له وخلاف الحکمة ، فلا بدّ عند الشک وعدم إحراز هذا المقام ، من الرجوع إلى ما یقتضیه الأصل ویستقل به العقل.
فاعلم : إنّه لا مجال ـ ها هنا ـ إلّا لاصالة الإِشتغال ، ولو قیل بأصالة البراءة فیما إذا دار الأمر بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین ، وذلک لأن الشک ها هنا فی الخروج عن عهدة التکلیف المعلوم ، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها ، فلا یکون العقاب ـ مع الشک وعدم إحراز الخروج ـ عقاباً بلا بیان ، والمؤاخذة علیه بلا برهان ، ضرورة إنّه بالعلم بالتکلیف تصحّ المؤاخذة على المخالفة ، وعدم الخروج عن العهدة ، لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة ، وهکذا الحال فی کلّ ما شک دخله فی الطاعة ، والخروج به عن العهدة ، مما لا یمکن اعتباره فی المأمور به کالوجه والتمییز.
نعم : یمکن أن یقال : إن کلّ ما ربما یحتمل بدواً دخله فی الامتثال ،
أمراً کان مما یغفل عنه غالباً العامة (1) ، کان على الأمر بیإنّه ، ونصب قرینة على دخله واقعاً ، وإلاّ لاخل بما هو همّه وغرضه ، امّا إذا لم ینصب دلالة على دخله ، کشف عن عدم دخله ، وبذلک یمکن القطع بعدم دخل الوجه والتمییز فی الطاعة بالعبادة ، حیث لیس منهما عین ولا أثر فی الإخبار والآثار ، وکانا مما یغفل عنه العامة ، وأنّ احتمل اعتباره بعضٍ الخاصة ، فتدبرّ جیداً.
ثم إنّه لا أظنک أن تتوهم وتقول : إن أدلة البراءة الشرعیة مقتضیة لعدم الاعتبار ، وأنّ کان قضیة الإِشتغال عقلاً هو الاعتبار ، لوضوح إنّه لا بدّ فی عمومها من شیء قابل للرفع والوضع شرعاً ، ولیس ها هنا ، فإن دخل قصد القربة ونحوها فی الغرض لیس بشرعی ، بل واقعی. ودخل الجزء والشرط فیه وأنّ کان کذلک ، إلّا إنّهما قابلان للوضع والرفع شرعاً ، فبدلیل الرفع ـ ولو کان أصلاً ـ یکشف إنّه لیس هناک أمر فعلّی بما یعتبر فیه المشکوک ، یجب الخروج عن عهدته عقلاً ، بخلاف المقام ، فإنّه علم بثبوت الأمر الفعلّی ، کما عرفت ، فافهم.
المبحث السادس : قضیة إطلاق الصیغة ، کون الوجوب نفسیاً تعیینیاً عینیاً ، لکون کلّ واحد مما یقابلها یکون فیه تقیید الوجوب وتضیق دائرته ، فإذا کان فی مقام البیان ، ولم ینصب قرینة علیه ، فالحکمة تقتضی کونه مطلقاً ، وجب هناک شیء آخر أو لا ، أتى بشیء آخر أو لا ، أتى به آخر أو لا ، کما هو واضح لا یخفى.
المبحث السابع : إنّه اختلف القائلون بظهور صیغة الأمر فی الوجوب وضعاً أو إطلاقاً فیما إذا وقع عقیب الحظر أو فی مقام توهمه على أقوال :
__________________
1 ـ هذا ما أثبتناه من « أ و ب » ، وفی بعضٍ النسخ المطبوعة هکذا ( إن کلّ ما یحتمل بدواً دخله فی الامتثال وکان یغفل عنه غالباً العامة ).
نسب (1) إلى المشهور ظهورها فی الإِباحة. وإلى بعضٍ العامة (2) ظهورها فی الوجوب ، وإلى بعضٍ (3) تبعیته لما قبل النهی ، إن علق الأمر بزوال علّة النهی ، إلى غیر ذلک.
والتحقیق : إنّه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال ، فإنّه قلّ مورد منها یکون خالیاً عن قرینة على الوجوب ، أو الإِباحة ، أو التبعیة ، ومع فرض التجرید عنها ، لم یظهر بعدُ کون عقیب الحظر موجباً لظهورها فی غیر ما تکون ظاهرة فیه. غایة الأمر یکون موجباً لاجمالها ، غیر ظاهرة فی واحد منها إلّا بقرینة أُخرى ، کما أشرنا.
المبحث الثامن : الحق أن صیغة الأمر مطلقاً ، لا دلالة لها على المرة ولا التکرار ، فإن المنصرف عنها ، لیس إلّا طلب إیجاد الطبیعة المأمور بها ، فلا دلالة لها على أحدهما ، لا بهیئتها ولا بمادتها ، والاکتفاء بالمرة ، فإنما هو لحصول الامتثال بها فی الأمر بالطبیعة ، کما لا یخفى.
ثم لا یذهب علیک : أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوین ، لا یدلّ إلّا على الماهیة ـ على ما حکاه السکاکی (4) ـ لا یوجب کون النزاع ها هنا فی الهیئة ـ کما فی الفصول (5) ـ فإنّه غفلة وذهول عن کون المصدر کذلک ، لا یوجب الاتفاق على أن مادة الصیغة لا تدلّ إلّا على
__________________
1 ـ راجع الفصول / 70 ، وبدائع الأفکار فی النسخة الثانیة من نسختی الأوامر / 294.
2 ـ البصری فی المعتمد / 75 ، باب فی صیغة الأمر الواردة بعد حظر ، والبیضاوی وغیره راجع الإِبهاج فی شرح المنهاج للسبکی : 2 / 43.
3 ـ کالعضدی ، شرح مختصر الأصول / 205 ، فی مسألة وقوع صیغة الأمر بعد الحظر.
4 ـ مفتاح العلوم / 93.
5 ـ الفصول / 71 ، فصل : الحق أن هیئة ... الخ.
الماهیة ، ضرورة أن المصدر لیست مادة لسائر المشتقات ، بل هو صیغة مثلها ، کیف؟ وقد عرفت فی باب المشتق مباینة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ، فکیف بمعناه یکون مادة لها؟ فعلیه یمکن دعوى اعتبارٍ المرة أو التکرار فی مادتها ، کما لا یخفى.
إن قلت : فما معنى ما اشتهر من کون المصدر أصلاً فی الکلام.
قلت : مع إنّه محلّ الخلاف ، معناه أن الذی وضع أولاً بالوضع الشخصی ، ثم بملاحظته وضع نوعیا أو شخصیاً سائر الصیغ التی تناسبه ، مما جمعه معه مادة لفظ متصورة فی کلّ منها ومنه ، بصورة ومعنى کذلک ، هو المصدر أو الفعل ، فافهم.
ثم المراد بالمرة والتکرار ، هل هو الدفعة والدفعات؟ أو الفرد والأفراد؟
والتحقیق : أن یقعا بکلا المعنیین محلّ النزاع ، وأنّ کان لفظهما ظاهراً فی المعنى الأوّل ، وتوهمّ (1) إنّه لو أُرید بالمرة الفرد ، لکان الانسب ، بل اللازم أن یجعل هذا المبحث تتمة للبحث الآتی ، من أن الأمر هل یتعلق بالطبیعة أو بالفرد؟ فیقال عند ذلک وعلى تقدیر تعلقه بالفرد ، هل یقتضی التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد ، أو لا یقتضی شیئاً منهما؟ ولم یحتج إلى إفراد کلّ منهما بالبحث کما فعلوه ، وأما لو أُرید بها الدفعة ، فلا علقة بین المسألتین ، کما لا یخفى ، فاسد ، لعدم العلقة بینهما لو أُرید بها الفرد أیضاً ، فإن الطلب على القول بالطبیعة إنّما یتعلق بها باعتبار وجودها فی الخارج ، ضرورة أن الطبیعة من حیث هی لیست إلّا هی ، لا مطلوبة ولا غیر مطلوبة ، وبهذا الاعتبار کانت مرددة بین المرة والتکرار بکلا المعنیین ، فیصحّ النزاع فی دلالة الصیغة على المرة والتکرار بالمعنیین وعدمها.
__________________
1 ـ المتوهم هو صاحب الفصول ، الفصول / 71.
أمّا بالمعنى الأوّل فواضح ، وأما بالمعنى الثّانی فلوضوح أن المراد من الفرد أو الأفراد وجود واحد أو وجودات ، وإنما عبر بالفرد لأن وجود الطبیعة فی الخارج هو الفرد ، غایة الأمر خصوصیته وتشخصه على القول بتعلق الأمر بالطبائع یلازم المطلوب وخارج عنه ، بخلاف القول بتعلقه بالأفراد ، فإنّه مما یقومه.
تنبیه : لا إشکال بناءً على القول بالمرة فی الامتثال ، وإنّه لا مجال للاتیان بالمأمور به ثانیاً ، على أن یکون أیضاً به الامتثال ، فإنّه من الامتثال بعد الامتثال. وأما على المختار من دلالته على طلب الطبیعة من دون دلالة على المرة ولا على التکرار ، فلا یخلو الحال : امّا أن لا یکون هناک إطلاق الصیغة فی مقام البیان ، بل فی مقام الإِهمال أو الإِجمال ، فالمرجع هو الأصل. وإما أن یکون إطلاقها فی ذلک المقام ، فلا إشکال فی الاکتفاء بالمرة فی الامتثال ، وإنما الإِشکال فی جواز أن لا یقتصر علیها ، فإن لازم إطلاق الطبیعة المأمور بها ، هو الإِتیان بها مرة أو مراراً لا ، لزوم الاقتصار على المرة ، کما لا یخفى.
والتحقیق : إن قضیة الإِطلاق إنّما هو جواز الإِتیان بها مرة فی ضمن فرد أو أفراد ، فیکون إیجادها فی ضمنها نحواً من الامتثال ، کإیجادها فی ضمن الواحد ، لا جواز الإِتیان بها مرة ومرات ، فإنّه مع الإِتیان بها مرة لا محالة یحصل الامتثال ویسقط به الأمر ، فیما إذا کان امتثال الأمر علّة تامة لحصول الغرض الأقصى ، بحیث یحصل بمجرده ، فلا یبقى معه مجال لاتیإنّه ثانیاً بداعی امتثال آخر ، أو بداعی أن یکون الاتیانان امتثالاً واحداً ؛ لما عرفت من حصول الموافقة بإتیإنّها ، وسقوط الغرض معها ، وسقوط الأمر بسقوطه ، فلا یبقى مجال لامتثاله أصلاً ، وأما إذا لم یکن الامتثال علّة تامة لحصول الغرض ، کما إذا أمر بالماء لیشرب أو یتوضأ فأتی به ، ولم یشرب أو لم یتوضأ فعلاً ، فلا یبعد صحة تبدیل الامتثال بإتیان فرد آخر أحسن منه ، بل
مطلقاً ، کما کان له ذلک قبله ، على ما یأتی بیإنّه فی الإِجزاء.
المبحث التاسع : الحق إنّه لا دلالة للصیغة ، لا على الفور ولا على التراخی ، نعم قضیة إطلاقها جواز التراخی ، والدلیل علیه تبادر طلب إیجاد الطبیعة منها ، بلا دلالة على تقییدها بأحدها ، فلا بدّ فی التقیید من دلالة أُخرى ، کما ادعی دلالة غیر واحد من الآیات على الفوریة.
وفیه منع ، ضرورة أن سیاق آیة ( وسارعوا إلى مغفرة من ربکم ) (1) وکذا آیة ( فَاسْتَبِقُوا الْخَیْرَاتِ ) (2) إنّما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخیر ، من دون استتباع ترکهما للغضب والشر ، ضرورة أن ترکهما لو کان مستتبعا للغضب والشر ، کان البعث بالتحذیر عنهما أنسب ، کما لا یخفى ، فافهم.
مع لزوم کثرة تخصیصه فی المستحبات ، وکثیر من الواجبات بل أکثرها ، فلا بدّ من حمل الصیغة فیهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب.
ولا یبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق ، وکان ما ورد من الآیات والروایات فی مقام البعث نحوه إرشاداً إلى ذلک ، کالآیات والروایات الواردة فی الحثَّ على أصل الإطاعة ، فیکون الأمر فیها لما یترتب على المادة بنفسها ، ولو لم یکن هناک أمر بها ، کما هو الشأن فی الأوامر الارشادیة ، فافهم.
تتمة : بناءً على القول بالفور ، فهل قضیة الأمر الإِتیان فوراً ففوراً بحیث لو عصى لوجب علیه الإِتیان به فوراً أیضاً ، فی الزمان الثّانی ، أو لا؟ وجهان : مبنیان على أن مفاد الصیغة على هذا القول ، هو وحدة المطلوب أو تعدده؟ ولا یخفى إنّه لو قیل بدلالتها على الفوریة ، لما کان لها دلالة على نحو
__________________
1 ـ آل عمران : 133.
2 ـ البقرة : 148 ، المائدة : 48.
المطلوب من وحدته أو تعدده ، فتدبرّ جیداً.
الفصل الثالث
الاتیان بالمأمور به على وجهه یقتضی الإِجزاء فی الجملة بلا شبهة ، وقبل الخوض فی تفصیل المقام وبیان النقض والأبرام ، ینبغی تقدیم أمور :
أحدها : الظاهر أن المراد من ( وجهه ) ـ فی العنوان ـ هو النهج الذی ینبغی أن یؤتى به على ذاک النهج شرعاً وعقلاً ، مثل أن یؤتى به بقصد التقرب فی العبادة ، لا خصوص الکیفیة المعتبرة فی المأمور به شرعاً ، فإنّه علیه یکون ( على وجهه ) قیداً توضیحیا ، وهو بعید ، مع إنّه یلزم خروج التعبدیات عن حریم النزاع ، بناءً على المختار ، کما تقدم من أن قصد القربة من کیفیات الإطاعة عقلاً ، لا من قیود المأمور به شرعاً ، ولا الوجه المعتبر عند بعضٍ الأصحاب (1) ، فإنّه ـ مع عدم اعتباره عند المعظم ، وعدم اعتباره عند من اعتبره ، إلّا فی خصوص العبادات لا مطلق الواجبات ـ لا وجه لاختصاصه بالذکر على تقدیر الاعتبار ، فلا بدّ من إرادة ما یندرج فیه من المعنى ، وهو ما ذکرناه ، کما لا یخفى.
ثانیها : الظاهر أن المراد من الاقتضاء ـ ها هنا ـ الاقتضاء بنحو العلّیة والتأثیر ، لا بنحو الکشف والدلالة ، ولذا نسب إلى الإِتیان لا إلى الصیغة.
إن قلت : هذا إنّما یکون کذلک بالنسبة إلى أمره ، وأما بالنسبة إلى أمر آخر ، کالإِتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری أو الظاهری بالنسبة إلى الأمر الواقعی ، فالنزاع فی الحقیقة فی دلالة دلیلهما على اعتباره ، بنحو یفید الإِجزاء ، أو بنحو آخر لا یفیده.
__________________
1 ـ من المتکلمین ، وأشار إلیه فی مطارح الأنظار / 19.
قلت : نعم ، لکنه لا ینافی کون النزاع فیهما ، کان فی الاقتضاء بالمعنى المتقدم ، غایته أن العمدة فی سبب الاختلاف فیهما ، إنّما هو الخلاف فی دلالة دلیلهما ، هل إنّه على نحو یستقل العقل بأن الإِتیان به موجب للإِجزاء ویؤثر فیه ، وعدم دلالته؟ ویکون النزاع فیه صغرویاً أیضاً ، بخلافه فی الإِجزاء بالإضافة إلى أمره ، فإنّه لا یکون إلّا کبرویا ، لو کان هناک نزاع ، کما نقل عن بعضٍ (1). فافهم.
ثالثها : الظاهر أن الإِجزاء ـ ها هنا ـ بمعناه لغةً ، وهو الکفایة (2) ، وأنّ کان یختلف ما یکفی عنه ، فإن الإِتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی یکفی ، فیسقط به التعبد به ثانیاً ، وبالأمر الاضطراری أو الظاهری الجعلی ، فیسقط به القضاء ، لا إنّه یکون ـ ها هنا ـ اصطلاحاً ، بمعنى إسقاط التعبد أو القضاء ، فإنّه بعید جداً.
رابعها : الفرق (3) بین هذه المسألة ، ومسألة المرة والتکرار ، لا یکاد یخفى ، فإن البحث ـ ها هنا ـ فی أن الإِتیان بما هو المأمور به یجزئ عقلاً ، بخلافه فی تلک المسألة ، فإنّه فی تعیین ما هو المأمور به شرعاً بحسب دلالة الصیغة بنفسها ، أو بدلالة أُخرى.
نعم کان التکرار عملاً موافقاً لعدم الإِجزاء لکنه لا بملاکه.
وهکذا الفرق بینها وبین مسألة تبعیة القضاء للاداء ، فإن البحث فی تلک المسألة فی دلالة الصیغة على التبعیة وعدمها ، بخلاف هذه المسألة ؛ فإنّه ـ کما عرفت ـ فی
__________________
1 ـ وهو القاضی عبد الجبار ، راجع المعتمد 1 / 90.
2 ـ اجزأ الشیءُ إیای : کفانی. القاموس المحیط 1 / 10 مادة الجزء.
أجزأنی الشیء : کفانی. مجمع البحرین 1 / 85 مادة جزأ.
3 ـ راجع مطارح الأنظار / 19.
أن الإِتیان بالمأمور به بجزی عقلاً عن إتیإنّه ثانیاً أداءً أو قضاءً ، أو لا یجزئ ، فلا علقة بین المسألة والمسألتین أصلاً.
إذا عرفت هذه الأمور ، فتحقیق المقام یستدعی البحث والکلام فی موضعین :
الأول : إن الإِتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی ـ بل (1) بالأمر الاضطراری أو الظاهری أیضاً ـ یجزئ عن التعبد به ثانیاً ؛ لاستقلال العقل بإنّه لا مجال مع موافقة الأمر بإتیان المأمور به على وجهه ، لاقتضائه التعبد به ثانیاً.
نعم لا یبعد أن یقال : بإنّه یکون للعبد تبدیل الامتثال والتعبد به ثانیاً ، بدلاً عن التعبد به أولاً ، لا منضما إلیه ، کما أشرنا إلیه فی المسألة السابقة (2) ، وذلک فیما علم أن مجرد امتثاله لا یکون علّة تامة لحصول الغرض ، وأنّ کان وافیاً به لو اکتفى به ، کما إذا أتى بماء أمر به مولاه لیشربه ، فلم یشربه بعد ، فإن الأمر بحقیقته وملاکه لم یسقط بعد ، ولذا لو أهریق (3) الماء واطلع علیه العبد ، وجب علیه إتیإنّه ثانیاً ، کما إذا لم یأت به أولاً ، ضرورة بقاء طلبه ما لم یحصل غرضه الداعی إلیه ، وإلاّ لما أوجب حدوثه ، فحینئذ یکون له الإِتیان بماء آخر موافق للأمر ، کما کان له قبل إتیإنّه الأوّل بدلاً عنه.
نعم فیما کان الإِتیان علّة تامة لحصول الغرض ، فلا یبقى موضع للتبدیل ، کما إذا أمر بإهراق الماء فی فمه لرفع عطشه فأهرقه ، بل لو لم یعلم إنّه من أیّ القبیل ، فله التبدیل باحتمال أن لا یکون علّة ، فله إلیه سبیل ، ویؤیّد ذلک ـ بل یدلّ علیه ـ ما ورد من الروایات فی باب إعادة من صلّى فرادى
__________________
1 ـ فی نسختی « أ و ب » بل أو ..
2 ـ راجع تنبیه المبحث الثامن من هذا الکتاب / 79.
3 ـ فی « ب » : أهرق.
جماعة (1) ، وأنّ الله تعالى یختار أحبهما إلیه.
الموضع الثّانی : وفیه مقامان :
المقام الأوّل : فی أن الإِتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری ، هل یجزئ عن الإِتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی ثانیاً ، بعد رفع الاضطرار فی الوقت إعادة ، وفی خارجه قضاءً ، أو لا یجزئ؟
تحقیق الکلام فیه یستدعی التکلم فیه تارةً فی بیان ما یمکن أن یقع علیه الأمر الاضطراری من الأنحاء ، وبیان ما هو قضیة کلّ منها من الإِجزاء وعدمه ، وأخرى فی تعیین ما وقع علیه.
فاعلم إنّه یمکن أن یکون التکلیف الاضطراری فی حال الاضطرار ، کالتکلیف الاختیاری فی حال الاختیار ، وافیاً بتمام المصلحة ، وکافیاً فیما هو المهمّ والغرض ، ویمکن أن لا یکون وافیاً به کذلک ، بل یبقى منه شیء أمکن استیقاؤه أو لا یمکن. وما أمکن کان بمقدار یجب تدارکه ، أو یکون بمقدار یستحب ، ولا یخفى إنّه إن کان وافیاً به فیجزئ ، فلا یبقى مجال أصلاً للتدارک ، لا قضاءً ولا إعادة ، وکذا لو لم یکن وافیاً ، ولکن لا یمکن تدارکه ، ولا یکاد یسوغ له البدار فی هذه الصورة إلّا لمصلحة کانت فیه ، لما فیه من نقض الغرض ، وتفویت مقدارٍ من المصلحة ، لو لا مراعاة ما هو فیه من الأهم ، فافهم.
لا یقال : علیه ، فلا مجال لتشریعه ولو بشرط الانتظار ، لا مکان استیفاء الغرض بالقضاء.
__________________
1 ـ الکافی : 3 / 379 ، باب الرجل یصلی وحده من کتاب الصلاة.
التهذیب : 3 / 269 الحدیث 94 ، وصفحة 270 الحدیث 95 إلى 98 الباب 25. الفقیه : 1 / 251. الحدیث 41 إلى 43 من باب الجماعة وفضلها.
2 ـ فی « ب » یجزئ.
فإنّه یقال : هذا کذلک ، لولا المزاحمة بمصلحة الوقت.
وأما تسویغ البدار أو إیجاب الانتظار فی الصورة الأولى ، فیدور مدار کون العمل ـ بمجرد الاضطرار مطلقاً ، أو بشرط الانتظار ، أو مع الیأس عن طروِّ الاختیار ـ ذا مصلحة ووافیا بالغرض.
وإن لم یکن وافیاً ، وقد أمکن تدارک الباقی (1) فی الوقت ، أو مطلقاً ولو بالقضاء خارج الوقت ، فإن کان الباقی مما یجب تدارکه فلا یجزئ ، بل لابد (2) من إیجاب الإِعادة أو القضاء ، وإلاّ فیجزئ ، ولا مانع عن البدار فی الصورتین ، غایة الأمر یتخیر فی الصورة الأولى بین البدار والإِتیان بعملین : العمل الاضطراری فی هذا الحال ، والعمل الاختیاری بعد رفع الاضطرار أو الانتظار ، والاقتصار بإتیان ما هو تکلیف المختار ، وفی الصورة الثانیة یجزئ البدار ویستحب الإِعادة بعد طروِّ الاختیار.
هذا کله فیما یمکن أن یقع علیه الاضطراری من الأنحاء ، وأما ما وقعٍ علیه فظاهر إطلاق دلیله ، مثل قوله تعالى ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیدًا طَیِّبًا ) (3) وقوله 7 : ( التراب أحد الطهورین ) (4) و : ( یکفیک عشر سنین ) (5) هو الإِجزاء ، وعدم وجوب الإِعادة أو القضاء ، ولا بدّ فی إیجاب الإِتیان به ثانیاً من دلالة دلیل بالخصوص.
وبالجملة : فالمتبع هو الإِطلاق لو کان ، وإلاّ فالأصل ، وهو یقتضی البراءة من إیجاب الإِعادة ، لکونه شکّاً فی أصل التکلیف ، وکذا عن إیجاب
__________________
1 ـ فی « ب » : ما بقی منه.
2 ـ فی « أ » : ولا بد.
3 ـ النساء : 43 ، المائدة : 6.
4 ـ التهذیب : 1 / 196 ـ 197 ، 200 باب التیمم وأحکامه.
الکافی : 3 / 64. باب الوقت الذی یوجب التیمم ، مع اختلاف فی الالفاظ.
5 ـ التهذیب : 1 / 194 ، الحدیث 35 ، التیمم وأحکامه ، وصفحة 199 ، الحدیث 52.
ومن هنا ظهر الحال فی مثل ( زید ضارب أمس ) وإنّه داخل فی محلّ الخلاف والاشکال. ولو کانت لفظة ( أمس ) أو ( غد ) قرینة على تعیین زمان النسبة والجری أیضاً کان المثالان حقیقة.
وبالجملة : لا ینبغی الإِشکال فی کون المشتق حقیقة ، فیما إذا جرى على الذات ، بلحاظ حال التلبس ، ولو کان فی المضی أو الاستقبال ، وإنما الخلاف فی کونه حقیقة فی خصوصه ، أو فیما یعم ما إذا جرى علیها فی الحال بعد ما انقضى عنه التلبس ، بعد الفراغ عن کونه مجازاً فیما إذا جرى علیها فعلاً بلحاظ التلبس فی الاستقبال ، ویؤیّد ذلک اتفاق أهل العربیة على عدم دلالة الاسم على الزمان ، ومنه الصفات الجاریة على الذوات ، ولا ینافیه اشتراط العمل فی بعضها بکونه بمعنى الحال ، أو الاستقبال ؛ ضرورة أن المراد الدلالة على أحدهما بقرینة ، کیف لا؟ وقد اتفقوا على کونه مجازاً فی الاستقبال.
لا یقال : یمکن أن یکون المراد بالحال فی العنوان زمإنّه ، کما هو الظاهر منه عند إطلاقه ، وادعی إنّه الظاهر فی المشتقات ، امّا لدعوى الانسباق من الإِطلاق ، أو بمعونة قرینة الحکمة.
لأنا نقول : هذا الانسباق ، وأنّ کان مما لا ینکر ، إلّا إنّهم فی هذا العنوان بصدد تعیین ما وضع له المشتق ، لا تعیین ما یراد بالقرینة منه.
سادسها : إنّه لا أصل فی نفس هذه المسألة یعوّل علیه عند الشک ، وأصالة عدم ملاحظة الخصوصیة ، مع معارضتها بأصالة عدم ملاحظة العموم ، لا دلیل على اعتبارها فی تعیین الموضوع له.
وأما ترجیح الاشتراک المعنوی على الحقیقة والمجاز. إذا دار الأمر بینهما لأجل الغلبة ، فممنوع ؛ لمنع الغلبة أولاً ، ومنع نهوض حجة على الترجیح بها ثانیاً.
وأما الأصل العملی فیختلف فی الموارد ، فأصالة البراءة فی مثل ( أَکرم کلّ عالم ) تقتضی عدم وجوب إکرام ما انقضى (1) عنه المبدأ قبل الإِیجاب ، کما أن قضیة الاستصحاب وجوبه لو کان الإِیجاب قبل الانقضاء.
فإذا عرفت ما تلونا علیک ، فاعلم أن الأقوال فی المسألة وأنّ کثرت ، إلّا إنّها حدثت بین المتأخرین ، بعد ما کانت ذات قولین بین المتقدّمین ، لأجل توهّم اختلاف المشتق باختلاف مبادئه فی المعنى ، أو بتفاوت ما یعتریه من الأحوال ، وقد مرت الإِشارة (2) إلى إنّه لا یوجب التفاوت فیما نحن بصدده ، ویأتی له مزید بیان فی أثناء الاستدلال على ما هو المختار ، وهو اعتبارٍ التلبس فی الحال ، وفاقاً لمتأخری الأصحاب والاشاعرة ، وخلافاً لمتقدمیهم والمعتزلة ، ویدل علیه تبادر خصوص المتلبس بالمبدأ فی الحال ، وصحة السلب مطلقاً عما انقضى عنه ، کالمتلبس به فی الاستقبال ، وذلک لوضوح أن مثل : القائم والضارب والعالم ، وما یرادفها من سائر اللغات ، لا یصدق على من لم یکن متلبساً بالمبادىء ، وأنّ کان متلبسا بها قبل الجری والانتساب ، ویصحّ سلبها عنه ، کیف؟ وما یضادها بحسب ما ارتکز من معناها فی الأذهان یصدق علیه ، ضرورة صدق القاعد علیه فی حال تلبسه بالقعود ، بعد انقضاء تلبسه بالقیام ، مع وضوح التضاد بین القاعد والقائم بحسب ما ارتکز لهما من المعنى ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ فی« ب» : من انقضى.
2 ـ تقدم فی الأمر الرابع ، صفحة 43.
وقد یقرَّر هذا وجهاً على حدة ، ویقال (1) : لا ریب فی مضادة الصفات المتقابلة المأخوذة من المبادىء المتضادة ، على ما ارتکز لها من المعانی ، فلو کان المشتق حقیقة فی الأعم ، لما کان بینها مضادة بل مخالفة ، لتصادقها فیما انقضى عنه المبدأ وتلبس بالمبدأ الآخر.
ولا یرد على هذا التقریر ما أورده بعضٍ الأجلّة (2) من المعاصرین ، من عدم التضاد على القول بعدم الاشتراط ، لما عرفت من ارتکازه بینها ، کما فی مبادئها.
إن قلت : لعل ارتکازها لأجل الانسباق من الإِطلاق ، لا الاشتراط.
قلت : لا یکاد یکون لذلک ، لکثرة استعمال المشتق فی موارد الانقضاء ، لو لم یکن بأکثر.
إن قلت : على هذا یلزم أن یکون فی الغالب أو الأغلب مجازاً ، وهذا بعید ، ربما لا یلائمه حکمة الوضع.
لا یقال : کیف؟ وقد قیل : بأن أکثر المحاورات مجازات. فإن ذلک لو سلّم ، فإنما هو لأجل تعدَّد المعانی المجازیة بالنسبة إلى المعنى الحقیقی الواحد. نعم ربما یتفق ذلک بالنسبة إلى معنى مجازی ، لکثرة الحاجة إلى التعبیر عنه. لکن أین هذا مما إذا کان دائماً کذلک؟ فافهم.
__________________
1 ـ البدائع / 181 ، فی المشتق.
2 ـ المراد من بعضٍ الأجلّة ، هو صاحب البدائع ، البدائع / 181.
الشیخ المیرزا حبیب الله بن المیرزا محمد علی خان القوجانی الرشتی ، ولد عام 1234 ه ، حضر بحث صاحب الجواهر والشیخ الانصاری ، کان من أکابر علماء عصره ، أعرض عن الرئاسة ولم یرض أن یقلّده أحد لشدّة توّرعه فی الفتوى ، ولم یتصدّ للوجوه ، له تصانیف کثیرة منها « بدائع الأصول » و « شرح الشرائع » و « کاشف الظلام فی علم الکلام » وغیرها ، توفی لیلة الخمیس 14 / ج 2 عام 1312 ه ودفن فی النجف الاشرف.
( طبقات أعلام الشیعة ، نقباء البشر 1 / 357 رقم 719 )
قلت : مضافاً إلى أن مجرد الاستبعاد غیر ضائر بالمراد ، بعد مساعدة الوجوه المتقدمة علیه ، إن ذلک إنّما یلزم لو لم یکن استعماله فیما انقضى بلحاظ حال التلبس ، مع إنّه بمکان من الإِمکان ، فیراد من ( جاء الضارب أو الشارب ) ـ وقد انقضى عنه الضرب والشرب ـ جاء الذی کان ضاربا وشارباً قبل مجیئه حال التلبس بالمبدأ ، لا حینه بعد الانقضاء ، کی یکون الاستعمال بلحاظ هذا الحال ، وجعله معنوناً بهذا العنوان فعلاً بمجرد تلبسه قبل مجیئه ، ضرورة إنّه لو کان للأعم لصحّ استعماله بلحاظ کلاّ الحالین.
وبالجملة : کثرة الاستعمال فی حال الانقضاء تمنع عن دعوى انسباق خصوص حال التلبس من الإِطلاق ، إذ مع عموم المعنى وقابلیة کونه حقیقة فی المورد ـ ولو بالانطباق ـ لا وجه لملاحظة حالة أُخرى ، کما لا یخفى ، بخلاف ما إذا لم یکن له العموم ، فإن استعماله ـ حینئذ ـ مجازاً بلحاظ حال الانقضاء وأنّ کان ممکناً ، إلّا إنّه لما کان بلحاظ حال التلبس على نحو الحقیقة بمکان من الإِمکان ، فلا وجه لاستعماله وجریه على الذات مجازاً وبالعنایة وملاحظة العلاقة ، وهذا غیر استعمال اللفظ فیما لا یصحّ استعماله فیه حقیقة ، کما لا یخفى ، فافهم.
ثم إنّه ربما أورد (1) على الاستدلال بصحة السلب ، بما حاصله : إنّه إن أُرید بصحة السلب صحته مطلقاً ، فغیر سدید ، وأنّ أُرید مقیداً ، فغیر مفید ، لأن علامة المجاز هی صحة السلب المطلق.
وفیه : إنّه إن أُرید بالتقیید ، تقیید المسلوب الذی یکون سلبه أعم من سلب المطلق ـ کما هو واضح ـ فصحة سلبه وأنّ لم تکن علامة على کون المطلق مجازاً فیه ، إلّا أن تقییده ممنوع ؛ وأنّ أُرید تقیید السلب ، فغیر ضائر بکونها علامة ، ضرورة صدق المطلق على أفراده على کلّ حال ، مع إمکان
__________________
1 ـ البدائع / 180 ، فی المشتق.
منع تقییده أیضاً ، بأن یلحظ حال الانقضاء فی طرف الذات الجاری علیها المشتق ، فیصحّ سلبه مطلقاً بلحاظ هذا الحال ، کما لا یصحّ سلبه بلحاظ حال التلبس ، فتدبرّ جیداً.
ثم لا یخفى إنّه لا یتفاوت (1) فی صحة السلب عما انقضى عنه المبدأ ، بین کون المشتق لازماً وکونه متعدیاً ، لصحة سلب الضارب عمن یکون فعلاً غیر متلبس بالضرب ، وکان متلبسا به سابقاً ، وأما إطلاقه علیه فی الحال ، فان کان بلحاظ حال التلبس ، فلا إشکال کما عرفت ، وأنّ کان بلحاظ الحال ، فهو وأنّ کان صحیحاً إلّا إنّه لا دلالة على کونه بنحو الحقیقة ، لکون الاستعمال أعم منها کما لا یخفى.
کما لا یتفاوت فی صحة السلب عنه ، بین تلبسه بضد المبدأ وعدم تلبسه ، لما عرفت من وضوح صحته مع عدم التلبس ـ أیضاً ـ وأنّ کان معه أوضح.
ومما ذکرنا ظهر حال کثیر من التفاصیل ، فلا نطیل بذکرها على التفصیل.
حجة القول بعدم الاشتراط وجوه :
الأول : التبادر.
وقد عرفت أن المتبادر هو خصوص حال التلبس.
الثانی : عدم صحة السلب فی مضروب ومقتول ، عمن انقضى عنه المبدأ.
وفیه : إن عدم صحته فی مثلهما ، إنّما هو لأجل إنّه أُرید من المبدأ
معنى یکون التلبس به باقیاً فی الحال ، ولو مجازاً. وقد انقدح من بعضٍ المقدّمات إنّه لا یتفاوت الحال فیما هو المهمّ فی محلّ البحث والکلام ومورد النقض والأبرام ، اختلاف ما یراد من المبدأ فی کونه حقیقة أو مجازاً ؛ وأما لو أُرید منه نفس ما وقع على الذات ، مما صدر
__________________
1 ـ التفصیل لصاحب الفصول ، الفصول / 60 ، فصل حول إطلاق المشتق.
عن الفاعل ، فإنما لا یصحّ السلب فیما لو کان بلحاظ حال التلبس والوقوع ـ کما عرفت ـ لا بلحاظ الحال أیضاً ، لوضوح صحة أن یقال : إنّه لیس بمضروب الآن ، بل کان.
الثالث : استدلال الامام _ 7 _ تأسیا بالنبی ـ صلوات الله علیه وآله ـ کما عن غیر واحد من الإخبار (1) بقوله تعالی : ( لَا یَنَالُ عَهْدِی الظَّالِمِینَ ) (2) على عدم لیاقة من عبد صنماً أو وثنا لمنصب الإمامة والخلافة ، تعریضاً بمن تصدى لها ممن عبد الصنم مدة مدیدة ، ومن الواضح توقف ذلک على کون المشتق موضوعاً للأعم ، وإلاّ لما صحّ التعریض ، لانقضاء تلبسهم بالظلم وعبادتهم للصنم حین التصدی للخلافة.
والجواب منع التوقف على ذلک ، بل یتم الاستدلال ولو کان موضوعاً لخصوص المتلبس.
وتوضیح ذلک یتوقف على تمهید مقدّمة ، وهی : إن الأوصاف العنوانیة التی تؤخذ فی موضوعاًت الأحکام ، تکون على أقسام :
أحدها : أن یکون أخذ العنوان لمجرد الإِشارة إلى ما هو فی الحقیقة موضوعاً للحکم ، لمعهودیته بهذا العنوان ، من دون دخل لاتصافه به فی الحکم أصلاً.
ثانیها : أن یکون لأجل الإِشارة إلى علیة المبدأ للحکم ، مع کفایة مجرد صحة جری المشتق علیه ، ولو فیما مضى.
ثالثها : أن یکون لذلک مع عدم الکفایة ، بل کان الحکم دائراً مدار صحة الجری علیه ، واتّصافه به حدوثاً وبقاء.
إذا عرفت هذا فنقول : إن الاستدلال بهذا الوجه إنّما یتم ، لو کان أخذ العنوان فی الآیة الشریفة على النحو الأخیر ، ضرورة إنّه لو لم یکن المشتق
__________________
1 ـ الکافی 1/175 ، باب طبقات الأنبیاء والرسل والأئمة ، الحدیث 1.
2 ـ البقرة / 124.
للأعم ، لما تم بعد عدم التلبس بالمبدأ ظاهراً حین التصدی ، فلا بدّ أن یکون للأعم ، لیکون حین التصدی حقیقة من الظالمین ، ولو انقضى عنهم التلبس بالظلم. وأما إذا کان على النحو الثّانی ، فلا ، کما لا یخفى.
ولا قرینة على إنّه على النحو الأوّل ، لو لم نقل بنهوضها على النحو الثّانی ، فإن الآیة الشریفة فی مقام بیان جلالة قدر الامامة والخلافة وعظم خطرها ، ورفعة محلها ، وأنّ لها خصوصیة من بین المناصب الإلهیة ، ومن المعلوم أن المناسب لذلک ، هو أن لا یکون المتقمص بها متلبساً بالظلم أصلاً ، کما لا یخفى.
إن قلت : نعم ، ولکن الظاهر أن الإمام 7 إنّما استدل بما هو قضیة ظاهر العنوان وضعاً ، لا بقرینة المقام مجازاً ، فلا بدّ أن یکون للأعم ، وإلاّ لما تم.
قلت : لو سلّم ، لم یکن یستلزم جری المشتق على النحو الثّانی کونه مجازاً ، بل یکون حقیقة لو کان بلحاظ حال التلبس کما عرفت. فیکون معنى الآیة ، والله العالم : من کان ظالماً ولو آناً فی زمان سابق (1) لا ینال عهدی أبداً ، ومن الواضح أن إرادة هذا المعنى لا تستلزم الاستعمال ، لا بلحاظ حال التلبس.
ومنه قد انقدح ما فی الاستدلال على التفصیل بین المحکوم علیه والمحکوم به ، باختیار عدم الاشتراط فی الأوّل ، بآیة حد السارق والسارقة ، والزانی والزانیة ، وذلک حیث ظهر إنّه لا ینافی إرادة خصوص حال التلبس دلالتها على ثبوت القطع والجلد مطلقاً ، ولو بعد انقضاء المبدأ ، مضافاً إلى
__________________
1 ـ فی « ب » : السابق.
وضوح بطلان تعدَّد الوضع ، حسب وقوعه محکوماً علیه أو به ، کما لا یخفى.
ومن مطاوی ما ذکرنا ـ ها هنا وفی المقدّمات ـ ظهر حال سائر الأقوال ، وما ذکر لها من الاستدلال ، ولا یسع المجال لتفصیلها ، ومن أراد الاطلاع علیها فعلیه بالمطولات.
بقی اُمور :
الأول : إن مفهوم المشتق ـ على ما حققه المحقق الشریف (1) فی بعضٍ حواشیه (2) ـ : بسیط منتزع عن الذات ـ باعتبار تلبسها بالمبدأ واتصافها به ـ غیر مرکب. وقد أفاد فی وجه ذلک : أن مفهوم الشیء لا یعتبر فی مفهوم الناطق مثلاً ، وإلاّ لکان العرض العام داخلا فی الفصل ، ولو اعتبر فیه ما صدق علیه الشیء ، انقلبت مادة الإِمکان الخاص ضرورة ، فإن الشیء الذی له الضحک هو الإانسان ، وثبوت الشیء لنفسه ضروری. هذا ملخص ما أفاده الشریف ، على ما لخصه بعضٍ الأعاظم (3).
وقد أورد علیه فی الفصول (4) ، بإنّه یمکن أن یختار الشق الأوّل ، ویدفع الإِشکال بأن کون الناطق ـ مثلاً ـ فصلاً ، مبنی على عرفّ المنطقیین ،
__________________
1 ـ المیر سید علی بن محمّد بن علی الحسینی الاسترابادی ، ولد المحقق الشریف سنة 740 ه بجرجان وکان متکلماً بارعاً ، باهراً فی الحکمة والعربیة ، روى عن جماعة منهم العلامة قطب الدین الرازی ، واخذ منه العلامة المذکور ، له شرح المطالع وشرح على مواقف القاضی عضد الایجی فی علم أصول الکلام ،عده القاضی نور الله من حکماء الشیعة وعلمائها. وتوفی فی شیراز سنة 816 ه. ( الکنى والالقاب 2 / 358 ).
2 ـ فی حاشیته على شرح المطالع عند قول الشارح : إلّا أن معناه شیء له المشتق منه ... الخ ، شرح المطالع / 11.
3 ـ الفصول / 61 ، التنبیهات.
4 ـ الفصول / 61 ، التنبیهات.
حیث اعتبروه مجردا عن مفهوم الذات ، وذلک لا یوجب وضعه لغةً کذلک.
وفیه : إنّه من المقطوع أن مثل الناطق قد اعتبر فصلاً بلا تصرف فی معناه أصلاً ، بل بماله من المعنى ، کما لا یخفى.
والتحقیق أن یقال إن مثل الناطق لیس بفصل حقیقی ، بل لازم ما هو الفصل وأظهر خواصه ، وإنما یکون فصلاً مشهوریاً منطقیاً یوضع مکإنّه إذا لم یعلم نفسه ، بل لا یکاد یعلم ، کما حقق فی محله ، ولذا ربما یجعل لازمان مکإنّه إذا کانا متساویین النسبة إلیه ، کالحساس والمتحرک بالإِرادة فی الحیوان ، وعلیه فلا بأس بأخذ مفهوم الشیء فی مثل الناطق ، فإنّه وأنّ کان عرضاً عاماً ، لا فصلاً مقوماً للإنسان ، إلّا إنّه بعد تقییده بالنطق واتّصافه به کان من أظهر خواصه.
وبالجملة لا یلزم من أخذ مفهوم الشیء فی معنى المشتق ، إلّا دخول العرض فی الخاصة التی هی من العرضی ، لا فی الفصل الحقیقی الذی هو من الذاتی ، فتدبرّ جیداً.
ثم قال : إنّه یمکن أن یختار الوجه الثّانی أیضاً ، ویجاب بأن المحمول لیس مصداق الشیء والذات مطلقاً ، بل مقیداً بالوصف ، ولیس ثبوته للموضوع حینئذٍ بالضرورة ، لجواز أن لا یکون ثبوت القید ضروریاً. انتهى.
ویمکن أن یقال : إن عدم کون ثبوت القید ضروریاً لا یضر بدعوى الانقلاب ، فإن المحمول إن کان ذات المقید وکان القید خارجاً ، وأنّ کان التقییّد داخلاً بما هو معنى حرفی ، فالقضیة لا محالة تکون ضروریة ، ضرورة ضروریة ثبوت الإانسان الذی یکون مقیداً بالنطق للإنسان وأنّ کان المقید به بما هو مقید على أن یکون القید داخلاً ، فقضیة ( الإانسان ناطق ) تنحل فی الحقیقة إلى قضیتین إحداهما قضیة ( الإانسان إنسان ) وهی
ضروریة ، والأخرى قضیة ( الإانسان له النطق ) وهی ممکنة ، وذلک لأن الاوصاف قبل العلم بها أخبار کما أن الإخبار بعد العلم تکون أوصافاً ، فعقد الحمل ینحل إلى القضیة ، کما أن عقد الوضع ینحل إلى قضیة مطلقة عامة عند الشیخ ، وقضیة ممکنة عند الفارابی (1) ، فتأمل.
لکنه 1 تنظر فیما أفاده بقوله : وفیه نظر لأن الذات المأخوذة مقیدة بالوصف قوة أو فعلاً ، إن کانت مقیدة به واقعاً صدق الإِیجاب بالضرورة وإلاّ صدق السلب بالضرورة ، مثلاً : لا یصدق زید کاتب بالضرورة لکن یصدق ( زید الکاتب (2) بالقوة أو بالفعل [ کاتب ] بالضرورة ). انتهى.
ولا یذهب علیک أن صدق الإِیجاب بالضرورة ، بشرط کونه مقیداً به واقعاً لا یصحح دعوى الانقلاب إلى الضروریة ، ضرورة صدق الإِیجاب بالضرورة بشرط المحمول فی کلّ قضیة ولو کانت ممکنة ، کما لا یکاد یضر بها صدق السلب کذلک ، بشرط عدم کونه مقیداً به واقعاً ، لضرورة السلب بهذا الشرط ، وذلک لوضوح أن المناط فی الجهات ومواد القضایا ، إنّما هو بملاحظة أن نسبة هذا المحمول إلى ذلک الموضوع موجهة بأی جهة منها ، ومع أیة منها فی نفسها صادقة ، لا بملاحظة ثبوتها له واقعاً أو عدم ثبوتها له کذلک ، وإلاّ کانت الجهة منحصرة بالضرورة ، ضرورة صیرورة الإِیجاب أو السلب ـ بلحاظ الثبوت وعدمه ـ واقعاً ضروریاً ، ویکون من باب الضرورة
__________________
1 ـ أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الحکیم المشهور ، صاحب التصانیف فی الفلسفة والمنطق والموسیقى وغیرها من العلوم ، أقام ببغداد برهة ثم ارتحل إلى مدینة حرَّان ثم رجع إلى بغداد ثم سافر إلى دمشق ثم إلى مصر ، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها وسلطإنّها یومئذٍٍ سیف الدولة بن حمدان ، ویحکى أن الآلة المسماة « القانون » من وضعه ، وکان منفرداً بنفسه لا یجالس الناس ، أکثر تصانیفه فصول وتعالیق ، توفی عام 339 بدمشق وقد ناهز ثمانین سنة وصلّى علیه سیف الدولة ودفن بظاهر دمشق. ( وفیات الأعیان 5 / 153 رقم 701 ).
2 ـ أثبتناها من ( ب )
بشرط المحمول.
وبالجملة : الدعوى هو انقلاب مادة الإِمکان بالضرورة ، فیما لیست مادته واقعاً فی نفسه وبلا شرط غیر الأمکان.
وقد انقدح بذلک عدم نهوض ما أفاده ; بإبطال الوجه الأوّل ، کما زعمه 1 ، فإن لحوق مفهوم الشیء والذات لمصادیقهما ، إنّما یکون ضروریاً مع إطلاقهما ، لا مطلقاً ، ولو مع التقید إلّا بشرط تقید المصادیق به أیضاً ، وقد عرفت حال الشرط ، فافهم.
ثم إنّه لو جعل التالی فی الشرطیّة الثانیة لزوم أخذ النوع فی الفصل ؛ ضرورة أن مصداق الشیء الذی له النطق هو الإانسان ، کان ألیق بالشرطیة الأولى ، بل کان أولى (1) لفساده مطلقاً ، ولو لم یکن مثل الناطق بفصل حقیقی ، ضرورة بطلان أخذ الشیء فی لازمه وخاصته ، فتأمل جیداً.
ثم إنّه یمکن أن یستدل على البساطة ، بضرورة عدم تکرار الموصوف فی مثل ( زید الکاتب ) ، ولزومه من الترکب ، وأخذ الشیء مصداقاً أو مفهوماً فی مفهومه.
إرشاد :
لا یخفى أن معنى البساطة ـ بحسب المفهوم ـ وحدته إدراکاً وتصوراً ، بحیث لا یتصور عند تصوره إلّا شیء واحد لا شیئاًن ، وأنّ انحل بتعمّل من العقل إلى شیئین ، کانحلال مفهوم الشجر والحجر إلى شیء له الحجریة أو الشجریة ، مع وضوح بساطة مفهومهما.
وبالجملة : لا ینثلم بالانحلال إلى الاثنینیة ـ بالتعمّل العقلی ـ وحدة المعنى
__________________
1 ـ فی « ب » : الأولى.
وبساطة المفهوم ، کما لا یخفى ، وإلى ذلک یرجع الإِجمال والتفصیل الفارقان (1) بین المحدود والحد ، مع ما هما علیه من الاتحاد ذاتاً ، فالعقل بالتعمّل یحلل النوع ، ویفصله إلى جنس وفصل ، بعد ما کان أمراً واحداً إدراکاً ، وشیئاً فارداً تصوراً ، فالتحلیل یوجب فتق ما هو علیه من الجمع والرتق.
الثانی : الفرق بین المشتق ومبدئه مفهوماً ، إنّه بمفهومه لا یأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ ، ولا یعصی عن الجری علیه ، لما هما علیه من نحو من الاتحاد ، بخلاف المبدأ ، فإنّه بمعناه یأبى عن ذلک ، بل إذا قیس ونسب إلیه کان غیره ، لا هو هو ، وملاک الحمل والجری إنّما هو نحو من الاتحاد والهوهویة ، وإلى هذا یرجع ما ذکره أهل المعقول فی الفرق بینهما ، من أن المشتق یکون لا بشرط والمبدأ یکون بشرط لا ، أیّ یکون مفهوم المشتق غیر آب عن الحمل ، ومفهوم المبدأ یکون آبیا عنه ، وصاحب الفصول (2) ; ـ حیث توهّم أن مرادهم إنّما هو بیان التفرقة بهذین الاعتبارین ، بلحاظ الطوارىء والعوارض الخارجیة مع حفظ مفهوم واحد ـ أورد علیهم بعدم استقامة الفرق بذلک ، لأجل امتناع حمل العلم والحرکة على الذات ، وأنّ اعتبرا لا بشرط ، وغفل عن أن المراد ما ذکرنا ، کما یظهر منهم من بیان الفرق بین الجنس والفصل ، وبین المادة والصورة ، فراجع.
الثالث : ملاک الحمل ـ کما أشرنا إلیه ـ هو الهوهویة والاتحاد من وجه ،
__________________
1 ـ فی « أ و ب » : الفارقین.
2 ـ الفصول / 62 ، التنبیه الثّانی من تنبیهات المشتق.
هو الشیخ محمد حسین بن محمد رحیم الطهرانی الحائری ، ولد فی « إیوان کیف » ، أخذ مقدمات العلوم فی طهران ، ثم اکتسب من شقیقه الحجة الشیخ محمد تقی الاصفهانی صاحب « هدایة المسترشدین » فی اصفهان ، ثم هاجر إلى العراق فسکن کربلاء ، کان مرجعاً عاماً فی التدریس والتقلید ، وقد تخرّج من معهده جمع من کبار العلماء ، أجاب داعی ربه سنة 1254 ه وله آثار أشهرها « الفصول الغرویة » فی الأصول ( طبقات اعلام الشیعة الکرام البررة 1 / 390 رقم 795 ).
والمغایرة من وجه آخر ، کما یکون بین المشتقات والذوات ، ولا یعتبر معه (1) ملاحظة الترکیب بین المتغایرین ، واعتبار کون مجموعهما ـ بما هو کذلک ـ واحداً ، بل یکون لحاظ ذلک مخلا ، لاستلزامه المغایرة بالجزئیة والکلیة.
ومن الواضح أن ملاک الحمل لحاظ نحو اتحاد بین الموضوع والمحمول ، مع وضوح عدم لحاظ ذلک فی التحدیدات وسائر القضایا فی طرف الموضوعاًت ، بل لا یلحظ فی طرفها إلّا نفس معانیها ، کما هو الحال فی طرف المحمولات ، ولا یکون حملها علیها إلّا بملاحظة ما هما علیه من نحو من الاتحاد ، مع ما هما علیه من المغایرة ولو بنحو من الاعتبار.
فانقدح بذلک فساد ما جعله فی الفصول تحقیقاً للمقام. وفی کلامه موارد للنظر ، تظهر بالتأمل وإمعان النظر.
الرابع : لا ریب فی کفایة مغایرة المبدأ مع ما یجری المشتق علیه مفهوماً ، وأنّ اتحدا عیناً و خارجاً ، فصدق الصفات ـ مثل : العالم ، والقادر ، والرحیم ، والکریم ، إلى غیر ذلک من صفات الکمال والجلال ـ علیه تعالى ، على ما ذهب إلیه أهل الحق من عینیة صفاته ، یکون على الحقیقة ، فإن المبدأ فیها وأنّ کان عین ذاته تعالى خارجاً ، إلّا إنّه غیر ذاته تعالى مفهوماً.
ومنه قد انقدح ما فی الفصول ، من الالتزام بالنقل (2) أو التجوز فی ألفاظ الصفات الجاریة علیه تعالى ، بناءً على الحق من العینیة ، لعدم المغایرة المعتبرة بالاتفاق ، وذلک لما عرفت من کفایة المغایرة مفهوماً ، ولا اتفاق على اعتبارٍ غیرها ، إن لم نقل بحصول الاتفاق على عدم اعتباره ، کمالا یخفى ، وقد عرفت ثبوت المغایرة کذلک بین الذات ومبادىء الصفات.
__________________
1 ـ اشارة إلى ما افاده صاحب الفصول ، الفصول ، 62 التنبیه الثانی.
2 ـ الفصول / 62 ، التنبیه الثالث من تنبیهات المشتق.
الخامس : إنّه وقع الخلاف بعد الاتفاق على اعتبارٍ المغایرة ـ کما عرفت ـ بین المبدأ وما یجری علیه المشتق ، فی اعتبارٍ قیام المبدأ به ، فی صدقه على نحو الحقیقة.
وقد استدل من قال (1) بعدم الاعتبار ، بصدق الضارب والمؤلم ، مع قیام الضرب والألم بالمضروب والمؤلمَ ـ بالفتح ـ.
والتحقیق : إنّه لا ینبغی أن یرتاب من کان من أولى الالباب ، فی إنّه یعتبر فی صدق المشتق على الذات وجریه علیها ، من التلبس بالمبدأ بنحو خاص ، على اختلاف أنحائه الناشئة من اختلاف المواد تارةً ، واختلاف الهیئات أُخرى ، من القیام صدوراً أو حلولا أو وقوعا علیه أو فیه ، أو انتزاعه عنه مفهوماً مع اتحاده معه خارجاً ، کما فی صفاته تعالى ، على ما أشرنا إلیه آنفا ، أو مع عدم تحقق إلّا للمنتزع عنه ، کما فی الاضافات والاعتبارات التی لا تحقق لها ، ولا یکون بحذائها فی الخارج شیء ، وتکون من الخارج المحمول ، لا المحمول بالضمیمة ، ففی صفاته الجاریة علیه تعالى یکون المبدأ مغایراً له تعالى مفهوماً ،وقائماً به عیناً ، لکنه بنحو من القیام ، لا بأن یکون هناک اثنینیة ، وکان ما بحذائه غیر الذات ، بل بنحو الاتحاد والعینیة ، وکان ما بحذائه عین الذات ، وعدم اطلاع العرف على مثل هذا التلبس من الأمور الخفیة لا یضر بصدقها علیه تعالى على نحو الحقیقة ، إذا کان لها مفهوم صادق علیه تعالى حقیقة ، ولو بتأمل وتعمّل من العقل. والعرف إنّما یکون مرجعاً فی تعیین المفاهیم ، لا فی تطبیقها على مصادیقها.
وبالجملة : یکون مثل ( العالم ) ، ( والعادل ) ، وغیرهما من الصفات الجاریة علیه تعالى وعلى غیره جاریة علیهما بمفهوم واحد ومعنى فارد ، وأنّ اختلفا فیما یعتبر فی الجری من الاتحاد ، وکیفیة التلبس بالمبدأ ، حیث إنّه بنحو العینیة فیه تعالى ، وبنحو الحلول أو الصدور فی غیره ، فلا وجه لما التزم به فی
__________________
1 ـ الفصول / 62 ، التنبیه الثالث من تنبیهات المشتق.
الفصول (1) ، من نقل الصفات الجاریة علیه تعالى عما هی علیها من المعنى ، کما لا یخفى ، کیف؟ ولو کانت بغیر معانیها العامة جاریة علیه تعالى کانت صرف لقلقة اللسان وألفاظ بلا معنى ، فإن غیر تلک المفاهیم العامة الجاریة على غیره تعالى غیر مفهوم ولا معلوم إلّا بما یقابلها ، ففی مثل ما إذا قلنا : ( إنّه تعالى عالم ) ، امّا أن نعنی إنّه من ینکشف لدیه الشیء فهو ذاک المعنى العام ، أو إنّه مصداق لما یقابل ذاک المعنى ، فتعالى عن ذلک علواً کبیراً، وإما أن لا نعنی شیئاً ، فتکون کما قلناه من کونها صرف اللقلقة ، وکونها بلا معنى ، کما لا یخفى.
والعجب إنّه جعل ذلک علّة لعدم صدقها فی حق غیره ، وهو کما ترى ، وبالتأمل فیما ذکرنا ، ظهر الخلل فیما استدل من الجانبین والمحاکمة بین الطرفین ، فتأمل.
السادس : الظاهر إنّه لا یعتبر فی صدق المشتق وجریه على الذات حقیقة ، التلبس بالمبدأ حقیقة وبلا واسطة فی العروض ، کما فی الماء الجاری ، بل یکفی التلبس به ولو مجازاً ، ومع هذه الواسطة ، کما فی المیزاب الجاری ، فاسناد الجریان إلى المیزاب ، وأنّ کان إسناداً إلى غیر ما هو له وبالمجاز ، إلّا إنّه فی الإِسناد ، لا فی الکلمة ، فالمشتق فی مثل المثال ، بما هو مشتق قد استعمل فی معناه الحقیقی ، وأنّ کان مبدؤه مسنداً إلى المیزاب بالإِسناد المجازی ، ولا منافاة بینهما أصلاً ، کما لا یخفى.
ولکن ظاهر الفصول (2) بل صریحه ، اعتبارٍ الإِسناد الحقیقی فی صدق المشتق حقیقة ، وکأنه من باب الخلط بین المجاز فی الإِسناد والمجاز فی الکلمة ، وهذا ـ هاهنا ـ محلّ الکلام بین الأعلام ، والحمد لله ، وهو خیر ختام.
__________________
1 ـ الفصول / 62 ، التنبیه الثالث من تنبیهات المشتق.
2 ـ الفصول / 62 ، التنبیه الثالث من تنبیهات المشتق.
المقصد الأوّل : فی الاوامر
وفیه فصول :
الأول : فیما یتعلق بمادة الأمر من الجهات ، وهی عدیدة :
الأولى : إنّه قد ذکر للفظ الأمر معانٍ متعددة ، منها الطلب ، کما یقال ، أمره بکذا.
ومنها الشأن ، کما یقال : شغله أمر کذا.
ومنها الفعل ، کما فی قوله تعالى : ( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِیدٍ ) (1).
ومنها الفعل العجیب ، کما فی قوله تعالى : ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) (2).
ومنها الشیء ، کما تقول : رأیت الیوم أمراً عجیبا.
ومنها الحادثة
ومنها الغرض ، کما تقول : جاء زید الأمر کذا.
ولا یخفى أن عد بعضها من معانیه من اشتباه المصداق بالمفهوم ؛ ضرورة أن الأمر فی ( جاء زید الأمر ) ما إستعمل فی معنى الغرض ، بل اللام قد دلّ على الغرض ، نعم یکون مدخوله مصداقه ، فافهم ، وهکذا الحال فی قوله
__________________
1 ـ هود : 97.
2 ـ هود : 66 ، 82.
تعالى ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ) (1) یکون مصداقاً للتعجب ، لا مستعملاً فی مفهومه ، وکذا فی الحادثة والشأن.
وبذلک ظهر ما فی دعوى الفصول (2) ، من کون لفظ الأمر حقیقة فی المعنیین الأولین.
ولا یبعد دعوى کونه حقیقة فی الطلب فی الجملة والشیء ، هذا بحسب العرف واللغة.
وأما بحسب الاصطلاح ، فقد نقل (3) الاتفاق على إنّه حقیقة فی القول المخصوص ، ومجاز فی غیره ، ولا یخفى إنّه علیه لا یمکن منه الاشتقاق ، فإن معناه ـ حینئذ ـ لا یکون معنى حدثیاً ، مع أن الاشتقاقات منه ـ ظاهراً ـ تکون بذلک المعنى المصطلح علیه بینهم ، لا بالمعنى الآخر ، فتدبر.
ویمکن أن یکون مرادهم به هو الطلب بالقول لا نفسه ، تعبیراً عنه بما یدلّ علیه ، نعم القول المخصوص ـ أیّ صیغة الأمر ـ إذا أراد العالی بها الطلب یکون من مصادیق الأمر ، لکنه بما هو طلب مطلق أو مخصوص.
وکیف کان ، فالأمر سهل لو ثبت النقل ، ولا مشاحة فی الاصطلاح ، وإنما المهمّ بیان ما هو معناه عرفاً ولغة ، لیحمل علیه فیما إذا ورد بلا قرینة ، وقد استعمل فی غیر واحد من المعانی فی الکتاب والسنة ، ولا حجة على إنّه على نحو الاشتراک اللفظی أو المعنوی أو الحقیقة والمجاز.
وما ذکر فی الترجیح ، عند تعارض هذه الأحوال ، لو سلّم ، ولم یعارض بمثله ، فلا دلیل على الترجیح به ، فلا بدّ مع التعارض من الرجوع إلى الأصل فی مقام العمل ، نعم لو علم ظهوره فی أحد معانیه ، ولو إحتمل إنّه کان للانسباق من الإِطلاق ، فلیحمل علیه ، وأنّ لم یعلم إنّه حقیقة فیه
__________________
1 ـ هود : 66 ، 82.
2 ـ الفصول / 62 ، القول فی الأمر.
3 ـ الفصول / 62 ـ 63 ، القول فی الأمر.
بالخصوص ، أو فیما یعمه ، کما لا یبعد أن یکون کذلک فی المعنى الأول.
الجهة الثانیة : الظاهر اعتبارٍ العلو فی معنى الأمر ، فلا یکون الطلب من السافل أو المساوی أمراً ، ولو أطلق علیه کان بنحو من العنایة ، کما أن الظاهر عدم اعتبارٍ الاستعلاء ، فیکون الطلب من العالی أمراً ولو کان مستخفضاً لجناحه.
وأما إحتمال اعتبارٍ أحدهما فضعیف. وتقبیح الطالب السافل من العالی المستعلی علیه ، وتوبیخه بمثل : ( إنک لم تأمره ) ، إنّما هو على استعلائه ، لا على أمره حقیقة بعد استعلائه ، وإنما یکون إطلاق الأمر على طلبه بحسب ما هو قضیة استعلائه ، وکیف کان ، ففی صحة سلب الأمر عن طلب السافل ، ولو کان مستعلیاً کفایة.
الجهة الثالثة : لا یبعد کون لفظ الأمر حقیقة فی الوجوب ، لأنسباقه عنه عند إطلاقه ، ویؤیّد قوله تعال ( فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (1) وقوله 9 (2) : ( لولا أن أشقِّ على أمتی لامرتهم بالسواک ) (2) وقوله 9 : لبریرة بعد قولها : أتأمرنی یا رسول الله؟ ـ : ( لا ، بل إنّما أنا شافع ) (3) إلى غیر ذلک ، وصحة الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره ، وتوبیخه على مجرد مخالفته ، کما فی قوله تعالى ( مَا مَنَعَکَ إلّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُکَ ) (4).
وتقسیمه إلى الإِیجاب والاستحباب ، إنّما یکون قرینة على إرادة المعنى الأعم منه فی مقام تقسیمه. وصحة الاستعمال فی معنى أعم من کونه على نحو
__________________
1 ـ النور : 63.
2 ـ غوالی اللآلی : 2 / 21 الحدیث 43.
3 ـ الکافی : 5 / 485 ، التهذیب : 7 / 341 ، الخصال : 1 / 190.
4 ـ الأعراف : 12.
الحقیقة ، کما لا یخفى.
وأما ما اُفید (1) من أن الاستعمال فیهما ثابت ، فلو لم یکن موضوعاً للقدر المشترک بینهما لزم الاشتراک أو المجاز ، فهو غیر مفید ، لما مرت الإِشارة إلیه فی الجهة الأولى ، وفی تعارض الأحوال (2) ، فراجع.
والاستدلال بأن فعل المندوب طاعة ، وکل طاعة فهو فعل المأمور به ، فیه ما لا یخفى من منع الکبرى ، لو أُرید من المأمور به معناه الحقیقی ، وإلاّ لا یفید المدعى.
الجهة الرابعة : الظاهر أن الطلب الذی یکون هو معنى الأمر ، لیس هو الطلب الحقیقی الذی یکون طلباً بالحمل الشائع الصناعی ، بل الطلب الإنشائی الذی لا یکون بهذا الحمل طلباً مطلقاً ، بل طلباً إنشائیاً ، سواء اُنشىء بصیغة إفعل ، أو بمادة الطلب ، أو بمادة الأمر ، أو بغیرها.
ولو أبیت إلّا عن کونه موضوعاً للطلب فلا أقل من کونه منصرفاً إلى الإنشائی منه عند إطلاقه کما هو الحال فی لفظ الطلب أیضاً ، وذلک لکثرة الاستعمال فی الطلب الإنشائی ، کما أن الأمر فی لفظ الإرادة على عکس لفظ الطلب ، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقیقیة (3) واختلافهما فی ذلک ألجأ بعضٍ أصحابنا إلى المیل إلى ما ذهب إلیه الأشاعرة ، من المغایرة بین الطلب والإرادة ، خلافاً لقاطبة أهل الحق والمعتزلة ، من اتحادهما.
فلا بأس بصرف عنان الکلام إلى بیان ما هو الحق فی المقام ، وأنّ حققناه فی بعضٍ فوائدنا إلّا أن الحوالة لما تکن عن المحذور خالیة ، والإِعادة بلا فائدة ولا إفادة ، کان المناسب هو التعرض ها هنا أیضاً.
فاعلم ، أن الحق کما علیه أهله ـ وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للاشاعرة ـ هو اتحاد الطلب والإرادة ، بمعنى أن لفظیهما موضوعاًن بإزاء مفهوم واحد وما بإزاء
__________________
1 ـ أفاده العلامة (ره) نهایة الاُصول / 64 مخطوطة.
2 ـ فی الأمر الثامن من المقدمة ص 20.
3 ـ فی « ب » : الحقیقة.
أحدهما فی الخارج یکون بإزاء الآخر ، والطلب المنشأ بلفظه أو بغیره عین الإرادة الإنشائیة ، وبالجملة هما متحدان مفهوماً وإنشاء و خارجاً ، لا أن الطلب الإنشائی الذی هو المنصرف إلیه إطلاقه ـ کما عرفت ـ متحد مع الإرادة الحقیقیة (1) التی ینصرف إلیها إطلاقها أیضاً ، ضرورة أن المغایرة بینهما أظهر من الشمس وأبین من الأمس. فإذا عرفت المراد من حدیث العینیة والاتحاد ، ففی مراجعة الوجدان عند طلب شیء والأمر به حقیقة کفایة ، فلا یحتاج إلى مزید بیان وإقامة برهان ، فإن الإانسان لا یجد غیر الإرادة القائمة بالنفس صفة أُخرى قائمة بها ، یکون هو الطلب غیرها ، سوى ما هو مقدّمة تحققها ، عند خطور الشیء والمیل وهیجان الرغبة إلیه ، والتصدیق لفائدته ، وهو الجزم بدفع ما یوجب توقفه عن طلبه لاجلها.
وبالجملة : لا یکاد یکون غیر الصفات المعروفة والإرادة هناک صفة أُخرى قائمة بها یکون هو الطلب ، فلا محیص (2) عن إتحاد الإرادة والطلب ، وأنّ یکون ذلک الشوق المؤکد المستتبع لتحریک العضلات فی إرادة فعله بالمباشرة ، أو المستتبع الأمر عبیده به فیما لو أراده لا کذلک ، مسمى بالطلب والإرادة کما یعب به تارةً وبها أُخرى ، کما لا یخفى. وکذا الحال فی سائر الصیغ الإنشائیة ، والجمل الخبریة ، فإنّه لا یکون غیر الصفات المعروفة القائمة بالنفس ، من الترجی والتمنی والعلم إلى غیر ذلک ، صفة أُخرى کانت قائمة بالنفس ، وقد دلّ اللفظ علیها ، کما قیل :
إن الکلام لفی الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دلیلا
وقد انقدح بما حققناه ، ما فی استدلال الأشاعرة على المغایرة بالأمر مع عدم الإرادة ، کما فی صورتی الاختبار والاعتذار من الخلل ، فإنّه کما لا إرادة
__________________
1 ـ فی « ب » : الحقیقة.
2 ـ فی النسختین فلا محیص إلّا ، والظاهر « إلّا » هنا مقحمة فی السیاق.
حقیقة فی الصورتین ، لا طلب کذلک فیهما ، والذی یکون فیهما إنّما هو الطلب الإنشائی الإِیقاعی ، الذی هو مدلول الصیغة أو المادة ، ولم یکن بینّاً ولا مبینّاً فی الاستدلال مغایرته مع الإرادة الإنشائیة.
وبالجملة : الذی یتکفله الدلیل ، لیس إلّا الانفکاک بین الإرادة الحقیقیة ، والطلب المنشأ بالصیغة الکاشف عن مغایرتهما. وهو مما لا محیص عن الالتزام به ، کما عرفت ، ولکنه لا یضر بدعوى الاتحاد أصلاً ، لمکان هذه المغایرة والانفکاک بین الطلب الحقیقی والإنشائی ، کما لا یخفی.
ثم إنّه یمکن ـ مما حققناه ـ أن یقع الصلح بین الطرفین ، ولم یکن نزاع فی البین ، بأن یکون المراد بحدیث الاتحاد ما عرفت من العینیة مفهوماً ووجوداً حقیقیاً وإنشائیاً ، ویکون المراد بالمغایرة والاثنینیة هو اثنینیة الإنشائی من الطلب ، کما هو کثیراً ما یراد من إطلاق لفظه ، والحقیقی من الإرادة ، کما هو المراد غالباً منها حین إطلاقها ، فیرجع النزاع لفظیاً ، فافهم.
دفع ووهم (1) : لا یخفى إنّه لیس غرض الأصحاب والمعتزلة ، من نفی غیر الصفات المشهورة ، وإنّه لیس صفة أُخرى قائمة بالنفس کانت کلاماً نفسیاً مدلولأ للکلام اللفظی ، کما یقول به الأشاعرة ، إن هذه الصفات المشهورة مدلولات للکلام.
إن قلت : فماذا یکون مدلولأ علیه عند الأصحاب والمعتزلة؟
قلت : امّا الجمل الخبریة ، فهی دالّة على ثبوت النسبة بین طرفیها ، أو نفیها فی نفس الأمر من ذهن أو خارج ، کالإنسان نوع أو کاتب.
وأما الصیغ الإنشائیة ، فهی ـ على ما حققناه فی بعضٍ فوائدنا (2) ـ موجدة
__________________
1 ـ المتوهم هو القوشجی ، راجع شرح تجرید العقائد للقوشجی / 246 ، عند البحث عن المسموعات.
2 ـ کتاب النوائد / الفائدة الاُولى ص 17.
لمعانیها فی نفس الأمر ، أیّ قصد ثبوت معانیها وتحققها بها ، وهذا نحو من الوجود ، وربما یکون هذا منشأ لانتزاع اعتبارٍ مترتب علیه شرعاً وعرفاً آثار ، کما هو الحال فی صیغ العقود والایقاعات.
نعم لا مضایقة فی دلالة مثل صیغة الطلب والاستفهام والترجی والتمنی ـ بالدلالة الالتزامیة ـ على ثبوت هذه الصفات حقیقة ، امّا لأجل وضعها لإِیقاعها ، فیما إذا کان الداعی إلیه ثبوت هذه الصفات ، أو انصراف إطلاقها إلى هذه الصورة ، فلو لم تکن هناک قرینة ، کان إنشاءً الطلب أو الاستفهام أو غیرهما بصیغتها ، لأجل کون الطلب والاستفهام وغیرهما قائمة بالنفس ، وضعاً أو إطلاقاً.
إشکال ودفع : امّا الإِشکال ، فهو إنّه یلزم بناءً على اتحاد الطلب والإرادة ، فی تکلیف الکفار بالإِیمان ، بل مطلق أهل العصیان فی العمل بالارکان ، امّا أن لا یکون هناک تکلیف جدّی ، إن لم یکن هناک إرادة ، حیث إنّه لا یکون حینئذ طلب حقیقی ، وإعتباره فی الطلب الجدی ربما یکون من البدیهی ، وأنّ کان هناک إرادة ، فکیف تتخلف عن المراد؟ ولا تکاد تتخلف ، إذا أراد الله شیئاً یقول له : کن فیکون.
وأما الدفع ، فهو إن إستحاله التخلف إنّما تکون فی الإرادة التکوینیة وهی العلم بالنظام على النحو الکامل التام ، دون الإرادة التشریعیة ، وهی العلم بالمصلحة فی فعل المکلف. وما لا محیص عنه فی التکلیف إنّما هو هذه الإرادة التشریعیة لا التکوینیة ، فإذا توافقتا فلابد من الإطاعة والإِیمان ، وإذا تخالفتا ، فلا محیص عن أن یختار الکفر والعصیان.
إن قلت : إذا کان الکفر والعصیان والإطاعة والإِیمان ، بإرادته تعالى التی لا تکاد تتخلف عن المراد ، فلا یصحّ أن یتعلق بها التکلیف ، لکونها خارجة عن الاختیار المعتبر فیه عقلاً.
قلت : إنّما یخرج بذلک عن الاختیار ، لو لم یکن تعلق الإرادة بها مسبوقة بمقدماتها الاختیاریة ، وإلاّ فلا بدّ من صدورها بالاختیار ، وإلاّ لزم تخلف إرادته عن مراده ، تعالى عن ذلک علواً کبیراً.
إن قلت : إن الکفر والعصیان من الکافر والعاصی ولو کانا مسبوقین بإرادتهما ، إلّا إنّهما منتهیان إلى ما لا بالاختیار ، کیف؟ وقد سبقهما الإرادة الازلیة والمشیة الإلهیة ، ومعه کیف تصحّ المؤاخذة على ما یکون بالاخرة بلا اختیار؟
قلت : العقاب إنّما بتبعة الکفر والعصیان التابعین للاختیار الناشىء عن مقدماته ، الناشئة عن شقاوتهما الذاتیة اللازمة لخصوص ذاتهما ، فإن ( السعید سعید فی بطن أمه ، والشقی شقی فی بطن أمه ) (1) و ( الناس معادن کمعادن الذهب والفضة ) (2) ، کما فی الخبر ، والذاتی لا یعلل ، فانقطع سؤال : إنّه لم جعل السعید سعیدا والشقی شقیا؟ فإن السعید سعید بنفسه والشقی شقی کذلک ، وإنما أوجدهما الله تعالى ( قلم اینجا رسید سر بشکست ) (3) ، قد إنتهى الکلام فی المقام إلى ما ربما لا یسعه کثیر من الافهام ، ومن الله الرشد والهدایة وبه الاعتصام.
وهم ودفع : لعلک تقول : إذا کانت الإرادة التشریعیة منه تعالى عین علمه بصلاح الفعل ، لزم ـ بناءً على أن تکون عین الطلب ـ کون المنشأ بالصیغة فی الخطابات الإلهیة هو العلم ، وهو بمکان من البطلان.
__________________
1 ـ ورد بهذا المضمون فی توحید الصدوق / 356 الباب 58 الحدیث 3.
2 ـ الروضة من الکافی 8 / 177 ، الحدیث 197.
مسند أحمد بن حنبل 2 / 539 وفیه تقدیم الفضّة على الذهب. وقریب منه فی هذا المصدر صفحة 257 ، 260 ، 391 ، 438 ، 485 ، 498 ، 525 والبخاری 4 / 216.
3 ـ یرید المؤلف (ره) : وهنا یقف القلم ، لأن الکلام انتهى إلى ما ربما لا یسعه کثیر من الأفهام ، وما بین القوسین ، تعبیر فارسی ترجمته : لما وصل القلم إلى هنا انکسر رأسه.
لکنک غفلت عن أن اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح ، إنّما یکون خارجاً لا مفهوماً ، وقد عرفت (1) أن المنشأ لیس إلّا المفهوم ، لا الطلب الخارجی ، ولا غرو أصلاً فی اتحاد الإرادة والعلم عیناً و خارجاً ، بل لا محیص عنه فی جمیع صفاته تعالى ؛ لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة ، قال أمیر المؤمنین صلوات الله وسلامه علیه : ( وکمال توحیده الإخلاص له ، وکمال الإخلاص له نفی الصفات عنه ). (2)
الفصل الثانی
فیما یتعلق بصیغة الأمر وفیه مباحث :
الأول : إنّه ربما یذکر للصیغة معانٍ قد استعملت فیها ، وقد عد منها : الترجی ، والتمنی ، والتهدید ، والإنذار ، والإِهانة ، والاحتقار ، والتعجیز ، والتسخیر ، إلى غیر ذلک ، وهذا کما ترى ، ضرورة أن الصیغة ما استعملت فی واحد منها ، بل لم یستعمل إلّا فی إنشاءً الطلب ، إلّا أن الداعی إلى ذلک ، کما یکون تارةً هو البعث والتحریک نحو المطلوب الواقعی ، یکون أُخرى أحد هذه الأمور ، کما لا یخفى.
قصارى ما یمکن أن یَّدعى ، أن تکون الصیغة موضوعة لإِنشاء الطلب ، فیما إذا کان بداعی البعث والتحریک ، لا بداعٍ آخر منها ، فیکون إنشاءً الطلب بها بعثاً حقیقة ، وإنشاؤه بها تهدیداً مجازاً ، وهذا غیر کونها مستعملة فی التهدید وغیره ، فلا تغفل.
إیقاظ : لا یخفى أن ما ذکروه فی صیغة الأمر ، جار فی سائر الصیغ الإنشائیة ، فکما یکون الداعی إلى إنشاءً التمنی أو الترجی أو الاستفهام
__________________
1 ـ مر فی صفحة 66 من هذا الکتاب عند قوله : وأما الصیغ الإنشائیة .. الخ.
2 ـ نهج البلاغة / 39 الخطبة الأولى.
بصیغها ، تارةً هو ثبوت هذه الصفات حقیقة ، یکون الداعی غیرها أُخرى ، فلا وجه للالتزام بانسلاخ صیغها عنها ، واستعمالها فی غیرها ، إذا وقعت فی کلامه تعالى ، لاستحالة مثل هذه المعانی فی حقه تبارک وتعالى ، مما لازمه العجز أو الجهل ، وإنّه لا وجه له ، فإن المستحیل إنّما هو الحقیقی منها لا الإنشائی الإِیقاعی ، الذی یکون بمجرد قصد حصوله بالصیغة ، کما عرفت ، ففی کلامه تعالى قد استعملت فی معانیها الإِیقاعیة الإنشائیة أیضاً ، لا لإِظهار ثبوتها حقیقة ، بل الأمر آخر حسب ما یقتضیه الحال من إظهار المحبة أو الإِنکار أو التقریر إلى غیر ذلک ، ومنه ظهر أن ما ذکر من المعانی الکثیرة لصیغة الاستفهام لیس کما ینبغی أیضاً.
المبحث الثّانی : فی أن الصیغة حقیقة فی الوجوب ، أو فی الندب ، أو فیهما ، أو فی المشترک بینهما ، وجوه بل أقوال.
لا یبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرینة ، ویؤیده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب ، مع الاعتراف بعدم دلالته علیه بحال أو مقال ، وکثرة الاستعمال فیه فی الکتاب والسنة وغیرهما لا یوجب نقله إلیه أو حمله علیه (1) ، لکثرة استعماله فی الوجوب أیضاً ، مع أن الاستعمال وأنّ کثر فیه ، إلّا إنّه کان مع القرینة المصحوبة ، وکثرة الاستعمال کذلک فی المعنى المجازی لا توجب صیرورته مشهوراً فیه ، لیرجح أو یتوقف ، على الخلاف فی المجاز المشهور ، کیف؟ وقد کثر إستعمال العام فی الخاص ، حتى قیل : ( ما من عام إلّا وقد خص ) ولم ینثلم به ظهوره فی العموم ، بل یحمل علیه ما لم تقم قرینة بالخصوص على إرادة الخصوص.
المبحث الثالث : هل الجمل الخبریة التی تستعمل فی مقام الطلب والبعث ـ مثل : یغتسل ، ویتوضأ ، ویعید ـ ظاهرة فی الوجوب أو لا؟ لتعدد
__________________
1 ـ هذا تعریض بصاحب المعالم 1 ، معالم الدین / 48 ، فصل فی الأوامر : فائدة.
المجازات فیها ، ولیس الوجوب بأقواها ، بعد تعذر حملها على معناها من الإخبار ، بثبوت النسبة والحکایة عن وقوعها.
الظاهر الأوّل ، بل تکون أظهر من الصیغة ، ولکنه لا یخفى إنّه لیست الجمل الخبریة الواقعة فی ذلک المقام ـ أیّ الطلب ـ مستعملة فی غیر معناها ، بل تکون مستعملة فیه ، إلّا إنّه لیس بداعی الأعلام ، بل بداعی البعث بنحو آکد ، حیث إنّه أخبر بوقوع مطلوبه فی مقام طلبه ، إظهارا بإنّه لا یرضى إلّا بوقوعه ، فیکون آکد فی البعث من الصیغة ، کما هو الحال فی الصیغ الإنشائیة ، على ما عرفت من إنّها أبدا تستعمل فی معانیها الإِیقاعیة لکن بدواعٍ أخر ، کما مر (1).
لا یقال : کیف؟ ویلزم الکذب کثیراً ، لکثرة عدم وقوع المطلوب کذلک فی الخارج ، تعالى الله وأولیاؤه عن ذلک علواً کبیراً.
فإنّه یقال : إنّما یلزم الکذب ، إذا أتی بها بداعی الإخبار والإِعلام ، لا لداعی البعث ، کیف؟ وإلاّ یلزم الکذب فی غالب الکنایات ، فمثل ( زید کثیر الرماد ) أو ( مهزول الفصیل ) لا یکون کذباً ، إذا قیل کنایة عن جوده ، ولو لم یکن له رماد أو فصیل أصلاً ، وإنما یکون کذباً إذا لم یکن بجواد ، فیکون الطلب بالخبر فی مقام التأکید أبلغ ، فإنّه مقال بمقتضى الحال. هذا مع إنّه إذا أتى بها فی مقام البیان ، فمقدمات الحکمة مقتضیة لحملها على الوجوب ، فإن تلک النکتة إن لم تکن موجبة لظهورها فیه ، فلا أقل من کونها موجبة لتعینه من بین محتملات ما هو بصدده ، فإن شدة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب ، موجبة لتعین إرادته إذا کان بصدد البیان ، مع عدم نصب قرینة خاصة على غیره ، فافهم.
__________________
1 ـ فی المبحث الأوّل من هذا الفصل ، عند قوله 1 : إیقاظ / 69.
المبحث الرابع : إنّه إذا سلّم أن الصیغة لا تکون حقیقة فی الوجوب ، هل لا تکون ظاهرة فیه أیضاً أو تکون؟ قیل بظهورها فیه ، امّا لغلبة الاستعمال فیه ، أو لغلبة وجوده أو أکملیته.
والکل کما ترى ، ضرورة أن الاستعمال فی الندب وکذا وجوده ، لیس بأقل لو لم یکن بأکثر. وأما الأکملیة فغیر موجبة للظهور ، إذ الظهور لا یکاد یکون إلّا لشدة أنس اللفظ بالمعنى ، بحیث یصیر وجهاً له ، ومجرد الأکملیة لا یوجبه ، کما لا یخفى. نعم فیما کان الآمر بصدد البیان ، فقضیة مقدمات الحکمة هو الحمل على الوجوب ، فإن الندب کإنّه یحتاج إلى مؤونة بیان التحدید والتقیید بعدم المنع من الترک ، بخلاف الوجوب ، فإنّه لا تحدید فیه للطلب ولا تقیید ، فإطلاق اللفظ وعدم تقییده مع کون المطلق فی مقام البیان ، کافٍ فی بیإنّه ، فافهم.
المبحث الخامس : إن إطلاق الصیغة هل یقتضی کون الوجوب توصلیاً ، فیجزئ إتیإنّه مطلقاً ، ولو بدون قصد القربة ، أو لا؟ فلا بدّ من الرجوع فیما شک فی تعبدیته وتوصلیته إلى الأصل.
لابد فی تحقیق ذلک من تمهید مقدمات :
أحدها : الوجوب التوصلی ، هو ما کان الغرض منه یحصل بمجرد حصول الواجب ، ویسقط بمجرد وجوده ، بخلاف التعبدی ، فإن الغرض منه لا یکاد یحصل بذلک ، بل لابد ـ فی سقوطه وحصول غرضه ـ من الإِتیان به متقرباً به منه تعالى.
ثانیها : إن التقرب المعتبر فی التعبدی ، إن کان بمعنى قصد الامتثال والإِتیان بالواجب بداعی أمره ، کان مما یعتبر فی الطاعة عقلاً ، لا مما أخذ فی نفس العبادة شرعاً ، وذلک لاستحالة أخذ ما لا یکاد یتأتى إلّا من قبل الأمر بشیء فی متعلق ذاک الأمر مطلقاً شرطاً أو شطراً ، فما لم تکن نفس الصلاة متعلقة للأمر ، لا یکاد یمکن إتیإنّها بقصد امتثال أمرها.
وتوهمّ إمکان تعلق الأمر بفعل الصلاة بداعی الأمر ، وإمکان الإِتیان بها بهذا الداعی ، ضرورة إمکان تصور الأمر بها مقیدة ، والتمکن من إتیإنّها کذلک ، بعد تعلق الأمر بها ، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلاً فی صحة الأمر إنّما هو فی حال الامتثال لا حال الأمر ، واضح الفساد ، ضرورة إنّه وأنّ کان تصورها کذلک بمکان من الإِمکان ، إلّا إنّه لا یکاد یمکن الإِتیان بها بداعی أمرها ، لعدم الأمر بها ، فإن الأمر حسب الفرض تعلق بها مقیدة بداعی الأمر ، ولا یکاد یدعو الأمر إلّا إلى ما تعلق به ، لا إلى غیره.
إن قلت : نعم ، ولکن نفس الصلاة أیضاً صارت مأمورة بها بالأمر بها مقیدة.
قلت : کلاّ ، لأن ذات المقید لا یکون مأموراً بها ، فإن الجزء التحلیلی العقلی لا یتصف بالوجوب أصلاً ، فإنّه لیس إلّا وجود واحد واجب بالوجوب النفسی ، کما ربما یأتی فی باب المقدمة.
إن قلت : نعم ، لکنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطاً ، وأما إذا أخذ شطراً ، فلا محالة نفس الفعل الذی تعلق الوجوب به مع هذا القصد ، یکون متعلقاً للوجوب ، إذ المرکب لیس إلّا نفس الإِجزاء بالأسر ، ویکون تعلقه بکل بعین تعلقه بالکل ، ویصحّ أن یؤتى به بداعی ذاک الوجوب ؛ ضرورة صحة الإِتیان بأجزاء الواجب بداعی وجوبه.
قلت : مع امتناع اعتباره کذلک ، فإنّه یوجب تعلق الوجوب بأمر غیر اختیاری ، فإن الفعل وأنّ کان بالإِرادة اختیاریا ، إلّا أن إرادته ـ حیث لا تکون بإرادة أُخرى ، وإلاّ لتسلسلت ـ لیست باختیاریة ، کما لا یخفى. إنّما یصحّ الإِتیان بجزء الواجب بداعی وجوبه فی ضمن إتیإنّه بهذا الداعی ، ولا یکاد یمکن الإِتیان بالمرکب عن قصد الامتثال ، بداعی امتثال أمره.
إن قلت : نعم (1) ، لکن هذا کله إذا کان إعتباره فی المأمور به بأمر واحد ، وأما إذا کان بأمرین : تعلق أحدهما بذات الفعل ، وثانیهما بإتیإنّه بداعی أمره ، فلا محذور أصلاً ، کما لا یخفى. فللآمر أن یتوسل بذلک فی الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده ، بلا منعة.
قلت : ـ مضافاً إلى القطع بإنّه لیس فی العبادات إلّا أمر واحد ، کغیرها من الواجبات والمستحبات ، غایة الأمر یدور مدار الامتثال وجوداً و عدماً فیها المثوبات والعقوبات ، بخلاف ما عداها ، فیدور فیه خصوص المثوبات ، وأما العقوبة فمترتبة على ترک الطاعة ومطلق الموافقة ـ أن الأمر الأوّل إن کان یسقط بمجرد موافقته ، ولو لم یقصد به الامتثال ، کما هو قضیة الأمر الثّانی ، فلا یبقى مجال لموافقة الثّانی مع موافقة الأوّل بدون قصد امتثاله ، فلا یتوسل الأمر إلى غرضه بهذه الحیلة والوسیلة ، وأنّ لم یکد یسقط بذلک ، فلا یکاد یکون له وجه ، إلّا عدم حصول غرضه بذلک من أمره ، لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله ، وإلاّ لما کان موجباً لحدوثه ، وعلیه فلا حاجة فی الوصول إلى غرضه إلى وسیلة تعدَّد الأمر ، لاستقلال العقل ، مع عدم حصول غرض الأمر بمجرد موافقة الأمر بوجوب الموافقة على نحو یحصل به غرضه ، فیسقط أمره.
هذا کله إذا کان التقرب المعتبر فی العبادة بمعنى قصد الامتثال.
وأما إذا کان بمعنى الإِتیان بالفعل بداعی حسنه ، أو کونه ذا مصلحة [ أو له تعالى ] (2) ، فاعتباره فی متعلق الأمر وأنّ کان بمکان من الإِمکان ، إلّا إنّه غیر معتبر فیه قطعاً ، لکفایة الاقتصار على قصد الامتثال ، الذی عرفت
__________________
1 ـ إشارة إلى ما أفاده صاحب التقریرات فی مطارح الأنظار / 60 ، السطر الأخیر ، فی التعبدی والتوصلی.
2 ـ سقطت من « أ ».
عدم إمکان أخذه فیه بدیهة.
تأمل فیما ذکرناه فی المقام ، تعرف حقیقة المرام ، کی لا تقع فیما وقع فیه من الاشتباه بعضٍ الأعلام.
ثالثتها : إنّه إذا عرفت بما لا مزید علیه ، عدم إمکان أخذ قصد الامتثال فی المأمور به أصلاً ، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه ـ ولو کان مسوقاً فی مقام البیان ـ على عدم اعتباره ، کما هو أوضح من أن یخفى ، فلا یکاد یصحّ التمسک به إلّا فیما یمکن اعتباره فیه.
فانقدح بذلک إنّه لا وجه لاستظهار التوصلیة من إطلاق الصیغة بمادتها ، ولا لاستظهار عدم اعتبارٍ مثل الوجه مما هو ناشىء من قبل الأمر ، من إطلاق المادة فی العبادة لو شک فی اعتباره فیها ، نعم إذا کان الأمر فی مقام بصدد بیان تمام ماله دخل فی حصول غرضه ، وأنّ لم یکن له دخل فی متعلق أمره ، ومعه سکت فی المقام ، ولم ینصب دلالة على دخل قصد الامتثال فی حصوله ، کان هذا قرینة على عدم دخله فی غرضه ، وإلاّ لکان سکوته نقضاً له وخلاف الحکمة ، فلا بدّ عند الشک وعدم إحراز هذا المقام ، من الرجوع إلى ما یقتضیه الأصل ویستقل به العقل.
فاعلم : إنّه لا مجال ـ ها هنا ـ إلّا لاصالة الإِشتغال ، ولو قیل بأصالة البراءة فیما إذا دار الأمر بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین ، وذلک لأن الشک ها هنا فی الخروج عن عهدة التکلیف المعلوم ، مع استقلال العقل بلزوم الخروج عنها ، فلا یکون العقاب ـ مع الشک وعدم إحراز الخروج ـ عقاباً بلا بیان ، والمؤاخذة علیه بلا برهان ، ضرورة إنّه بالعلم بالتکلیف تصحّ المؤاخذة على المخالفة ، وعدم الخروج عن العهدة ، لو اتفق عدم الخروج عنها بمجرد الموافقة بلا قصد القربة ، وهکذا الحال فی کلّ ما شک دخله فی الطاعة ، والخروج به عن العهدة ، مما لا یمکن اعتباره فی المأمور به کالوجه والتمییز.
نعم : یمکن أن یقال : إن کلّ ما ربما یحتمل بدواً دخله فی الامتثال ،
أمراً کان مما یغفل عنه غالباً العامة (1) ، کان على الأمر بیإنّه ، ونصب قرینة على دخله واقعاً ، وإلاّ لاخل بما هو همّه وغرضه ، امّا إذا لم ینصب دلالة على دخله ، کشف عن عدم دخله ، وبذلک یمکن القطع بعدم دخل الوجه والتمییز فی الطاعة بالعبادة ، حیث لیس منهما عین ولا أثر فی الإخبار والآثار ، وکانا مما یغفل عنه العامة ، وأنّ احتمل اعتباره بعضٍ الخاصة ، فتدبرّ جیداً.
ثم إنّه لا أظنک أن تتوهم وتقول : إن أدلة البراءة الشرعیة مقتضیة لعدم الاعتبار ، وأنّ کان قضیة الإِشتغال عقلاً هو الاعتبار ، لوضوح إنّه لا بدّ فی عمومها من شیء قابل للرفع والوضع شرعاً ، ولیس ها هنا ، فإن دخل قصد القربة ونحوها فی الغرض لیس بشرعی ، بل واقعی. ودخل الجزء والشرط فیه وأنّ کان کذلک ، إلّا إنّهما قابلان للوضع والرفع شرعاً ، فبدلیل الرفع ـ ولو کان أصلاً ـ یکشف إنّه لیس هناک أمر فعلّی بما یعتبر فیه المشکوک ، یجب الخروج عن عهدته عقلاً ، بخلاف المقام ، فإنّه علم بثبوت الأمر الفعلّی ، کما عرفت ، فافهم.
المبحث السادس : قضیة إطلاق الصیغة ، کون الوجوب نفسیاً تعیینیاً عینیاً ، لکون کلّ واحد مما یقابلها یکون فیه تقیید الوجوب وتضیق دائرته ، فإذا کان فی مقام البیان ، ولم ینصب قرینة علیه ، فالحکمة تقتضی کونه مطلقاً ، وجب هناک شیء آخر أو لا ، أتى بشیء آخر أو لا ، أتى به آخر أو لا ، کما هو واضح لا یخفى.
المبحث السابع : إنّه اختلف القائلون بظهور صیغة الأمر فی الوجوب وضعاً أو إطلاقاً فیما إذا وقع عقیب الحظر أو فی مقام توهمه على أقوال :
__________________
1 ـ هذا ما أثبتناه من « أ و ب » ، وفی بعضٍ النسخ المطبوعة هکذا ( إن کلّ ما یحتمل بدواً دخله فی الامتثال وکان یغفل عنه غالباً العامة ).
نسب (1) إلى المشهور ظهورها فی الإِباحة. وإلى بعضٍ العامة (2) ظهورها فی الوجوب ، وإلى بعضٍ (3) تبعیته لما قبل النهی ، إن علق الأمر بزوال علّة النهی ، إلى غیر ذلک.
والتحقیق : إنّه لا مجال للتشبث بموارد الاستعمال ، فإنّه قلّ مورد منها یکون خالیاً عن قرینة على الوجوب ، أو الإِباحة ، أو التبعیة ، ومع فرض التجرید عنها ، لم یظهر بعدُ کون عقیب الحظر موجباً لظهورها فی غیر ما تکون ظاهرة فیه. غایة الأمر یکون موجباً لاجمالها ، غیر ظاهرة فی واحد منها إلّا بقرینة أُخرى ، کما أشرنا.
المبحث الثامن : الحق أن صیغة الأمر مطلقاً ، لا دلالة لها على المرة ولا التکرار ، فإن المنصرف عنها ، لیس إلّا طلب إیجاد الطبیعة المأمور بها ، فلا دلالة لها على أحدهما ، لا بهیئتها ولا بمادتها ، والاکتفاء بالمرة ، فإنما هو لحصول الامتثال بها فی الأمر بالطبیعة ، کما لا یخفى.
ثم لا یذهب علیک : أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوین ، لا یدلّ إلّا على الماهیة ـ على ما حکاه السکاکی (4) ـ لا یوجب کون النزاع ها هنا فی الهیئة ـ کما فی الفصول (5) ـ فإنّه غفلة وذهول عن کون المصدر کذلک ، لا یوجب الاتفاق على أن مادة الصیغة لا تدلّ إلّا على
__________________
1 ـ راجع الفصول / 70 ، وبدائع الأفکار فی النسخة الثانیة من نسختی الأوامر / 294.
2 ـ البصری فی المعتمد / 75 ، باب فی صیغة الأمر الواردة بعد حظر ، والبیضاوی وغیره راجع الإِبهاج فی شرح المنهاج للسبکی : 2 / 43.
3 ـ کالعضدی ، شرح مختصر الأصول / 205 ، فی مسألة وقوع صیغة الأمر بعد الحظر.
4 ـ مفتاح العلوم / 93.
5 ـ الفصول / 71 ، فصل : الحق أن هیئة ... الخ.
الماهیة ، ضرورة أن المصدر لیست مادة لسائر المشتقات ، بل هو صیغة مثلها ، کیف؟ وقد عرفت فی باب المشتق مباینة المصدر وسائر المشتقات بحسب المعنى ، فکیف بمعناه یکون مادة لها؟ فعلیه یمکن دعوى اعتبارٍ المرة أو التکرار فی مادتها ، کما لا یخفى.
إن قلت : فما معنى ما اشتهر من کون المصدر أصلاً فی الکلام.
قلت : مع إنّه محلّ الخلاف ، معناه أن الذی وضع أولاً بالوضع الشخصی ، ثم بملاحظته وضع نوعیا أو شخصیاً سائر الصیغ التی تناسبه ، مما جمعه معه مادة لفظ متصورة فی کلّ منها ومنه ، بصورة ومعنى کذلک ، هو المصدر أو الفعل ، فافهم.
ثم المراد بالمرة والتکرار ، هل هو الدفعة والدفعات؟ أو الفرد والأفراد؟
والتحقیق : أن یقعا بکلا المعنیین محلّ النزاع ، وأنّ کان لفظهما ظاهراً فی المعنى الأوّل ، وتوهمّ (1) إنّه لو أُرید بالمرة الفرد ، لکان الانسب ، بل اللازم أن یجعل هذا المبحث تتمة للبحث الآتی ، من أن الأمر هل یتعلق بالطبیعة أو بالفرد؟ فیقال عند ذلک وعلى تقدیر تعلقه بالفرد ، هل یقتضی التعلق بالفرد الواحد أو المتعدد ، أو لا یقتضی شیئاً منهما؟ ولم یحتج إلى إفراد کلّ منهما بالبحث کما فعلوه ، وأما لو أُرید بها الدفعة ، فلا علقة بین المسألتین ، کما لا یخفى ، فاسد ، لعدم العلقة بینهما لو أُرید بها الفرد أیضاً ، فإن الطلب على القول بالطبیعة إنّما یتعلق بها باعتبار وجودها فی الخارج ، ضرورة أن الطبیعة من حیث هی لیست إلّا هی ، لا مطلوبة ولا غیر مطلوبة ، وبهذا الاعتبار کانت مرددة بین المرة والتکرار بکلا المعنیین ، فیصحّ النزاع فی دلالة الصیغة على المرة والتکرار بالمعنیین وعدمها.
__________________
1 ـ المتوهم هو صاحب الفصول ، الفصول / 71.
أمّا بالمعنى الأوّل فواضح ، وأما بالمعنى الثّانی فلوضوح أن المراد من الفرد أو الأفراد وجود واحد أو وجودات ، وإنما عبر بالفرد لأن وجود الطبیعة فی الخارج هو الفرد ، غایة الأمر خصوصیته وتشخصه على القول بتعلق الأمر بالطبائع یلازم المطلوب وخارج عنه ، بخلاف القول بتعلقه بالأفراد ، فإنّه مما یقومه.
تنبیه : لا إشکال بناءً على القول بالمرة فی الامتثال ، وإنّه لا مجال للاتیان بالمأمور به ثانیاً ، على أن یکون أیضاً به الامتثال ، فإنّه من الامتثال بعد الامتثال. وأما على المختار من دلالته على طلب الطبیعة من دون دلالة على المرة ولا على التکرار ، فلا یخلو الحال : امّا أن لا یکون هناک إطلاق الصیغة فی مقام البیان ، بل فی مقام الإِهمال أو الإِجمال ، فالمرجع هو الأصل. وإما أن یکون إطلاقها فی ذلک المقام ، فلا إشکال فی الاکتفاء بالمرة فی الامتثال ، وإنما الإِشکال فی جواز أن لا یقتصر علیها ، فإن لازم إطلاق الطبیعة المأمور بها ، هو الإِتیان بها مرة أو مراراً لا ، لزوم الاقتصار على المرة ، کما لا یخفى.
والتحقیق : إن قضیة الإِطلاق إنّما هو جواز الإِتیان بها مرة فی ضمن فرد أو أفراد ، فیکون إیجادها فی ضمنها نحواً من الامتثال ، کإیجادها فی ضمن الواحد ، لا جواز الإِتیان بها مرة ومرات ، فإنّه مع الإِتیان بها مرة لا محالة یحصل الامتثال ویسقط به الأمر ، فیما إذا کان امتثال الأمر علّة تامة لحصول الغرض الأقصى ، بحیث یحصل بمجرده ، فلا یبقى معه مجال لاتیإنّه ثانیاً بداعی امتثال آخر ، أو بداعی أن یکون الاتیانان امتثالاً واحداً ؛ لما عرفت من حصول الموافقة بإتیإنّها ، وسقوط الغرض معها ، وسقوط الأمر بسقوطه ، فلا یبقى مجال لامتثاله أصلاً ، وأما إذا لم یکن الامتثال علّة تامة لحصول الغرض ، کما إذا أمر بالماء لیشرب أو یتوضأ فأتی به ، ولم یشرب أو لم یتوضأ فعلاً ، فلا یبعد صحة تبدیل الامتثال بإتیان فرد آخر أحسن منه ، بل
مطلقاً ، کما کان له ذلک قبله ، على ما یأتی بیإنّه فی الإِجزاء.
المبحث التاسع : الحق إنّه لا دلالة للصیغة ، لا على الفور ولا على التراخی ، نعم قضیة إطلاقها جواز التراخی ، والدلیل علیه تبادر طلب إیجاد الطبیعة منها ، بلا دلالة على تقییدها بأحدها ، فلا بدّ فی التقیید من دلالة أُخرى ، کما ادعی دلالة غیر واحد من الآیات على الفوریة.
وفیه منع ، ضرورة أن سیاق آیة ( وسارعوا إلى مغفرة من ربکم ) (1) وکذا آیة ( فَاسْتَبِقُوا الْخَیْرَاتِ ) (2) إنّما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة والاستباق إلى الخیر ، من دون استتباع ترکهما للغضب والشر ، ضرورة أن ترکهما لو کان مستتبعا للغضب والشر ، کان البعث بالتحذیر عنهما أنسب ، کما لا یخفى ، فافهم.
مع لزوم کثرة تخصیصه فی المستحبات ، وکثیر من الواجبات بل أکثرها ، فلا بدّ من حمل الصیغة فیهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب.
ولا یبعد دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق ، وکان ما ورد من الآیات والروایات فی مقام البعث نحوه إرشاداً إلى ذلک ، کالآیات والروایات الواردة فی الحثَّ على أصل الإطاعة ، فیکون الأمر فیها لما یترتب على المادة بنفسها ، ولو لم یکن هناک أمر بها ، کما هو الشأن فی الأوامر الارشادیة ، فافهم.
تتمة : بناءً على القول بالفور ، فهل قضیة الأمر الإِتیان فوراً ففوراً بحیث لو عصى لوجب علیه الإِتیان به فوراً أیضاً ، فی الزمان الثّانی ، أو لا؟ وجهان : مبنیان على أن مفاد الصیغة على هذا القول ، هو وحدة المطلوب أو تعدده؟ ولا یخفى إنّه لو قیل بدلالتها على الفوریة ، لما کان لها دلالة على نحو
__________________
1 ـ آل عمران : 133.
2 ـ البقرة : 148 ، المائدة : 48.
المطلوب من وحدته أو تعدده ، فتدبرّ جیداً.
الفصل الثالث
الاتیان بالمأمور به على وجهه یقتضی الإِجزاء فی الجملة بلا شبهة ، وقبل الخوض فی تفصیل المقام وبیان النقض والأبرام ، ینبغی تقدیم أمور :
أحدها : الظاهر أن المراد من ( وجهه ) ـ فی العنوان ـ هو النهج الذی ینبغی أن یؤتى به على ذاک النهج شرعاً وعقلاً ، مثل أن یؤتى به بقصد التقرب فی العبادة ، لا خصوص الکیفیة المعتبرة فی المأمور به شرعاً ، فإنّه علیه یکون ( على وجهه ) قیداً توضیحیا ، وهو بعید ، مع إنّه یلزم خروج التعبدیات عن حریم النزاع ، بناءً على المختار ، کما تقدم من أن قصد القربة من کیفیات الإطاعة عقلاً ، لا من قیود المأمور به شرعاً ، ولا الوجه المعتبر عند بعضٍ الأصحاب (1) ، فإنّه ـ مع عدم اعتباره عند المعظم ، وعدم اعتباره عند من اعتبره ، إلّا فی خصوص العبادات لا مطلق الواجبات ـ لا وجه لاختصاصه بالذکر على تقدیر الاعتبار ، فلا بدّ من إرادة ما یندرج فیه من المعنى ، وهو ما ذکرناه ، کما لا یخفى.
ثانیها : الظاهر أن المراد من الاقتضاء ـ ها هنا ـ الاقتضاء بنحو العلّیة والتأثیر ، لا بنحو الکشف والدلالة ، ولذا نسب إلى الإِتیان لا إلى الصیغة.
إن قلت : هذا إنّما یکون کذلک بالنسبة إلى أمره ، وأما بالنسبة إلى أمر آخر ، کالإِتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری أو الظاهری بالنسبة إلى الأمر الواقعی ، فالنزاع فی الحقیقة فی دلالة دلیلهما على اعتباره ، بنحو یفید الإِجزاء ، أو بنحو آخر لا یفیده.
__________________
1 ـ من المتکلمین ، وأشار إلیه فی مطارح الأنظار / 19.
قلت : نعم ، لکنه لا ینافی کون النزاع فیهما ، کان فی الاقتضاء بالمعنى المتقدم ، غایته أن العمدة فی سبب الاختلاف فیهما ، إنّما هو الخلاف فی دلالة دلیلهما ، هل إنّه على نحو یستقل العقل بأن الإِتیان به موجب للإِجزاء ویؤثر فیه ، وعدم دلالته؟ ویکون النزاع فیه صغرویاً أیضاً ، بخلافه فی الإِجزاء بالإضافة إلى أمره ، فإنّه لا یکون إلّا کبرویا ، لو کان هناک نزاع ، کما نقل عن بعضٍ (1). فافهم.
ثالثها : الظاهر أن الإِجزاء ـ ها هنا ـ بمعناه لغةً ، وهو الکفایة (2) ، وأنّ کان یختلف ما یکفی عنه ، فإن الإِتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی یکفی ، فیسقط به التعبد به ثانیاً ، وبالأمر الاضطراری أو الظاهری الجعلی ، فیسقط به القضاء ، لا إنّه یکون ـ ها هنا ـ اصطلاحاً ، بمعنى إسقاط التعبد أو القضاء ، فإنّه بعید جداً.
رابعها : الفرق (3) بین هذه المسألة ، ومسألة المرة والتکرار ، لا یکاد یخفى ، فإن البحث ـ ها هنا ـ فی أن الإِتیان بما هو المأمور به یجزئ عقلاً ، بخلافه فی تلک المسألة ، فإنّه فی تعیین ما هو المأمور به شرعاً بحسب دلالة الصیغة بنفسها ، أو بدلالة أُخرى.
نعم کان التکرار عملاً موافقاً لعدم الإِجزاء لکنه لا بملاکه.
وهکذا الفرق بینها وبین مسألة تبعیة القضاء للاداء ، فإن البحث فی تلک المسألة فی دلالة الصیغة على التبعیة وعدمها ، بخلاف هذه المسألة ؛ فإنّه ـ کما عرفت ـ فی
__________________
1 ـ وهو القاضی عبد الجبار ، راجع المعتمد 1 / 90.
2 ـ اجزأ الشیءُ إیای : کفانی. القاموس المحیط 1 / 10 مادة الجزء.
أجزأنی الشیء : کفانی. مجمع البحرین 1 / 85 مادة جزأ.
3 ـ راجع مطارح الأنظار / 19.
أن الإِتیان بالمأمور به بجزی عقلاً عن إتیإنّه ثانیاً أداءً أو قضاءً ، أو لا یجزئ ، فلا علقة بین المسألة والمسألتین أصلاً.
إذا عرفت هذه الأمور ، فتحقیق المقام یستدعی البحث والکلام فی موضعین :
الأول : إن الإِتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی ـ بل (1) بالأمر الاضطراری أو الظاهری أیضاً ـ یجزئ عن التعبد به ثانیاً ؛ لاستقلال العقل بإنّه لا مجال مع موافقة الأمر بإتیان المأمور به على وجهه ، لاقتضائه التعبد به ثانیاً.
نعم لا یبعد أن یقال : بإنّه یکون للعبد تبدیل الامتثال والتعبد به ثانیاً ، بدلاً عن التعبد به أولاً ، لا منضما إلیه ، کما أشرنا إلیه فی المسألة السابقة (2) ، وذلک فیما علم أن مجرد امتثاله لا یکون علّة تامة لحصول الغرض ، وأنّ کان وافیاً به لو اکتفى به ، کما إذا أتى بماء أمر به مولاه لیشربه ، فلم یشربه بعد ، فإن الأمر بحقیقته وملاکه لم یسقط بعد ، ولذا لو أهریق (3) الماء واطلع علیه العبد ، وجب علیه إتیإنّه ثانیاً ، کما إذا لم یأت به أولاً ، ضرورة بقاء طلبه ما لم یحصل غرضه الداعی إلیه ، وإلاّ لما أوجب حدوثه ، فحینئذ یکون له الإِتیان بماء آخر موافق للأمر ، کما کان له قبل إتیإنّه الأوّل بدلاً عنه.
نعم فیما کان الإِتیان علّة تامة لحصول الغرض ، فلا یبقى موضع للتبدیل ، کما إذا أمر بإهراق الماء فی فمه لرفع عطشه فأهرقه ، بل لو لم یعلم إنّه من أیّ القبیل ، فله التبدیل باحتمال أن لا یکون علّة ، فله إلیه سبیل ، ویؤیّد ذلک ـ بل یدلّ علیه ـ ما ورد من الروایات فی باب إعادة من صلّى فرادى
__________________
1 ـ فی نسختی « أ و ب » بل أو ..
2 ـ راجع تنبیه المبحث الثامن من هذا الکتاب / 79.
3 ـ فی « ب » : أهرق.
جماعة (1) ، وأنّ الله تعالى یختار أحبهما إلیه.
الموضع الثّانی : وفیه مقامان :
المقام الأوّل : فی أن الإِتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری ، هل یجزئ عن الإِتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی ثانیاً ، بعد رفع الاضطرار فی الوقت إعادة ، وفی خارجه قضاءً ، أو لا یجزئ؟
تحقیق الکلام فیه یستدعی التکلم فیه تارةً فی بیان ما یمکن أن یقع علیه الأمر الاضطراری من الأنحاء ، وبیان ما هو قضیة کلّ منها من الإِجزاء وعدمه ، وأخرى فی تعیین ما وقع علیه.
فاعلم إنّه یمکن أن یکون التکلیف الاضطراری فی حال الاضطرار ، کالتکلیف الاختیاری فی حال الاختیار ، وافیاً بتمام المصلحة ، وکافیاً فیما هو المهمّ والغرض ، ویمکن أن لا یکون وافیاً به کذلک ، بل یبقى منه شیء أمکن استیقاؤه أو لا یمکن. وما أمکن کان بمقدار یجب تدارکه ، أو یکون بمقدار یستحب ، ولا یخفى إنّه إن کان وافیاً به فیجزئ ، فلا یبقى مجال أصلاً للتدارک ، لا قضاءً ولا إعادة ، وکذا لو لم یکن وافیاً ، ولکن لا یمکن تدارکه ، ولا یکاد یسوغ له البدار فی هذه الصورة إلّا لمصلحة کانت فیه ، لما فیه من نقض الغرض ، وتفویت مقدارٍ من المصلحة ، لو لا مراعاة ما هو فیه من الأهم ، فافهم.
لا یقال : علیه ، فلا مجال لتشریعه ولو بشرط الانتظار ، لا مکان استیفاء الغرض بالقضاء.
__________________
1 ـ الکافی : 3 / 379 ، باب الرجل یصلی وحده من کتاب الصلاة.
التهذیب : 3 / 269 الحدیث 94 ، وصفحة 270 الحدیث 95 إلى 98 الباب 25. الفقیه : 1 / 251. الحدیث 41 إلى 43 من باب الجماعة وفضلها.
2 ـ فی « ب » یجزئ.
فإنّه یقال : هذا کذلک ، لولا المزاحمة بمصلحة الوقت.
وأما تسویغ البدار أو إیجاب الانتظار فی الصورة الأولى ، فیدور مدار کون العمل ـ بمجرد الاضطرار مطلقاً ، أو بشرط الانتظار ، أو مع الیأس عن طروِّ الاختیار ـ ذا مصلحة ووافیا بالغرض.
وإن لم یکن وافیاً ، وقد أمکن تدارک الباقی (1) فی الوقت ، أو مطلقاً ولو بالقضاء خارج الوقت ، فإن کان الباقی مما یجب تدارکه فلا یجزئ ، بل لابد (2) من إیجاب الإِعادة أو القضاء ، وإلاّ فیجزئ ، ولا مانع عن البدار فی الصورتین ، غایة الأمر یتخیر فی الصورة الأولى بین البدار والإِتیان بعملین : العمل الاضطراری فی هذا الحال ، والعمل الاختیاری بعد رفع الاضطرار أو الانتظار ، والاقتصار بإتیان ما هو تکلیف المختار ، وفی الصورة الثانیة یجزئ البدار ویستحب الإِعادة بعد طروِّ الاختیار.
هذا کله فیما یمکن أن یقع علیه الاضطراری من الأنحاء ، وأما ما وقعٍ علیه فظاهر إطلاق دلیله ، مثل قوله تعالى ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیدًا طَیِّبًا ) (3) وقوله 7 : ( التراب أحد الطهورین ) (4) و : ( یکفیک عشر سنین ) (5) هو الإِجزاء ، وعدم وجوب الإِعادة أو القضاء ، ولا بدّ فی إیجاب الإِتیان به ثانیاً من دلالة دلیل بالخصوص.
وبالجملة : فالمتبع هو الإِطلاق لو کان ، وإلاّ فالأصل ، وهو یقتضی البراءة من إیجاب الإِعادة ، لکونه شکّاً فی أصل التکلیف ، وکذا عن إیجاب
__________________
1 ـ فی « ب » : ما بقی منه.
2 ـ فی « أ » : ولا بد.
3 ـ النساء : 43 ، المائدة : 6.
4 ـ التهذیب : 1 / 196 ـ 197 ، 200 باب التیمم وأحکامه.
الکافی : 3 / 64. باب الوقت الذی یوجب التیمم ، مع اختلاف فی الالفاظ.
5 ـ التهذیب : 1 / 194 ، الحدیث 35 ، التیمم وأحکامه ، وصفحة 199 ، الحدیث 52.