کفایة الاصول - قسمت اول
بسم الله الرحمن الرحیم
نحمدک اللهم یا من أضاء على مطالع العقول والالباب ، وأنار علیها بسواطع السنة والکتاب ، فأحکم الفروع بأصولها فی کلّ باب ، ونصلّی على أفضل من اُوتی الحکمة وفصل الخطاب ، وعلى آله الطاهرین الأطیاب ، سیّما المخصوص بالاخوة سیّد أولی الالباب.
ربّنا آمنا بما أنزلت واتّبعنا الرسول وآل الرسول ، فاغفر لنا ذنوبنا ، وقنا سوء الحساب ، واللعنة على أعدائهم من الیوم إلى یوم الحساب.
وبعد : فالعلم على تشعّب شؤونه ، وتفنّن غصونه ، مفتقر إلى علم الأصول افتقار الرعیة إلى السلطان ، ونافذ حکمه علیها بالوجدان ، ولا سیّما العلوم الدینیة ، وخصوصاً الأحکام الشرعیة ، فلولا الأصول لم تقع فی علم الفقه على محصول.
فیه استقرت قواعد الدین ، وبه صار الفقه کشجرة طیبة تؤتی أکلها کلّ حین ، فلذا بادر علماء الامصار ، وفضلاء الأعصار ـ فی کلّ دور من الأدوار ـ إلى تمهید قواعده ، وتقیید شوارده ، وتبیین ضوابطه ، وتوضیح روابطه ، وتهذیب اُصوله ، وإحکام قوانینه ، وترتیب فصوله.
لکنّه لما فیه من محاسن النکت والفقر ، ولطائف معانٍ تدق دونها الفکر ، جل عن أن یکون شرعة لکلّ وارد ، أو أن یطلع على حقائقه إلّا واحد
بعد واحد ، فنهض به من اُولی البصائر کابر بعد کابر ، فللّه دَرّهم من عصابة تلقّوا وأذعنوا ، وبرعوا فأتقنوا ، وأجادوا فجادوا ، وصنفوا وأفادوا ، أثابهم الله برضوإنّه وبّوأهم بحبوحات جنإنّه.
حتى انتهى الأمر إلى أوحد علماء العصر ، قطب فلک الفقاهة والاجتهاد ، ومرکز دائرة البحث والانتقاد ، الطود الشامخ ، والعلم الراسخ ، محیی الشریعة وحامی الشیعة ، النحریر الأوّاه ، والمجاهد فی سبیل الله ، خاتم الفقهاء والمجتهدین ، وحجّة الاسلام والمسلمین ، الوفی الصفی ، مولانا الآخوند ( ملا محمد کاظم الهروی الطوسی النجفی ) مد الله أطناب ظلاله على رؤوس الأنام ، وعمر بوجوده دوارس شرع الاسلام ، فقد فاز ـ دام ظله ـ منه بالقدح المعلى وجلّ عن قول أین وأنىّ ، وجرى بفکر صائب تقف دونه الأفکار ، ونظر ثاقب یکاد سنا برقه یذهب بالابصار ، فلذا أذعن بفضله الفحول ، وتلقوه بأنعم القبول. وأظهر صحفاً هی المنتهى فی التبیان ، ذوات نکت لم یطمثهن قبله إنس ولا جان ، ویغنیک العیان عن البیان ، والوجدان عن البرهان.
فما قدمته لک إحدى مقالاته الشافیة ، ورسائله الکافیة ، فقد أخذت بجزأیها على شطری الأصول الأصلیة ، من مباحث الألفاظ والادلة العقلیة ، وأغنت بالاشارة عن المطّولات ، فهی النهایة والمحصول ، فحریّ بأن یسمى ب ( کفایة الأصول ) ، فأین من یعرف قدرها ، ولا یرخص مهرها ، وعلى الله قصد السبیل ، وهو حسبی ونعم الوکیل.
قال أدام الله ظله [ بعد التسمیة والتحمید والتصلیة ] (1) :
__________________
1 ـ نقلنا هذه المقدمة من « ب ». وهی من إنشاءً المتصدی لطبع النسخة الحجریة.
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربّ العالمین ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرین ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعین.
وبعد فقد رتّبته على مقدّمة ، ومقاصد وخاتمة.
أمّا المقدّمة
ففی بیان أمور :
الأول
إنّ موضوع کلّ علم ، وهو الذی یبحث فیه عن عوارضه الذاتیة ـ أیّ بلا واسطة فی العروض ـ هو نفس موضوعاًت مسائله عیناً ، وما یتّحد معها خارجاً ، وأنّ کان یغایرها مفهوماً ، تغایر الکّلی ومصادیقه ، والطبیعی وأفراده. والمسائل عبارة عن جملة من قضایا متشّتتة ، جمعها اشتراکها فی الدخل فی الغرض الذی لأجله دُوَّن هذا العلم ، فلذا قد یتداخل بعضٍ العلوم فی بعضٍ المسائل ، مما کان له دخل فی مهمین ، لأجل کلّ منهما دُوّن علم على حدة ، فیصیر من مسائل العلمین.
لا یقال : على هذا یمکن تداخل علمین فی تمام مسائلهما ، فیما کان هناک مهمان متلازمان فی الترتّب على جملة من القضایا ، لا یکاد انفکاکهما.
فإنّه یقال : مضافاً إلى بُعد ذلک ، بل امتناعه عادةً ، لا یکاد یصحّ لذلک تدوین علمین وتسمیتهما باسمین ، بل تدوین علم واحد ، یبحث فیه تارةً لکلا المهمّین ، واخرى لأحدهما ، وهذا بخلاف التداخل فی بعضٍ المسائل ، فان حسن تدوین علمین ـ کانا مشترکین فی مسألة ، أو أزید ـ فی جملة مسائلهما المختلفة ، لأجل مهمین ، مما لا یخفى.
وقد انقدح بما ذکرنا ، أن تمایَز العلوم إنّما هو باختلاف الاغراض الداعیة إلى التدوین ، لا الموضوعاًت ولا المحمولات ، وإلاّ کان کلّ باب ، بل کلّ مسألة من کلّ علم ، علماً على حدة ، کما هو واضح لمن کان له أدنى تأمّل ، فلا یکون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدد ، کما لا یکون وحدتهما سبباً لأن یکون من الواحد.
ثم إنّه ربما لا یکون لموضوع العلم ـ وهو الکلّی المتّحد مع موضوعاًت المسائل ـ عنوان خاص واسم مخصوص ، فیصحّ أن یعبّر عنه بکل ما دلّ علیه ، بداهة عدم دخل ذلک فی موضوعیته أصلاً.
وقد انقدح بذلک أن موضوع علم الأصول ، هو الکلّی المنطبق على موضوعاًت مسائله المتشتتة ، لا خصوص الأدلّة الأربعة بما هی أدلّة (1) ، بل ولا بما هی هی (2) ، ضرورة أن البحث فی غیر واحد من مسائله المهمّة لیس من عوارضها ، وهو واضح لو کان المراد بالسّنة منها هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقریره ، کما هو المصطلح فیها ، لوضوح عدم البحث فی کثیر من مباحثها المهمّة ، کعمدة مباحث التعادل والترجیح ، بل ومسألة حجیة خبر الواحد ، لا عنها ولا عن سائر الادلّة ، ورجوع البحث فیهما ـ فی الحقیقة ـ إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد ، فی مسألة حجّیة الخبر ـ کما اُفید ـ (3) وبأی الخبرین فی باب التعارض ، فإنّه أیضاً بحث فی الحقیقة عن حجیة الخبر فی هذا الحال غیر مفید فان البحث عن ثبوت الموضوع ، وما هو مفاد کان التامة ، لیس بحثاً عن عوارضه ، فإنّها مفاد کان الناقصة.
لا یقال : هذا فی الثبوت الواقعی ، وأمّا الثبوت التعبدی ـ کما هو
__________________
1 ـ کما هو المشهور بین الأصولیین.
2 ـ صرح به صاحب الفصول ، الفصول / 4.
3 ـ افاده الشیخ ( قده ) فی فرائد الأصول / 67 ، فی بدایة مبحث حجیة الخبر الواحد.
المهم فی هذه المباحث ـ فهو فی الحقیقة یکون مفاد کان الناقصة.
فإنّه یقال : نعم ، لکّنه مما لا یعرض السنة ، بل الخبر الحاکی لها ، فإن الثبوت التعبدی یرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر کالسنة المحکیة به ، وهذا من عوارضه لا عوارضها ، کما لا یخفى.
وبالجملة : الثبوت الواقعی لیس من العوارض ، والتعبدی وأنّ کان منها ، إلّا إنّه لیس للسنة ، بل للخبر ، فتأمل جیداً.
وأما إذا کان المراد (1) من السنة ما یعم حکایتها ، فلان البحث فی تلک المباحث وأنّ کان عن أحوال السنة بهذا المعنى ، إلّا أن البحث فی غیر واحد من مسائلها ، کمباحث الألفاظ ، وجملة من غیرها ، لا یخص الادلة ، بل یعم غیرها ، وأنّ کان المهمّ معرفة أحوال خصوصها ، کما لا یخفى.
ویؤیّد ذلک تعریف الأصول ، بإنّه ( العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحکام الشرعیة ) ، وأنّ کان الأولى تعریفه بإنّه ( صناعة یعرف بها القواعد التی یمکن أن تقع فی طریق استنباط الأحکام ، أو التی ینتهى إلیها فی مقام العمل ) ، بناءً على أن مسألة حجیة الظنّ على الحکومة ، ومسائل الأصول العملیة فی الشبهات الحکمیة من الأصول ، کما هو کذلک ، ضرورة إنّه لا وجه لالتزام الاستطراد فی مثل هذه المهمّات.
الأمر الثانی
الوضع هو نحو اختصاص للّفظ بالمعنى ، وارتباط خاص بینهما ، ناش من تخصیصه به تارةً ، ومن کثرة استعماله فیه أُخرى ؛ وبهذا المعنى صحّ تقسیمه إلى التعیینی والتعیّنی ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ هذا مراد صاحب الفصول ، الفصول / 12.
ثم إن الملحوظ حال الوضع : امّا یکون معنى عاماً ، فیوضع اللفظ له تارةً ، ولافراده ومصادیقه أُخرى ؛ وإما یکون معنى خاصاً ، لا یکاد یصحّ إلّا وضع اللفظ له دون العام ، فتکون الأقسام ثلاثة ، وذلک لأن العام یصلح لأن یکون آلة للحاظ أفراده ومصادیقه بما هو کذلک ، فإنّه من وجوهها ، ومعرفة وجه الشیء معرفته بوجه ، بخلاف الخاص ، فإنّه بما هو خاص ، لا یکون وجهاً للعام ، ولا لسائر الأفراد ، فلا یکون معرفته وتصوره معرفة له ، ولا لها ـ أصلاً ـ ولو بوجه.
نعم ربّما یوجب تصوّره تصوّر العام بنفسه ، فیوضع له اللفظ ، فیکون الوضع عاماً ، کما کان الموضوع له عاماً ، وهذا بخلاف ما فی الوضع العام والموضوع له الخاص ، فإن الموضوع له ـ وهی الأفراد ـ لا یکون متصوراً إلّا بوجهه وعنوإنّه ، وهو العام ، وفرق واضح بین تصوّر الشیء بوجهه ، وتصوّره بنفسه ، ولو کان بسبب تصوّر أمر آخر.
ولعل خفاء ذلک على بعضٍ الأعلام (1) ، وعدم تمیزه بینهما ، کان موجباً لتوهم امکان ثبوت قسم رابع ، وهو أن یکون الوضع خاصاً ، مع کون الموضوع له عاماً ، مع إنّه واضح لمن کان له أدنى تأمل.
ثم إنّه لا ریب فی ثبوت الوضع (2) الخاص والموضوع له الخاص کوضع الأعلام. وکذا الوضع (3) العام والموضوع له العام ، کوضع أسماء الاجناس وأما الوضع العام والموضوع له الخاص ، فقد توهّم (4) إنّه وضع الحروف ، وما ألحق بها من الأسماء ، کما توهّم (5) أیضاً ان المستعمل فیه فیها (6)
__________________
1 ـ الظاهر إنّه صاحب البدائع ، البدائع / 39 ، فی تقسیم الوضع إلى العام والخاص.
2 ـ 3 ـ فی « أ و ب » : وضع.
4 ـ صاحب الفصول ، الفصول / 16 ، فی الوضع.
5 ـ الفصول / 16 ، فی الوضع.
6 ـ فی « أ » : أن المستعمل فیها.
خاصٌ (1) مع کون الموضوع له کالوضع عاماً.
والتحقیق ـ حسبما یؤدّی إلیه النظر الدقیق ـ أن حال المستعمل فیه والموضوع له فیها حالهما فی الأسماء ، وذلک لأن الخصوصیة المتوهمة ، إن کانت هی الموجبة لکون المعنى المتخصص بها جزئیاً خارجیاً ، فمن الواضح أن کثیراً ما لا یکون المستعمل فیه فیها کذلک بل کلیاً ، ولذا التجأ بعضٍ الفحول (2) إلى جعله جزئیاً إضافیاً ، وهو کما ترى. وأنّ کانت هی الموجبة لکونه جزئیاً ذهنیاً ، حیث إنّه لا یکاد یکون المعنى حرفیاً ، إلّا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر ، ومن خصوصیاته القائمة به ، ویکون حاله کحال العرض ، فکما لا یکون فی الخارج إلّا فی الموضوع ، کذلک هو لا یکون فی الذهن إلّا فی مفهوم آخر ، ولذا قیل فی تعریفه : بإنّه ما دلّ على معنى فی غیره ، فالمعنى ، وأنّ کان لا محالة یصیر جزئیا بهذا اللحاظ ، بحیث یباینه إذا لوحظ ثانیاً ، کما لوحظ أولاً ، ولو کان اللاحظ واحداً ، إلّا أن هذا اللحاظ لا یکاد مأخوذاً فی المستعمل فیه ، وإلاّ فلا بدّ من لحاظ آخر ، متعلّق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ ، بداهة أن تصوّر المستعمل فیه مما لا بدّ منه فی استعمال الألفاظ ، وهو کما ترى.
مع إنّه یلزم أن لا یصدق على الخارجیات ، لامتناع صدق الکلّی العقلی علیها ، حیث لا موطن له إلّا الذهن ، فامتنع امتثال مثل ( سر من البصرة ) إلّا بالتجرید وإلغاء (3) الخصوصیة ، هذا.
مع إنّه لیس لحاظ المعنى حالة لغیره فی الحروف إلّا کلحاظه فی نفسه فی الأسماء ، وکما لا یکون هذا اللحاظ معتبراً فی المستعمل فیه فیها ، کذلک ذاک اللحاظ فی الحروف ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ فی « أ و ب » : خاصا.
2 ـ المراد من بعضٍ الفحول ، امّا صاحب الفصول ، الفصول / 16 ، وإما المحقق التقی ، هدایة المسترشدین / 30.
3 ـ فی « ب » : إلقاء.
وبالجملة : لیس المعنى فی کلمة ( من ) ولفظ الابتداء ـ مثلاً ـ إلّا الابتداء ، فکما لا یعتبر فی معناه لحاظه فی نفسه ومستقلاً ، کذلک لا یعتبر فی معناها لحاظه فی غیرها وآلة ، وکما لا یکون لحاظه فیه موجباً لجزئیته ، فلیکن کذلک فیها.
إن قلت : على هذا لم یبق فرق بین الاسم والحرف فی المعنى ، ولزم کون مثل کلمة ( من ) ولفظ الابتداء مترادفین ، صحّ استعمال کلّ منهما فی موضع الآخر ، وهکذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانیها ، وهو باطل بالضرورة ، کما هو واضح.
قلت : الفرق بینهما إنّما هو فی اختصاص کلّ منهما بوضع ، حیث [ إنّه ] (1) وضع الاسم لیراد منه معناه بما هو هو وفی نفسه ، والحرف لیراد منه معناه لا کذلک ، بل بما هو حالة لغیره ، کما مرّت الإِشارة إلیه غیر مرّة ، فالاختلاف بین الاسم والحرف فی الوضع ، یکون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما فی موضع الآخر ، وأنّ اتفقا فیما له الوضع ، وقد عرفت ـ بما لا مزید علیه ـ أن نحو إرادة المعنى لا یکاد یمکن أن یکون من خصوصیاته ومقوماته.
ثم لا یبعد أن یکون الاختلاف فی الخبر والانشاء أیضاً کذلک ، فیکون الخبر موضوعاً لیستعمل فی حکایة ثبوت معناه فی موطنه ، والانشاء لیستعمل فی قصد تحققه وثبوته ، وأنّ اتفقا فیما استعملا فیه ، فتأمّل.
ثم إنّه قد انقدح مما حققناه ، إنّه یمکن أن یقال : إن المستعمل فیه فی مثل أسماء الإِشارة والضمائر أیضاً عام ، وأنّ تشخّصه إنّما نشأ من قبل طور استعمالها ، حیث انَّ أسماء الإِشارة وضعت لیشار بها إلى معانیها ، وکذا
__________________
1 ـ أثبتناها من « ب ».
بعض الضمائر ، وبعضها لیخاطب به (1) المعنى ، والإِشارة والتخاطب یستدعیان التشخص کما لا یخفى ، فدعوى : أن المستعمل فیه فی مثل ( هذا ) أو ( هو ) أو ( إیّاک ) إنّما هو المفرد المذکر ، وتشخصه إنّما جاء من قبل الإِشارة ، أو التخاطب بهذه الألفاظ إلیه ، فإن الإِشارة أو التخاطب لا یکاد یکون إلّا إلى الشخص أو معه ، غیر مجازفة.
فتلخصّ مما حققناه : ان التشخص الناشىء من قبل الاستعمالات ، لا یوجب تشخص المستعمل فیه ، سواء کان تشخصاً خارجیاً ـ کما فی مثل أسماء الإِشارة ـ أو ذهنیاً ـ کما فی أسماء الأجناس والحروف ونحوهما ـ من غیر فرق فی ذلک أصلاً بین الحروف وأسماء الأجناس ، ولعمری هذا واضح. ولذا لیس فی کلام القدماء من کون الموضوع له أو المستعمل فیه خاصاً فی الحرف عین ولا أثر ، وإنما ذهب إلیه بعضٍ من تأخّر ، (2) ولعلّه لتوهّم کون قصده بما هو فی غیره ، من خصوصیات الموضوع له ، أو المستعمل فیه ، والغفلة من أن قصد المعنى من لفظه على أنحائه ، لا یکاد یکون من شؤونه وأطواره ، وإلاّ فلیکن قصده بما هو هو وفی نفسه کذلک ، فتأمّل فی المقام فإنّه دقیق ، وقد زل فیه أقدام غیر واحد من أهل التحقیق والتدقیق.
الثالث
صحّة استعمال اللفظ فیما یناسب ما وضع له ، هل هو بالوضع ، أو بالطبع؟ وجهان ، بل قولان ، أظهرهما إنّه بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فیه ولو مع منع الواضع عنه ، وباستهجان الاستعمال فیما لا یناسبه ولو مع ترخیصه ، ولا معنى لصحته إلّا حسنه ، والظاهر أن صحة الاستعمال
__________________
1 ـ فی « ب » : بها.
2 ـ صاحب الفصول ، الفصول / 16.
اللفظ فی نوعه أو مثله من قبیله ، کما یأتی الإِشارة إلى تفصیله (1).
الرابع
لا شبهة فی صحة إطلاق اللفظ ، وإرادة نوعه به ، کما إذا قیل : ضرب ـ مثلاً ـ فعل ماض ، أو صنفه کما إذا قیل : ( زید ) فی ( ضرب زید ) فاعل ، إذا لم یقصد به شخص القول أو مثله ک ( ضرب ) فی المثال فیما إذا قصد.
وقد أشرنا (2) إلى أن صحة الإِطلاق کذلک وحسنه ، إنّما کان بالطبع لا بالوضع ، وإلاّ کانت المهملات موضوعة لذلک ، لصحة الإِطلاق کذلک فیها ، والالتزام بوضعها کذلک کما ترى.
وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه ، کما إذا قیل : ( زید لفظ ) وأرید منه شخص نفسه ، ففی صحته بدون تأویل نظر ، لاستلزامه اتحاد الدالّ والمدلول ، أو ترکب القضیة من جزءین کما فی الفصول (3).
بیان ذلک : إنّه إن اعتبر دلالته على نفسه ـ حینئذ ـ لزم الاتحاد ، وإلاّ لزم ترکبها من جزءین ، لأن القضیة اللفظیة ـ على هذا ـ إنّما تکون حاکیة عن المحمول والنسبة ، لا الموضوع ، فتکون القضیة المحکیة بها مرکبة من جزءین ، مع امتناع الترکب إلّا من الثلاثة ، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبین.
قلت : یمکن أن یقال : إنّه یکفی تعدَّد الدالّ والمدلول اعتباراً ، وأنّ اتَّحَدا ذاتاً ، فمن حیث إنّه لفظ صادر عن لافظه کان د إلّا ، ومن حیث أن
__________________
1 ـ فی الأمر الرابع.
2 ـ أشار إلیه فی الأمر الثالث.
3 ـ الفصول / 22 ، عند قوله : فصل قد یطلق اللفظ .. الخ.
نفسه وشخصه مراده کان مدلولاً.
مع أن حدیث ترکب القضیة من جزءین ـ لولا اعتبارٍ الدلالة فی البین ـ إنّما یلزم إذا لم یکن الموضوع نفس شخصه ، وإلاّ کان أجزاؤها الثلاثة تامة ، وکان المحمول فیها منتسبا إلى شخص اللفظ ونفسه ، غایة الأمر إنّه نفس الموضوع ، لا الحاکی عنه ، فافهم ، فإنّه لا یخلو عن دقة. وعلى هذا ، لیس من باب استعمال اللفظ بشىء.
بل یمکن أن یقال : إنّه لیس أیضاً من هذا الباب ، ما إذا أطلق اللفظ واُرید به نوعه أو صنفه ، فإنّه فرده ومصداقه حقیقة ، لا لفظه وذاک معناه ، کی یکون مستعملاً فیه استعمال اللفظ فی المعنى ، فیکون اللفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجاً ، قد أحضر فی ذهنه بلا وساطة حاک (1) ، وقد حکم علیه ابتداءً ، بدون واسطة أصلاً ، لا لفظه ، کما لا یخفى ، فلا یکون فی البین لفظ قد استعمل فی معنى ، بل فرد قد حکم فی القضیة علیه ـ بما هو مصداق لکلی (2) اللفظ ، لا بما هو خصوص جزئیّة.
نعم فیما إذا أُرید به فرد آخر مثله ، کان من قبیل استعمال اللفظ فی المعنى.
اللهم إلّا أن یقال : إن لفظ ( ضرب ) وأنّ کان فرداً له ، إلّا إنّه إذا قصد به حکایته ، وجعل عنواناً له ومرآته ، کان لفظه المستعمل فیه ، وکان ـ حینئذ ـ کما إذا قصد به فرد مثله.
وبالجملة : فإذا اُطلق واُرید به نوعه ، کما إذا أُرید به فرد مثله ، کان من باب استعمال اللفظ فی المعنى ، وأنّ کان فرداً منه ، وقد حکم فی القضیة بما یعمه ، وأنّ اُطلق لیحکم علیه بما هو فرد کلّیة ومصداقه ، لا بما هو لفظه وبه حکایته ، فلیس من هذا الباب ، لکن الإطلاقاًت المتعارفة ظاهراً
__________________
1 ـ فی « أ و ب » : حاکی.
2 ـ فی « أ » : لکلیه.
لیست کذلک ، کما لا یخفى ، وفیها ما لا یکاد یصحّ أن یراد منه ذلک ، مما کان الحکم فی القضیة لا یکاد یعمّ شخص اللفظ ، کما فی مثل : ( ضرب فعل ماض ).
الخامس
لا ریب فی کون الألفاظ موضوعة بإزاء معانیها من حیث هی ، لا من حیث هی مرادة للافظها ، لما عرفت بما لا مزید علیه ، من أن قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال ، فلا یکاد یکون من قیود المستعمل فیه. هذا.
مضافاً إلى ضرورة صحة الحمل والإِسناد فی الجمل ، بلا تصرّف فی ألفاظ الأطراف ، مع إنّه لو کانت موضوعة لها بما هی مرادة ، لما صحّ بدونه ، بداهة أن المحمول على ( زید ) فی ( زید قائم ) والمسند إلیه فی ( ضرب زید ) ـ مثلاً ـ هو نفس القیام والضرب ، لا بما هما مرادان.
مع إنّه یلزم کون وضع عامة الألفاظ عاماً والموضوع له خاصاً ، لمکان اعتبارٍ خصوص إرادة اللافظین فیما وضع له اللفظ ، فإنّه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة فیه ، کما لا یخفى ، وهکذا الحال فی طرف الموضوع.
وأما ما حکی (1) عن العلمین ( الشیخ الرئیس (2) ، والمحقق
__________________
1 ـ راجع الشفاء ، قسم المنطق فی المقالة الأولى من الفن الأوّل ، الفصل الثامن / 42 ، عند قوله ( وذلک لأن معنى دلالة اللفظ ، هو ان یکون اللفظ اسما لذلک المعنى على سبیل القصد الأوّل ) انتهى.
وحکى العلاّمة الحلّی (ره) فی الجوهر النضید فی شرح التجرید / 4. عن أستاذه المحقق الطوسی (ره) قوله بأن اللفظ لا یدلّ بذاته على معناه بل باعتبار الإرادة والقصد.
2 ـ الشیخ الرئیس أبو علی الحسین بن عبدالله بن سینا الحکیم المشهور ، أحد فلاسفة المسلمین ولد سنة 370 ه بقریة من ضیاع بخارى ، نادرة عصره فی علمه وذکائه وتصانیفه ، لم یستکمل ثمانی عشرة سنة من عمره إلّا وقد فرغ من تحصیل العلوم بأسرها ، صنف کتاب « الشفاء » و « النجاة » و « الإشارات » و « القانون » وغیر ذلک ممّا یقارب مائة مصنّف ،
الطوسی (1) ) من مصیرهما إلى أن الدلالة تتبع الإرادة ، فلیس ناظراً إلى کون الألفاظ موضوعة للمعانی بما هی مرادة ، کما توهمه بعضٍ الأفاضل (2) ، بل ناظر إلى أن دلالة الألفاظ على معانیها بالدلالة التصدیقیة ، أیّ دلالتها على کونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها ، وتتفرع علیها تبعیة مقام الإِثبات للثبوت ، وتفرع الکشف على الواقع المکشوف ، فإنّه لولا الثبوت فی الواقع ، لما کان للإثبات والکشف والدلالة مجال ، ولذا لا بدّ من إحراز کون المتکلّم بصدد الإِفادة فی إثبات إرادة ما هو ظاهر کلامه ودلالته على الإرادة ، وإلاّ لما کانت لکلامه هذه الدلالة ، وأنّ کانت له الدلالة التصوریة ، أیّ کون سماعه موجباً لإخطار معناه الموضوع له ، ولو کان من وراء الجدار ، أو من لافظ بلا شعور ولا اختیار.
إن قلت : على هذا ، یلزم أن لا یکون هناک دلالة عند الخطأ ، والقطع بما لیس بمراد ، أو الاعتقاد بإرادة شیء ، ولم یکن له من اللفظ مراد.
قلت : نعم لا یکون حینئذ دلالة ، بل یکون هناک جهالة وضلالة ، یحسبها الجاهل دلالة ، ولعمری ما أفاده العلمان من التبعیة ـ على ما بینّاًه ـ واضح لا محیص عنه ، ولا یکاد ینقضی تعجبی کیف رضی المتوهم أن یجعل کلامهما ناظراً إلى ما لا ینبغی صدوره عن فاضل ، فضلاً عمن هو عَلَم
__________________
وله شعر ، توفی بهمدان یوم الجمعة من شهر رمضان 428 ه ودفن بها. ( وفیات الأعیان 2 / 157 رقم 190 ).
1 ـ المحقق خواجه نصیر الدین محمد بن محمد بن الحسن الطوسی الحکیم الفیلسوف ولد فی طوس عام 597 ه. ، درس فی صغره مختلف العلوم وأتقن علوم الریاضیات وکان لا یزال فی مطلع شبابه ، سافر إلى نیشابور وقضى فیها فترة ظهر نبوغه وتفّوقه ، باشر إنشاءً مرشد مراغة وأسس مکتبة مراغة ، حضر درس المحقق الحلّی عندما زار الفیحاء بصحبة هولاکو ، کتب ما یناهز 184 مؤلفاً فی فنون شتىّ ، توفی 682 ه ودفن فی جوار الامام موسى الکاظم 7. ( أعیان الشیعة 9 / 414 ).
2 ـ صاحب الفصول 17 ، السطر الأخیر.
فی التحقیق والتدقیق؟!.
السادس
لا وجه لتوهّم وضع للمرکبات ، غیر وضع المفردات ، ضرورة عدم الحاجة إلیه ، بعد وضعها بموادها ، فی مثل ( زید قائم ) و ( ضرب عمرو بکراً ) شخصیاً ، وبهیئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعیا ، ومنها خصوص هیئات المرکبات الموضوعة لخصوصیات النسب والإضافات ، بمزایاها الخاصة من تأکید وحصر وغیرهما نوعیاً ؛ بداهة أن وضعها کذلک وافٍ بتمام المقصود منها ، کما لا یخفى ، من غیر حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها ، مع استلزامه الدلالة على المعنى : تارةً بملاحظة وضع نفسها ، وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها.
ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلک ، هو وضع الهیئات على حدة ، غیر وضع المواد ، لا وضعها بجملتها ، علاوة على وضع کلّ منهما.
السابع
لا یخفى أن تبادر المعنى من اللفظ ، وانسباقه إلى الذهن من نفسه ـ وبلا قرینة ـ علامة کونه حقیقة فیه ؛ بداهة إنّه لولا وضعه له ، لما تبادر.
ولا یقال : کیف یکون علامة؟ مع توقفه على العلم بإنّه موضوع له ، کما هو واضح ، فلو کان العلم به موقوفاً علیه لدار.
فإنّه یقال : الموقوف علیه غیر الموقوف علیه ، فإن العلم التفصیلی ـ بکونه موضوعاً له ـ موقوف على التبادر ، وهو موقوف على العلم الإِجمالی الارتکازی به ، لا التفصیلی ، فلا دور. هذا إذا کان المراد به التبادر عند المستعلم ، وأما إذا کان المراد به التبادر عند أهل المحاورة ، فالتغایر أوضح من أن یخفى.
ثم إنّ هذا فیما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ ، وأما فیما احتمل استناده إلى قرینة ، فلا یجدی أصالة عدم القرینة فی إحراز کون الاستناد إلیه ، لا إلیها ـ کما قیل (1) ـ لعدم الدلیل على اعتبارها إلّا فی إحراز المراد ، لا الاستناد.
ثم إن عدم صحة سلب اللفظ ـ بمعناه المعلوم المرتکز فی الذهن إجمالاً کذلک ـ عن معنى تکون علامة کونه حقیقة فیه ، کما أن صحة سلبه عنه علامة کونه مجازاً فی الجملة.
والتفصیل : إن عدم صحة السلب عنه ، وصحة الحمل علیه بالحمل الأولی الذاتی ، الذی کان ملاکه الاتحاد مفهوماً ، علامة کونه نفس المعنى ، وبالحمل الشائع الصناعی ، الذی ملاکه الاتحاد وجوداً ، بنحو من أنحاء الاتحاد ، علامة کونه من مصادیقه وأفراده الحقیقیة (2). کما أن صحّة سلبه کذلک علامة إنّه لیس منها ، وأنّ لم نقل بأن إطلاقه علیه من باب المجاز فی الکلمة ، بل من باب الحقیقة ، وأنّ التصرف فیه فی أمر عقلی ، کما صار إلیه السکاکی (3).
واستعلام حال اللفظ ، وإنّه حقیقة أو مجاز فی هذا المعنى بهما ،
__________________
1 ـ قوانین الأصول / 13.
2 ـ فیما إذا کان المحمول والمحمول علیه کلیاً وفرداً ، لا فیما إذا کانا کلیین متساویین ، أو غیرهما ، کما لا یخفى. منه 1.
وفی نسخة « أ » لم یظهر کونه تعلیقاً بل الظاهر دخوله فی المتن.
3 ـ مفتاح العلوم / 156 ، الفصل الثالث فی الاستعارة.
أبو یعقوب یوسف بن أبی بکر بن محمد السکاکی الخوارزمی ، ولد سنة 555 ه کان علامة بارعاً فی فنون شتّى خصوصا المعانی والبیان ، وله کتاب « مفتاح العلوم » فیه إثنا عشر علما من علوم العربیة ، وله النصیب الوافر فی علم الکلام وسائر الفنون مات بخوارزم سنة 626 ه. ) بغیة الوعاة 2 / 364 رقم 2204 ).
لیس على وجه دائر ، لما عرفت فی التبادر من التغایر بین الموقوف والموقوف علیه ، بالإِجمال والتفصیل ، أو الاضافة إلى المستعلم والعالم ، فتأمّل جیداً.
ثم إنّه قد ذکر الاطراد وعدمه علامة للحقیقة والمجاز أیضاً ، ولعله بملاحظة نوع العلائق المذکورة فی المجازات ، حیث لا یطرد صحة استعمال اللفظ معها ، وإلاّ فبملاحظة خصوص ما یصحّ معه الاستعمال ، فالمجاز مطرد کالحقیقة ، وزیادة قید ( من غیر تأویل ) أو ( على وجه الحقیقة ) (1) ، وأنّ کان موجباً لاختصاص الاطراد کذلک بالحقیقة ، إلّا إنّه ـ حینئذ ـ لا یکون علامة لها إلّا على وجه دائر ، ولا یتأتىّ التفصی عن الدور بما ذکر فی التبادر هنا (2) ، ضرورة إنّه مع العلم بکون الاستعمال على نحو الحقیقة ، لا یبقى مجال لاستعلام (3) حال الاستعمال بالاطراد ، أو بغیره.
الثامن
إنّه للّفظ أحوال خمسة ، وهی : التجّوز ، والاشتراک ، والتخصیص ، والنقل ، والاضمار ، لا یکاد یصار إلى أحدها فیما إذا دار الأمر بینه وبین المعنى الحقیقی ، إلّا بقرینة صارفة عنه إلیه.
وأما إذا دار الأمر بینها ، ف الأصولیون ، وأنّ ذکروا لترجیح بعضها على بعضٍ وجوها ، إلّا إنّها استحسانیة ، لا اعتبارٍ بها ، إلّا إذا کانت موجبة لظهور اللفظ فی المعنى ، لعدم مساعدة دلیل على اعتبارها بدون ذلک ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ الزیادة من صاحب الفصول ، الفصول / 38 ، فصل فی علامة الحقیقة والمجاز.
2 ـ اشتباه من « أ ».
3 ـ فی « ب » : الاستعلام.
التاسع
إنّه اختلفوا فی ثبوت الحقیقة الشرعیة وعدمه على أقوال ، وقبل الخوض فی تحقیق الحال لا بأس بتمهید مقال ، وهو : أن الوضع التعیینی ، کما یحصل بالتصریح بإنشائه ، کذلک یحصل بإستعمال اللفظ فی غیر ما وضع له ، کما إذا وضع له ، بأن یقصد الحکایة عنه ، والدلالة علیه بنفسه لا بالقرینة ، وأنّ کان لا بدّ ـ حینئذ ـ من نصب قرینة ، إلّا إنّه للدلالة على ذلک ، لا على إرادة المعنى ، کما فی المجاز ، فافهم.
وکوُن إستعمال اللفظ فیه کذلک فی غیر ما وضع له ، بلا مراعاة ما اعتبر فی المجاز ، فلا یکون بحقیقة ولا مجاز ، غیر ضائر بعد ما کان مما یقبله الطبع ولا یستنکره ، وقد عرفت سابقاً (1) ، إنّه فی الاستعمالات الشایعة فی المحاورات ما لیس بحقیقة ولا مجاز.
إذا عرفت هذا ، فدعوى الوضع التعیینی فی الألفاظ المتداولة فی لسان الشارع هکذا قریبة جداً ، ومدعی القطع به غیر مجازف قطعاً ، ویدل علیه تبادر المعانی الشرعیة منها فی محاوراته ، ویؤیّد ذلک إنّه ربما لا یکون علاقة معتبرة بین المعانی الشرعیة واللغویة ، فأیّ علاقة بین الصلاة شرعاً والصلاة بمعنى الدعاء ، ومجرد إشتمال الصلاة على الدعاء لا یوجب ثبوت ما یعتبر من علاقة الجزء والکل بینهما ، کما لا یخفى. هذا کله بناءً على کون معانیها مستحدثة فی شرعنا.
وأما بناءً على کونها ثابتة فی الشرائع السابقة ، کما هو قضیة غیر واحد من الآیات ، مثل قوله تعالى ( کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ کَمَا کُتِبَ عَلَى الَّذِینَ مِن
__________________
1 ـ راجع صفحة 14 الأمر الرابع.
قَبْلِکُمْ ) (1) وقوله تعالى ( وَأَذِّن فِی النَّاسِ بِالْحَجِّ ) (2) وقوله تعالى ( وَأَوْصَانِی بِالصَّلَاةِ وَالزَّکَاةِ مَا دُمْتُ حَیًّا ) (3) إلى غیر ذلک ، فألفاظها حقائق لغویة ، لا شرعیة ، واختلاف الشرائع فیها جزءاً وشرطاً ، لا یوجب اختلافها فی الحقیقة والماهیة ؛ إذ لعله کان من قبیل الاختلاف فی المصادیق والمحققات ، کاختلافها بحسب الحالات فی شرعنا ، کما لا یخفى.
ثم لا یذهب علیک إنّه مع هذا الاحتمال ، لا مجال لدعوى الوثوق ـ فضلاً عن القطع ـ بکونها حقائق شرعیة ، ولا لتوهم دلالة الوجوه التی ذکروها على ثبوتها ، لو سلّم دلالتها على الثبوت لولاه.
ومنه قد (4) إنقدح حال دعوى الوضع التعیّنی معه ، ومع الغض عنه ، فالانصاف أن منع حصوله فی زمان الشارع فی لسإنّه ولسان تابعیه مکابرة ، نعم حصوله فی خصوص لسإنّه ممنوع ، فتأمل.
وأما الثمرة بین القولین ، فتظهر فی لزوم حمل الألفاظ الواقعة فی کلام الشارع بلا قرینة على معانیها اللغویة مع عدم الثبوت ، وعلى معانیها الشرعیة على الثبوت ، فیما إذا علم تأخر الاستعمال ، وفیما إذا جهل التاریخ ، ففیه إشکال ، وأصالة تأخر الاستعمال مع معارضتها بأصالة تأخر الوضع ، لا دلیل على اعتبارها تعبداً ، إلّا على القول بالأصل المثبت ، ولم یثبت بناءً من العقلاء على التأخر مع الشک ، وأصالة عدم النقل إنّما کانت معتبرة فیما إذا شک فی أصل النقل ، لا فی تأخره ، فتأمل.
__________________
1 ـ البقرة / 183.
2 ـ الحج / 27.
3 ـ مریم / 31.
4 ـ أثبتناه من « أ ».
العاشر
إنّه وقع الخلاف فی أن الفاظ العبادات ، أساٍم لخصوص الصحیحة أو للأعم منها؟ وقبل الخوض فی ذکر أدلة القولین ، یذکر أمور :
منها : إنّه لا شبهة فی تأتّی الخلاف ، على القول بثبوت الحقیقة الشرعیة ، وفی جریإنّه على القول بالعدم إشکال.
وغایة ما یمکن أن یقال فی تصویره : إن النزاع وقع ـ على هذا ـ فی أن الأصل فی هذه الألفاظ المستعملة مجازاً فی کلام الشارع ، هو استعمالها فی خصوص الصحیحة أو الأعم ، بمعنى أن أیّهما قد اعتبرت العلاقة بینه وبین المعانی اللغویة ابتداء ، وقد استعمل فی الآخر بتبعه ومناسبته ، کی ینزّل کلامه (1) علیه مع القرینة الصارفة عن المعانی اللغویة ، وعدم قرینة أُخرى معینة للآخر.
وأنت خبیر بإنّه لا یکاد یصحّ هذا ، إلّا إذا علم أن العلاقة إنّما اعتبرت کذلک ، وأنّ بناءً الشارع فی محاوراته ، استقر عند عدم نصب قرینة أُخرى على إرادته ، بحیث کان هذا قرینة علیه ، من غیر حاجة إلى قرینة معینة أُخرى ، وأنّى لهم بإثبات ذلک.
وقد انقدح بما ذکرنا تصویر النزاع ـ على ما نسب (2) إلى الباقلانی (3) ،
__________________
1 ـ فی « أ » : تقدیم ( علیه ) على ( کلامه ).
2 ـ نسبه ابن الحاجب والعضدی : راجع شرح العضدی على مختصر الأصول : 1 / 51 ـ 52.
3 ـ هو القاضی أبو بکر محمد بن الطیب البصری البغدادی المالکی الأصولی المتکلم کان مشهوراً بالمناظرة وسرعة الجواب توفی سنة 403 ه ببغداد ، ( الکنى والالقاب : 2 / 55 والعِبر فی خبر من غبر : 2 / 207 ).
وذلک بأن یکون النزاع ، فی أن قضیة القرینة المضبوطة التی لا یتعدى عنها إلّا بالاخرى ـ الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه ـ هو تمام الإِجزاء والشرائط ، أو هما فی الجملة ، فلا تغفل.
ومنها : أن الظاهر أن الصحة عند الکلّ بمعنى واحد ، وهو التمامیة ، وتفسیرها بإسقاط القضاء ـ کما عن الفقهاء ـ أو بموافقة الشریعة ـ کما عن المتکلمین ـ أو غیر ذلک ، إنّما هو بالمهم من لوازمها ؛ لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الأنظار ، وهذا لا یوجب تعدَّد المعنى ، کما لا یوجبه اختلافها بحسب الحالات من السفر ، والحضر ، والاختیار ، والاضطرار إلى غیر ذلک ، کما لا یخفى.
ومنه ینقدح أن الصحة والفساد أمراًن إضافیان ، فیختلف شیء واحد صحة وفسادا بحسب الحالات ، فیکون تاماً بحسب حالة ، وفاسداً بحسب أُخرى ، فتدبرّ جیداً.
ومنها : إنّه لابد ـ على کلاّ القولین ـ من قدر جامع فی البین ، کان هو المسمى بلفظ کذا ، ولا إشکال فی وجوده بین الأفراد الصحیحة ، وإمکان الإِشارة إلیه بخواصه وآثاره ، فإن الاشتراک فی الأثر کاشف عن الاشتراک فی جامع واحد ، یؤثر الکلّ فیه بذاک الجامع ، فیصحّ تصویر المسمى بلفظ الصلاة مثلاً : بالناهیة عن الفحشاء ، وما هو معراج المؤمن ، ونحوهما.
والإشکال فیه (1) ـ بأن الجامع لا یکاد یکون أمراً مرکباً ، إذ کلّ ما فرض جامعاً ، یمکن أن یکون صحیحاً وفاسداً ؛ لما عرفت ، ولا أمراً بسیطاً ، لإنّه لا یخلو : امّا أن یکون هو عنوان المطلوب ، أو ملزوما مساویاً له ، والأول غیر معقول ، لبداهة استحالة أخذ ما لا یتأتّى إلّا من قبل الطلب فی متعلقه ،
__________________
1 ـ الإِشکال من صاحب التقریرات ، مطارح الأنظار / 6.
مع لزوم الترادف بین لفظة الصلاة والمطلوب ، وعدم جریان البراءة مع الشک فی أجزاء العبادات وشرائطها ، لعدم الإِجمال ـ حینئذ ـ فی المأمور به فیها ، وإنما الإِجمال فیما یتحقق به ، وفی مثله لا مجال لها ، کما حقق فی محله ، مع أن المشهور القائلین بالصحیح ، قائلون بها فی الشک فیها ، وبهذا یشکل لو کان البسیط هو ملزوم المطلوب أیضاً ـ مدفوع ، بأن الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المرکبات المختلفة زیادة ونقیصة بحسب إختلاف الحالات ، متحد معها نحو إتحاد ، وفی مثله تجری البراءة ، وإنما لا تجری فیما إذا کان المأمور به أمراً واحداً خارجیاً ، مسبباً عن مرکب مردد بین الأقلّ والأکثر ، کالطهارة المسببة عن الغسل والوضوء فیما إذا شک فی أجزائهما ، هذا على الصحیح.
وأما على الأعم ، فتصویر الجامع فی غایة الإِشکال ، فما قیل فی تصویره أو یقال : وجوه (1) :
أحدها (2) : أن یکون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة ، کالأرکان فی الصلاة مثلاً ، وکان الزائد علیها معتبراً فی المأمور به لا فی المسمىّ.
وفیه ما لا یخفى ، فإن التسمیة بها حقیقة لا تدور مدارها ، ضرورة صدق الصلاة مع الإِخلال ببعض الأرکان ، بل وعدم الصدق علیها مع الإِخلال بسائر الإِجزاء والشرائط عند الأعمی ، مع إنّه یلزم أن یکون الاستعمال فیما هو المأمور به ـ بأجزائه وشرائطه ـ مجازاً عنده ، وکان من باب إستعمال اللفظ الموضوع للجزء فی الکلّ ، لا من باب إطلاق الکلّی على الفرد والجزئی ، کما هو واضح ، ولا یلتزم به القائل بالأعم ، فافهم.
__________________
1 ـ راجع القوانین / 40 فی الصحیح والأعم ، ومطارح الأنظار / 7 فی الصحیح والأعم ، والفصول / 46.
2 ـ هذا ما یظهر من صاحب القوانین ، القوانین 1 / 44 فی الصحیح والأعم.
ثانیها : أن تکون موضوعة لمعظم الإِجزاء التی تدور مدارها التسمیة عرفاً ، فصدق الاسم کذلک یکشف عن وجود المسمى ، وعدم صدقه عن عدمه.
وفیه ـ مضافاً إلى ما أورد على الأوّل أخیراً ـ إنّه علیه یتبادل ما هو المعتبر فی المسمى ، فکان شیء واحد داخلاً فیه تارةً ، و خارجاً عنه أُخرى ، بل مردداً بین أن یکون هو الخارج أو غیره عند إجتماع تمام الإِجزاء ، وهو کما ترى ، سیمّا إذا لوحظ هذا مع ما علیه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.
ثالثها : أن یکون وضعها کوضع الأعلام الشخصیة ک ( زید ) فکما لا یضر فی التسمیة فیها تبادل الحالات المختلفة من الصغر والکبر ، ونقص بعضٍ الإِجزاء وزیادته ، کذلک فیها.
وفیه : أن الأعلام إنّما تکون موضوعة للاشخاص ، والتشخص إنّما یکون بالوجود الخاص ، ویکون الشخص حقیقة باقیاً ما دام وجوده باقیاً ، وأنّ تغیرت عوارضه من الزیادة والنقصان ، وغیرهما من الحالات والکیفیات ، فکما لا یضّر اختلافها فی التشخص ، لا یضّر اختلافها فی التسمیة ، وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات مما کانت موضوعة للمرکبات والمقیدات ، ولا یکاد یکون موضوعاً له ، إلّا ما کان جامعاً لشتاتها وحاویاّ لمتفرقاتها ، کما عرفت فی الصحیح منها.
رابعها : إن ما وضعت له الألفاظ إبتداءً هو الصحیح التام الواجد لتمام الإِجزاء والشرائط ، إلّا أن العرف یتسامحون ـ کما هو دیدنهم ـ ویطلقون تلک الألفاظ على الفاقد للبعض ، تنزیلاً له منزلة الواجد ، فلا یکون مجازاً فی الکلمة ـ على ما ذهب إلیه السکاکی (1) فی الاستعارة ـ بل یمکن دعوى
__________________
1 ـ مفتاح العلوم / 156 ، الفصل الثالث فی الاستعارة.
صیرورته حقیقة فیه ، بعد الاستعمال فیه کذلک دفعة أو دفعات ، من دون حاجة إلى الکثرة والشهرة ، للأنس الحاصل من جهة المشابهة فی الصورة ، أو المشارکة فی التأثیر ، کما فی أسامی المعاجین الموضوعة ابتداءً لخصوص مرکبات واجدة لاجزاء خاصة ، حیث یصحّ إطلاقها على الفاقد لبعض الإِجزاء المشابه له صورة ، والمشارک فی المهمّ أثرا ، تنزیلاً أو حقیقة.
وفیه : إنّه إنّما یتم فی مثل أسامی المعاجین ، وسائر المرکبات الخارجیة مما یکون الموضوع له (1) فیها ابتداءً مرکباً ، خاصاً ، ولا یکاد یتم فی مثل العبادات ، التی عرفت أن الصحیح منها یختلف حسب إختلاف الحالات ، وکون الصحیح بحسب حالة فاسداً (2) بحسب حالة أُخرى ، کما لا یخفى ، فتأمل جیداً.
خامسها : أن یکون حالها حال أسامی المقادیر والأوزان ، مثل المثقال ، والحقة ، والوزنة إلى غیر ذلک ، مما لا شبهة فی کونها حقیقة فی الزائد والناقص فی الجملة ، فإن الواضع وأنّ لاحظ مقداراً خاصاً ، إلّا إنّه لم یضع له بخصوصه ، بل للأعم منه ومن الزائد والناقص ، أو إنّه وأنّ خص به أولاً ، إلّا إنّه بالاستعمال کثیراً فیهما بعنایة إنّهما منه ، قد صار حقیقة فی الأعم ثانیاً.
وفیه : إن الصحیح ـ کما عرفت فی الوجه السابق ـ یختلف زیادة ونقیصة ، فلا یکون هناک ما یلحظ الزائد والناقص بالقیاس علیه ، کی یوضع اللفظ لما هو الأعم ، فتدبرّ جیداً.
ومنها : ان الظاهر أن یکون الوضع والموضوع له ـ فی ألفاظ العبادات ـ عامین ، واحتمال کون الموضوع له خاصاً بعید جداً ، لاستلزامه کون
__________________
1 ـ فی « ب » : الموضوع فیها.
2 ـ فی « أ و ب » : فاسد.
استعمالها فی الجامع ، فی مثل : ( الصلاة تنهى عن الفحشاء ) و ( الصلاة معراج المؤمن ) و [ ( عمود الدین ) ] (1) و ( الصوم جنة من النار ) مجازاً ، أو منع استعمالها فیه فی مثلها ، وکل منهما بعید إلى الغایة ، کما لا یخفى على أولی النهایة.
ومنها : أن ثمرة النزاع إجمال الخطاب على القول (2) الصحیحی ، وعدم جواز الرجوع إلى إطلاقه ، فی رفع ما إذا شک فی جزئیة شیء للمأمور به أو شرطیته أصلاً ، لاحتمال دخوله فی المسمى ، کما لا یخفى ، وجواز الرجوع إلیه فی ذلک على القول الأعمی ، فی غیر ما إحتمل دخوله فیه ، مما شک فی جزئیته أو شرطیته ، نعم لا بدّ فی الرجوع إلیه فیما ذکر من کونه وارداً مورد البیان ، کما لا بدّ منه فی الرجوع إلى سائر المطلقات ، وبدونه لا مرجع أیضاً إلّا البراءة أو الإِشتغال ، على الخلاف فی مسألة دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین.
وقد إنقدح بذلک : إن الرجوع إلى البراءة أو الإِشتغال فی موارد إجمال الخطاب أو إهماله على القولین ، فلا وجه لجعل الثمرة هو الرجوع إلى البراءة على الأعم ، والاشتغال على الصحیح (3) ، ولذا ذهب المشهور إلى البراءة ، مع ذهابهم إلى الصحیح.
وربما قیل (4) بظهور الثمرة فی النذر أیضاً.
قلت : وأنّ کان تظهر فیما لو نذر لمن صلّى إعطاء درهم فی البرء فیما لو أعطاه لمن صلّى ، ولو علم بفساد صلاته ، لاخلاله بما لا یعتبر فی الاسم على الأعم ، وعدم البرء على الصحیح ، إلّا إنّه لیس بثمرة لمثل هذه
__________________
1 ـ أثبتناها من ( ب ).
2 ـ وفی النسخ : القول.
3 ـ القوانین 1 / 40 ، مبحث الصحیح والأعم.
4 ـ القوانین 1 / 43 ، مبحث الصحیح والأعم.
المسألة ، لما عرفت من أن ثمرة المسألة الأصولیة ، هی أن تکون نتیجتها واقعة فی طریق استنباط الأحکام الفرعیة ، فافهم.
وکیف کان ، فقد استدل للصحیحی بوجوده :
أحدها : التبادر ، ودعوى أن المنسبق إلى الأذهان منها هو الصحیح ، ولا منافاة بین دعوى ذلک ، وبین کون الألفاظ على هذا القول مجملات ، فإن المنافاة إنّما تکون فیما إذا لم تکن معانیها على هذا مبینة بوجه ، وقد عرفت کونها مبینة بغیر وجه.
ثانیها : صحة السلب عن الفاسد ، بسبب الإِخلال ببعض أجزائه ، أو شرائطه بالمداقة ، وأنّ صحّ الإِطلاق علیه بالعنایة.
ثالثها : الإخبار الظاهرة فی إثبات بعضٍ الخواص والآثار للمسمّیات مثل ( الصلاة عمود الدین ) (1) أو ( معراج المؤمن ) (2) و ( الصوم جنة من النار ) (3) إلى غیر ذلک ، أو نفی ماهیّتها وطبائعها ، مثل ( لا صلاة إلّا بفاتحة الکتاب ) (4) ونحوه ، مما کان ظاهراً فی نفی الحقیقة ، بمجرد فقد ما یعتبر فی الصحة شطراً أو شرطاً ، وإرادةُ خصوص الصحیح من الطائفة الأولى ، ونفی الصحة من الثانیة ؛ لشیوع إستعمال هذا الترکیب فی نفی مثل الصحة أو الکمال خلاف الظاهر ، لا یصار إلیه مع عدم نصب قرینة علیه ، واستعمال هذا الترکیب فی نفی الصفة ممکن المنع ، حتى فی مثل ( لا صلاة لجار المسجد إلّا فی المسجد ) (5) مما یعلم أن المراد نفی الکمال ، بدعوى استعماله
__________________
1 ـ دعائم الاسلام 1 : 133 ، جامع الإخبار / 85 ، الکافی 3 / 99 باب النفساء الحدیث 4 غوالی اللآلی 1 / 322 الحدیث 55.
2 ـ لم نجده فی کتب الحدیث ، ولکن أورده فی جواهر الکلام 7 / 2.
3 ـ الفقیه 2 / 44 باب فضل الصیام ، الحدیث 1 و 5 ، الکافی 4 / 62 باب ما جاء فی فضل الصوم والصائم الحدیث 1.
4 ـ غوالی اللآلی 1 : 196 ، الحدیث 2 وغوالی اللآلی 2 : 218 الحدیث 13.
5 ـ دعائم الاسلام 1 : 148 ، التهذیب 3 : 261 باب 25 فضل المساجد والصلاة فیها ،
فی نفی الحقیقة ، فی مثله أیضاً بنحو من العنایة ، لا على الحقیقة ، وإلاّ لما دلّ على المبالغة ، فافهم (1).
رابعها : دعوى القطع بأن طریقة الواضعین ودیدنهم ، وضع الألفاظ للمرکبات التامة ، کما هو قضیة الحکمة الداعیة إلیه ، والحاجة وأنّ دعت أحیاناً إلى إستعمالها فی الناقص أیضاً ، إلّا إنّه لا یقتضی أن یکون بنحو الحقیقة ، بل ولو کان مسامحة ، تنزیلاً للفاقد منزلة الواجد.
والظاهر أن الشارع غیر متخط عن هذه الطریقة.
ولا یخفى أن هذه الدعوى وأنّ کانت غیر بعیدة ، إلّا إنّها قابلة للمنع ، فتأمل.
وقد إستدل للأعمّی أیضاً ، بوجوه :
منها : تبادر الأعم.
وفیه : إنّه قد عرفت الإِشکال فی تصویر الجامع الذی لا بدّ منه ، فکیف یصحّ معه دعوى التبادر.
ومنها : عدم صحة السلب عن الفاسد.
وفیه منع ، لما عرفت.
ومنها : صحة التقسیم إلى الصحیح والسقیم.
وفیه إنّه إنّما یشهد على إنّها للأعم ، لو لم تکن هناک دلالة على کونها موضوعة للصحیح ، وقد عرفتها ، فلا بدّ أن یکون التقسیم بملاحظة ما یستعمل فیه اللفظ ، ولو بالعنایة.
__________________
الحدیث 55 وسائل الشیعة 3 / 478 الباب 2 من أبواب أحکام المساجد ، الحدیث 1.
1 ـ إشارة إلى أن الإخبار المثبتة للآثار وأنّ کانت ظاهرة فی ذلک ـ لمکان أصالة الحقیقة ، ولازم ذلک کون الموضوع له للاسماء هو الصحیح ، ضرورة اختصاص تلک الآثار به ـ إلّا إنّه لا یثبت بأصالتها کما لا یخفى ، لاجرائها العقلاء فی إثبات المراد ، لا فی إنّه على نحو الحقیقة لا المجاز ، فتأمّل جیداً ، منه 1.
ومنها : استعمال الصلاة وغیرها فی غیر واحد من الإخبار فی الفاسدة ، کقوله علیه الصلاة والسلام ( بنی الاسلام على خمس : الصلاة ، والزکاة ، والحج ، والصوم ، والولایة ، ولم یناد أحد بشیء کما نودی بالولایة ، فأخذ الناس بأربع ، وترکوا هذه ، فلو أن أحداً صام نهاره وقام لیله ، ومات بغیر ولایة ، لم یقبل له صوم ولا صلاة ) (1) ، فإن الأخذ بالاربع ، لا یکون بناءً على بطلان عبادات تارکی الولایة ، إلّا إذا کانت أسامی للاعم. وقوله 7 : ( دعی الصلاة أیام أقرائک ) (2) ضرورة إنّه لو لم یکن المراد منها الفاسدة ، لزم عدم صحة النهی عنها ، لعدم قدرة الحائض على الصحیحة منها.
وفیه : أن الاستعمال أعم من الحقیقة ،
مع أن المراد فی الروایة الأولى ، هو خصوص الصحیح بقرینة إنّها مما بنی علیها الإسلام ، ولا ینافی ذلک بطلان عبادة منکری الولایة ، إذ لعل أخذهم بها إنّما کان بحسب اعتقادهم لا حقیقة ، وذلک لا یقتضی استعمالها فی الفاسد أو الأعم ، والاستعمال فی قوله : ( فلو أن أحداً صام نهاره ) [ إلى آخره ] (3) ، کان کذلک ـ أیّ بحسب اعتقادهم ـ أو للمشابهة والمشاکلة.
وفی الروایة الثانیة ، الإِرشاد (4) إلى عدم القدرة على الصلاة ، وإلاّ کان الإِتیان بالأرکان ، وسائر ما یعتبر فی الصلاة ، بل بما یسمى فی العرف بها ،
__________________
1 ـ الکافی 2 / 15 باب 13 دعائم الاسلام ـ الخصال / 277 باب الخمسة ، الحدیث 21 غوالی اللآلی 1 / 82 ، الفصل الخامس ، الحدیث 4.
2 ـ التهذیب 1 / 384 باب 19 الحیض والاستحاضة والنفاس ، الحدیث 6 ـ الکافی 3 / 88 باب جامع فی الحائض والمستحاضة الحدیث 1. غوالی اللآلی 2 / 207 باب الطهارة الحدیث 124.
3 ـ أثبتنا هذه العبارة من « ب ».
4 ـ وفی بعضٍ النسخ المطبوعة ( النهی للإِرشاد ).
ولو أخلّ بما لا یضر الإِخلال به بالتسمیة عرفاً. محرماً على الحائض ذاتاً ، وأنّ لم تقصد به القربة.
ولا أظن أن یلتزم به المستدل بالروایة ، فتأمل جیداً.
ومنها : إنّه لااشکال (1) فی صحة تعلق النذر وشبهه بترک الصلاة فی مکان تکره فیه. وحصول الحنث بفعلها ، ولو کانت الصلاة المنذور ترکها خصوص الصحیحة ، لا یکاد یحصل به الحنث أصلاً ، لفساد الصلاة المأتیّ بها لحرمتها ، کما لا یخفى ، بل یلزم المحال ، فإن النذر حسب الفرض قد تعلق بالصحیح منها ، ولا یکاد یکون معه صحیحة ، وما یلزم من فرض وجوده عدمه محال.
قلت : لا یخفى إنّه لو صحّ ذلک ، لا یقتضی إلّا عدم صحة تعلق النذر بالصحیح ، لا عدم وضع اللفظ له شرعاً ، مع أن الفساد من قبل النذر لا ینافی صحة متعلقة ، فلا یلزم من فرض وجودها عدمها.
ومن هنا إنقدح أن حصول الحنث إنّما یکون لأجل الصحة ، لولا تعلقه ، نعم لو فرض تعلقه بترک الصلاة المطلوبة بالفعل (2) ، لکان منع حصول الحنث بفعلها بمکان من الأمکان.
بقی اُمور :
الأول : إن أسامی المعاملات ، إن کانت موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع فی کونها موضوعة للصحیحة أو للأعم ، لعدم إتصافها بهما ، کما لا یخفى ، بل بالوجود تارةً وبالعدم أُخرى ، وأما إن کانت موضوعة للاسباب ،
__________________
1 ـ فی نسخة « أ » : لا شبهة.
2 ـ ولو مع النذر ، ولکن صحته کذلک مشکل ، لعدم کون الصلاة معه صحیحة مطلوبة ، فتأمل جیداً. منه [ 1].
فللنزاع فیه مجال ، لکنه لا یبعد دعوى کونها موضوعة للصحیحة أیضاً ، وأنّ الموضوع له هو العقد المؤثر لأثر کذا شرعاً وعرفاً. والاختلاف بین الشرع والعرف فیما یعتبر فی تأثیر العقد ، لا یوجب الاختلاف بینهما فی المعنى ، بل الاختلاف فی المحققات والمصادیق ، وتخطئة الشرع العرف فی تخیّل کون العقد بدون ما اعتبره فی تأثیره ، محققاً لما هو المؤثر ، کما لا یخفى فافهم.
الثانی : إن کون ألفاظ المعاملات أسامی للصحیحة ، لا یوجب إجمالها ، کألفاظ العبادات ، کی لا یصحّ التمسک بإطلاقها عند الشک فی اعتبارٍ شیء فی تأثیرها (1) شرعاً ، وذلک لأن إطلاقها ـ لو کان مسوقاً فی مقام البیان ـ ینزّل على أن المؤثر عند الشارع ، هو المؤثر عند أهل العرف ، ولم یعتبر فی تأثیره عنده غیر ما اعتبر فیه عندهم ، کما ینزّل علیه إطلاق کلام غیره ، حیث إنّه منهم ، ولو اعتبر فی تأثیره ما شک فی اعتباره ، کان علیه البیان ونصب القرینة علیه ، وحیث لم ینصب ، بانَ عدم اعتباره عنده أیضاً. ولذا یتمسکون بالإِطلاق فی أبواب المعاملات ، مع ذهابهم إلى کون ألفاظها موضوعة للصحیح.
نعم لو شک فی اعتبارٍ شیء فیها عرفاً ، فلا مجال للتمسک بإطلاقها فی عدم اعتباره ، بل لابد من اعتباره ، لاصالة عدم الأثر بدونه ، فتأمل جیداً.
الثالث : إنّ دخل شیء وجودی أو عدمی فی المأمور به :
تارة : بأن یکون داخلاً فیما یأتلف منه ومن غیره ، وجعل جملته متعلقاً للأمر ، فیکون جزءا له وداخلاً فی قوامه.
وأخرى : بأن یکون خارجاً عنه ، لکنه کان مما لا یحصل الخصوصیة
المأخوذة فیه بدونه ، کما إذا اُخذ شیء مسبوقاً أو ملحوقاً به أو مقارناً له ، متعلقاً للأمر ، فیکون من مقدماته لا مقوماته.
وثالثة : بأن یکون مما یتشخص به المأمور به ، بحیث یصدق على المتشخص به عنوإنّه ، وربما یحصل له بسببه مزیة أو نقیصة ، ودخل هذا فیه أیضاً ، طوراً بنحو الشطرّیة وآخر بنحو الشرطیّة ، فیکون الإِخلال بما له دخل بأحد النحوین فی حقیقة المأمور به وماهیته ، موجباً لفساده لا محالة ، بخلاف ماله الدخل فی تشخصه وتحققه مطلقاً. شطراً کان أو شرطاً ، حیث لا یکون الإِخلال به إلّا إخلالاً بتلک الخصوصیة ، مع تحقق الماهیة بخصوصیة أُخرى ، غیر موجبة لتلک المزیة ، بل کانت موجبة لنقصإنّها ، کما أشرنا إلیه ، کالصلاة فی الحمام.
ثم إنّه ربما یکون الشیء مما یندب إلیه فیه ، بلا دخل له أصلاً ـ لا شطراً ولا شرطاً ـ فی حقیقته ، ولا فی خصوصیته وتشخصه ، بل له دخل ظرفاً فی مطلوبیّته ، بحیث لا یکون مطلوباً إلّا إذا وقع فی أثنائه ، فیکون مطلوباً نفسیاً فی واجب أو مستحب ، کما إذا کان مطلوباً کذلک ، قبل أحدهما أو بعده ، فلا یکون الإِخلال به موجباً للاخلال به ماهیة ولا تشخصاً وخصوصیة أصلاً.
إذا عرفت هذا کله ، فلا شبهة فی عدم دخل ما ندب إلیه فی العبادات نفسیاً فی التسمیة بأسامیها ، وکذا فیما له دخل فی تشخصها مطلقاً ، وأما ماله الدخل شرطاً فی أصل ماهیتها ، فیمکن الذهاب أیضاً إلى عدم دخله فی التسمیة بها ، مع الذهاب إلى دخل ما له الدخل جزءاً فیها ، فیکون الإِخلال بالجزء مخلاً بها ، دون الإِخلال بالشرط ، لکنک عرفت أن الصحیح اعتبارهما فیها.
الحادی عشر
الحق وقوع الاشتراک ، للنقل والتبادر ، وعدم صحة السلب ، بالنسبة إلى معنیین أو أکثر للفظ واحد. وأنّ أحاله بعضٍ ، لإخلاله بالتفهم المقصود من الوضع لخفاء القرائن ، لمنع الإِخلال أولاً ، لإمکان الاتکال على القرائن الواضحة ، ومنع کونه مخلاً بالحکمة ثانیاً ، لتعلق الغرض بالإِجمال أحیاناً ، کما أن استعمال المشترک فی القرآن لیس بمحال کما توهّم ، لأجل لزوم التطویل بلا طائل ، مع الاتکال على القرائن والإِجمال فی المقال ، لو لا الاتکال علیها. وکلاهما غیر لائق بکلامه تعالى جل شإنّه ، کما لا یخفى ، وذلک لعدم لزوم التطویل ، فیما کان الاتکال على حال أو مقال أتی به لغرض آخر ، ومنع کون الإِجمال غیر لائق بکلامه تعالى ، مع کونه مما یتعلق به الغرض ، وإلاّ لما وقع المشتبه فی کلامه ، وقد أخبر فی کتابه الکریم (1) ، بوقوعه فیه قال الله تعالى ( مِنْهُ آیَاتٌ مُّحْکَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (2).
وربما توهّم وجوب وقوع الاشتراک فی اللغات ، لأجل عدم تناهی المعانی ، وتناهی الألفاظ المرکبات ، فلا بدّ من الاشتراک فیها.
وهو فاسد لوضوح (3) امتناع الاشتراک فی هذه المعانی ، لاستدعائه الأوضاع الغیر المتناهیة ، ولو سلّم لم یکد یجدی إلّا فی مقدار متناه ، مضافاً إلى تناهی المعانی الکلیة ، وجزئیاتها وأنّ کانت غیر متناهیة ، إلّا أن وضع الألفاظ بإزاء کلیاتها ، یغنىً عن وضع لفظ بإزائها ، کما لا یخفى ، مع أن المجاز باب واسع ، فافهم.
__________________
1 ـ لا توجد کلمة « الکریم » فی نسخة ( أ ).
2 ـ آل عمران / 7.
3 ـ فی « ب » : بوضوح.
الثانی عشر
إنّه قد اختلفو فی جواز استعمال اللفظ ، فی أکثر من معنى على سبیل الانفراد والاستقلال ، بأن یراد منه کلّ واحد ، کما إذا لم یستعمل إلّا فیه ، على أقوال (1) :
أظهرها عدم جواز الاستعمال فی الأکثر عقلاً.
وبیإنّه : إن حقیقة الاستعمال لیس مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى ، بل جعله وجهاً وعنواناً له ، بل بوجه نفسه کإنّه الملقى ، ولذا یسری إلیه قبحه وحسنه کما لا یخفى ، ولا یکاد یمکن جعل اللفظ کذلک ، إلّا لمعنى واحد ، ضرورة أن لحاظه هکذا فی إرادة معنى ، ینافی لحاظه کذلک فی إرادة الآخر ، حیث أن لحاظه کذلک ، لا یکاد یکون إلّا بتبع لحاظ المعنى فانیاً فیه ، فناء الوجه فی ذی الوجه ، والعنوان فی المعنون ، ومعه کیف یمکن إرادة معنى آخر معه کذلک فی استعمال واحد ، ومع استلزامه للحاظ آخر غیر لحاظه کذلک فی هذا الحال.
وبالجملة (2) : لا یکاد یمکن فی حال استعمال واحد ، لحاظه وجهاً لمعنیین وفانیاً فی الاثنین ، إلّا أن یکون اللاحظ أحول العینین.
فانقدح بذلک امتناع استعمال اللفظ مطلقاً ـ مفرداً کان أو غیره ـ فی أکثر من معنى بنحو الحقیقة أو المجاز ، ولو لا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه فإن اعتبارٍ الوحدة فی الموضوع له واضح المنع.
وکون (3) الوضع فی حال وحدة المعنى ، وتوقیفیته لا یقتضی عدم
__________________
1 ـ القوانین 1 / 67 ، فی بیان الاشتراک ، معالم الدین فی الأصول / 32.
2 ـ فی « أ » : وفی الجملة.
3 ـ هذا ردّ على المحقق القمی ، القوانین 1 / 67.
الجواز ، بعد ما لم تکن الوحدة قیداً للوضع ، ولا للموضوع له ، کما لا یخفى.
ثم لو تنزلنا عن ذلک ، فلا وجه للتفصیل (1) بالجواز على نحو الحقیقة فی التثنیة والجمع ، وعلى نحو المجاز فی المفرد ، مستدلا على کونه بنحو الحقیقة فیهما ، لکونهما بمنزلة تکرار اللفظ وبنحو المجاز فیه ، لکونه موضوعاً للمعنى بقید الوحدة ، فإذا استعمل فی الأکثر لزم إلغاء قید الوحدة ، فیکون مستعملاً فی جزء المعنى ، بعلاقة الکلّ والجزء ، فیکون مجازاً ، وذلک لوضوح أن الألفاظ لا تکون موضوعة إلّا لنفس المعانی ، بلا ملاحظة قید الوحدة ، وإلاّ لما جاز الاستعمال فی الأکثر ؛ لأن الأکثر لیس جزء المقید بالوحدة ، بل یباینه مباینة الشیء بشرط شیء ، والشیء بشرط لا ، کما لا یخفى.
والتثنیة والجمع وأنّ کانا بمنزلة التکرار فی اللفظ ، إلّا أن الظاهر أن اللفظ فیهما کإنّه کررّ واُرید من کلّ لفظ فرد من أفراد معناه ، لا إنّه أُرید منه معنى من معانیه ، فإذا قیل مثلاً : ( جئنی بعینین ) أُرید فردان من العین الجاریة ، لا العین الجاریة والعین الباکیة ، والتثنیة والجمع فی الأعلام ، إنّما هو بتأویل المفرد إلى المسمى بها ، مع إنّه لو قیل بعدم التأویل ، وکفایة الاتحاد فی اللفظ ، فی استعمالهما حقیقة ، بحیث جاز إرادة عین جاریة وعین باکیة من تثنیِة العین حقیقة ، لما کان هذا من باب استعمال اللفظ فی الأکثر ، لأن هیئتهما إنّما تدلّ على إرادة المتعدد مما یراد من مفردهما ، فیکون استعمالهما وإرادة المتعدد من معانیه ، استعِمالهما فی معنى واحد ، کما إذا استعملا وأرید المتعدد من معنى واحد منهما ، کما لا یخفى.
نعم لو أُرید مثلاً من عینین ، فردان من الجاریة ، وفردان من الباکیة ، کان من استعمال العینین فی المعنیین ، إلّا أن حدیث التکرار لا یکاد یجدی فی ذلک أصلاً ، فإن فیه إلغاء قید الوحدة المعتبرة أیضاً ، ضرورة أن التثنیة
__________________
1 ـ المفصَّل هو صاحب المعالم ، معالم الدین / 32.
عنده إنّما یکون لمعنیین ، أو لفردین بقید الوحدة ، والفرق بینهما وبین المفرد إنّما یکون فی إنّه موضوع للطبیعة ، وهی موضوعة لفردین منها أو معنیین ، کما هو أوضح من أن یخفى.
وهم ودفع :
لعلک تتوهم أن الإخبار الدالّة على أن للقرآن بطوناً ـ سبعة أو سبعین ـ تدلّ على وقوع استعمال اللفظ فی أکثر من معنى واحد ، فضلاً عن جوازه ، ولکنک غفلت عن إنّه لا دلالة لها أصلاً على أن إرادتها کان من باب إرادة المعنى من اللفظ ، فلعله کان بارادتها فی أنفسها حال الاستعمال فی المعنى ، لا من اللفظ ، کما إذا استعمل فیها ، أو کان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فیه اللفظ ، وأنّ کان أفهامنا قاصرة عن إدراکها.
الثالث عشر
إنّه اختلفوا فی أن المشتق حقیقة فی خصوص ما تلبس بالمبدأ فی الحال ، أو فیما یعمه وما انقضى عنه على أقوال ، بعد الاتفاق على کونه مجازاً فیما یتلبس به فی الاستقبال ، وقبل الخوض فی المسألة ، وتفصیل الأقوال فیها ، وبیان الاستدلال علیها ، ینبغی تقدیم أمور :
أحدها : إن المراد بالمشتق هاهنا لیس مطلق المشتقات ، بل خصوص ما یجری منها على الذوات ، مما یکون مفهمومه منتزعا عن الذات ، بملاحظة اتصافها بالمبدأ ، واتحادها معه بنحو من الاتحاد ، کان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور والإیجاد (1) ، کأسماء الفاعلین والمفعولین والصفات المشبهات ، بل وصیغ المبالغة ، وأسماء الازمنة والأمکنة والآلات ، کما هو ظاهر العنوانات ، وصریح بعضٍ المحققین ، مع عدم صلاحیة ما یوجب
__________________
1 ـ وفی بعضٍ النسخ المطبوعة : أو الإیجاد.
اختصاص النزاع بالبعض إلّا التمثیل به ، وهو غیر صالح ، کما هو واضح.
فلا وجه لما زعمه بعضٍ الأجلّة (1) ، من الاختصاص باسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبهة وما یلحق بها ، وخروج سائر الصفات ، ولعل منشأه توهّم کون ما ذکره لکلّ منها من المعنى ، مما اتفق علیه الکلّ ، وهو کما ترى ، واختلاف انحاء التلبسات حسب تفاوت مبادىء المشتقات ، بحسب الفعلیة والشأنیة والصناعة والملکة ـ حسبما نشیر إلیه (2) ـ لا یوجب تفاوتاً فی المهمّ من محلّ النزاع ها هنا ، کما لا یخفى.
ثم إنّه لا یبعد أن یراد بالمشتق فی محلّ النزاع ، مطلق ما کان مفهومه ومعناه جاریاً على الذات ومنتزعاً عنها ، بملاحظة اتصافها بعرض أو عرضی ولو کان جامدا ، کالزوج والزوجة والرق والحّر.
وإن (3) أبیت إلّا عن اختصاص النزاع المعروف بالمشتق ، کما هو قضیة الجمود على ظاهر لفظه ، فهذا القسم من الجوامد أیضاً محلّ النزاع.کما یشهد به ما عن الأیضاًح (4) فی باب الرضاع ، فی مسألة من کانت له زوجتان کبیرتان ، أرضعتا زوجته الصغیرة ، ما هذا لفظه : « تحرم المرضعة الأولى والصغیرة مع الدخول ب [ إحدى ] (5) الکبیرتین [ بالإِجماع ] وأما المرضعة الأخرى (6) ففی تحریمها خلاف ، فاختار والدی المصنّف ; (7) وابن ادریس تحریمها لأن هذه یصدق علیها [ إنّها ] اُم زوجته ، لإنّه لا یشترط فی [ صدق ] المشتق بقاء [ المعنى ] المشتق منه فکذا (8)
__________________
1 ـ صاحب الفصول ، الفصول / 60 ، فی المشتق.
2 ـ إشارة إلى ما سیأتی من تفصیل الکلام فی الأمر الرابع صفحة : 43.
3 ـ فی « ب » : فإن أبیت.
4 ـ أیضاًح الفوائد 3 : 52 ، أحکام الرضاع.
5 ـ وردت الزیارات فی المصدر.
6 ـ فی الأیضاًح ( الأخیرة ) ، وفی النسخ ( الآخرة ).
7 ـ لم یوجد فی الأیضاًح.
8 ـ هکذا فی المصدر وفی النسخ ( هکذا هاهنا ).
هنا ) (1). وما عن المسالک (2) فی هذه المسألة ، من ابتناء الحکم فیها على الخلاف فی مسألة المشتق.
فعلیه کلّ ما کان مفهومه منتزعاً من الذات ، بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتیات ـ کانت عرضاً أو عرضیا ـ کالزوجیة والرّقیّة والحریة وغیرها من الاعتبارات والإضافات ، کان محلّ النزاع وأنّ کان جامداً ، وهذا بخلاف ما کان مفهومه منتزعاً عن مقام الذات والذاتیات ، فإنّه لا نزاع فی کونه حقیقة فی خصوص ما إذا کانت الذات باقیة بذاتیاتها.
ثانیها : قد عرفت إنّه لا وجه لتخصیص النزاع ببعض المشتقات الجاریة على الذوات ، إلّا إنّه ربما یشکل بعدم إمکان جریإنّه فی اسم الزمان ، لأن الذات فیه وهی الزمان بنفسه ینقضی وینصرم ، فکیف یمکن أن یقع النزاع فی أن الوصف الجاری علیه حقیقة فی خصوص المتلبس بالمبدأ فی الحال ، أو فیما یعم المتلبس به فی المضی؟
ویمکن حل الإِشکال بأن انحصار مفهوم عام بفرد ـ کما فی المقام ـ لا یوجب أن یکون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام ، وإلاّ لما وقع الخلاف فیما وضع له لفظ الجلالة ، مع أن الواجب موضوع للمفهوم العام ، مع انحصاره فیه تبارک وتعالى.
ثالثها : إنّه من الواضح خروج الأفعال والمصادر المزید فیها عن حریم النزاع ؛ لکونها غیر جاریة على الذوات ، ضرورة أن المصادر المزید فیها کالمجردة ، فی الدلالة على ما یتصف به الذوات ویقوم بها کما لا یخفى وأنّ الأفعال إنّما تدلّ على قیام للمبادئ بها قیام صدور أو حلول أو طلب فعلها أو ترکها منها ، على اختلافها.
إزاحة شبهة :
قد اشتهر فی ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان ، حتى أخذوا
__________________
1 ـ أیضاًح الفوائد 52:3 ، أحکام الرضاع.
2 ـ المالک 1 / 475، کتاب النکاح.
الاقتران بها فی تعریفه. وهو اشتباه ، ضرورة عدم دلالة الأمر ولا النهی علیه ، بل على إنشاءً طلب الفعل أو الترک ، غایة الأمر نفس الإِنشاء بهما فی الحال ، کما هو الحال فی الإخبار بالماضی أو المستقبل أو بغیرهما ، کما لا یخفى ، بل یمکن منع دلالة غیرهما من الأفعال على الزمان إلّا بالإِطلاق والإِسناد إلى الزمانیات ، وإلاّ لزم القول بالمجاز والتجرید ، عند الإِسناد إلى غیرها من نفس الزمان والمجردات.
نعم لا یبعد أن یکون لکلّ من الماضی والمضارع ـ بحسب المعنى ـ خصوصیة أُخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة ، فی الزمان الماضی فی الماضی ، وفی الحال أو الاستقبال فی المضارع ، فیما کان الفاعل من الزمانیات ، ویؤیده أن المضارع یکون مشترکا معنویاً بین الحال والاستقبال ، ولا معنى له إلّا أن یکون له خصوص معنى صحّ انطباقه على کلّ منهما ، إلّا إنّه یدلّ على مفهوم زمان یعمهما ، کما أن الجملة الاسمیة ک ( زید ضارب ) یکون لها معنى صحّ انطباقه على کلّ واحد من الأزمنة ، مع عدم دلالتها على واحد منها أصلاً ، فکانت الجملة الفعلیة مثلها.
وربما یؤید ذلک أن الزمان الماضی فی فعله ، وزمان الحال أو الاستقبال فی المضارع ، لا یکون ماضیاً أو مستقبلاً حقیقة لا محالة ، بل ربما یکون فی الماضی مستقبلاً حقیقة ، وفی المضارع ماضیاً کذلک ، وإنما یکون ماضیاً أو مستقبلاً فی فعلهما بالإضافة ، کما یظهر من مثل قوله : یجیئنی زید بعد عام ، وقد ضرب قبله بأیّام ، وقوله : ( جاء زید فی شهر کذا ، وهو یضرب فی ذلک الوقت ، أو فیما بعده مما مضى ) ، فتأمل جیداً.
ثم لا باس بصرف عنان الکلام إلى بیان ما به یمتاز الحرف عما عداه ، بما یناسب المقام ؛ لأجل الاطراد فی الاستطراد فی تمام الأقسام.
فاعلم إنّه وأنّ اشتهر بین الأعلام ، أن الحرف ما دلّ على معنى فی
غیره ، وقد بینّاًه فی الفوائد (1) بما لا مزید علیه ، إلّا أنک عرفت فیما تقدم (2) ، عدم الفرق بینه وبین الاسم بحسب المعنى ، وإنّه فیهما ما (3) لم یلحظ فیه الاستقلال بالمفهومیة ، ولا عدم الاستقلال بها ، وإنما الفرق هو إنّه وضع لیستعمل واُرید منه معناه حالة لغیره وبما هو فی الغیر ، ووضع غیره لیستعمل واُرید منه معناه بما هو هو.
وعلیه یکون کلّ من الاستقلال بالمفهومیة ، وعدم الاستقلال بها ، إنّما اعتبر فی جانب الاستعمال ، لا فی المستعمل فیه ، لیکون بینهما تفاوت بحسب المعنى ، فلفظ ( الابتداء ) لو استعمل فی المعنى الآلی ، ولفظة ( من ) فی المعنى الاستقلالی ، لما کان مجازاً واستعمالاً له فی غیر ما وضع له ، وأنّ کان بغیر ما وضع له ، فالمعنى فی کلیهما فی نفسه کلّی طبیعی یصدق على کثیرین ، ومقیداً باللحاظ الاستقلالی أو الآلی کلّی (4) عقلی ، وأنّ کان بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهنا کان جزئیا ذهنیاً ، فإن الشیء ما لم یتشخص لم یوجد ، وأنّ کان بالوجود الذهنی ، فافهم وتأملّ فیما وقع فی المقام من الأعلام ، من الخلط والاشتباه ، وتوهمّ کون الموضوع له أو المستعمل فیه فی الحروف خاصاً ، بخلاف ما عداه فإنّه عام.
ولیت شعری إن کان قصد الآلیة فیها موجباً لکون المعنى جزئیاً ، فلم لا یکون قصد الاستقلالیة فیه موجباً له؟ وهل یکون ذلک إلّا لکون هذا القصد ، لیس مما یعتبر فی الموضوع له ، ولا المستعمل فیه بل فی الاستعمال ، فلم لا یکون فیها کذلک؟ کیف ، وإلاّ لزم أن یکون معانی المتعلقات غیر منطبقة على الجزئیات الخارجیة ؛ لکونها على هذا کلیات
__________________
1 ـ حاشیة کتاب فرائد الأصول ، کتاب الفوائد / 305.
2 ـ الأمر الثّانی من المقدمة ص 11.
3 ـ لم توجد «ما» فی بعضٍ النسخ المطبوعة
4 ـ فی ( أ ) : الآلی الکلی کلی ...
عقلیة ، والکلّی العقلی لا موطن له إلّا الذهن ، فالسیر والبصرة والکوفة (1) ، فی ( سرت من البصرة إلى الکوفة ) (2) لا یکاد یصدق على السیر والبصرة والکوفة (3) ، لتقیّدها بما اعتبر فیه القصد فتصیر عقلیة ، فیستحیل انطباقها على الأمور الخارجیة.
وبما حققناه (4) یوفق بین جزئیة المعنى الحرفی بل الاسمی ، والصدق على الکثیرین (5) ، وأنّ الجزئیة باعتبار تقیّد المعنى باللحاظ فی موارد الإستعمالات آلیاً أو استقلالیاً ، وکلیته بلحاظ نفس المعنى ، ومنه ظهر عدم اختصاص الإِشکال والدفع بالحرف ، بل یعم غیره ، فتأمل فی المقام فإنّه دقیق ومزالّ الأقدام للأعلام ، وقد سبق فی بعضٍ الأمور بعضٍ الکلام ، والإِعادة مع ذلک لما فیها من الفائدة والإِفادة ، فافهم.
رابعها : إن اختلاف المشتقات فی المبادیء ، وکون المبدأ فی بعضها حرفة وصناعة ، وفی بعضها قوة وملکة ، وفی بعضها فعلّیاً ، لا یوجب اختلافاً فی دلالتها بحسب الهیئة أصلاً ، ولا تفاوتً فی الجهة المبحوث عنها ، کما لا یخفى ، غایة الأمر إنّه یختلف التلبس به فی المضی أو الحال ، فیکون التلبس به فعلاً ، لو أخذ حرفة أو ملکة ، ولو لم یتلبس به إلى الحال ، أو انقضى عنه ، ویکون مما مضى أو یأتی لو أخذ فعلّیاً ، فلا یتفاوت فیها أنحاء التلبسات وأنواع التعلقات ، کما أشرنا إلیه (6).
خامسها : إن المراد بالحال فی عنوان المسألة ، هو حال التلبس
__________________
1 و 2 و 3 ـ فی ( أ ) : تقدیم الکوفة على البصرة.
4 ـ فی هامش ( ب ) : ثم إنّه قد انقدح بما ذکرنا أن المعنى بما هو معنى اسمی ، وملحوظ استقلالی ، أو بما هو معنى حرفی وملحوظ آلی ، کلّی عقلی فی غیر الأعلام الشخصیة ، وفیها جزئی کذلک ، وبما هو هو أیّ بلا أحد اللحاظین ، کلی طبیعی أو جزئی خارجی ، وبه ... ( نسخة بدل ).
5 ـ فی ( أ ) : على کثیرین.
6 ـ اشار إلیه فی الأمر الأوّل / 39.
لا حال النطق ضرورة أن مثل ( کان زید ضارباً أمس ) أو ( سیکون غداً ضارباً ) حقیقة إذا کان متلبساً بالضرب فی الأمس ، فی المثال الأوّل ، ومتلبساً به فی الغد فی الثّانی ، فجری المشتق حیث کان بلحاط حال التلبس ، وأنّ مضى زمإنّه فی أحدهما ، ولم یأت بعد فی آخر ، کان حقیقة بلا خلاف ، ولا ینافیه الاتفاق على أن مثل ( زید ضارب غداً ) مجاز ، فإن الظاهر إنّه فیما إذا کان الجری فی الحال ، کما هو قضیة الإِطلاق ، والغد إنّما یکون لبیان زمان التلبس ، فیکون الجری والاتصاف فی الحال ، والتلبس فی الاستقبال.
بسم الله الرحمن الرحیم
نحمدک اللهم یا من أضاء على مطالع العقول والالباب ، وأنار علیها بسواطع السنة والکتاب ، فأحکم الفروع بأصولها فی کلّ باب ، ونصلّی على أفضل من اُوتی الحکمة وفصل الخطاب ، وعلى آله الطاهرین الأطیاب ، سیّما المخصوص بالاخوة سیّد أولی الالباب.
ربّنا آمنا بما أنزلت واتّبعنا الرسول وآل الرسول ، فاغفر لنا ذنوبنا ، وقنا سوء الحساب ، واللعنة على أعدائهم من الیوم إلى یوم الحساب.
وبعد : فالعلم على تشعّب شؤونه ، وتفنّن غصونه ، مفتقر إلى علم الأصول افتقار الرعیة إلى السلطان ، ونافذ حکمه علیها بالوجدان ، ولا سیّما العلوم الدینیة ، وخصوصاً الأحکام الشرعیة ، فلولا الأصول لم تقع فی علم الفقه على محصول.
فیه استقرت قواعد الدین ، وبه صار الفقه کشجرة طیبة تؤتی أکلها کلّ حین ، فلذا بادر علماء الامصار ، وفضلاء الأعصار ـ فی کلّ دور من الأدوار ـ إلى تمهید قواعده ، وتقیید شوارده ، وتبیین ضوابطه ، وتوضیح روابطه ، وتهذیب اُصوله ، وإحکام قوانینه ، وترتیب فصوله.
لکنّه لما فیه من محاسن النکت والفقر ، ولطائف معانٍ تدق دونها الفکر ، جل عن أن یکون شرعة لکلّ وارد ، أو أن یطلع على حقائقه إلّا واحد
بعد واحد ، فنهض به من اُولی البصائر کابر بعد کابر ، فللّه دَرّهم من عصابة تلقّوا وأذعنوا ، وبرعوا فأتقنوا ، وأجادوا فجادوا ، وصنفوا وأفادوا ، أثابهم الله برضوإنّه وبّوأهم بحبوحات جنإنّه.
حتى انتهى الأمر إلى أوحد علماء العصر ، قطب فلک الفقاهة والاجتهاد ، ومرکز دائرة البحث والانتقاد ، الطود الشامخ ، والعلم الراسخ ، محیی الشریعة وحامی الشیعة ، النحریر الأوّاه ، والمجاهد فی سبیل الله ، خاتم الفقهاء والمجتهدین ، وحجّة الاسلام والمسلمین ، الوفی الصفی ، مولانا الآخوند ( ملا محمد کاظم الهروی الطوسی النجفی ) مد الله أطناب ظلاله على رؤوس الأنام ، وعمر بوجوده دوارس شرع الاسلام ، فقد فاز ـ دام ظله ـ منه بالقدح المعلى وجلّ عن قول أین وأنىّ ، وجرى بفکر صائب تقف دونه الأفکار ، ونظر ثاقب یکاد سنا برقه یذهب بالابصار ، فلذا أذعن بفضله الفحول ، وتلقوه بأنعم القبول. وأظهر صحفاً هی المنتهى فی التبیان ، ذوات نکت لم یطمثهن قبله إنس ولا جان ، ویغنیک العیان عن البیان ، والوجدان عن البرهان.
فما قدمته لک إحدى مقالاته الشافیة ، ورسائله الکافیة ، فقد أخذت بجزأیها على شطری الأصول الأصلیة ، من مباحث الألفاظ والادلة العقلیة ، وأغنت بالاشارة عن المطّولات ، فهی النهایة والمحصول ، فحریّ بأن یسمى ب ( کفایة الأصول ) ، فأین من یعرف قدرها ، ولا یرخص مهرها ، وعلى الله قصد السبیل ، وهو حسبی ونعم الوکیل.
قال أدام الله ظله [ بعد التسمیة والتحمید والتصلیة ] (1) :
__________________
1 ـ نقلنا هذه المقدمة من « ب ». وهی من إنشاءً المتصدی لطبع النسخة الحجریة.
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله ربّ العالمین ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرین ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعین.
وبعد فقد رتّبته على مقدّمة ، ومقاصد وخاتمة.
أمّا المقدّمة
ففی بیان أمور :
الأول
إنّ موضوع کلّ علم ، وهو الذی یبحث فیه عن عوارضه الذاتیة ـ أیّ بلا واسطة فی العروض ـ هو نفس موضوعاًت مسائله عیناً ، وما یتّحد معها خارجاً ، وأنّ کان یغایرها مفهوماً ، تغایر الکّلی ومصادیقه ، والطبیعی وأفراده. والمسائل عبارة عن جملة من قضایا متشّتتة ، جمعها اشتراکها فی الدخل فی الغرض الذی لأجله دُوَّن هذا العلم ، فلذا قد یتداخل بعضٍ العلوم فی بعضٍ المسائل ، مما کان له دخل فی مهمین ، لأجل کلّ منهما دُوّن علم على حدة ، فیصیر من مسائل العلمین.
لا یقال : على هذا یمکن تداخل علمین فی تمام مسائلهما ، فیما کان هناک مهمان متلازمان فی الترتّب على جملة من القضایا ، لا یکاد انفکاکهما.
فإنّه یقال : مضافاً إلى بُعد ذلک ، بل امتناعه عادةً ، لا یکاد یصحّ لذلک تدوین علمین وتسمیتهما باسمین ، بل تدوین علم واحد ، یبحث فیه تارةً لکلا المهمّین ، واخرى لأحدهما ، وهذا بخلاف التداخل فی بعضٍ المسائل ، فان حسن تدوین علمین ـ کانا مشترکین فی مسألة ، أو أزید ـ فی جملة مسائلهما المختلفة ، لأجل مهمین ، مما لا یخفى.
وقد انقدح بما ذکرنا ، أن تمایَز العلوم إنّما هو باختلاف الاغراض الداعیة إلى التدوین ، لا الموضوعاًت ولا المحمولات ، وإلاّ کان کلّ باب ، بل کلّ مسألة من کلّ علم ، علماً على حدة ، کما هو واضح لمن کان له أدنى تأمّل ، فلا یکون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدد ، کما لا یکون وحدتهما سبباً لأن یکون من الواحد.
ثم إنّه ربما لا یکون لموضوع العلم ـ وهو الکلّی المتّحد مع موضوعاًت المسائل ـ عنوان خاص واسم مخصوص ، فیصحّ أن یعبّر عنه بکل ما دلّ علیه ، بداهة عدم دخل ذلک فی موضوعیته أصلاً.
وقد انقدح بذلک أن موضوع علم الأصول ، هو الکلّی المنطبق على موضوعاًت مسائله المتشتتة ، لا خصوص الأدلّة الأربعة بما هی أدلّة (1) ، بل ولا بما هی هی (2) ، ضرورة أن البحث فی غیر واحد من مسائله المهمّة لیس من عوارضها ، وهو واضح لو کان المراد بالسّنة منها هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقریره ، کما هو المصطلح فیها ، لوضوح عدم البحث فی کثیر من مباحثها المهمّة ، کعمدة مباحث التعادل والترجیح ، بل ومسألة حجیة خبر الواحد ، لا عنها ولا عن سائر الادلّة ، ورجوع البحث فیهما ـ فی الحقیقة ـ إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد ، فی مسألة حجّیة الخبر ـ کما اُفید ـ (3) وبأی الخبرین فی باب التعارض ، فإنّه أیضاً بحث فی الحقیقة عن حجیة الخبر فی هذا الحال غیر مفید فان البحث عن ثبوت الموضوع ، وما هو مفاد کان التامة ، لیس بحثاً عن عوارضه ، فإنّها مفاد کان الناقصة.
لا یقال : هذا فی الثبوت الواقعی ، وأمّا الثبوت التعبدی ـ کما هو
__________________
1 ـ کما هو المشهور بین الأصولیین.
2 ـ صرح به صاحب الفصول ، الفصول / 4.
3 ـ افاده الشیخ ( قده ) فی فرائد الأصول / 67 ، فی بدایة مبحث حجیة الخبر الواحد.
المهم فی هذه المباحث ـ فهو فی الحقیقة یکون مفاد کان الناقصة.
فإنّه یقال : نعم ، لکّنه مما لا یعرض السنة ، بل الخبر الحاکی لها ، فإن الثبوت التعبدی یرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر کالسنة المحکیة به ، وهذا من عوارضه لا عوارضها ، کما لا یخفى.
وبالجملة : الثبوت الواقعی لیس من العوارض ، والتعبدی وأنّ کان منها ، إلّا إنّه لیس للسنة ، بل للخبر ، فتأمل جیداً.
وأما إذا کان المراد (1) من السنة ما یعم حکایتها ، فلان البحث فی تلک المباحث وأنّ کان عن أحوال السنة بهذا المعنى ، إلّا أن البحث فی غیر واحد من مسائلها ، کمباحث الألفاظ ، وجملة من غیرها ، لا یخص الادلة ، بل یعم غیرها ، وأنّ کان المهمّ معرفة أحوال خصوصها ، کما لا یخفى.
ویؤیّد ذلک تعریف الأصول ، بإنّه ( العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحکام الشرعیة ) ، وأنّ کان الأولى تعریفه بإنّه ( صناعة یعرف بها القواعد التی یمکن أن تقع فی طریق استنباط الأحکام ، أو التی ینتهى إلیها فی مقام العمل ) ، بناءً على أن مسألة حجیة الظنّ على الحکومة ، ومسائل الأصول العملیة فی الشبهات الحکمیة من الأصول ، کما هو کذلک ، ضرورة إنّه لا وجه لالتزام الاستطراد فی مثل هذه المهمّات.
الأمر الثانی
الوضع هو نحو اختصاص للّفظ بالمعنى ، وارتباط خاص بینهما ، ناش من تخصیصه به تارةً ، ومن کثرة استعماله فیه أُخرى ؛ وبهذا المعنى صحّ تقسیمه إلى التعیینی والتعیّنی ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ هذا مراد صاحب الفصول ، الفصول / 12.
ثم إن الملحوظ حال الوضع : امّا یکون معنى عاماً ، فیوضع اللفظ له تارةً ، ولافراده ومصادیقه أُخرى ؛ وإما یکون معنى خاصاً ، لا یکاد یصحّ إلّا وضع اللفظ له دون العام ، فتکون الأقسام ثلاثة ، وذلک لأن العام یصلح لأن یکون آلة للحاظ أفراده ومصادیقه بما هو کذلک ، فإنّه من وجوهها ، ومعرفة وجه الشیء معرفته بوجه ، بخلاف الخاص ، فإنّه بما هو خاص ، لا یکون وجهاً للعام ، ولا لسائر الأفراد ، فلا یکون معرفته وتصوره معرفة له ، ولا لها ـ أصلاً ـ ولو بوجه.
نعم ربّما یوجب تصوّره تصوّر العام بنفسه ، فیوضع له اللفظ ، فیکون الوضع عاماً ، کما کان الموضوع له عاماً ، وهذا بخلاف ما فی الوضع العام والموضوع له الخاص ، فإن الموضوع له ـ وهی الأفراد ـ لا یکون متصوراً إلّا بوجهه وعنوإنّه ، وهو العام ، وفرق واضح بین تصوّر الشیء بوجهه ، وتصوّره بنفسه ، ولو کان بسبب تصوّر أمر آخر.
ولعل خفاء ذلک على بعضٍ الأعلام (1) ، وعدم تمیزه بینهما ، کان موجباً لتوهم امکان ثبوت قسم رابع ، وهو أن یکون الوضع خاصاً ، مع کون الموضوع له عاماً ، مع إنّه واضح لمن کان له أدنى تأمل.
ثم إنّه لا ریب فی ثبوت الوضع (2) الخاص والموضوع له الخاص کوضع الأعلام. وکذا الوضع (3) العام والموضوع له العام ، کوضع أسماء الاجناس وأما الوضع العام والموضوع له الخاص ، فقد توهّم (4) إنّه وضع الحروف ، وما ألحق بها من الأسماء ، کما توهّم (5) أیضاً ان المستعمل فیه فیها (6)
__________________
1 ـ الظاهر إنّه صاحب البدائع ، البدائع / 39 ، فی تقسیم الوضع إلى العام والخاص.
2 ـ 3 ـ فی « أ و ب » : وضع.
4 ـ صاحب الفصول ، الفصول / 16 ، فی الوضع.
5 ـ الفصول / 16 ، فی الوضع.
6 ـ فی « أ » : أن المستعمل فیها.
خاصٌ (1) مع کون الموضوع له کالوضع عاماً.
والتحقیق ـ حسبما یؤدّی إلیه النظر الدقیق ـ أن حال المستعمل فیه والموضوع له فیها حالهما فی الأسماء ، وذلک لأن الخصوصیة المتوهمة ، إن کانت هی الموجبة لکون المعنى المتخصص بها جزئیاً خارجیاً ، فمن الواضح أن کثیراً ما لا یکون المستعمل فیه فیها کذلک بل کلیاً ، ولذا التجأ بعضٍ الفحول (2) إلى جعله جزئیاً إضافیاً ، وهو کما ترى. وأنّ کانت هی الموجبة لکونه جزئیاً ذهنیاً ، حیث إنّه لا یکاد یکون المعنى حرفیاً ، إلّا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر ، ومن خصوصیاته القائمة به ، ویکون حاله کحال العرض ، فکما لا یکون فی الخارج إلّا فی الموضوع ، کذلک هو لا یکون فی الذهن إلّا فی مفهوم آخر ، ولذا قیل فی تعریفه : بإنّه ما دلّ على معنى فی غیره ، فالمعنى ، وأنّ کان لا محالة یصیر جزئیا بهذا اللحاظ ، بحیث یباینه إذا لوحظ ثانیاً ، کما لوحظ أولاً ، ولو کان اللاحظ واحداً ، إلّا أن هذا اللحاظ لا یکاد مأخوذاً فی المستعمل فیه ، وإلاّ فلا بدّ من لحاظ آخر ، متعلّق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ ، بداهة أن تصوّر المستعمل فیه مما لا بدّ منه فی استعمال الألفاظ ، وهو کما ترى.
مع إنّه یلزم أن لا یصدق على الخارجیات ، لامتناع صدق الکلّی العقلی علیها ، حیث لا موطن له إلّا الذهن ، فامتنع امتثال مثل ( سر من البصرة ) إلّا بالتجرید وإلغاء (3) الخصوصیة ، هذا.
مع إنّه لیس لحاظ المعنى حالة لغیره فی الحروف إلّا کلحاظه فی نفسه فی الأسماء ، وکما لا یکون هذا اللحاظ معتبراً فی المستعمل فیه فیها ، کذلک ذاک اللحاظ فی الحروف ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ فی « أ و ب » : خاصا.
2 ـ المراد من بعضٍ الفحول ، امّا صاحب الفصول ، الفصول / 16 ، وإما المحقق التقی ، هدایة المسترشدین / 30.
3 ـ فی « ب » : إلقاء.
وبالجملة : لیس المعنى فی کلمة ( من ) ولفظ الابتداء ـ مثلاً ـ إلّا الابتداء ، فکما لا یعتبر فی معناه لحاظه فی نفسه ومستقلاً ، کذلک لا یعتبر فی معناها لحاظه فی غیرها وآلة ، وکما لا یکون لحاظه فیه موجباً لجزئیته ، فلیکن کذلک فیها.
إن قلت : على هذا لم یبق فرق بین الاسم والحرف فی المعنى ، ولزم کون مثل کلمة ( من ) ولفظ الابتداء مترادفین ، صحّ استعمال کلّ منهما فی موضع الآخر ، وهکذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانیها ، وهو باطل بالضرورة ، کما هو واضح.
قلت : الفرق بینهما إنّما هو فی اختصاص کلّ منهما بوضع ، حیث [ إنّه ] (1) وضع الاسم لیراد منه معناه بما هو هو وفی نفسه ، والحرف لیراد منه معناه لا کذلک ، بل بما هو حالة لغیره ، کما مرّت الإِشارة إلیه غیر مرّة ، فالاختلاف بین الاسم والحرف فی الوضع ، یکون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما فی موضع الآخر ، وأنّ اتفقا فیما له الوضع ، وقد عرفت ـ بما لا مزید علیه ـ أن نحو إرادة المعنى لا یکاد یمکن أن یکون من خصوصیاته ومقوماته.
ثم لا یبعد أن یکون الاختلاف فی الخبر والانشاء أیضاً کذلک ، فیکون الخبر موضوعاً لیستعمل فی حکایة ثبوت معناه فی موطنه ، والانشاء لیستعمل فی قصد تحققه وثبوته ، وأنّ اتفقا فیما استعملا فیه ، فتأمّل.
ثم إنّه قد انقدح مما حققناه ، إنّه یمکن أن یقال : إن المستعمل فیه فی مثل أسماء الإِشارة والضمائر أیضاً عام ، وأنّ تشخّصه إنّما نشأ من قبل طور استعمالها ، حیث انَّ أسماء الإِشارة وضعت لیشار بها إلى معانیها ، وکذا
__________________
1 ـ أثبتناها من « ب ».
بعض الضمائر ، وبعضها لیخاطب به (1) المعنى ، والإِشارة والتخاطب یستدعیان التشخص کما لا یخفى ، فدعوى : أن المستعمل فیه فی مثل ( هذا ) أو ( هو ) أو ( إیّاک ) إنّما هو المفرد المذکر ، وتشخصه إنّما جاء من قبل الإِشارة ، أو التخاطب بهذه الألفاظ إلیه ، فإن الإِشارة أو التخاطب لا یکاد یکون إلّا إلى الشخص أو معه ، غیر مجازفة.
فتلخصّ مما حققناه : ان التشخص الناشىء من قبل الاستعمالات ، لا یوجب تشخص المستعمل فیه ، سواء کان تشخصاً خارجیاً ـ کما فی مثل أسماء الإِشارة ـ أو ذهنیاً ـ کما فی أسماء الأجناس والحروف ونحوهما ـ من غیر فرق فی ذلک أصلاً بین الحروف وأسماء الأجناس ، ولعمری هذا واضح. ولذا لیس فی کلام القدماء من کون الموضوع له أو المستعمل فیه خاصاً فی الحرف عین ولا أثر ، وإنما ذهب إلیه بعضٍ من تأخّر ، (2) ولعلّه لتوهّم کون قصده بما هو فی غیره ، من خصوصیات الموضوع له ، أو المستعمل فیه ، والغفلة من أن قصد المعنى من لفظه على أنحائه ، لا یکاد یکون من شؤونه وأطواره ، وإلاّ فلیکن قصده بما هو هو وفی نفسه کذلک ، فتأمّل فی المقام فإنّه دقیق ، وقد زل فیه أقدام غیر واحد من أهل التحقیق والتدقیق.
الثالث
صحّة استعمال اللفظ فیما یناسب ما وضع له ، هل هو بالوضع ، أو بالطبع؟ وجهان ، بل قولان ، أظهرهما إنّه بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فیه ولو مع منع الواضع عنه ، وباستهجان الاستعمال فیما لا یناسبه ولو مع ترخیصه ، ولا معنى لصحته إلّا حسنه ، والظاهر أن صحة الاستعمال
__________________
1 ـ فی « ب » : بها.
2 ـ صاحب الفصول ، الفصول / 16.
اللفظ فی نوعه أو مثله من قبیله ، کما یأتی الإِشارة إلى تفصیله (1).
الرابع
لا شبهة فی صحة إطلاق اللفظ ، وإرادة نوعه به ، کما إذا قیل : ضرب ـ مثلاً ـ فعل ماض ، أو صنفه کما إذا قیل : ( زید ) فی ( ضرب زید ) فاعل ، إذا لم یقصد به شخص القول أو مثله ک ( ضرب ) فی المثال فیما إذا قصد.
وقد أشرنا (2) إلى أن صحة الإِطلاق کذلک وحسنه ، إنّما کان بالطبع لا بالوضع ، وإلاّ کانت المهملات موضوعة لذلک ، لصحة الإِطلاق کذلک فیها ، والالتزام بوضعها کذلک کما ترى.
وأمّا إطلاقه وإرادة شخصه ، کما إذا قیل : ( زید لفظ ) وأرید منه شخص نفسه ، ففی صحته بدون تأویل نظر ، لاستلزامه اتحاد الدالّ والمدلول ، أو ترکب القضیة من جزءین کما فی الفصول (3).
بیان ذلک : إنّه إن اعتبر دلالته على نفسه ـ حینئذ ـ لزم الاتحاد ، وإلاّ لزم ترکبها من جزءین ، لأن القضیة اللفظیة ـ على هذا ـ إنّما تکون حاکیة عن المحمول والنسبة ، لا الموضوع ، فتکون القضیة المحکیة بها مرکبة من جزءین ، مع امتناع الترکب إلّا من الثلاثة ، ضرورة استحالة ثبوت النسبة بدون المنتسبین.
قلت : یمکن أن یقال : إنّه یکفی تعدَّد الدالّ والمدلول اعتباراً ، وأنّ اتَّحَدا ذاتاً ، فمن حیث إنّه لفظ صادر عن لافظه کان د إلّا ، ومن حیث أن
__________________
1 ـ فی الأمر الرابع.
2 ـ أشار إلیه فی الأمر الثالث.
3 ـ الفصول / 22 ، عند قوله : فصل قد یطلق اللفظ .. الخ.
نفسه وشخصه مراده کان مدلولاً.
مع أن حدیث ترکب القضیة من جزءین ـ لولا اعتبارٍ الدلالة فی البین ـ إنّما یلزم إذا لم یکن الموضوع نفس شخصه ، وإلاّ کان أجزاؤها الثلاثة تامة ، وکان المحمول فیها منتسبا إلى شخص اللفظ ونفسه ، غایة الأمر إنّه نفس الموضوع ، لا الحاکی عنه ، فافهم ، فإنّه لا یخلو عن دقة. وعلى هذا ، لیس من باب استعمال اللفظ بشىء.
بل یمکن أن یقال : إنّه لیس أیضاً من هذا الباب ، ما إذا أطلق اللفظ واُرید به نوعه أو صنفه ، فإنّه فرده ومصداقه حقیقة ، لا لفظه وذاک معناه ، کی یکون مستعملاً فیه استعمال اللفظ فی المعنى ، فیکون اللفظ نفس الموضوع الملقى إلى المخاطب خارجاً ، قد أحضر فی ذهنه بلا وساطة حاک (1) ، وقد حکم علیه ابتداءً ، بدون واسطة أصلاً ، لا لفظه ، کما لا یخفى ، فلا یکون فی البین لفظ قد استعمل فی معنى ، بل فرد قد حکم فی القضیة علیه ـ بما هو مصداق لکلی (2) اللفظ ، لا بما هو خصوص جزئیّة.
نعم فیما إذا أُرید به فرد آخر مثله ، کان من قبیل استعمال اللفظ فی المعنى.
اللهم إلّا أن یقال : إن لفظ ( ضرب ) وأنّ کان فرداً له ، إلّا إنّه إذا قصد به حکایته ، وجعل عنواناً له ومرآته ، کان لفظه المستعمل فیه ، وکان ـ حینئذ ـ کما إذا قصد به فرد مثله.
وبالجملة : فإذا اُطلق واُرید به نوعه ، کما إذا أُرید به فرد مثله ، کان من باب استعمال اللفظ فی المعنى ، وأنّ کان فرداً منه ، وقد حکم فی القضیة بما یعمه ، وأنّ اُطلق لیحکم علیه بما هو فرد کلّیة ومصداقه ، لا بما هو لفظه وبه حکایته ، فلیس من هذا الباب ، لکن الإطلاقاًت المتعارفة ظاهراً
__________________
1 ـ فی « أ و ب » : حاکی.
2 ـ فی « أ » : لکلیه.
لیست کذلک ، کما لا یخفى ، وفیها ما لا یکاد یصحّ أن یراد منه ذلک ، مما کان الحکم فی القضیة لا یکاد یعمّ شخص اللفظ ، کما فی مثل : ( ضرب فعل ماض ).
الخامس
لا ریب فی کون الألفاظ موضوعة بإزاء معانیها من حیث هی ، لا من حیث هی مرادة للافظها ، لما عرفت بما لا مزید علیه ، من أن قصد المعنى على أنحائه من مقومات الاستعمال ، فلا یکاد یکون من قیود المستعمل فیه. هذا.
مضافاً إلى ضرورة صحة الحمل والإِسناد فی الجمل ، بلا تصرّف فی ألفاظ الأطراف ، مع إنّه لو کانت موضوعة لها بما هی مرادة ، لما صحّ بدونه ، بداهة أن المحمول على ( زید ) فی ( زید قائم ) والمسند إلیه فی ( ضرب زید ) ـ مثلاً ـ هو نفس القیام والضرب ، لا بما هما مرادان.
مع إنّه یلزم کون وضع عامة الألفاظ عاماً والموضوع له خاصاً ، لمکان اعتبارٍ خصوص إرادة اللافظین فیما وضع له اللفظ ، فإنّه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة فیه ، کما لا یخفى ، وهکذا الحال فی طرف الموضوع.
وأما ما حکی (1) عن العلمین ( الشیخ الرئیس (2) ، والمحقق
__________________
1 ـ راجع الشفاء ، قسم المنطق فی المقالة الأولى من الفن الأوّل ، الفصل الثامن / 42 ، عند قوله ( وذلک لأن معنى دلالة اللفظ ، هو ان یکون اللفظ اسما لذلک المعنى على سبیل القصد الأوّل ) انتهى.
وحکى العلاّمة الحلّی (ره) فی الجوهر النضید فی شرح التجرید / 4. عن أستاذه المحقق الطوسی (ره) قوله بأن اللفظ لا یدلّ بذاته على معناه بل باعتبار الإرادة والقصد.
2 ـ الشیخ الرئیس أبو علی الحسین بن عبدالله بن سینا الحکیم المشهور ، أحد فلاسفة المسلمین ولد سنة 370 ه بقریة من ضیاع بخارى ، نادرة عصره فی علمه وذکائه وتصانیفه ، لم یستکمل ثمانی عشرة سنة من عمره إلّا وقد فرغ من تحصیل العلوم بأسرها ، صنف کتاب « الشفاء » و « النجاة » و « الإشارات » و « القانون » وغیر ذلک ممّا یقارب مائة مصنّف ،
الطوسی (1) ) من مصیرهما إلى أن الدلالة تتبع الإرادة ، فلیس ناظراً إلى کون الألفاظ موضوعة للمعانی بما هی مرادة ، کما توهمه بعضٍ الأفاضل (2) ، بل ناظر إلى أن دلالة الألفاظ على معانیها بالدلالة التصدیقیة ، أیّ دلالتها على کونها مرادة للافظها تتبع إرادتها منها ، وتتفرع علیها تبعیة مقام الإِثبات للثبوت ، وتفرع الکشف على الواقع المکشوف ، فإنّه لولا الثبوت فی الواقع ، لما کان للإثبات والکشف والدلالة مجال ، ولذا لا بدّ من إحراز کون المتکلّم بصدد الإِفادة فی إثبات إرادة ما هو ظاهر کلامه ودلالته على الإرادة ، وإلاّ لما کانت لکلامه هذه الدلالة ، وأنّ کانت له الدلالة التصوریة ، أیّ کون سماعه موجباً لإخطار معناه الموضوع له ، ولو کان من وراء الجدار ، أو من لافظ بلا شعور ولا اختیار.
إن قلت : على هذا ، یلزم أن لا یکون هناک دلالة عند الخطأ ، والقطع بما لیس بمراد ، أو الاعتقاد بإرادة شیء ، ولم یکن له من اللفظ مراد.
قلت : نعم لا یکون حینئذ دلالة ، بل یکون هناک جهالة وضلالة ، یحسبها الجاهل دلالة ، ولعمری ما أفاده العلمان من التبعیة ـ على ما بینّاًه ـ واضح لا محیص عنه ، ولا یکاد ینقضی تعجبی کیف رضی المتوهم أن یجعل کلامهما ناظراً إلى ما لا ینبغی صدوره عن فاضل ، فضلاً عمن هو عَلَم
__________________
وله شعر ، توفی بهمدان یوم الجمعة من شهر رمضان 428 ه ودفن بها. ( وفیات الأعیان 2 / 157 رقم 190 ).
1 ـ المحقق خواجه نصیر الدین محمد بن محمد بن الحسن الطوسی الحکیم الفیلسوف ولد فی طوس عام 597 ه. ، درس فی صغره مختلف العلوم وأتقن علوم الریاضیات وکان لا یزال فی مطلع شبابه ، سافر إلى نیشابور وقضى فیها فترة ظهر نبوغه وتفّوقه ، باشر إنشاءً مرشد مراغة وأسس مکتبة مراغة ، حضر درس المحقق الحلّی عندما زار الفیحاء بصحبة هولاکو ، کتب ما یناهز 184 مؤلفاً فی فنون شتىّ ، توفی 682 ه ودفن فی جوار الامام موسى الکاظم 7. ( أعیان الشیعة 9 / 414 ).
2 ـ صاحب الفصول 17 ، السطر الأخیر.
فی التحقیق والتدقیق؟!.
السادس
لا وجه لتوهّم وضع للمرکبات ، غیر وضع المفردات ، ضرورة عدم الحاجة إلیه ، بعد وضعها بموادها ، فی مثل ( زید قائم ) و ( ضرب عمرو بکراً ) شخصیاً ، وبهیئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعیا ، ومنها خصوص هیئات المرکبات الموضوعة لخصوصیات النسب والإضافات ، بمزایاها الخاصة من تأکید وحصر وغیرهما نوعیاً ؛ بداهة أن وضعها کذلک وافٍ بتمام المقصود منها ، کما لا یخفى ، من غیر حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها ، مع استلزامه الدلالة على المعنى : تارةً بملاحظة وضع نفسها ، وأخرى بملاحظة وضع مفرداتها.
ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلک ، هو وضع الهیئات على حدة ، غیر وضع المواد ، لا وضعها بجملتها ، علاوة على وضع کلّ منهما.
السابع
لا یخفى أن تبادر المعنى من اللفظ ، وانسباقه إلى الذهن من نفسه ـ وبلا قرینة ـ علامة کونه حقیقة فیه ؛ بداهة إنّه لولا وضعه له ، لما تبادر.
ولا یقال : کیف یکون علامة؟ مع توقفه على العلم بإنّه موضوع له ، کما هو واضح ، فلو کان العلم به موقوفاً علیه لدار.
فإنّه یقال : الموقوف علیه غیر الموقوف علیه ، فإن العلم التفصیلی ـ بکونه موضوعاً له ـ موقوف على التبادر ، وهو موقوف على العلم الإِجمالی الارتکازی به ، لا التفصیلی ، فلا دور. هذا إذا کان المراد به التبادر عند المستعلم ، وأما إذا کان المراد به التبادر عند أهل المحاورة ، فالتغایر أوضح من أن یخفى.
ثم إنّ هذا فیما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ ، وأما فیما احتمل استناده إلى قرینة ، فلا یجدی أصالة عدم القرینة فی إحراز کون الاستناد إلیه ، لا إلیها ـ کما قیل (1) ـ لعدم الدلیل على اعتبارها إلّا فی إحراز المراد ، لا الاستناد.
ثم إن عدم صحة سلب اللفظ ـ بمعناه المعلوم المرتکز فی الذهن إجمالاً کذلک ـ عن معنى تکون علامة کونه حقیقة فیه ، کما أن صحة سلبه عنه علامة کونه مجازاً فی الجملة.
والتفصیل : إن عدم صحة السلب عنه ، وصحة الحمل علیه بالحمل الأولی الذاتی ، الذی کان ملاکه الاتحاد مفهوماً ، علامة کونه نفس المعنى ، وبالحمل الشائع الصناعی ، الذی ملاکه الاتحاد وجوداً ، بنحو من أنحاء الاتحاد ، علامة کونه من مصادیقه وأفراده الحقیقیة (2). کما أن صحّة سلبه کذلک علامة إنّه لیس منها ، وأنّ لم نقل بأن إطلاقه علیه من باب المجاز فی الکلمة ، بل من باب الحقیقة ، وأنّ التصرف فیه فی أمر عقلی ، کما صار إلیه السکاکی (3).
واستعلام حال اللفظ ، وإنّه حقیقة أو مجاز فی هذا المعنى بهما ،
__________________
1 ـ قوانین الأصول / 13.
2 ـ فیما إذا کان المحمول والمحمول علیه کلیاً وفرداً ، لا فیما إذا کانا کلیین متساویین ، أو غیرهما ، کما لا یخفى. منه 1.
وفی نسخة « أ » لم یظهر کونه تعلیقاً بل الظاهر دخوله فی المتن.
3 ـ مفتاح العلوم / 156 ، الفصل الثالث فی الاستعارة.
أبو یعقوب یوسف بن أبی بکر بن محمد السکاکی الخوارزمی ، ولد سنة 555 ه کان علامة بارعاً فی فنون شتّى خصوصا المعانی والبیان ، وله کتاب « مفتاح العلوم » فیه إثنا عشر علما من علوم العربیة ، وله النصیب الوافر فی علم الکلام وسائر الفنون مات بخوارزم سنة 626 ه. ) بغیة الوعاة 2 / 364 رقم 2204 ).
لیس على وجه دائر ، لما عرفت فی التبادر من التغایر بین الموقوف والموقوف علیه ، بالإِجمال والتفصیل ، أو الاضافة إلى المستعلم والعالم ، فتأمّل جیداً.
ثم إنّه قد ذکر الاطراد وعدمه علامة للحقیقة والمجاز أیضاً ، ولعله بملاحظة نوع العلائق المذکورة فی المجازات ، حیث لا یطرد صحة استعمال اللفظ معها ، وإلاّ فبملاحظة خصوص ما یصحّ معه الاستعمال ، فالمجاز مطرد کالحقیقة ، وزیادة قید ( من غیر تأویل ) أو ( على وجه الحقیقة ) (1) ، وأنّ کان موجباً لاختصاص الاطراد کذلک بالحقیقة ، إلّا إنّه ـ حینئذ ـ لا یکون علامة لها إلّا على وجه دائر ، ولا یتأتىّ التفصی عن الدور بما ذکر فی التبادر هنا (2) ، ضرورة إنّه مع العلم بکون الاستعمال على نحو الحقیقة ، لا یبقى مجال لاستعلام (3) حال الاستعمال بالاطراد ، أو بغیره.
الثامن
إنّه للّفظ أحوال خمسة ، وهی : التجّوز ، والاشتراک ، والتخصیص ، والنقل ، والاضمار ، لا یکاد یصار إلى أحدها فیما إذا دار الأمر بینه وبین المعنى الحقیقی ، إلّا بقرینة صارفة عنه إلیه.
وأما إذا دار الأمر بینها ، ف الأصولیون ، وأنّ ذکروا لترجیح بعضها على بعضٍ وجوها ، إلّا إنّها استحسانیة ، لا اعتبارٍ بها ، إلّا إذا کانت موجبة لظهور اللفظ فی المعنى ، لعدم مساعدة دلیل على اعتبارها بدون ذلک ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ الزیادة من صاحب الفصول ، الفصول / 38 ، فصل فی علامة الحقیقة والمجاز.
2 ـ اشتباه من « أ ».
3 ـ فی « ب » : الاستعلام.
التاسع
إنّه اختلفوا فی ثبوت الحقیقة الشرعیة وعدمه على أقوال ، وقبل الخوض فی تحقیق الحال لا بأس بتمهید مقال ، وهو : أن الوضع التعیینی ، کما یحصل بالتصریح بإنشائه ، کذلک یحصل بإستعمال اللفظ فی غیر ما وضع له ، کما إذا وضع له ، بأن یقصد الحکایة عنه ، والدلالة علیه بنفسه لا بالقرینة ، وأنّ کان لا بدّ ـ حینئذ ـ من نصب قرینة ، إلّا إنّه للدلالة على ذلک ، لا على إرادة المعنى ، کما فی المجاز ، فافهم.
وکوُن إستعمال اللفظ فیه کذلک فی غیر ما وضع له ، بلا مراعاة ما اعتبر فی المجاز ، فلا یکون بحقیقة ولا مجاز ، غیر ضائر بعد ما کان مما یقبله الطبع ولا یستنکره ، وقد عرفت سابقاً (1) ، إنّه فی الاستعمالات الشایعة فی المحاورات ما لیس بحقیقة ولا مجاز.
إذا عرفت هذا ، فدعوى الوضع التعیینی فی الألفاظ المتداولة فی لسان الشارع هکذا قریبة جداً ، ومدعی القطع به غیر مجازف قطعاً ، ویدل علیه تبادر المعانی الشرعیة منها فی محاوراته ، ویؤیّد ذلک إنّه ربما لا یکون علاقة معتبرة بین المعانی الشرعیة واللغویة ، فأیّ علاقة بین الصلاة شرعاً والصلاة بمعنى الدعاء ، ومجرد إشتمال الصلاة على الدعاء لا یوجب ثبوت ما یعتبر من علاقة الجزء والکل بینهما ، کما لا یخفى. هذا کله بناءً على کون معانیها مستحدثة فی شرعنا.
وأما بناءً على کونها ثابتة فی الشرائع السابقة ، کما هو قضیة غیر واحد من الآیات ، مثل قوله تعالى ( کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ کَمَا کُتِبَ عَلَى الَّذِینَ مِن
__________________
1 ـ راجع صفحة 14 الأمر الرابع.
قَبْلِکُمْ ) (1) وقوله تعالى ( وَأَذِّن فِی النَّاسِ بِالْحَجِّ ) (2) وقوله تعالى ( وَأَوْصَانِی بِالصَّلَاةِ وَالزَّکَاةِ مَا دُمْتُ حَیًّا ) (3) إلى غیر ذلک ، فألفاظها حقائق لغویة ، لا شرعیة ، واختلاف الشرائع فیها جزءاً وشرطاً ، لا یوجب اختلافها فی الحقیقة والماهیة ؛ إذ لعله کان من قبیل الاختلاف فی المصادیق والمحققات ، کاختلافها بحسب الحالات فی شرعنا ، کما لا یخفى.
ثم لا یذهب علیک إنّه مع هذا الاحتمال ، لا مجال لدعوى الوثوق ـ فضلاً عن القطع ـ بکونها حقائق شرعیة ، ولا لتوهم دلالة الوجوه التی ذکروها على ثبوتها ، لو سلّم دلالتها على الثبوت لولاه.
ومنه قد (4) إنقدح حال دعوى الوضع التعیّنی معه ، ومع الغض عنه ، فالانصاف أن منع حصوله فی زمان الشارع فی لسإنّه ولسان تابعیه مکابرة ، نعم حصوله فی خصوص لسإنّه ممنوع ، فتأمل.
وأما الثمرة بین القولین ، فتظهر فی لزوم حمل الألفاظ الواقعة فی کلام الشارع بلا قرینة على معانیها اللغویة مع عدم الثبوت ، وعلى معانیها الشرعیة على الثبوت ، فیما إذا علم تأخر الاستعمال ، وفیما إذا جهل التاریخ ، ففیه إشکال ، وأصالة تأخر الاستعمال مع معارضتها بأصالة تأخر الوضع ، لا دلیل على اعتبارها تعبداً ، إلّا على القول بالأصل المثبت ، ولم یثبت بناءً من العقلاء على التأخر مع الشک ، وأصالة عدم النقل إنّما کانت معتبرة فیما إذا شک فی أصل النقل ، لا فی تأخره ، فتأمل.
__________________
1 ـ البقرة / 183.
2 ـ الحج / 27.
3 ـ مریم / 31.
4 ـ أثبتناه من « أ ».
العاشر
إنّه وقع الخلاف فی أن الفاظ العبادات ، أساٍم لخصوص الصحیحة أو للأعم منها؟ وقبل الخوض فی ذکر أدلة القولین ، یذکر أمور :
منها : إنّه لا شبهة فی تأتّی الخلاف ، على القول بثبوت الحقیقة الشرعیة ، وفی جریإنّه على القول بالعدم إشکال.
وغایة ما یمکن أن یقال فی تصویره : إن النزاع وقع ـ على هذا ـ فی أن الأصل فی هذه الألفاظ المستعملة مجازاً فی کلام الشارع ، هو استعمالها فی خصوص الصحیحة أو الأعم ، بمعنى أن أیّهما قد اعتبرت العلاقة بینه وبین المعانی اللغویة ابتداء ، وقد استعمل فی الآخر بتبعه ومناسبته ، کی ینزّل کلامه (1) علیه مع القرینة الصارفة عن المعانی اللغویة ، وعدم قرینة أُخرى معینة للآخر.
وأنت خبیر بإنّه لا یکاد یصحّ هذا ، إلّا إذا علم أن العلاقة إنّما اعتبرت کذلک ، وأنّ بناءً الشارع فی محاوراته ، استقر عند عدم نصب قرینة أُخرى على إرادته ، بحیث کان هذا قرینة علیه ، من غیر حاجة إلى قرینة معینة أُخرى ، وأنّى لهم بإثبات ذلک.
وقد انقدح بما ذکرنا تصویر النزاع ـ على ما نسب (2) إلى الباقلانی (3) ،
__________________
1 ـ فی « أ » : تقدیم ( علیه ) على ( کلامه ).
2 ـ نسبه ابن الحاجب والعضدی : راجع شرح العضدی على مختصر الأصول : 1 / 51 ـ 52.
3 ـ هو القاضی أبو بکر محمد بن الطیب البصری البغدادی المالکی الأصولی المتکلم کان مشهوراً بالمناظرة وسرعة الجواب توفی سنة 403 ه ببغداد ، ( الکنى والالقاب : 2 / 55 والعِبر فی خبر من غبر : 2 / 207 ).
وذلک بأن یکون النزاع ، فی أن قضیة القرینة المضبوطة التی لا یتعدى عنها إلّا بالاخرى ـ الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه ـ هو تمام الإِجزاء والشرائط ، أو هما فی الجملة ، فلا تغفل.
ومنها : أن الظاهر أن الصحة عند الکلّ بمعنى واحد ، وهو التمامیة ، وتفسیرها بإسقاط القضاء ـ کما عن الفقهاء ـ أو بموافقة الشریعة ـ کما عن المتکلمین ـ أو غیر ذلک ، إنّما هو بالمهم من لوازمها ؛ لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الأنظار ، وهذا لا یوجب تعدَّد المعنى ، کما لا یوجبه اختلافها بحسب الحالات من السفر ، والحضر ، والاختیار ، والاضطرار إلى غیر ذلک ، کما لا یخفى.
ومنه ینقدح أن الصحة والفساد أمراًن إضافیان ، فیختلف شیء واحد صحة وفسادا بحسب الحالات ، فیکون تاماً بحسب حالة ، وفاسداً بحسب أُخرى ، فتدبرّ جیداً.
ومنها : إنّه لابد ـ على کلاّ القولین ـ من قدر جامع فی البین ، کان هو المسمى بلفظ کذا ، ولا إشکال فی وجوده بین الأفراد الصحیحة ، وإمکان الإِشارة إلیه بخواصه وآثاره ، فإن الاشتراک فی الأثر کاشف عن الاشتراک فی جامع واحد ، یؤثر الکلّ فیه بذاک الجامع ، فیصحّ تصویر المسمى بلفظ الصلاة مثلاً : بالناهیة عن الفحشاء ، وما هو معراج المؤمن ، ونحوهما.
والإشکال فیه (1) ـ بأن الجامع لا یکاد یکون أمراً مرکباً ، إذ کلّ ما فرض جامعاً ، یمکن أن یکون صحیحاً وفاسداً ؛ لما عرفت ، ولا أمراً بسیطاً ، لإنّه لا یخلو : امّا أن یکون هو عنوان المطلوب ، أو ملزوما مساویاً له ، والأول غیر معقول ، لبداهة استحالة أخذ ما لا یتأتّى إلّا من قبل الطلب فی متعلقه ،
__________________
1 ـ الإِشکال من صاحب التقریرات ، مطارح الأنظار / 6.
مع لزوم الترادف بین لفظة الصلاة والمطلوب ، وعدم جریان البراءة مع الشک فی أجزاء العبادات وشرائطها ، لعدم الإِجمال ـ حینئذ ـ فی المأمور به فیها ، وإنما الإِجمال فیما یتحقق به ، وفی مثله لا مجال لها ، کما حقق فی محله ، مع أن المشهور القائلین بالصحیح ، قائلون بها فی الشک فیها ، وبهذا یشکل لو کان البسیط هو ملزوم المطلوب أیضاً ـ مدفوع ، بأن الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المرکبات المختلفة زیادة ونقیصة بحسب إختلاف الحالات ، متحد معها نحو إتحاد ، وفی مثله تجری البراءة ، وإنما لا تجری فیما إذا کان المأمور به أمراً واحداً خارجیاً ، مسبباً عن مرکب مردد بین الأقلّ والأکثر ، کالطهارة المسببة عن الغسل والوضوء فیما إذا شک فی أجزائهما ، هذا على الصحیح.
وأما على الأعم ، فتصویر الجامع فی غایة الإِشکال ، فما قیل فی تصویره أو یقال : وجوه (1) :
أحدها (2) : أن یکون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة ، کالأرکان فی الصلاة مثلاً ، وکان الزائد علیها معتبراً فی المأمور به لا فی المسمىّ.
وفیه ما لا یخفى ، فإن التسمیة بها حقیقة لا تدور مدارها ، ضرورة صدق الصلاة مع الإِخلال ببعض الأرکان ، بل وعدم الصدق علیها مع الإِخلال بسائر الإِجزاء والشرائط عند الأعمی ، مع إنّه یلزم أن یکون الاستعمال فیما هو المأمور به ـ بأجزائه وشرائطه ـ مجازاً عنده ، وکان من باب إستعمال اللفظ الموضوع للجزء فی الکلّ ، لا من باب إطلاق الکلّی على الفرد والجزئی ، کما هو واضح ، ولا یلتزم به القائل بالأعم ، فافهم.
__________________
1 ـ راجع القوانین / 40 فی الصحیح والأعم ، ومطارح الأنظار / 7 فی الصحیح والأعم ، والفصول / 46.
2 ـ هذا ما یظهر من صاحب القوانین ، القوانین 1 / 44 فی الصحیح والأعم.
ثانیها : أن تکون موضوعة لمعظم الإِجزاء التی تدور مدارها التسمیة عرفاً ، فصدق الاسم کذلک یکشف عن وجود المسمى ، وعدم صدقه عن عدمه.
وفیه ـ مضافاً إلى ما أورد على الأوّل أخیراً ـ إنّه علیه یتبادل ما هو المعتبر فی المسمى ، فکان شیء واحد داخلاً فیه تارةً ، و خارجاً عنه أُخرى ، بل مردداً بین أن یکون هو الخارج أو غیره عند إجتماع تمام الإِجزاء ، وهو کما ترى ، سیمّا إذا لوحظ هذا مع ما علیه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.
ثالثها : أن یکون وضعها کوضع الأعلام الشخصیة ک ( زید ) فکما لا یضر فی التسمیة فیها تبادل الحالات المختلفة من الصغر والکبر ، ونقص بعضٍ الإِجزاء وزیادته ، کذلک فیها.
وفیه : أن الأعلام إنّما تکون موضوعة للاشخاص ، والتشخص إنّما یکون بالوجود الخاص ، ویکون الشخص حقیقة باقیاً ما دام وجوده باقیاً ، وأنّ تغیرت عوارضه من الزیادة والنقصان ، وغیرهما من الحالات والکیفیات ، فکما لا یضّر اختلافها فی التشخص ، لا یضّر اختلافها فی التسمیة ، وهذا بخلاف مثل ألفاظ العبادات مما کانت موضوعة للمرکبات والمقیدات ، ولا یکاد یکون موضوعاً له ، إلّا ما کان جامعاً لشتاتها وحاویاّ لمتفرقاتها ، کما عرفت فی الصحیح منها.
رابعها : إن ما وضعت له الألفاظ إبتداءً هو الصحیح التام الواجد لتمام الإِجزاء والشرائط ، إلّا أن العرف یتسامحون ـ کما هو دیدنهم ـ ویطلقون تلک الألفاظ على الفاقد للبعض ، تنزیلاً له منزلة الواجد ، فلا یکون مجازاً فی الکلمة ـ على ما ذهب إلیه السکاکی (1) فی الاستعارة ـ بل یمکن دعوى
__________________
1 ـ مفتاح العلوم / 156 ، الفصل الثالث فی الاستعارة.
صیرورته حقیقة فیه ، بعد الاستعمال فیه کذلک دفعة أو دفعات ، من دون حاجة إلى الکثرة والشهرة ، للأنس الحاصل من جهة المشابهة فی الصورة ، أو المشارکة فی التأثیر ، کما فی أسامی المعاجین الموضوعة ابتداءً لخصوص مرکبات واجدة لاجزاء خاصة ، حیث یصحّ إطلاقها على الفاقد لبعض الإِجزاء المشابه له صورة ، والمشارک فی المهمّ أثرا ، تنزیلاً أو حقیقة.
وفیه : إنّه إنّما یتم فی مثل أسامی المعاجین ، وسائر المرکبات الخارجیة مما یکون الموضوع له (1) فیها ابتداءً مرکباً ، خاصاً ، ولا یکاد یتم فی مثل العبادات ، التی عرفت أن الصحیح منها یختلف حسب إختلاف الحالات ، وکون الصحیح بحسب حالة فاسداً (2) بحسب حالة أُخرى ، کما لا یخفى ، فتأمل جیداً.
خامسها : أن یکون حالها حال أسامی المقادیر والأوزان ، مثل المثقال ، والحقة ، والوزنة إلى غیر ذلک ، مما لا شبهة فی کونها حقیقة فی الزائد والناقص فی الجملة ، فإن الواضع وأنّ لاحظ مقداراً خاصاً ، إلّا إنّه لم یضع له بخصوصه ، بل للأعم منه ومن الزائد والناقص ، أو إنّه وأنّ خص به أولاً ، إلّا إنّه بالاستعمال کثیراً فیهما بعنایة إنّهما منه ، قد صار حقیقة فی الأعم ثانیاً.
وفیه : إن الصحیح ـ کما عرفت فی الوجه السابق ـ یختلف زیادة ونقیصة ، فلا یکون هناک ما یلحظ الزائد والناقص بالقیاس علیه ، کی یوضع اللفظ لما هو الأعم ، فتدبرّ جیداً.
ومنها : ان الظاهر أن یکون الوضع والموضوع له ـ فی ألفاظ العبادات ـ عامین ، واحتمال کون الموضوع له خاصاً بعید جداً ، لاستلزامه کون
__________________
1 ـ فی « ب » : الموضوع فیها.
2 ـ فی « أ و ب » : فاسد.
استعمالها فی الجامع ، فی مثل : ( الصلاة تنهى عن الفحشاء ) و ( الصلاة معراج المؤمن ) و [ ( عمود الدین ) ] (1) و ( الصوم جنة من النار ) مجازاً ، أو منع استعمالها فیه فی مثلها ، وکل منهما بعید إلى الغایة ، کما لا یخفى على أولی النهایة.
ومنها : أن ثمرة النزاع إجمال الخطاب على القول (2) الصحیحی ، وعدم جواز الرجوع إلى إطلاقه ، فی رفع ما إذا شک فی جزئیة شیء للمأمور به أو شرطیته أصلاً ، لاحتمال دخوله فی المسمى ، کما لا یخفى ، وجواز الرجوع إلیه فی ذلک على القول الأعمی ، فی غیر ما إحتمل دخوله فیه ، مما شک فی جزئیته أو شرطیته ، نعم لا بدّ فی الرجوع إلیه فیما ذکر من کونه وارداً مورد البیان ، کما لا بدّ منه فی الرجوع إلى سائر المطلقات ، وبدونه لا مرجع أیضاً إلّا البراءة أو الإِشتغال ، على الخلاف فی مسألة دوران الأمر بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین.
وقد إنقدح بذلک : إن الرجوع إلى البراءة أو الإِشتغال فی موارد إجمال الخطاب أو إهماله على القولین ، فلا وجه لجعل الثمرة هو الرجوع إلى البراءة على الأعم ، والاشتغال على الصحیح (3) ، ولذا ذهب المشهور إلى البراءة ، مع ذهابهم إلى الصحیح.
وربما قیل (4) بظهور الثمرة فی النذر أیضاً.
قلت : وأنّ کان تظهر فیما لو نذر لمن صلّى إعطاء درهم فی البرء فیما لو أعطاه لمن صلّى ، ولو علم بفساد صلاته ، لاخلاله بما لا یعتبر فی الاسم على الأعم ، وعدم البرء على الصحیح ، إلّا إنّه لیس بثمرة لمثل هذه
__________________
1 ـ أثبتناها من ( ب ).
2 ـ وفی النسخ : القول.
3 ـ القوانین 1 / 40 ، مبحث الصحیح والأعم.
4 ـ القوانین 1 / 43 ، مبحث الصحیح والأعم.
المسألة ، لما عرفت من أن ثمرة المسألة الأصولیة ، هی أن تکون نتیجتها واقعة فی طریق استنباط الأحکام الفرعیة ، فافهم.
وکیف کان ، فقد استدل للصحیحی بوجوده :
أحدها : التبادر ، ودعوى أن المنسبق إلى الأذهان منها هو الصحیح ، ولا منافاة بین دعوى ذلک ، وبین کون الألفاظ على هذا القول مجملات ، فإن المنافاة إنّما تکون فیما إذا لم تکن معانیها على هذا مبینة بوجه ، وقد عرفت کونها مبینة بغیر وجه.
ثانیها : صحة السلب عن الفاسد ، بسبب الإِخلال ببعض أجزائه ، أو شرائطه بالمداقة ، وأنّ صحّ الإِطلاق علیه بالعنایة.
ثالثها : الإخبار الظاهرة فی إثبات بعضٍ الخواص والآثار للمسمّیات مثل ( الصلاة عمود الدین ) (1) أو ( معراج المؤمن ) (2) و ( الصوم جنة من النار ) (3) إلى غیر ذلک ، أو نفی ماهیّتها وطبائعها ، مثل ( لا صلاة إلّا بفاتحة الکتاب ) (4) ونحوه ، مما کان ظاهراً فی نفی الحقیقة ، بمجرد فقد ما یعتبر فی الصحة شطراً أو شرطاً ، وإرادةُ خصوص الصحیح من الطائفة الأولى ، ونفی الصحة من الثانیة ؛ لشیوع إستعمال هذا الترکیب فی نفی مثل الصحة أو الکمال خلاف الظاهر ، لا یصار إلیه مع عدم نصب قرینة علیه ، واستعمال هذا الترکیب فی نفی الصفة ممکن المنع ، حتى فی مثل ( لا صلاة لجار المسجد إلّا فی المسجد ) (5) مما یعلم أن المراد نفی الکمال ، بدعوى استعماله
__________________
1 ـ دعائم الاسلام 1 : 133 ، جامع الإخبار / 85 ، الکافی 3 / 99 باب النفساء الحدیث 4 غوالی اللآلی 1 / 322 الحدیث 55.
2 ـ لم نجده فی کتب الحدیث ، ولکن أورده فی جواهر الکلام 7 / 2.
3 ـ الفقیه 2 / 44 باب فضل الصیام ، الحدیث 1 و 5 ، الکافی 4 / 62 باب ما جاء فی فضل الصوم والصائم الحدیث 1.
4 ـ غوالی اللآلی 1 : 196 ، الحدیث 2 وغوالی اللآلی 2 : 218 الحدیث 13.
5 ـ دعائم الاسلام 1 : 148 ، التهذیب 3 : 261 باب 25 فضل المساجد والصلاة فیها ،
فی نفی الحقیقة ، فی مثله أیضاً بنحو من العنایة ، لا على الحقیقة ، وإلاّ لما دلّ على المبالغة ، فافهم (1).
رابعها : دعوى القطع بأن طریقة الواضعین ودیدنهم ، وضع الألفاظ للمرکبات التامة ، کما هو قضیة الحکمة الداعیة إلیه ، والحاجة وأنّ دعت أحیاناً إلى إستعمالها فی الناقص أیضاً ، إلّا إنّه لا یقتضی أن یکون بنحو الحقیقة ، بل ولو کان مسامحة ، تنزیلاً للفاقد منزلة الواجد.
والظاهر أن الشارع غیر متخط عن هذه الطریقة.
ولا یخفى أن هذه الدعوى وأنّ کانت غیر بعیدة ، إلّا إنّها قابلة للمنع ، فتأمل.
وقد إستدل للأعمّی أیضاً ، بوجوه :
منها : تبادر الأعم.
وفیه : إنّه قد عرفت الإِشکال فی تصویر الجامع الذی لا بدّ منه ، فکیف یصحّ معه دعوى التبادر.
ومنها : عدم صحة السلب عن الفاسد.
وفیه منع ، لما عرفت.
ومنها : صحة التقسیم إلى الصحیح والسقیم.
وفیه إنّه إنّما یشهد على إنّها للأعم ، لو لم تکن هناک دلالة على کونها موضوعة للصحیح ، وقد عرفتها ، فلا بدّ أن یکون التقسیم بملاحظة ما یستعمل فیه اللفظ ، ولو بالعنایة.
__________________
الحدیث 55 وسائل الشیعة 3 / 478 الباب 2 من أبواب أحکام المساجد ، الحدیث 1.
1 ـ إشارة إلى أن الإخبار المثبتة للآثار وأنّ کانت ظاهرة فی ذلک ـ لمکان أصالة الحقیقة ، ولازم ذلک کون الموضوع له للاسماء هو الصحیح ، ضرورة اختصاص تلک الآثار به ـ إلّا إنّه لا یثبت بأصالتها کما لا یخفى ، لاجرائها العقلاء فی إثبات المراد ، لا فی إنّه على نحو الحقیقة لا المجاز ، فتأمّل جیداً ، منه 1.
ومنها : استعمال الصلاة وغیرها فی غیر واحد من الإخبار فی الفاسدة ، کقوله علیه الصلاة والسلام ( بنی الاسلام على خمس : الصلاة ، والزکاة ، والحج ، والصوم ، والولایة ، ولم یناد أحد بشیء کما نودی بالولایة ، فأخذ الناس بأربع ، وترکوا هذه ، فلو أن أحداً صام نهاره وقام لیله ، ومات بغیر ولایة ، لم یقبل له صوم ولا صلاة ) (1) ، فإن الأخذ بالاربع ، لا یکون بناءً على بطلان عبادات تارکی الولایة ، إلّا إذا کانت أسامی للاعم. وقوله 7 : ( دعی الصلاة أیام أقرائک ) (2) ضرورة إنّه لو لم یکن المراد منها الفاسدة ، لزم عدم صحة النهی عنها ، لعدم قدرة الحائض على الصحیحة منها.
وفیه : أن الاستعمال أعم من الحقیقة ،
مع أن المراد فی الروایة الأولى ، هو خصوص الصحیح بقرینة إنّها مما بنی علیها الإسلام ، ولا ینافی ذلک بطلان عبادة منکری الولایة ، إذ لعل أخذهم بها إنّما کان بحسب اعتقادهم لا حقیقة ، وذلک لا یقتضی استعمالها فی الفاسد أو الأعم ، والاستعمال فی قوله : ( فلو أن أحداً صام نهاره ) [ إلى آخره ] (3) ، کان کذلک ـ أیّ بحسب اعتقادهم ـ أو للمشابهة والمشاکلة.
وفی الروایة الثانیة ، الإِرشاد (4) إلى عدم القدرة على الصلاة ، وإلاّ کان الإِتیان بالأرکان ، وسائر ما یعتبر فی الصلاة ، بل بما یسمى فی العرف بها ،
__________________
1 ـ الکافی 2 / 15 باب 13 دعائم الاسلام ـ الخصال / 277 باب الخمسة ، الحدیث 21 غوالی اللآلی 1 / 82 ، الفصل الخامس ، الحدیث 4.
2 ـ التهذیب 1 / 384 باب 19 الحیض والاستحاضة والنفاس ، الحدیث 6 ـ الکافی 3 / 88 باب جامع فی الحائض والمستحاضة الحدیث 1. غوالی اللآلی 2 / 207 باب الطهارة الحدیث 124.
3 ـ أثبتنا هذه العبارة من « ب ».
4 ـ وفی بعضٍ النسخ المطبوعة ( النهی للإِرشاد ).
ولو أخلّ بما لا یضر الإِخلال به بالتسمیة عرفاً. محرماً على الحائض ذاتاً ، وأنّ لم تقصد به القربة.
ولا أظن أن یلتزم به المستدل بالروایة ، فتأمل جیداً.
ومنها : إنّه لااشکال (1) فی صحة تعلق النذر وشبهه بترک الصلاة فی مکان تکره فیه. وحصول الحنث بفعلها ، ولو کانت الصلاة المنذور ترکها خصوص الصحیحة ، لا یکاد یحصل به الحنث أصلاً ، لفساد الصلاة المأتیّ بها لحرمتها ، کما لا یخفى ، بل یلزم المحال ، فإن النذر حسب الفرض قد تعلق بالصحیح منها ، ولا یکاد یکون معه صحیحة ، وما یلزم من فرض وجوده عدمه محال.
قلت : لا یخفى إنّه لو صحّ ذلک ، لا یقتضی إلّا عدم صحة تعلق النذر بالصحیح ، لا عدم وضع اللفظ له شرعاً ، مع أن الفساد من قبل النذر لا ینافی صحة متعلقة ، فلا یلزم من فرض وجودها عدمها.
ومن هنا إنقدح أن حصول الحنث إنّما یکون لأجل الصحة ، لولا تعلقه ، نعم لو فرض تعلقه بترک الصلاة المطلوبة بالفعل (2) ، لکان منع حصول الحنث بفعلها بمکان من الأمکان.
بقی اُمور :
الأول : إن أسامی المعاملات ، إن کانت موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع فی کونها موضوعة للصحیحة أو للأعم ، لعدم إتصافها بهما ، کما لا یخفى ، بل بالوجود تارةً وبالعدم أُخرى ، وأما إن کانت موضوعة للاسباب ،
__________________
1 ـ فی نسخة « أ » : لا شبهة.
2 ـ ولو مع النذر ، ولکن صحته کذلک مشکل ، لعدم کون الصلاة معه صحیحة مطلوبة ، فتأمل جیداً. منه [ 1].
فللنزاع فیه مجال ، لکنه لا یبعد دعوى کونها موضوعة للصحیحة أیضاً ، وأنّ الموضوع له هو العقد المؤثر لأثر کذا شرعاً وعرفاً. والاختلاف بین الشرع والعرف فیما یعتبر فی تأثیر العقد ، لا یوجب الاختلاف بینهما فی المعنى ، بل الاختلاف فی المحققات والمصادیق ، وتخطئة الشرع العرف فی تخیّل کون العقد بدون ما اعتبره فی تأثیره ، محققاً لما هو المؤثر ، کما لا یخفى فافهم.
الثانی : إن کون ألفاظ المعاملات أسامی للصحیحة ، لا یوجب إجمالها ، کألفاظ العبادات ، کی لا یصحّ التمسک بإطلاقها عند الشک فی اعتبارٍ شیء فی تأثیرها (1) شرعاً ، وذلک لأن إطلاقها ـ لو کان مسوقاً فی مقام البیان ـ ینزّل على أن المؤثر عند الشارع ، هو المؤثر عند أهل العرف ، ولم یعتبر فی تأثیره عنده غیر ما اعتبر فیه عندهم ، کما ینزّل علیه إطلاق کلام غیره ، حیث إنّه منهم ، ولو اعتبر فی تأثیره ما شک فی اعتباره ، کان علیه البیان ونصب القرینة علیه ، وحیث لم ینصب ، بانَ عدم اعتباره عنده أیضاً. ولذا یتمسکون بالإِطلاق فی أبواب المعاملات ، مع ذهابهم إلى کون ألفاظها موضوعة للصحیح.
نعم لو شک فی اعتبارٍ شیء فیها عرفاً ، فلا مجال للتمسک بإطلاقها فی عدم اعتباره ، بل لابد من اعتباره ، لاصالة عدم الأثر بدونه ، فتأمل جیداً.
الثالث : إنّ دخل شیء وجودی أو عدمی فی المأمور به :
تارة : بأن یکون داخلاً فیما یأتلف منه ومن غیره ، وجعل جملته متعلقاً للأمر ، فیکون جزءا له وداخلاً فی قوامه.
وأخرى : بأن یکون خارجاً عنه ، لکنه کان مما لا یحصل الخصوصیة
المأخوذة فیه بدونه ، کما إذا اُخذ شیء مسبوقاً أو ملحوقاً به أو مقارناً له ، متعلقاً للأمر ، فیکون من مقدماته لا مقوماته.
وثالثة : بأن یکون مما یتشخص به المأمور به ، بحیث یصدق على المتشخص به عنوإنّه ، وربما یحصل له بسببه مزیة أو نقیصة ، ودخل هذا فیه أیضاً ، طوراً بنحو الشطرّیة وآخر بنحو الشرطیّة ، فیکون الإِخلال بما له دخل بأحد النحوین فی حقیقة المأمور به وماهیته ، موجباً لفساده لا محالة ، بخلاف ماله الدخل فی تشخصه وتحققه مطلقاً. شطراً کان أو شرطاً ، حیث لا یکون الإِخلال به إلّا إخلالاً بتلک الخصوصیة ، مع تحقق الماهیة بخصوصیة أُخرى ، غیر موجبة لتلک المزیة ، بل کانت موجبة لنقصإنّها ، کما أشرنا إلیه ، کالصلاة فی الحمام.
ثم إنّه ربما یکون الشیء مما یندب إلیه فیه ، بلا دخل له أصلاً ـ لا شطراً ولا شرطاً ـ فی حقیقته ، ولا فی خصوصیته وتشخصه ، بل له دخل ظرفاً فی مطلوبیّته ، بحیث لا یکون مطلوباً إلّا إذا وقع فی أثنائه ، فیکون مطلوباً نفسیاً فی واجب أو مستحب ، کما إذا کان مطلوباً کذلک ، قبل أحدهما أو بعده ، فلا یکون الإِخلال به موجباً للاخلال به ماهیة ولا تشخصاً وخصوصیة أصلاً.
إذا عرفت هذا کله ، فلا شبهة فی عدم دخل ما ندب إلیه فی العبادات نفسیاً فی التسمیة بأسامیها ، وکذا فیما له دخل فی تشخصها مطلقاً ، وأما ماله الدخل شرطاً فی أصل ماهیتها ، فیمکن الذهاب أیضاً إلى عدم دخله فی التسمیة بها ، مع الذهاب إلى دخل ما له الدخل جزءاً فیها ، فیکون الإِخلال بالجزء مخلاً بها ، دون الإِخلال بالشرط ، لکنک عرفت أن الصحیح اعتبارهما فیها.
الحادی عشر
الحق وقوع الاشتراک ، للنقل والتبادر ، وعدم صحة السلب ، بالنسبة إلى معنیین أو أکثر للفظ واحد. وأنّ أحاله بعضٍ ، لإخلاله بالتفهم المقصود من الوضع لخفاء القرائن ، لمنع الإِخلال أولاً ، لإمکان الاتکال على القرائن الواضحة ، ومنع کونه مخلاً بالحکمة ثانیاً ، لتعلق الغرض بالإِجمال أحیاناً ، کما أن استعمال المشترک فی القرآن لیس بمحال کما توهّم ، لأجل لزوم التطویل بلا طائل ، مع الاتکال على القرائن والإِجمال فی المقال ، لو لا الاتکال علیها. وکلاهما غیر لائق بکلامه تعالى جل شإنّه ، کما لا یخفى ، وذلک لعدم لزوم التطویل ، فیما کان الاتکال على حال أو مقال أتی به لغرض آخر ، ومنع کون الإِجمال غیر لائق بکلامه تعالى ، مع کونه مما یتعلق به الغرض ، وإلاّ لما وقع المشتبه فی کلامه ، وقد أخبر فی کتابه الکریم (1) ، بوقوعه فیه قال الله تعالى ( مِنْهُ آیَاتٌ مُّحْکَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (2).
وربما توهّم وجوب وقوع الاشتراک فی اللغات ، لأجل عدم تناهی المعانی ، وتناهی الألفاظ المرکبات ، فلا بدّ من الاشتراک فیها.
وهو فاسد لوضوح (3) امتناع الاشتراک فی هذه المعانی ، لاستدعائه الأوضاع الغیر المتناهیة ، ولو سلّم لم یکد یجدی إلّا فی مقدار متناه ، مضافاً إلى تناهی المعانی الکلیة ، وجزئیاتها وأنّ کانت غیر متناهیة ، إلّا أن وضع الألفاظ بإزاء کلیاتها ، یغنىً عن وضع لفظ بإزائها ، کما لا یخفى ، مع أن المجاز باب واسع ، فافهم.
__________________
1 ـ لا توجد کلمة « الکریم » فی نسخة ( أ ).
2 ـ آل عمران / 7.
3 ـ فی « ب » : بوضوح.
الثانی عشر
إنّه قد اختلفو فی جواز استعمال اللفظ ، فی أکثر من معنى على سبیل الانفراد والاستقلال ، بأن یراد منه کلّ واحد ، کما إذا لم یستعمل إلّا فیه ، على أقوال (1) :
أظهرها عدم جواز الاستعمال فی الأکثر عقلاً.
وبیإنّه : إن حقیقة الاستعمال لیس مجرد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى ، بل جعله وجهاً وعنواناً له ، بل بوجه نفسه کإنّه الملقى ، ولذا یسری إلیه قبحه وحسنه کما لا یخفى ، ولا یکاد یمکن جعل اللفظ کذلک ، إلّا لمعنى واحد ، ضرورة أن لحاظه هکذا فی إرادة معنى ، ینافی لحاظه کذلک فی إرادة الآخر ، حیث أن لحاظه کذلک ، لا یکاد یکون إلّا بتبع لحاظ المعنى فانیاً فیه ، فناء الوجه فی ذی الوجه ، والعنوان فی المعنون ، ومعه کیف یمکن إرادة معنى آخر معه کذلک فی استعمال واحد ، ومع استلزامه للحاظ آخر غیر لحاظه کذلک فی هذا الحال.
وبالجملة (2) : لا یکاد یمکن فی حال استعمال واحد ، لحاظه وجهاً لمعنیین وفانیاً فی الاثنین ، إلّا أن یکون اللاحظ أحول العینین.
فانقدح بذلک امتناع استعمال اللفظ مطلقاً ـ مفرداً کان أو غیره ـ فی أکثر من معنى بنحو الحقیقة أو المجاز ، ولو لا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه فإن اعتبارٍ الوحدة فی الموضوع له واضح المنع.
وکون (3) الوضع فی حال وحدة المعنى ، وتوقیفیته لا یقتضی عدم
__________________
1 ـ القوانین 1 / 67 ، فی بیان الاشتراک ، معالم الدین فی الأصول / 32.
2 ـ فی « أ » : وفی الجملة.
3 ـ هذا ردّ على المحقق القمی ، القوانین 1 / 67.
الجواز ، بعد ما لم تکن الوحدة قیداً للوضع ، ولا للموضوع له ، کما لا یخفى.
ثم لو تنزلنا عن ذلک ، فلا وجه للتفصیل (1) بالجواز على نحو الحقیقة فی التثنیة والجمع ، وعلى نحو المجاز فی المفرد ، مستدلا على کونه بنحو الحقیقة فیهما ، لکونهما بمنزلة تکرار اللفظ وبنحو المجاز فیه ، لکونه موضوعاً للمعنى بقید الوحدة ، فإذا استعمل فی الأکثر لزم إلغاء قید الوحدة ، فیکون مستعملاً فی جزء المعنى ، بعلاقة الکلّ والجزء ، فیکون مجازاً ، وذلک لوضوح أن الألفاظ لا تکون موضوعة إلّا لنفس المعانی ، بلا ملاحظة قید الوحدة ، وإلاّ لما جاز الاستعمال فی الأکثر ؛ لأن الأکثر لیس جزء المقید بالوحدة ، بل یباینه مباینة الشیء بشرط شیء ، والشیء بشرط لا ، کما لا یخفى.
والتثنیة والجمع وأنّ کانا بمنزلة التکرار فی اللفظ ، إلّا أن الظاهر أن اللفظ فیهما کإنّه کررّ واُرید من کلّ لفظ فرد من أفراد معناه ، لا إنّه أُرید منه معنى من معانیه ، فإذا قیل مثلاً : ( جئنی بعینین ) أُرید فردان من العین الجاریة ، لا العین الجاریة والعین الباکیة ، والتثنیة والجمع فی الأعلام ، إنّما هو بتأویل المفرد إلى المسمى بها ، مع إنّه لو قیل بعدم التأویل ، وکفایة الاتحاد فی اللفظ ، فی استعمالهما حقیقة ، بحیث جاز إرادة عین جاریة وعین باکیة من تثنیِة العین حقیقة ، لما کان هذا من باب استعمال اللفظ فی الأکثر ، لأن هیئتهما إنّما تدلّ على إرادة المتعدد مما یراد من مفردهما ، فیکون استعمالهما وإرادة المتعدد من معانیه ، استعِمالهما فی معنى واحد ، کما إذا استعملا وأرید المتعدد من معنى واحد منهما ، کما لا یخفى.
نعم لو أُرید مثلاً من عینین ، فردان من الجاریة ، وفردان من الباکیة ، کان من استعمال العینین فی المعنیین ، إلّا أن حدیث التکرار لا یکاد یجدی فی ذلک أصلاً ، فإن فیه إلغاء قید الوحدة المعتبرة أیضاً ، ضرورة أن التثنیة
__________________
1 ـ المفصَّل هو صاحب المعالم ، معالم الدین / 32.
عنده إنّما یکون لمعنیین ، أو لفردین بقید الوحدة ، والفرق بینهما وبین المفرد إنّما یکون فی إنّه موضوع للطبیعة ، وهی موضوعة لفردین منها أو معنیین ، کما هو أوضح من أن یخفى.
وهم ودفع :
لعلک تتوهم أن الإخبار الدالّة على أن للقرآن بطوناً ـ سبعة أو سبعین ـ تدلّ على وقوع استعمال اللفظ فی أکثر من معنى واحد ، فضلاً عن جوازه ، ولکنک غفلت عن إنّه لا دلالة لها أصلاً على أن إرادتها کان من باب إرادة المعنى من اللفظ ، فلعله کان بارادتها فی أنفسها حال الاستعمال فی المعنى ، لا من اللفظ ، کما إذا استعمل فیها ، أو کان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فیه اللفظ ، وأنّ کان أفهامنا قاصرة عن إدراکها.
الثالث عشر
إنّه اختلفوا فی أن المشتق حقیقة فی خصوص ما تلبس بالمبدأ فی الحال ، أو فیما یعمه وما انقضى عنه على أقوال ، بعد الاتفاق على کونه مجازاً فیما یتلبس به فی الاستقبال ، وقبل الخوض فی المسألة ، وتفصیل الأقوال فیها ، وبیان الاستدلال علیها ، ینبغی تقدیم أمور :
أحدها : إن المراد بالمشتق هاهنا لیس مطلق المشتقات ، بل خصوص ما یجری منها على الذوات ، مما یکون مفهمومه منتزعا عن الذات ، بملاحظة اتصافها بالمبدأ ، واتحادها معه بنحو من الاتحاد ، کان بنحو الحلول أو الانتزاع أو الصدور والإیجاد (1) ، کأسماء الفاعلین والمفعولین والصفات المشبهات ، بل وصیغ المبالغة ، وأسماء الازمنة والأمکنة والآلات ، کما هو ظاهر العنوانات ، وصریح بعضٍ المحققین ، مع عدم صلاحیة ما یوجب
__________________
1 ـ وفی بعضٍ النسخ المطبوعة : أو الإیجاد.
اختصاص النزاع بالبعض إلّا التمثیل به ، وهو غیر صالح ، کما هو واضح.
فلا وجه لما زعمه بعضٍ الأجلّة (1) ، من الاختصاص باسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبهة وما یلحق بها ، وخروج سائر الصفات ، ولعل منشأه توهّم کون ما ذکره لکلّ منها من المعنى ، مما اتفق علیه الکلّ ، وهو کما ترى ، واختلاف انحاء التلبسات حسب تفاوت مبادىء المشتقات ، بحسب الفعلیة والشأنیة والصناعة والملکة ـ حسبما نشیر إلیه (2) ـ لا یوجب تفاوتاً فی المهمّ من محلّ النزاع ها هنا ، کما لا یخفى.
ثم إنّه لا یبعد أن یراد بالمشتق فی محلّ النزاع ، مطلق ما کان مفهومه ومعناه جاریاً على الذات ومنتزعاً عنها ، بملاحظة اتصافها بعرض أو عرضی ولو کان جامدا ، کالزوج والزوجة والرق والحّر.
وإن (3) أبیت إلّا عن اختصاص النزاع المعروف بالمشتق ، کما هو قضیة الجمود على ظاهر لفظه ، فهذا القسم من الجوامد أیضاً محلّ النزاع.کما یشهد به ما عن الأیضاًح (4) فی باب الرضاع ، فی مسألة من کانت له زوجتان کبیرتان ، أرضعتا زوجته الصغیرة ، ما هذا لفظه : « تحرم المرضعة الأولى والصغیرة مع الدخول ب [ إحدى ] (5) الکبیرتین [ بالإِجماع ] وأما المرضعة الأخرى (6) ففی تحریمها خلاف ، فاختار والدی المصنّف ; (7) وابن ادریس تحریمها لأن هذه یصدق علیها [ إنّها ] اُم زوجته ، لإنّه لا یشترط فی [ صدق ] المشتق بقاء [ المعنى ] المشتق منه فکذا (8)
__________________
1 ـ صاحب الفصول ، الفصول / 60 ، فی المشتق.
2 ـ إشارة إلى ما سیأتی من تفصیل الکلام فی الأمر الرابع صفحة : 43.
3 ـ فی « ب » : فإن أبیت.
4 ـ أیضاًح الفوائد 3 : 52 ، أحکام الرضاع.
5 ـ وردت الزیارات فی المصدر.
6 ـ فی الأیضاًح ( الأخیرة ) ، وفی النسخ ( الآخرة ).
7 ـ لم یوجد فی الأیضاًح.
8 ـ هکذا فی المصدر وفی النسخ ( هکذا هاهنا ).
هنا ) (1). وما عن المسالک (2) فی هذه المسألة ، من ابتناء الحکم فیها على الخلاف فی مسألة المشتق.
فعلیه کلّ ما کان مفهومه منتزعاً من الذات ، بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتیات ـ کانت عرضاً أو عرضیا ـ کالزوجیة والرّقیّة والحریة وغیرها من الاعتبارات والإضافات ، کان محلّ النزاع وأنّ کان جامداً ، وهذا بخلاف ما کان مفهومه منتزعاً عن مقام الذات والذاتیات ، فإنّه لا نزاع فی کونه حقیقة فی خصوص ما إذا کانت الذات باقیة بذاتیاتها.
ثانیها : قد عرفت إنّه لا وجه لتخصیص النزاع ببعض المشتقات الجاریة على الذوات ، إلّا إنّه ربما یشکل بعدم إمکان جریإنّه فی اسم الزمان ، لأن الذات فیه وهی الزمان بنفسه ینقضی وینصرم ، فکیف یمکن أن یقع النزاع فی أن الوصف الجاری علیه حقیقة فی خصوص المتلبس بالمبدأ فی الحال ، أو فیما یعم المتلبس به فی المضی؟
ویمکن حل الإِشکال بأن انحصار مفهوم عام بفرد ـ کما فی المقام ـ لا یوجب أن یکون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام ، وإلاّ لما وقع الخلاف فیما وضع له لفظ الجلالة ، مع أن الواجب موضوع للمفهوم العام ، مع انحصاره فیه تبارک وتعالى.
ثالثها : إنّه من الواضح خروج الأفعال والمصادر المزید فیها عن حریم النزاع ؛ لکونها غیر جاریة على الذوات ، ضرورة أن المصادر المزید فیها کالمجردة ، فی الدلالة على ما یتصف به الذوات ویقوم بها کما لا یخفى وأنّ الأفعال إنّما تدلّ على قیام للمبادئ بها قیام صدور أو حلول أو طلب فعلها أو ترکها منها ، على اختلافها.
إزاحة شبهة :
قد اشتهر فی ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان ، حتى أخذوا
__________________
1 ـ أیضاًح الفوائد 52:3 ، أحکام الرضاع.
2 ـ المالک 1 / 475، کتاب النکاح.
الاقتران بها فی تعریفه. وهو اشتباه ، ضرورة عدم دلالة الأمر ولا النهی علیه ، بل على إنشاءً طلب الفعل أو الترک ، غایة الأمر نفس الإِنشاء بهما فی الحال ، کما هو الحال فی الإخبار بالماضی أو المستقبل أو بغیرهما ، کما لا یخفى ، بل یمکن منع دلالة غیرهما من الأفعال على الزمان إلّا بالإِطلاق والإِسناد إلى الزمانیات ، وإلاّ لزم القول بالمجاز والتجرید ، عند الإِسناد إلى غیرها من نفس الزمان والمجردات.
نعم لا یبعد أن یکون لکلّ من الماضی والمضارع ـ بحسب المعنى ـ خصوصیة أُخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة ، فی الزمان الماضی فی الماضی ، وفی الحال أو الاستقبال فی المضارع ، فیما کان الفاعل من الزمانیات ، ویؤیده أن المضارع یکون مشترکا معنویاً بین الحال والاستقبال ، ولا معنى له إلّا أن یکون له خصوص معنى صحّ انطباقه على کلّ منهما ، إلّا إنّه یدلّ على مفهوم زمان یعمهما ، کما أن الجملة الاسمیة ک ( زید ضارب ) یکون لها معنى صحّ انطباقه على کلّ واحد من الأزمنة ، مع عدم دلالتها على واحد منها أصلاً ، فکانت الجملة الفعلیة مثلها.
وربما یؤید ذلک أن الزمان الماضی فی فعله ، وزمان الحال أو الاستقبال فی المضارع ، لا یکون ماضیاً أو مستقبلاً حقیقة لا محالة ، بل ربما یکون فی الماضی مستقبلاً حقیقة ، وفی المضارع ماضیاً کذلک ، وإنما یکون ماضیاً أو مستقبلاً فی فعلهما بالإضافة ، کما یظهر من مثل قوله : یجیئنی زید بعد عام ، وقد ضرب قبله بأیّام ، وقوله : ( جاء زید فی شهر کذا ، وهو یضرب فی ذلک الوقت ، أو فیما بعده مما مضى ) ، فتأمل جیداً.
ثم لا باس بصرف عنان الکلام إلى بیان ما به یمتاز الحرف عما عداه ، بما یناسب المقام ؛ لأجل الاطراد فی الاستطراد فی تمام الأقسام.
فاعلم إنّه وأنّ اشتهر بین الأعلام ، أن الحرف ما دلّ على معنى فی
غیره ، وقد بینّاًه فی الفوائد (1) بما لا مزید علیه ، إلّا أنک عرفت فیما تقدم (2) ، عدم الفرق بینه وبین الاسم بحسب المعنى ، وإنّه فیهما ما (3) لم یلحظ فیه الاستقلال بالمفهومیة ، ولا عدم الاستقلال بها ، وإنما الفرق هو إنّه وضع لیستعمل واُرید منه معناه حالة لغیره وبما هو فی الغیر ، ووضع غیره لیستعمل واُرید منه معناه بما هو هو.
وعلیه یکون کلّ من الاستقلال بالمفهومیة ، وعدم الاستقلال بها ، إنّما اعتبر فی جانب الاستعمال ، لا فی المستعمل فیه ، لیکون بینهما تفاوت بحسب المعنى ، فلفظ ( الابتداء ) لو استعمل فی المعنى الآلی ، ولفظة ( من ) فی المعنى الاستقلالی ، لما کان مجازاً واستعمالاً له فی غیر ما وضع له ، وأنّ کان بغیر ما وضع له ، فالمعنى فی کلیهما فی نفسه کلّی طبیعی یصدق على کثیرین ، ومقیداً باللحاظ الاستقلالی أو الآلی کلّی (4) عقلی ، وأنّ کان بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهنا کان جزئیا ذهنیاً ، فإن الشیء ما لم یتشخص لم یوجد ، وأنّ کان بالوجود الذهنی ، فافهم وتأملّ فیما وقع فی المقام من الأعلام ، من الخلط والاشتباه ، وتوهمّ کون الموضوع له أو المستعمل فیه فی الحروف خاصاً ، بخلاف ما عداه فإنّه عام.
ولیت شعری إن کان قصد الآلیة فیها موجباً لکون المعنى جزئیاً ، فلم لا یکون قصد الاستقلالیة فیه موجباً له؟ وهل یکون ذلک إلّا لکون هذا القصد ، لیس مما یعتبر فی الموضوع له ، ولا المستعمل فیه بل فی الاستعمال ، فلم لا یکون فیها کذلک؟ کیف ، وإلاّ لزم أن یکون معانی المتعلقات غیر منطبقة على الجزئیات الخارجیة ؛ لکونها على هذا کلیات
__________________
1 ـ حاشیة کتاب فرائد الأصول ، کتاب الفوائد / 305.
2 ـ الأمر الثّانی من المقدمة ص 11.
3 ـ لم توجد «ما» فی بعضٍ النسخ المطبوعة
4 ـ فی ( أ ) : الآلی الکلی کلی ...
عقلیة ، والکلّی العقلی لا موطن له إلّا الذهن ، فالسیر والبصرة والکوفة (1) ، فی ( سرت من البصرة إلى الکوفة ) (2) لا یکاد یصدق على السیر والبصرة والکوفة (3) ، لتقیّدها بما اعتبر فیه القصد فتصیر عقلیة ، فیستحیل انطباقها على الأمور الخارجیة.
وبما حققناه (4) یوفق بین جزئیة المعنى الحرفی بل الاسمی ، والصدق على الکثیرین (5) ، وأنّ الجزئیة باعتبار تقیّد المعنى باللحاظ فی موارد الإستعمالات آلیاً أو استقلالیاً ، وکلیته بلحاظ نفس المعنى ، ومنه ظهر عدم اختصاص الإِشکال والدفع بالحرف ، بل یعم غیره ، فتأمل فی المقام فإنّه دقیق ومزالّ الأقدام للأعلام ، وقد سبق فی بعضٍ الأمور بعضٍ الکلام ، والإِعادة مع ذلک لما فیها من الفائدة والإِفادة ، فافهم.
رابعها : إن اختلاف المشتقات فی المبادیء ، وکون المبدأ فی بعضها حرفة وصناعة ، وفی بعضها قوة وملکة ، وفی بعضها فعلّیاً ، لا یوجب اختلافاً فی دلالتها بحسب الهیئة أصلاً ، ولا تفاوتً فی الجهة المبحوث عنها ، کما لا یخفى ، غایة الأمر إنّه یختلف التلبس به فی المضی أو الحال ، فیکون التلبس به فعلاً ، لو أخذ حرفة أو ملکة ، ولو لم یتلبس به إلى الحال ، أو انقضى عنه ، ویکون مما مضى أو یأتی لو أخذ فعلّیاً ، فلا یتفاوت فیها أنحاء التلبسات وأنواع التعلقات ، کما أشرنا إلیه (6).
خامسها : إن المراد بالحال فی عنوان المسألة ، هو حال التلبس
__________________
1 و 2 و 3 ـ فی ( أ ) : تقدیم الکوفة على البصرة.
4 ـ فی هامش ( ب ) : ثم إنّه قد انقدح بما ذکرنا أن المعنى بما هو معنى اسمی ، وملحوظ استقلالی ، أو بما هو معنى حرفی وملحوظ آلی ، کلّی عقلی فی غیر الأعلام الشخصیة ، وفیها جزئی کذلک ، وبما هو هو أیّ بلا أحد اللحاظین ، کلی طبیعی أو جزئی خارجی ، وبه ... ( نسخة بدل ).
5 ـ فی ( أ ) : على کثیرین.
6 ـ اشار إلیه فی الأمر الأوّل / 39.
لا حال النطق ضرورة أن مثل ( کان زید ضارباً أمس ) أو ( سیکون غداً ضارباً ) حقیقة إذا کان متلبساً بالضرب فی الأمس ، فی المثال الأوّل ، ومتلبساً به فی الغد فی الثّانی ، فجری المشتق حیث کان بلحاط حال التلبس ، وأنّ مضى زمإنّه فی أحدهما ، ولم یأت بعد فی آخر ، کان حقیقة بلا خلاف ، ولا ینافیه الاتفاق على أن مثل ( زید ضارب غداً ) مجاز ، فإن الظاهر إنّه فیما إذا کان الجری فی الحال ، کما هو قضیة الإِطلاق ، والغد إنّما یکون لبیان زمان التلبس ، فیکون الجری والاتصاف فی الحال ، والتلبس فی الاستقبال.