کفایة الاصول - قسمت دوازدهم
فصل
قد عرفت سابقاً إنّه لا تعارض فی موارد الجمع والتوفیق العرفی ، ولا یعمها ما یقتضیه الأصل فی المتعارضین ، من سقوط أحدهما رأساً وسقوط کلّ منهما فی خصوص مضمونه ، کما إذا لم یکونا فی البین ، فهل التخییر أو الترجیح یختص أیضاً بغیر مواردها أو یعمها؟ قولان : أولهما المشهور ، وقصارى ما یقال فی وجهه : إن الظاهر من الأخبار العلاجیة ـ سؤالاً وجواباً ـ هو التخییر أو الترجیح فی موارد التحیّر ، مما لا یکاد یستفاد المراد هناک عرفاً ، لا فیما یستفاد ولو بالتوفیق ، فإنّه من أنحاء طرق الاستفادة عند أبناء المحاورة.
ویشکل بأن مساعدة العرف على الجمع والتوفیق وارتکازه فی أذهإنّهم على وجه وثیق ، لا یوجب اختصاص السؤالات بغیر موارد الجمع ، لصحّة السؤال بملاحظة التحیّر فی الحال لأجل ما یتراءى من المعارضة وأنّ کان یزول عرفاً بحسب المآل ، أو للتحیر فی الحکم واقعاً وأنّ لم یتحیر فیه ظاهراً ، وهو کافٍ فی صحته قطعاً ، مع إمکان أن یکون لاحتمال الردع شرعاً عن هذه الطریقة المتعارفة بین أبناء المحاورة ، وجل العناوین المأخوذة فی الاسئلة لولا کلها یعمها ، کما لا یخفى.
ودعوى أن المتیقن منها غیرها مجازفة ، غایته إنّه کان کذلک خارجاً لا بحسب مقام التخاطب ، وبذلک ینقدح وجه القول الثانی.
اللهم إلّا أن یقال : إن التوفیق فی مثل الخاص والعام والمقید والمطلق ، کان علیه السیرة القطعیة من لدن زمان الأئمة : ، وهی کاشفة إجمالاً عما یوجب تخصیص أخبار العلاج بغیر موارد التوفیق العرفی ، لولا دعوى اختصاصها به ، وإنّها سؤالاً وجواباً بصدد الاستعلاج والعلاج فی موارد التحیر والاحتیاج ، أو دعوى الإِجمال وتساوی احتمال العموم مع احتمال الاختصاص ، ولا ینافیها مجرد صحة السؤال لما لا ینافی العموم ما لم یکن هناک ظهور إنّه لذلک ، فلم یثبت بأخبار العلاج ردع عما هو
علیه بناءً العقلاء وسیرة العلماء ، من التوفیق وحمل الظاهر على الأظهر ، والتصرف فیما یکون صدورهما قرینة علیه ، فتأمل.
فصل
قد عرفت حکم تعارض الظاهر والأظهر وحمل الأوّل على الآخر ، فلا إشکال فیما إذا ظهر أن أیهما ظاهر وأیّهما أظهر ، وقد ذکر فیما أشتبه الحال لتمییز ذلک ما لا عبرة به أصلاً ، فلا بأس بالإشارة إلى جملة منها وبیان ضعفها :
منها : ما قیل (1) فی ترجیح ظهور العموم على الإِطلاق ، وتقدیم التقیید على التخصیص فیما دار الأمر بینهما ، من کون ظهور العام فی العموم تنجیزیاً ، بخلاف ظهور المطلق فی الإِطلاق ، فإنّه معلق على عدم البیان ، والعام یصلح بیاناً ، فتقدیم العام حینئذ لعدم تمامیة مقتضى الإِطلاق معه ، بخلاف العکس ، فإنّه موجب لتخصیصه بلا وجه إلّا على نحو دائر. ومن أن التقیید أغلب من التخصیص.
وفیه : إن عدم البیان الذی هو جزء المقتضی فی مقدمات الحکمة ، إنّما هو عدم البیان فی مقام التخاطب لا إلى الابد ، وأغلبیة التقیید مع کثرة التخصیص بمثابة قد قیل : ما من عام إلّا وقد خص ، غیر مفید ، فلابد (2) فی کلّ قضیة من ملاحظة خصوصیاتها الموجبة لاظهریة أحدهما من الآخر ، فتدبر.
ومنها : ما قیل فیما إذا دار بین التخصیص والنسخ ـ کما إذا ورد عام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، حیث یدور بین أن یکون الخاص مخصصاً أو یکون العام ناسخاً ، أو ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ، حیث یدور بین أن یکون الخاص مخصصاً للعام ، أو ناسخاً له ورافعاً لاستمراره ودوامه ـ فی وجه تقدیم التخصیص على النسخ ، من غلبة التخصیص وندرة النسخ.
__________________
1 ـ راجع فرائد الأصول 457 ، المقام الرابع من مقام التراجیح.
2 ـ فی « ب » : ولا بد.
ولا یخفى أن دلالة الخاص أو العام على الاستمرار والدوام إنّما هو بالإِطلاق لا بالوضع ، فعلى الوجه العقلی فی تقدیم التقیید على التخصیص کان اللازم فی هذا الدوران تقدیم النسخ على التخصیص أیضاً ، وأنّ غلبة التخصیص إنّما توجب أقوائیة ظهور الکلام فی الاستمرار والدوام من ظهور العام فی العموم إذا کانت مرتکزة فی أذهان أهل المحاورة بمثابة تعد من القرائن المکتنفة بالکلام ، وإلاّ فهی وأنّ کانت مفیدة للظن بالتخصیص ، إلّا إنّها غیر موجبة لها ، کما لا یخفى.
ثم إنّه بناءً على اعتبارٍ عدم حضور وقت العمل فی التخصیص ، لئلا یلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة ، یشکل الأمر فی تخصیص الکتاب أو السنة بالخصوصات الصادرة عن الأئمة : ، فإنّها صادرة بعد حضور وقت العمل بعموماتهما ، والتزام نسخهما بها ولو قیل بجواز نسخهما بالروایة عنهم : کما ترى. فلا محیص فی حلّه من أن یقال : إن اعتبارٍ ذلک حیث کان لأجل قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة ، وکان من الواضح أن ذلک فیما إذا لم یکن هناک مصلحة فی إخفاء الخصوصات أو مفسدة فی إبدائها ، کإخفاء غیر واحد من التکالیف فی الصدر الأوّل ، لم یکن باس بتخصیص عموماتهما بها ، واستکشاف أن موردها کان خارجاً عن حکم العام واقعاً وأنّ کان داخلاً فیه ظاهراً ، ولاجله لا بأس بالالتزام بالنسخ بمعنى رفع الید بها عن ظهور تلک العمومات بإطلاقها فی الاستمرار والدوام أیضاً ، فتفطن.
فصل
لا إشکال فی تعیین الأظهر لو کان فی البین إذا کان التعارض بین الإثنین ، وأما إذا کان بین الزائد علیهما فتعینه ربما لا یخلو عن خفاء ، ولذا وقع بعضٍ (1) الأعلام فی اشتباه وخطأ ، حیث توهّم إنّه إذا کان هناک عام وخصوصات وقد خصص ببعضها ، کان اللازم ملاحظة النسبة بینه وبین سائر الخصوصات بعد
__________________
1 ـ هو المولى النراقی (ره) العوائد / 119 ـ 120 ، العائدة 40.
تخصیصه به ، فربما تنقلب النسبة إلى عموم وخصوص من وجه ، فلابد من رعایة هذه النسبة وتقدیم الراجح منه ومنها ، أو التخییر بینه وبینها لو لم یکن هناک راجح ، لا تقدیمها علیه ، إلّا إذا کانت النسبة بعده على حالها.
وفیه : إن النسبة إنّما هی بملاحظة الظهورات ، وتخصیص العام بمخصص منفصل ولو کان قطعیاً لا ینثلم به ظهوره ، وأنّ انثلم به حجیته ، ولذلک یکون بعد التخصیص حجة فی الباقی ، لأصالة عمومه بالنسبة إلیه.
لا یقال : إن العام بعد تخصیصه بالقطعی لا یکون مستعملاً فی العموم قطعاً ، فکیف یکون ظاهراً فیه؟
فإنّه یقال : إن المعلوم عدم إرادة العموم ، لا عدم استعماله فیه لإفادة القاعدة الکلیة ، فیعمل بعمومها ما لم یعلم بتخصیصها ، وإلاّ لم یکن وجه فی حجیته فی تمام الباقی ، لجواز استعماله حینئذ فیه وفی غیره من المراتب التی یجوز أن ینتهی إلیها التخصیص ، وأصالة عدم مخصص آخر لا یوجب إنعقاد ظهور له ، لا فیه ولا فی غیره من المراتب ، لعدم الوضع ولا القرینة المعینة لمرتبة منها ، کما لا یخفى ، لجواز إرادتها وعدم نصب قرینة علیها.
نعم ربما یکون عدم نصب قرینة مع کون العام فی مقام البیان قرینة على إرادة التمام ، وهو غیر ظهور العام فیه فی کلّ مقام.
فانقدح بذلک إنّه لا بدّ من تخصیص العام بکل واحد من الخصوصات مطلقاً ، ولو کان بعضها مقدماً أو قطعیاً ، ما لم یلزم منه محذور انتهائه إلى ما لا یجوز الانتهاء إلیه عرفاً ، ولو لم یکن مستوعبة لافراده ، فضلاً عما إذا کانت مستوعبة لها ، فلا بدّ حینئذ من معاملة التباین بینه وبین مجموعها ومن ملاحظة الترجیح بینهما وعدمه ، فلو رجح جانبها أو اختیر فیما لم یکن هناک ترجیح فلا مجال للعمل به أصلاً ، بخلاف ما لو رجح طرفه أو قدم تخییراً ، فلا یطرح منها إلّا خصوص ما لا یلزم مع طرحة المحذور من التخصیص بغیره ، فإن التباین إنّما کان بینه وبین
مجموعها لا جمیعها ، وحینئذ فربما یقع التعارض بین الخصوصات فیخصص ببعضها ترجیحاً أو تخییراً ، فلا تغفل.
هذا فیما کانت النسبة بین المتعارضات متحدة ، وقد ظهر منه حالها فیما کانت النسبة بینها متعددة ، کما إذا ورد هناک عامّان من وجه مع ما هو أخص مطلقاً من أحدهما ، وإنّه لابد من تقدیم الخاص على العام ومعاملة العموم من وجه بین العامین من الترجیح والتخییر بینهما ، وأنّ انقلبت النسبة بینهما إلى العموم المطلق بعد تخصیص أحدهما ، لما عرفت من إنّه لا وجه إلّا لملاحظة النسبة قبل العلاج.
نعم لو لم یکن الباقی تحته بعد تخصیصه إلّا ما لا یجوز أن یجوز عنه التخصیص أو کان بعیداً جداً ، لقدم على العام الآخر ، لا لانقلاب النسبة بینهما ، بل لکونه کالنص فیه ، فیقدّم على الآخر الظاهر فیه بعمومه ، کما لا یخفی.
فصل
لا یخفی أن المزایا المرجحة لأحد المتعارضین الموجبة للاخذ به وطرح الآخر ـ بناءً على وجوب الترجیح ـ وأنّ کانت على أنحاء مختلفة ومواردها متعددة ، من راوی الخبر ونفسه ووجه صدوره ومتنه ومضمونه مثل : الوثاقة والفقاهة والشهرة ومخالفة العامة والفصاحة وموافقة الکتاب والموافقة لفتوى الأصحاب ، إلى غیر ذلک مما یوجب مزیة فی طرف من أطرافه ، خصوصاً لو قیل بالتعدی من المزایا المنصوصة ، إلّا إنّها موجبة لتقدیم أحد السندین وترجیحه وطرح الآخر ، فإن أخبار العلاج دلّت على تقدیم روایة ذات مزیة فی أحد أطرافها ونواحیها فجمیع هذه من مرجحات السند حتى موافقة الخبر للتقیة ، فإنّها أیضاً مما یوجب ترجیح أحد السندین وحجیته فعلاً وطرح الآخر رأساً ؛ وکونها فی مقطوعی الصدور متمحضة فی ترجیح الجهة لا یوجب کونها کذلک فی غیرهما ، ضرورة إنّه لا معنى للتعبد بسند ما یتعین حمله على التقیة ، فکیف یقاس على ما لا تعبد فیه للقطع بصدوره؟.
ثم إنّه لا وجه لمراعاة الترتیب بین المرجحات لو قیل بالتعدی وإناطة الترجیح
بالظن أو بالأقربیة إلى الواقع ، ضرورة أن قضیة ذلک تقدیم الخبر الذی ظن صدقه أو کان أقرب إلى الواقع منهما ، والتخییر بینهما إذا تساویا ، فلا وجه لإتعاب النفس فی بیان أن أیها یقدم أو یؤخر إلّا تعیین أن أیها یکون فیه المناط فی صورة مزاحمة بعضها مع الآخر.
وأما لو قیل بالاقتصار على المزایا المنصوصة فله وجه لما یتراءى من ذکرها مرتباً فی المقبولة (1) والمرفوعة (2) ، مع إمکان أن یقال : إن الظاهر کونهما کسائر أخبار الترجیح بصدد بیان أن هذا مرجح وذاک مرجح ، ولذا إقتصر فی غیر واحد منها على ذکر مرجح واحد ، وإلاّ لزم تقیید جمیعها على کثرتها بما فی المقبولة ، وهو بعید جداً ، وعلیه فمتى وجد فی أحدهما مرجح وفی الآخر آخر منها ، کان المرجع هو إطلاقاًت التخییر ، ولا کذلک على الأوّل بل لابد من ملاحظة الترتیب ، إلّا إذا کانا فی عرض واحد.
وانقدح بذلک أن حال المرجح الجهتی حال سائر المرجحات ، فی إنّه لابد فی صورة مزاحمته مع بعضها من ملاحظة أن أیهما فعلاً موجب للظن بصدق ذیه بمضمونه ، أو الأقربیة کذلک إلى الواقع ، فیوجب ترجیحه وطرح الآخر ، أو إنّه لا مزیة لأحدهما على الآخر ، کما إذا کان الخبر الموافق للتقیة بماله من المزیة مساویاً للخبر المخالف لها بحسب المناطین ، فلا بدّ حینئذ من التخییر بین الخبرین. فلا وجه لتقدیمه على غیره ، کما عن الوحید البهبهانی (3) ـ 1 ـ وبالغ فیه
__________________
1 ـ التهذیب 6 / 301 ، الباب 92 ، الحدیث 52.
2 ـ مستدرک وسائل الشیعة 17 : 302 الباب 9 من أبواب صفات القاضی.
3 ـ راجع ملاحظات الفرید على فوائد الوحید (ره) / 120 فی الفائدة 21.
المولى محمد باقر بن محمد أکمل البهبهانی مروج المذهب رأس الماة الثالثة تولد سنة 1118 فی اصفهان وقطن برهة فی بهبهان ، ثم انتقل إلى کربلا ونشر العلم هناک ، صنف ما یقرب من ستین کتابا. منها شرحه على المفاتیح وحواشیه على المدارک وعلى المعالم وغیر ذلک توفی فی الحائر الشریف سنة 1208 ه ( الکنى والالقاب 2 / 97 ).
بعض (1) أعاظم المعاصرین ـ أعلى الله درجته ؛ ولا لتقدیم غیره علیه ، کما یظهر من شیخنا العلامة (2) ـ أعلى الله مقامه ـ قال :
( امّا لو زاحم الترجیح بالصدور الترجیح من حیث جهة الصدور ، بأن کان الارجح صدوراً موافقاً للعامة ، فالظاهر تقدیمه على غیره وأنّ کان مخالفاً للعامة ، بناءً على تعلیل الترجیح بخالفة العامة بإحتمال التقیة فی الموافق ، لأن هذا الترجیح ملحوظ فی الخبرین بعد فرض صدورهما قطعاً کما فی المتواترین ، أو تعبداً کما فی الخبرین بعد عدم إمکان التعبد بصدور أحدهما وترک التعبد بصدور الآخر ، وفیما نحن فیه یمکن ذلک بمقتضى أدلة الترجیح من حیث الصدور.
إن قلت : إن الأصل فی الخبرین الصدور ، فإذا تعبدنا بصدورهما إقتضى ذلک الحکم بصدور الموافق تقیة ، کما یقتضی ذلک الحکم بإرادة خلاف الظاهر فی أضعفهما ، فیکون هذا المرجح نظیر الترجیح بحسب الدلالة مقدماً على الترجیح بحسب الصدور.
قلت : لا معنى للتعبد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعینّ على التقیة ، لإنّه إلغاء لأحدهما فی الحقیقة ).
وقال بعد جملة من الکلام :
( فمورد هذا الترجیح تساوی الخبرین من حیث الصدور ، امّا علماً کما فی المتواترین ، أو تعبداً کما فی المتکافئین من الأخبار ، وأما ما وجب فیه التعبد بصدور أحدهما المعینّ دون الآخر فلا وجه لإعمال هذا المرجح فیه ، لأن جهة الصدور متفرع على أصل الصدور ) إنتهى موضع الحاجة من کلامه ، زید فی علو مقامه.
وفیه ـ مضافاً إلى ما عرفت ـ أن حدیث فرعیة جهة الصدور على أصله إنّما یفید
__________________
1 ـ هو صاحب البدائع فی البدائع / 455 و 457 ، المقام الرابع فی ترتیب المرجحات.
2 ـ فرائد الأصول / 468.
إذا لم یکن المرجح الجهتی من مرجحات أصل الصدور بل من مرجحاتها ، وأما إذا کان من مرجحاته بأحد المناطین ، فأی فرق بینه وبین سائر المرجحات؟ ولم یقم دلیل بعد فی الخبرین المتعارضین على وجوب التعبد بصدور الراجح منهما من حیث غیر الجهة ، مع کون الآخر راجحاً بحسبها ، بل هو أول الکلام ، کما لا یخفى ، فلا محیص من ملاحظة الراجح من المرجحین بحسب أحد المناطین ، أو من دلالة أخبار العلاج ، على الترجیح بینهما مع المزاحمة ، ومع عدم الدلالة ولو لعدم التعرض لهذه الصورة فالمحکم هو إطلاق التخییر ، فلا تغفل.
وقد أورد بعضٍ أعاظم تلامیذه (1) علیه بإنتقاضه بالمتکافئین من حیث الصدور ، فإنّه لو لم یعقل التعبد بصدور المتخالفین من حیث الصدور ، مع حمل أحدهما على التقیة ، لم یعقل التعبد بصدورهما مع حمل أحدهما علیها ، لإنّه إلغاء لاحدهما أیضاً فی الحقیقة.
وفیه ما لا یخفى من الغفلة ، وحسبان إنّه التزم 1 فی مورد الترجیح بحسب الجهة باعتبار تساویهما من حیث الصدور ، امّا للعلم بصدورهما ، وإما للتعبد به فعلاً ، مع بداهة أن غرضه من التساوی من حیث الصدور تعبداً تساویهما بحسب دلیل التعبد بالصدور قطعاً ، ضرورة أن دلیل حجیة الخبر لا یقتضی التعبد فعلاً بالمتعارضین ، بل ولا بأحدهما ، وقضیة دلیل العلاج لیس إلّا التعبد بأحدهما تخییراً أو ترجیحاً.
والعجب کلّ العجب إنّه ; لم یکتف بما أورده من النقض ، حتى ادعى استحالة تقدیم الترجیح بغیر هذا المرجح على الترجیح به ، وبرهن علیه بما حاصله امتناع التعبد بصدور الموافق ، لدوران أمره بین عدم صدوره من أصله ، وبین صدوره تقیة ، ولا یعقل التعبد به على التقدیرین بداهةً ، کما إنّه لا یعقل التعبد بالقطعی الصدور الموافق ، بل الأمر فی الظنی الصدور أهون ، لاحتمال عدم
__________________
1 ـ وهو الشیخ المحقق الحاج میرزا حبیب الله الرشتی ( طاب ثراه ). راجع بدائع الأفکار / 457.
صدوره ، بخلافه.
ثم قال : فاحتمال تقدیم المرجحات السندیة على مخالفة العامة ، مع نص الإمام 7 على طرح موافقهم ، من العجائب والغرائب التی لم یعهد صدورها من ذی مسکة ، فضلاً عمن هو تالی العصمة علماً وعملاً.
ثم قال : ولیت شعری ، إن هذه الغفلة الواضحة کیف صدرت منه؟ مع إنّه فی جودة النظر یأتی بما یقرب من شق القمر.
وأنت خبیر بوضوح فساد برهإنّه ، ضرورة عدم دوران أمر الموافق بین الصدور تقیة وعدم الصدور رأساً ، لاحتمال صدوره لبیان حکم الله واقعاً ، وعدم صدور المخالف المعارض له أصلاً ، ولا یکاد یحتاچ فی التعبد إلى أزید من احتمال صدور الخبر لبیان ذلک بداهة ، وإنما دار احتمال الموافق بین الاثنین إذا کان المخالف قطعیاً صدوراً وجهةً ودلالةً ، ضرورة دوران معارضه حینئذ بین عدم صدوره وصدوره تقیة ، وفی غیر هذه الصورة کان دوران أمره بین الثلاثة لا محالة ، لاحتمال صدوره لبیان الحکم الواقعی حینئذ أیضاً.
ومنه قد إنقدح إمکان التعبد بصدور الموافق القطعی لبیان الحکم الواقعی أیضاً ، وإنما لم یکن التعبد بصدوره لذلک إذا کان معارضه المخالف قطعیاً بحسب السند والدلالة ، لتعیّن حمله على التقیة حینئذ لا محالة ؛ ولعمری إن ما ذکرنا أوضح من أن یخفى على مثله ، إلّا أن الخطأ والنسیان کالطبیعة الثانیة للإنسان ، عصمنا الله من زلل الاقدام والأقلام فی کلّ ورطة ومقام.
ثم إن هذا کله إنّما هو بملاحظة أن هذا المرجح مرجح من حیث الجهة ، وأما بما هو موجب لأقوائیة دلالة ذیه من معارضه ، لاحتمال التوریة فی المعارض المحتمل فیه التقیة دونه ، فهو مقدم على جمیع مرجحات الصدور ، بناءً على ما هو المشهور من تقدم التوفیق ـ بحمل الظاهر على الأظهر ـ على الترجیح بها ، اللهم إلّا إنّ یقال : أن باب احتمال التوریة وأنّ کان مفتوحاً فیما احتمل فیه التقیة ، إلّا إنّه
حیث کان بالتأمل والنظر لم یوجب أن یکون معارضه أظهر ، بحیث یکون قرینة على التصرف عرفاً فی الآخر ، فتدبر.
فصل
موافقة الخبر لما یوجب الظن بمضمونه ولو نوعاً من المرجحات فی الجملة ـ بناءً على لزوم الترجیح ـ لو قیل بالتعدی من المرجحات المنصوصة ، أو قیل بدخوله فی القاعدة المجمع علیها کما ادعی (1) ، وهی لزوم العمل بأقوى الدلیلین ، وقد عرفت أن التعدی محلّ نظر بل منع ، وأنّ الظاهر من القاعدة هو ما کان الأقوائیة من حیث الدلیلیة والکشفیة ، ومضمون أحدهما مظنوناً ، لأجل مساعدة أمارة ظنیة علیه ، لا یوجب قوة فیه من هذه الحیثیة ، بل هو على ما هو علیه من القوة لو لا مساعدتها ، کما لا یخفى ، ومطابقة أحد الخبرین لها لا یکون لازمه الطن بوجود خلل فی الآخر ، امّا من حیث الصدور ، أو من حیث جهته ، کیف؟ وقد اجتمع مع القطع بوجود جمیع ما اعتبر فی حجیة المخالف لولا معارضة الموافق ؛ والصدق واقعاً لا یکاد یعتبر فی الحجیّة ، کما لا یکاد یضر بها الکذب کذلک ، فافهم. هذا حال الامارة الغیر المعتبرة لعدم الدلیل على اعتبارها.
أما ما لیس بمعتبر بالخصوص لأجل الدلیل على عدم اعتباره بالخصوص کالقیاس ، فهو وأنّ کان کالغیر المعتبر لعدم الدلیل ، بحسب ما یقتضی الترجیح به من الإخبار بناءً على التعدی ، والقاعدة بناءً على دخول مظنون المضمون فی أقوى الدلیلین ، إلّا أن الأخبار الناهیة عن القیاس ( 2) وأنّ السنّة إذا قیست محق الدین (3) ، مانعة عن الترجیح به ، ضرورة أن استعماله فی ترجیح أحد الخبرین
__________________
1 ـ راجع فرائد الأصول / 469.
2 ـ الکافی 1 : 46 باب البدع والرأی والمقاییس. الأحادیث 13 و 16.
3 ـ المصدر المتقدم ، الحدیث 15 والکافی 7 : 299 ، کتاب الدیات ، باب الرجل یقتل المرأة و ... الخ ، الحدیث 6.
وللمزید راجع جامع أحادیث الشیعة 1 : 269 ، الباب 7 عدم حجیة القیاس والرأی و .. الخ.
استعمال له فی المسألة الشرعیة الأصولیة ، وخطره لیس بأقل من استعماله فی المسألة الفرعیة.
وتوهمّ أن حال القیاس ها هنا لیس فی تحقق الأقوائیة به إلّا کحاله فیما ینقح به موضوع آخر ذو حکم ، من دون اعتماد علیه فی مسألة لا أصولیة ولا فرعیة ، قیاس مع الفارق ، لوضوح الفرق بین المقام والقیاس فی الموضوعاًت الخارجیة الصرفة ، فإن القیاس المعمول فیها لیس فی الدین ، فیکون إفساده أکثر من إصلاحه ، وهذا بخلاف المعمول فی المقام ، فإنّه نحو إعمال له فی الدین ؛ ضرورة أنّه لولاه لما تعیّن الخبر الموافق له للحجیة بعد سقوطه عن الحجیّة بمقتضى أدلة الاعتبار ، والتخییر بینه وبین معارضه بمقتضى أدلّة العلاج ، فتأمّل جیداً.
وأمّا ما إذا اعتضد بما کان دلیلاً مستقلاً فی نفسه ، کالکتاب والسنة القطعیة ، فالمعارض المخالف لأحدهما : إن کانت مخالفته بالمباینة الکلیة ، فهذه الصورة خارجة عن مورد الترجیح ، لعدم حجیة الخبر المخالف کذلک من أصله ، ولو مع عدم المعارض ، فإنّه المتیقن من الإخبار الدالة على إنّه زخرف أو باطل ، أو أنّه : لم نقله ، أو غیر ذلک (1).
وإن کانت مخالفته بالعموم والخصوص المطلق ، فقضیة القاعدة فیها ، وأنّ کانت ملاحظة المرجحات بینه وبین الموافق وتخصیص الکتاب به تعییناً أو تخییراً ، لو لم یکن الترجیح فی الموافق ، بناءً على جواز تخصیص الکتاب بخبر الواحد ، إلّا أن الإخبار الدالة على أخذ الموافق من المتعارضین غیر قاصرة عن العموم لهذه الصورة ، لو قیل بإنّها فی مقام ترجیح أحدهما لا تعیین الحجة عن اللاحجة ، کما نزلناها علیه ، ویؤیده أخبار (2) العرض على الکتاب الدالة على عدم حجیة المخالف من
__________________
1 ـ راجع ص 444 ، هامش 2.
2 ـ وسائل الشیعة 18 : 78 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی / الأحادیث 10 ، 11 ، 12 ، 14 ، 15 ، 18.
أصله ، فإنّهما تفرغان عن لسان واحد ، فلا وجه لحمل المخالفة فی إحدهما (1) على خلاف المخالفة فی الأخرى ، کما لا یخفى.
اللهمّ إلّا أن یقال : نعم ، إلّا أن دعوى اختصاص هذه الطائفة بما إذا کانت المخالفة بالمباینة ـ بقرینة القطع بصدور المخالف الغیر المباین عنهم : کثیراً ، وإباءِ مثل : ( ما خالف قول ربنا لم أقله ، أو زخرف أو باطل ) عن التخصیص ـ غیر بعیدة ، وأنّ کانت المخالفة بالعموم والخصوص من وجه ، فالظاهر إنّها کالمخالفة فی الصورة الأُولى کما لا یخفى.
وأما الترجیح بمثل الاستصحاب ، کما وقع فی کلام غیر واحد من الأصحاب ، فالظاهر إنّه لأجل اعتباره من باب الظنّ والطریقیة عندهم ، وأما بناءً على اعتباره تعبداً من باب الإخبار وظیفةً للشاک ، کما هو المختار ، کسائر الأصول العملیة التی یکون کذلک عقلاً أو نقلاً ، فلا وجه للترجیح به أصلاً ، لعدم تقویة مضمون الخبر بموافقته ، ولو بملاحظة دلیل اعتباره کما لا یخفى.
هذا آخر ما أردنا إیراده ، والحمد لله أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً.
__________________
والمحاسن 1 : 220 ، کتاب مصابیح الظلم ، الباب 11 ، الأحادیث 128 إلى 131. وص 225 ، الباب 12. الحدیث 145 وص 226 ، الباب 14 ، الحدیث 150.
1 ـ فی « ب » : احدهما.
أما الخاتمة : فهی فیما یتعلق بالاجتهاد والتقلید
فصل
الاجتهاد لغةً : تحمّل المشقة ، واصطلاحاً کما عن الحاجبی (1) والعلامة (2) : استفراغ الوسع فی تحصیل الظن بالحکم الشرعی ، وعن غیرهما (3) : ملکة یقتدر بها على استنباط الحکم الشرعی الفرعی من الأصل فعلاً أو قوة قریبة.
ولا یخفى أن اختلاف عباراتهم فی بیان معناه اصطلاحاً ، لیس من جهة الاختلاف فی حقیقته وماهیته ، لوضوح إنّهم لیسوا فی مقام بیان حدّه أو رسمه ، بل إنّما کانوا فی مقام شرح اسمه والإِشارة إلیه بلفظ آخر وأنّ لم یکن مساویاً له بحسب مفهومه ، کاللغوی فی بیان معانی الألفاظ بتبدیل لفظ بلفظ آخر ، ولو کان أخصّ منه مفهوماً أو أعمّ.
ومن هنا انقدح إنّه لا وقع للإیراد على تعریفاته بعدم الانعکاس أو الاطراد ، کما هو الحال فی تعریف جل الأشیاء لولا الکلّ ، ضرورة عدم الإحاطة بها بکنهها ، أو بخواصها الموجبة لامتیازها عما عداها ، لغیر علام الغیوب ، فافهم.
__________________
1 ـ راجع شرح مختصر الأصول / 460 ، عند الکلام عن الاجتهاد.
2 ـ التهذیب ـ مخطوط ـ.
3 ـ زبدة الأصول للشیخ البهائی (ره) / 115 المنهج الرابع فی الاجتهاد والتقلید.
وکیف کان ، فالأولى تبدیل الظن بالحکم بالحجة علیه ، فإن المناط فیه هو تحصیلها قوة أو فعلاً لا الظن حتى عند العامة القائلین بحجیته مطلقاً ، أو بعضٍ الخاصة القائل بها عند انسداد باب العلم بالأحکام ، فإنّه مطلقاً عندهم ، أو عند الانسداد عنده من أفراد الحجة ، ولذا لا شبهة فی کون استفراغ الوسع فی تحصیل غیره من أفرادها ـ من العلم بالحکم أو غیره مما اعتبر من الطرق التعبدیة الغیر المفیدة للظن ولو نوعاً ـ اجتهاداً أیضاً.
ومنه قد انقدح إنّه لا وجه لتأبّی الأخباری عن الاجتهاد بهذا المعنى ، فإنّه لا محیص عنه کما لا یخفى ، غایة الأمر له أن ینازع فی حجیة بعضٍ ما یقول الأُصولی باعتباره ویمنع عنها ، وهو غیر ضائر بالاتفاق على صحة الاجتهاد بذاک المعنى ؛ ضرورة إنّه ربما یقع بین الإخباریین ، کما وقع بینهم وبین الأُصولیین.
فصل
ینقسم الاجتهاد إلى مطلق وتجزٍّ ، فالاجتهاد المطلق هو ما یقتدر به على استنباط الأحکام الفعلیة من أمارة معتبرة ، أو أصل معتبر عقلاً أو نقلاً فی الموارد التی لم یظفر فیها بها ، والتجزی هو ما یقتدر به على استنباط بعض الأًحکام.
ثم إنّه لا إشکال فی إمکان المطلق وحصوله للأعلام ، وعدم التمکن من الترجیح فی المسألة وتعیین حکمها والتردد منهم فی بعضٍ المسائل إنّما هو بالنسبة إلى حکمها الواقعی ، لأجل عدم دلیل مساعد فی کلّ مسألة علیه ، أو عدم الظفر به بعد الفحص عنه بالمقدار اللازم ، لا لقلة الاطلاع أو قصور الباع. وأما بالنسبة إلى حکمها الفعلّی ، فلا تردد لهم أصلاً.
کما لا إشکال فی جواز العمل بهذا الاجتهاد لمن اتصف به ، وأما لغیره فکذا لا إشکال فیه ، إذا کان المجتهد ممن کان باب العلم أو العلمی بالأحکام مفتوحاً له ـ على ما یأتی من الادلة على جواز التقلید ـ بخلاف ما إذا انسد علیه بابهما ، فجواز تقلید الغیر عنه فی غایة الإِشکال ، فإن رجوعه إلیه لیس من رجوع الجاهل إلى العالم بل إلى الجاهل ،
وأدلة جواز التقلید إنّما دلّت على جواز رجوع غیر العالم إلى العالم کما لا یخفى ، وقضیة مقدمات الانسداد لیست إلّا حجیة الظن علیه لا على غیره ، فلا بدّ فی حجیة اجتهاد مثله على غیره من التماس دلیل آخر غیر دلیل التقلید وغیر دلیل الانسداد الجاری فی حق المجتهد ، من إجماع أو جریان مقدمات دلیل الانسداد فی حقه ، بحیث تکون منتجة لحجیة الظن الثابت حجیته بمقدماته له أیضاً ، ولا مجال لدعوى الاجماع ، ومقدماته کذلک غیر جاریة فی حقه ، لعدم انحصار المجتهد به ، أو عدم لزوم محذور عقلی من عمله بالاحتیاط وأنّ لزم منه العسر ، إذا لم یکن له سبیل إلى إثبات عدم وجوبه مع عسره.
نعم ، لو جرت المقدّمات کذلک ، بأن انحصر المجتهد ، ولزم من الاحتیاط المحذور ، أو لزم منه العسر مع التمکن من إبطال وجوبه حینئذٍ ، کانت منتجة لحجیته فی حقه أیضاً ، لکن دونه خرط القتاد ، هذا على تقدیر الحکومة.
وأما على تقدیر الکشف وصحته ، فجواز الرجوع إلیه فی غایة الإِشکال لعدم مساعدة أدلة التقلید على جواز الرجوع إلى من اختصّ حجیة ظنه به ، وقضیة مقدمات الانسداد اختصاص حجیة الظن بمن جرت فی حقه دون غیره ، ولو سلّم أن قضیتها کون الظن المطلق معتبراً شرعاً ، کالظنون الخاصة التی دلّ الدلیل على اعتبارها بالخصوص ، فتأمل.
إن قلت : حجیة الشیء شرعاً مطلقاً لا یوجب القطع بما أدى إلیه من الحکم ولو ظاهراً ، کما مرّ تحقیقه (1) ، وإنّه لیس أثره إلّا تنجز الواقع مع الإصابة ، والعذر مع عدمها ، فیکون رجوعه إلیه مع انفتاح باب العلمی علیه أیضاً رجوعاً إلى الجاهل ، فضلاً عما إذا انسد علیه. قلت : نعم ، إلّا إنّه عالم بموارد قیام الحجة الشرعیة على الأحکام ، فیکون من رجوع الجاهل إلى العالم.
__________________
1 ـ فی بیان الأمارات الغیر القطعیة ، ص 277.
إن قلت : رجوعه إلیه فی موارد فقد الأمارة المعتبرة عنده التی یکون المرجع فیها الأصول العقلیة ، لیس إلّا الرجوع إلى الجاهل.
قلت : رجوعه إلیه فیها إنّما هو لأجل اطلاعه على عدم الامارة الشرعیة فیها ، وهو عاجز عن الاطلاع على ذلک ، وأما تعیین ما هو حکم العقل وإنّه مع عدمها هو البراءة أو الاحتیاط ، فهو إنّما یرجع إلیه ، فالمتبع ما استقل به عقله ولو على خلاف ما ذهب إلیه مجتهده ، فافهم.
وکذلک لا خلاف ولا إشکال فی نفوذ حکم المجتهد المطلق إذا کان باب العلم أو العلمی له مفتوحاً ، وأما إذا انسد علیه بابهما ففیه إشکال على الصحیح من تقریر المقدّمات على نحو الحکومة ، فإن مثله ـ کما أشرت آنفاً ـ لیس ممن یعرف الأحکام ، مع أن معرفتها معتبرة فی الحاکم ، کما فی المقبولة ، إلّا أن یَّدعى عدم القول بالفصل ، وهو وأنّ کان غیر بعید ، إلّا إنّه لیس بمثابة یکون حجة على عدم الفصل ، إلّا أن یقال بکفایة انفتاح باب العلم فی موارد الإجماعات والضروریات من الدین أو المذهب ، والمتواترات إذا کانت جملة یعتدّ بها ، وأنّ انسد باب العلم بمعظم الفقه ، فإنّه یصدق علیه حینئذٍ إنّه ممن روى حدیثهم : ونظر فی حلالهم : وحرامهم : : وعرف أحکامهم عرفاً حقیقة. وأما قوله 7 فی المقبولة ( فإذا حکم بحکمنا ) فالمراد أن مثله إذا حکم کان بحکمهم حکم ، حیث کان منصوباً منهم ، کیف وحکمه غالباً یکون فی الموضوعاًت الخارجیة ، ولیس مثل ملکیة دار لزید أو زوجیة أمراًة له من أحکامهم : فصحة إسناد حکمه إلیهم : إنّما هو لأجل کونه من المنصوب من قبلهم.
وأما التجزی فی الاجتهاد ففیه مواضع من الکلام :
الأول : فی إمکانه ، وهو وأنّ کان محلّ الخلاف بین الأعلام إلّا إنّه لا ینبغی الارتیاب فیه ، حیث کانت أبواب الفقه مختلفة مدرکاً ، والمدارک متفاوتة سهولة
وصعوبة ، عقلیة ونقلیة ، مع اختلاف الأشخاص فی الاطلاع علیها ، وفی طول الباع وقصوره بالنسبة إلیها ، فرب شخص کثیر الاطلاع وطویل الباع فی مدرک باب بمهارته فی النقلیات أو العقلیات ، ولیس کذلک فی آخر لعدم مهارته فیها وابتنائه علیها ، وهذا بالضرورة ربما یوجب حصول القدرة على الاستنباط فی بعضها لسهولة مدرکه أو لمهارة الشخص فیه مع صعوبته ، مع عدم القدرة على ما لیس کذلک ، بل یستحیل حصول اجتهاد مطلق عادةً غیر مسبوق بالتجزی ؛ للزوم الطفرة. وبساطة الملکة وعدم قبولها التجزئة ، لا تمنع من حصولها بالنسبة إلى بعضٍ الأبواب ، بحیث یتمکن بها من الإحاطة بمدارکه ، کما إذا کانت هناک ملکة الاستنباط فی جمیعها ، ویقطع بعدم دخل ما فی سائرها به أصلاً ، أو لا یعتنی باحتماله لأجل الفحص بالمقدار اللازم الموجب للاطمئنان بعدم دخله ، کما فی الملکة المطلقة ، بداهة إنّه لا یعتبر فی استنباط مسألة معها من الاطلاع فعلاً على مدارک جمیع المسائل ، کما لا یخفى.
الثانی : فی حجیة ما یؤدی إلیه على المتصف به ، وهو أیضاً محلّ الخلاف ، إلّا أن قضیة أدلة المدارک حجیته ، لعدم اختصاصها بالمتصف بالاجتهاد المطلق ، ضرورة أن بناءً العقلاء على حجیة الظواهر مطلقاً ، وکذا ما دلّ على حجیة خبر الواحد ، غایته تقییده بما إذا تمکن من دفع معارضاته کما هو المفروض.
الثالث : فی جواز رجوع غیر المتصف به إلیه فی کلّ مسألة اجتهد فیها ، وهو أیضاً محلّ الإِشکال ، من إنّه من رجوع الجاهل إلى العالم ، فتعمّه أدلة جواز التقلید ، ومن دعوى عدم إطلاق فیها ، وعدم إحراز أن بناءً العقلاء أو سیرة المتشرعة على الرجوع إلى مثله أیضاً. وستعرف إن شاء الله تعالى ما هو قضیة الادلة.
وأما جواز حکومته ونفوذ فصل خصومته فأشکل ، نعم لا یبعد نفوذه فیما إذا عرفّ جملة معتدة بها واجتهد فیها ، بحیث یصحّ أن یقال فی حقه عرفاً إنّه ممن عرفّ
أحکامهم ، کما مرّ فی المجتهد المطلق المنسد علیه باب العلم والعلمی فی معظم الأًحکام.
فصل
لا یخفى احتیاج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربیة فی الجملة ولو بأن یقدّر على معرفة ما یبتنی علیه الاجتهاد فی المسألة ، بالرجوع إلى ما دوّن فیه ، ومعرفة التفسیر کذلک.
وعمدة ما یحتاج إلیه هو علم الأُصول ، ضرورة إنّه ما من مسألة إلّا ویحتاج فی استنباط حکمها إلى قاعدة أو قواعد برهن علیها فی الأُصول ، أو برهن علیها مقدّمة فی نفس المسألة الفرعیة ، کما هو طریقة الأخباری ، وتدوین تلک القواعد المحتاج إلیها على حدة لا یوجب کونها بدعة ، وعدم تدوینها فی زمانهم : لا یوجب ذلک ، وإلاّ کان تدوین الفقه والنحو والصرف بدعة.
وبالجملة : لا محیص لاحد فی استنباط الأحکام الفرعیة من أدلتها إلّا الرجوع إلى ما بنى علیه فی المسائل الأُصولیة ، وبدونه لا یکاد یتمکن من استنباط واجتهاد ، مجتهداً کان أو أخباریاً. نعم یختلف الاحتیاج إلیها بحسب اختلاف المسائل والازمنة والأشخاص ، ضرورة خفة مؤونة الاجتهاد فی الصدر الأوّل ، وعدم حاجته إلى کثیر مما یحتاج إلیه فی الازمنة اللاحقة ، مما لا یکاد یحقق ویختار عادةً إلّا بالرجوع إلى ما دوّن فیه من الکتب الأصولیة.
فصل
اتفقت الکلمة على التخطئة فی العقلیات ، واختلفت فی الشرعیات ، فقال أصحابنا بالتخطئة فیها أیضاً ، وأنّ له تبارک وتعالى فی کلّ مسألة حکماً یؤدی إلیه الاجتهاد تارةً وإلى غیره أُخرى.
وقال مخالفونا بالتصویب ، وأنّ له تعالى أحکاماً بعدد آراء المجتهدین ، فما
یؤدی إلیه الاجتهاد هو حکمه تبارک وتعالى ، ولا یخفى إنّه لا یکاد یعقل الاجتهاد فی حکم المسألة إلّا إذا کان لها حکم واقعاً ، حتى صار المجتهد بصدد استنباطه من أدلته ، وتعیینه بحسبها ظاهراً. فلو کان غرضهم من التصویب هو الالتزام بإنشاء أحکام فی الواقع بعدد الآراء ـ بأن تکون الأحکام المؤدی إلیها الاجتهادات أحکاماً واقعیة کما هی ظاهریة ـ فهو وأنّ کان خطأ من جهة تواتر الأخبار ، وإجماع أصحابنا الأخیار على أن له تبارک وتعالى فی کلّ واقعة حکماً یشترک فیه الکلّ ، إلّا إنّه غیر محال. ولو کان غرضهم منه الالتزام بإنشاء الأحکام على وفق آراء الأعلام بعد الاجتهاد ، فهو مما لا یکاد یعقل ، فکیف یتفحص عما لا یکون له عین ولا أثر ، أو یستظهر من الآیة أو الخبر ، إلّا أن یراد التصویب بالنسبة إلى الحکم الفعلّی ، وأنّ المجتهد وأنّ کان یتفحص عما هو الحکم واقعاً وإنشاءً ، إلّا أن ما أدّى إلیه اجتهاده یکون هو حکمه الفعلّی حقیقة ، وهو مما یختلف باختلاف الآراء ضرورة ، ولا یشترک فیه الجاهل والعالم بداهة ، وما یشترکان فیه لیس بحکم حقیقةً بل إنشاءً ، فلا استحالة فی التصویب بهذا المعنى ، بل لا محیص عنه فی الجملة بناءً على اعتبارٍ الإخبار من باب السببیة والموضوعیة کما لا یخفى ، وربما یشیر إلیه ما اشتهرت بیننا أن ظنیة الطریق لا ینافی قطعیة الحکم.
نعم بناءً على اعتبارها من باب الطریقیة ، کما هو کذلک ، فمؤدیات الطرق والامارات المعتبرة لیست بأحکام حقیقیة نفسیّة ، ولو قیل بکونها أحکاما طریقیة ، وقد مرّ (1) غیر مرة إمکان منع کونها أحکاما کذلک أیضاً ، وأنّ قضیة حجیتها لیس إلّا تنجز مؤدیاتها عند إصابتها ، والعذر عند خطئها ، فلا یکون حکم أصلاً إلّا الحکم الواقعی ، فیصیر منجّزاً فیما قام علیه حجة من علم أو طریق معتبر ، ویکون غیر منجز بل غیر فعلّی فیما لم تکن هناک حجة مصیبة ، فتأمل جیداً.
__________________
1 ـ فی دفع الایراد عن إمکان التعبد بالامارة غیر القطعیة / ص 277 وفی التنبیة الثّانی من تنبیهات الاستصحاب / ص 405.
فصل
إذا اضمحل الاجتهاد السابق بتبدل الرأی الأوّل بالآخر أو بزواله بدونه ، فلا شبهة فی عدم العبرة به فی الأعمال اللاحقة ، ولزوم اتباع اجتهاد اللاحق مطلقاً أو الاحتیاط فیها ؛ وأما الأعمال السابقة الواقعة على وفقه المختل فیها ما اعتبر فی صحتها بحسب هذا الاجتهاد ، فلا بدّ من معاملة البطلان معها فیما لم ینهض دلیل على صحة العمل فیما إذا اختل فیه لعذر ، کما نهض فی الصلاة وغیرها ، مثل : لا تعاد (1) ، وحدیث الرفع (2) ، بل الاجماع على الإِجزاء فی العبادات على ما ادّعی.
وذلک فیما کان بحسب الاجتهاد الأوّل قد حصل القطع بالحکم وقد اضمحل واضح ، بداهة إنّه لا حکم معه شرعاً ، غایته المعذوریة فی المخالفة عقلاً ، وکذلک فیما کان هناک طریق معتبر شرعاً علیه بحسبه ، وقد ظهر خلافه بالظفر بالمقید أو المخصص أو قرینة المجاز أو المعارض ، بناءً على ما هو التحقیق من اعتبارٍ الأمارات من باب الطریقیة ، قیل بأن قضیة اعتبارها إنشاءً أحکام طریقیة ، أم لا على ما مرّ منّا غیر مرة ، من غیر فرق بین تعلقه بالأحکام أو بمتعلقاتها ، ضرورة أن کیفیة اعتبارها فیهما على نهج واحد ، ولم یعلم وجه للتفصیل بینهما ، کما فی الفصول (3) ، وأنّ المتعلقات لا تتحمل اجتهادین بخلاف الأحکام ، إلّا حسبان أن الأحکام قابلة للتغیر والتبدل ، بخلاف المتعلقات والموضوعاًت ، وأنت خبیر بأن الواقع واحد فیهما ، وقد عین أولاً بما ظهر خطؤه ثانیاً ؛ ولزوم العسر والحرج والهرج والمرج المخلّ بالنظام والموجب للمخاصمة بین الأنام ، لو قیل بعدم صحة العقود والإِیقاعات والعبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الأوّل الفاسدة بحسب الاجتهاد الثانی ،
__________________
1 ـ الفقیه : 1 / 225 ، الباب 49. الحدیث 8 والباب 42 ، الحدیث 17 والتهذیب 2 / 152 ، الباب 9 ، الحدیث 55.
2 ـ راجع ص 339 ، فی الاستدلال على البراءة بالسنة.
3 ـ الفصول : 409 ، فی فصل رجوع المجتهد عن الفتوى.
ووجوب العمل على طبق الثّانی ، من عدم ترتیب الأثر على المعاملة وإعادة العبادة ، لا یکون إلّا أحیاناً ، وأدلة نفی العسر لا ینفی إلّا خصوص ما لزم منه العسر فعلاً ، مع عدم اختصاص ذلک بالمتعلقات ، ولزوم العسر فی الأحکام کذلک أیضاً لو قیل بلزوم ترتیب الأثر على طبق الاجتهاد الثّانی فی الأعمال السابقة ، وباب الهرج والمرج ینسد بالحکومة وفصل الخصومة.
وبالجملة : لا یکون التفاوت بین الأحکام ومتعلقاتها ، بتحمل الاجتهادین وعدم التحمل بینّاً ولا مبینّاً، بما یرجع إلى محصل فی کلامه ـ زید فی علو مقامه ـ فراجع وتأمل.
وأما بناءً على اعتبارها من باب السببیة والموضوعیة ، فلا محیص عن القول بصحة العمل على طبق الاجتهاد الأوّل ، عبادةً کان أو معاملةً ، وکون مؤداه ـ ما لم یضمحل ـ حکماً حقیقة ، وکذلک الحال إذا کان بحسب الاجتهاد الأوّل مجرى الاستصحاب أو البراءة النقلیة ، وقد ظفر فی الاجتهاد الثّانی بدلیل على الخلاف ، فإنّه عمل بما هو وظیفته على تلک الحال ، وقد مرّ فی مبحث الإِجزاء تحقیق المقال ، فراجع هناک.
فصل
فی التقلید
وهو أخذ قول الغیر ورأیه للعمل به فی الفرعیات ، أو للالتزام به فی الاعتقادیات تعبداً ، بلا مطالبة دلیل على رأیه ، ولا یخفى إنّه لا وجه لتفسیره بنفس العمل ، ضرورة سبقه علیه ، وإلاّ کان بلا تقلید ، فافهم.
ثم إنّه لا یذهب علیک أن جواز التقلید ورجوع الجاهل إلى العالم فی الجملة ، یکون بدیهیا جبلیّاً فطریاً لا یحتاج إلى دلیل ، وإلاّ لزم سدّ باب العلم به على العامی مطلقاً غالباً ، لعجزه عن معرفة ما دلّ علیه کتاباً وسنّةً ، ولا یجوز التقلید فیه أیضاً ، وإلاّ لدار أو تسلسل ، بل هذه هی العمدة فی أدلته ، وأغلب ما عداه قابل للمناقشة ، لبُعد تحصیل الاجماع فی مثل هذه المسألة ، مما یمکن أن یکون القول فیه لأجل کونه من الأمور الفطریة الارتکازیة ، والمنقول منه غیر حجة فی مثلها ، ولو قیل بحجیتها فی غیرها ، لوهنه بذلک.
ومنه قد انقدح إمکان القدح فی دعوى کونه من ضروریات الدین ، لاحتمال أن یکون من ضروریات العقل وفطریاته لا من ضروریاته ، وکذا القدح فی دعوى (1) سیرة المتدینین.
__________________
1 ـ الفصول : 411 فی فصل جواز التقلید.
وأما الآیات ، فلعدم دلالة آیة النفر (1) والسؤال (2) على جوازه ، لقوة احتمال أن یکون الارجاع لتحصیل العلم لا للاخذ تعبداً ، مع أن المسؤول فی آیة السؤال همّ أهل الکتاب کما هو ظاهرها ، أو أهل بیت العصمة الاطهار کما فسّر به فی الإخبار (3).
نعم لا بأس بدلالة الإخبار علیه بالمطابقة أو الملازمة ، حیث دلّ بعضها (4) على وجوب اتباع قول العلماء ، وبعضها (5) على أن للعوام تقلید العلماء ، وبعضها (6) على جواز الافتاء مفهوماً مثل ما دلّ على المنع عن الفتوى بغیر علم ، أو منطوقاً مثل (7) مادلّ على إظهاره 7 المحبة لأن یرى فی أصحابه من یفتی الناس بالحلال والحرام.
لا یقال : إن مجرد إظهار الفتوى للغیر لا یدلّ على جواز أخذه واتباعه.
فإنّه یقال : إن الملازمة العرفیة بین جواز الافتاء وجواز اتباعه واضحة ، وهذا غیر وجوب إظهار الحق والواقع ، حیث لا ملازمة بینه وبین وجوب أخذه تعبداً ، فافهم وتأمّل.
وهذه الأخبار على اختلاف مضامینها وتعدد أسانیدها ، لا یبعد دعوى القطع بصدور بعضها ، فیکون دلیلاً قاطعاً على جواز التقلید ، وأنّ لم یکن کلّ واحد منها
__________________
1 ـ التوبة : 122.
2 ـ النحل : 43.
3 ـ الکافی : 1 / 163 ، کتاب الحجّة الباب 20 ، الأحادیث.
4 ـ الوسائل : 18 / 98 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، الأحادیث : 4 و 5 و 9 و 15 و 23 و 27 و 33 و 42 و 45 والباب 12 ، الحدیث 54.
5 ـ الاحتجاج : 2 / 457 فی احتجاجات أبی محمد العسکری وجاء فی الوسائل : 18 / 94 الباب 10 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 20.
6 ـ الوسائل : 18 / 9 ، الباب 4 من أبواب صفات القاضی ، الأحادیث : 1 و 2 و 3 و 31 و 33 والباب 6 ، الحدیث 48. والباب 9 ، الحدیث 23 والباب 11 ، الحدیث 12.
7 ـ الوسائل : 18 / 108 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 36.
بحجة ، فیکون مخصصاً لما دلّ على عدم جواز اتباع غیر العلم والذم على التقلید ، من الآیات والروایات. قال الله تبارک وتعالى : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) وقوله تعالى : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) (2) مع احتمال أن الذم إنّما کان على تقلیدهم للجاهل ، أو فی الأصول الاعتقادیة التی لابدّ فیها من الیقین ، وأما قیاس المسائل الفرعیة على الأصول الاعتقادیة ، فی إنّه کما لا یجوز التقلید فیها مع الغموض فیها کذلک لا یجوز فیها بالطریق الأولى لسهولتها ، فباطل ، مع إنّه مع الفارق ، ضرورة أن الأصول الاعتقادیة مسائل معدودة ، بخلافها فإنّها مما لا تعدّ ولا تحصى ، ولا یکاد یتیسر من الاجتهاد فیها فعلاً طول العمر إلّا للاوحدی فی کلیاتها ، کما لا یخفى.
فصل
إذا علم المقلد اختلاف الأحیاء فی الفتوى مع اختلافهم فی العلم والفقاهة ، فلابد من الرجوع إلى الافضل إذا احتمل تعینه ، للقطع بحجیته والشک فی حجیة غیره ، ولا وجه لرجوعه إلى الغیر فی تقلیده ، إلّا على نحو دائر.
نعم لا بأس برجوعه إلیه إذا استقل عقله بالتساوی ، وجواز الرجوع إلیه أیضاً ، أو جوّز له الأفضل بعد رجوعه إلیه ، هذا حال العاجر عن الاجتهاد فی تعیین ما هو قضیة الادلة فی هذه المسألة.
وأمّا غیره ، فقد اختلفوا فی جواز تقلید (3) المفضول وعدم جوازه ، ذهب بعضهم إلى الجواز ، والمعروف بین الأصحاب ـ على ما قیل ـ عدمه وهو الأقوى ،
__________________
1 ـ الاسراء : 36.
2 ـ الزخرف : 23.
3 ـ فی « ب » : تقدیم.
للأصل ، وعدم دلیل على خلافه ، ولا إطلاق فی أدلة التقلید بعد الغضّ عن نهوضها على مشروعیة أصله ، لوضوح إنّها إنّما تکون بصدد بیان أصل جواز الأخذ بقول العالم لا فی کلّ حال ، من غیر تعرض أصلاً لصورة معارضته بقول الفاضل ، کما هو شأن سائر الطرق والأمارات على ما لا یخفى.
ودعوى (1) السیرة على الأخذ بفتوى أحد المخالفین فی الفتوى من دون فحص عن أعلمیته مع العلم بأعلمیة أحدهما ، ممنوعة.
ولا عسر فی تقلید الاعلم ، لا علیه لاخذ فتاواه من رسائله وکتبه ، ولا لمقلدیه لذلک أیضاً ، ولیس تشخیص الأعلمیة بأشکل من تشخیص أصل الاجتهاد ، مع أن قضیة نفی العسر الاقتصار على موضع العسر ، فیجب فیما لا یلزم منه عسر ، فتأمل جیداً.
وقد استدلّ للمنع أیضاً بوجوه :
أحدها (2) : نقل الإجماع على تعیّن تقلید الافضل.
ثانیها (3) : الإخبار الدالّة على ترجیحه مع المعارضة ، کما فی المقبولة (4) وغیرها (5) ، أو على اختیاره للحکم بین الناس ، کما دلّ علیه المنقول (6) عن أمیر المؤمنین 7 : ( اختر للحکم بین الناس أفضل رعیتک ).
ثالثها (7) : إن قول الأفضل أقرب من غیره جزماً ، فیجب الأخذ به عند
__________________
1 ـ راجع شرح مختصر الأصول / 484.
2 ـ مطارح الأنظار / 303 ، فی التنبیه السادس ، عند استدلاله على القول بوجوب تقلید الأفضل.
3 ـ مفاتیح الأصول / 627.
4 ـ التهذیب 6 : 301 ، الباب 92 ، الحدیث 6 ـ الکافی 1 : 54. باب اختلاف الحدیث من کتاب فضل العلم ، الحدیث 10.
5 ـ التهذیب 6 / 301 ، الباب 92 ، الحدیث 50 و 51 ـ الفقیه 3 : 5 الباب 9 الحدیث 1 و 2.
6 ـ نهج البلاغة الجزء الثالث : 104 فی کتابه 7 للاشتر النخعی.
7 ـ الذریعة 2 : 801 ، فی باب الاجتهاد ، فصل صفة المفتی والمستفتی.
المعارضة عقلاً.
ولا یخفى ضعفها :
أمّا الأوّل : فلقوة احتمال أن یکون وجه القول بالتعیین للکلّ أو الجل هو الأصل ، فلا مجال لتحصیل الإجماع مع الظفر بالاتفاق ، فیکون نقله موهوناً ، مع عدم حجیة نقله ولو مع عدم وهنه.
وأمّا الثانی : فلان الترجیح مع المعارضة فی مقام الحکومة ، لأجل رفع الخصومة التی لا تکاد ترتفع إلّا به ، لا یستلزم الترجیح فی مقام الفتوى ، کما لا یخفى.
وأما الثالث : فممنوع صغرى وکبرى.
أما الصغرى فلاجل أن فتوى غیر الأفضل ربما یکون أقرب من فتواه ، لموافقته لفتوى من هو أفضل منه ممن مات ، ولا یصغى إلى أن فتوى الأفضل أقرب فی نفسه ، فإنّه لو سلّم إنّه کذلک إلّا إنّه لیس بصغری لما ادعى عقلاً من الکبرى ، بداهة أن العقل لا یرى تفاوتاً بین أن تکون الأقربیة فی الأمارة لنفسها ، أو لأجل موافقتها لامارة أُخرى ، کما لا یخفى.
وأما الکبرى فلأن ملاک حجیة قول الغیر تعبداً ولو على نحو الطریقیة ، لم یعلم إنّه القرب من الواقع ، فلعله یکون ما هو فی الأفضل وغیره سیان ، ولم یکن لزیادة القرب فی أحدهما دخل أصلاً. نعم لو کان تمام الملاک هو القرب ، کما إذا کان حجة بنظر العقل ، لتعین الاقرب قطعاً ، فافهم.
فصل
اختلفوا فی اشتراط الحیاة فی المفتی ، والمعروف بین الأصحاب (1) الاشتراط
__________________
1 ـ المعالم / 241. فی « أصل : یعتبر فی المفتی .. الخ » من المطلب التاسع. ( ا ) راجع مسالک الافهام 1 : 127 ، فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر. وقواعد الأحکام 119
وبین العامة (1) عدمه ، وهو خیرة الأخباریین (2) ، وبعض المجتهدین (3) من أصحابنا ، وربما نقل تفاصیل :
منها (4) : التفصیل بین البدوی فیشترط ، والاستمراری فلا یشترط ، والمختار ما هو المعروف بین الأصحاب ، للشک فی جواز تقلید المیت ، والأصل عدم جوازه ، ولا مخرج عن هذا الأصل ، إلّا ما استدل به المجوّز على الجواز من وجوه ضعیفة.
منها (5) : استصحاب جواز تقلیده فی حال حیاته ، ولا یذهب علیک إنّه لا مجال له ، لعدم بقاء موضوعه عرفاً ، لعدم بقاء الرأی معه ، فإنّه متقوّم بالحیاة بنظر العرف ، وأنّ لم یکن کذلک واقعاً ، حیث إنّ الموت عند أهله موجب لانعدام المیت ورأیه ؛ ولا ینافی ذلک صحة استصحاب بعضٍ أحکام حال حیاته ، کطهارته ونجاسته وجواز نظر زوجته إلیه ، فإن ذلک إنّما یکون فیما لا یتقوم بحیاته عرفاً بحسبان بقائه ببدنه الباقی بعد موته ، وأنّ احتمل أن یکون للحیاة دخل فی عروضه واقعاً ؛ وبقاء الرأی لابد منه فی جواز التقلید قطعاً ، ولذا لا یجوز التقلید فیما إذا تبدّل الرأی أو ارتفع ، لمرض أو هرم إجماعا.
وبالجملة : یکون انتفاء الرأی بالموت بنظر العرف بانعدام موضوعه ، ویکون حشره فی القیامة إنّما هو من باب إعادة المعدوم ، وأنّ لم یکن کذلک حقیقة ، لبقاء موضوعه ، وهو النفس الناطقة الباقیة حال الموت لتجرده ، وقد عرفت فی باب الاستصحاب أن المدار فی بقاء الموضوع وعدمه هو العرف ، فلا یجدی بقاء النفس
__________________
کتاب الجهاد ، فی المقصد الخامس.
1 ـ شرح البدخشی 3 : 287 والابهاج فی شرح المنهاج 3 : 268 وفواتح الرحموت 2 : 407.
2 ـ الفوائد المدنیة 149.
3 ـ راجع مطارح الأنظار : صفحة 280.
4 ـ راجع مفاتیح الأصول / 624.
5 ـ راجع مفاتیح الأصول / 624 ، فی التنبیه الأوّل من تقلید المیت.
عقلاً فی صحة الاستصحاب مع عدم مساعدة العرف علیه ، وحسبان أهله إنّها غیر باقیة وإنما تعاد یوم القیامة بعد انعدامها ، فتأمل جیداً.
لا یقال : نعم ، الاعتقاد والرأی وأنّ کان یزول بالموت لانعدام موضوعه ، إلّا أن حدوثه فی حال حیاته کافٍ فی جواز تقلیده فی حال موته ، کما هو الحال فی الروایة.
فإنّه یقال : لا شبهة فی إنّه لا بدّ فی جوازه من بقاء الرأی والاعتقاد ، ولذا لو زال بجنون أو تبدل ونحوهما لما جاز قطعاً ، کما أُشیر إلیه آنفاً. هذا بالنسبة إلى التقلید الابتدائی.
وأما الاستمراری ، فربما یقال بإنّه قضیة استصحاب الأحکام التی قلده فیها ، فإن رأیه وأنّ کان مناطاً لعروضها وحدوثها ، إلّا إنّه عرفاً من أسباب العروض لا من مقومات الموضوع والمعروض.
ولکنه لا یخفى إنّه لا یقین بالحکم شرعاً سابقاً ، فإن جواز التقلید إن کان بحکم العقل وقضیة الفطرة کما عرفت فواضح ، فإنّه لا یقتضی أزید من تنجز ما أصابه من التکلیف والعذر فیما أخطأ ، وهو واضح. وأنّ کان بالنقل فکذلک ، على ما هو التحقیق من أن قضیة الحجیة شرعاً لیس إلّا ذلک ، لإِنشاء أحکام شرعیة على طبق مؤداها ، فلا مجال لاستصحاب ما قلده ، لعدم القطع به سابقاً ، إلّا على ما تکلفنا فی بعضٍ تنبیهات الاستصحاب (1) ، فراجع ؛ ولا دلیل على حجیة رأیه السابق فی اللاحق.
وأما بناءً على ما هو المعروف بینهم ، من کون قضیة الحجیة الشرعیة جعل مثل ما أدت إلیه من الأحکام الواقعیة التکلیفیة أو الوضعیة شرعاً فی الظاهر ، فلاستصحاب ما قلده من الأحکام وأنّ کان مجال ، بدعوى بقاء الموضوع عرفاً ، لأجل کون الرأی عند أهل العرف من أسباب العروض لا من مقومات المعروض. إلّا أن الإِنصاف عدم کون الدعوى خالیة عن الجزاف ، فإنّه من المحتمل ـ لولا
__________________
1 ـ التنبیه الثّانی / ص 405.
المقطوع ـ أن الأحکام التقلیدیة عندهم أیضاً لیست أحکاماً لموضوعاًتها بقول مطلق ، بحیث عدّ من ارتفاع الحکم عندهم من موضوعه ، بسبب تبدل الرأی ونحوه ، بل إنّما کانت أحکاماً لها بحسب رأیه ، بحیث عدّ من انتفاء الحکم بانتفاء موضوعه عند التبدل ، ومجرد احتمال ذلک یکفی فی عدم صحة استصحابها ، لاعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو عرفاً ، فتأمل جیداً.
هذا کله مع إمکان دعوى إنّه إذا لم یجز البقاء على التقلید بعد زوال الرأی ، بسبب الهرم أو المرض إجماعاً ، لم یجز فی حال الموت بنحو أولى قطعاً ، فتأمّل.
ومنها : إطلاق الآیات (1) الدالّة على التقلید.
وفیه ـ مضافاً إلى ما أشرنا إلیه من عدم دلالتها علیه ـ منع إطلاقها على تقدیر دلالتها ، وإنما هو مسوق لبیان أصل تشریعه کما لا یخفى. ومنه انقدح حال إطلاق ما دلّ من الروایات على التقلید (2) ، مع إمکان دعوى الانسیاق إلى حال الحیاة فیها.
ومنها : دعوى (3) أنّه لا دلیل على التقلید إلّا دلیل الانسداد ، وقضیته جواز تقلید المیت کالحی بلا تفاوت بینهما أصلاً ، کما لا یخفى.
وفیه أنّه لا یکاد تصل النوبة إلیه ، لما عرفت من دلیل العقل والنقل علیه.
ومنها (4) : دعوى السیرة على البقاء ، فإن المعلوم من أصحاب الأئمّة
__________________
1 ـ آیة النفر / التوبة : 122 وآیة السؤال / النحل : 43 وآیة الکتمان / البقرة : 159 وآیة النبأ / الحجرات : 5.
2 ـ إکمال الدین وإتمام النعمة : 2 / 483 ، باب ذکر التوقیعات ، الحدیث 4 وللمزید راجع الوسائل : 18 / 101 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 9.
3 ـ استدل به المحقق القمی (ره) قوانین الأصول : 2 / 265 فی قانون عدم اشتراط مشافهة المفتی ، عند قوله : بل الدلیل علیه هو ما ذکرنا من البرهان ... الخ.
4 ـ مطارح الأنظار : 295 فی أدلة القائلین بجواز الاستمرار على تقلید المیت.
: عدم رجوعهم عما أخذوه تقلیدا بعد موت المفتی.
وفیه منع السیرة فیما هو محلّ الکلام ، وأصحابهم : إنّما لم یرجعوا عما أخذوه من الأحکام لأجل إنّهم غالباً إنّما کانوا یأخذونها ممن ینقلها عنهم : بلا واسطة أحد ، أو معها من دون دخل رأی الناقل فیه أصلاً ، وهو لیس بتقلید کما لا یخفى ، ولم یعلم إلى الآن حال من تعبّد بقول غیره ورأیه ، إنّه کان قد رجع أو لم یرجع بعد موته.
[ ومنها (1) : غیر ذلک مما لا یلیق بأن یسطر أو یذکر ] (2).
__________________
1 ـ راجع مفاتیح الأصول للسید المجاهد : 622 فی مفتاح : اختلفوا فی جواز تقلید المجتهد المیت عند ذکره أدلة المجوزین.
2 ـ أثبتناها فی « ب » وشطب علیها المصنف فی « أ ».
فصل
قد عرفت سابقاً إنّه لا تعارض فی موارد الجمع والتوفیق العرفی ، ولا یعمها ما یقتضیه الأصل فی المتعارضین ، من سقوط أحدهما رأساً وسقوط کلّ منهما فی خصوص مضمونه ، کما إذا لم یکونا فی البین ، فهل التخییر أو الترجیح یختص أیضاً بغیر مواردها أو یعمها؟ قولان : أولهما المشهور ، وقصارى ما یقال فی وجهه : إن الظاهر من الأخبار العلاجیة ـ سؤالاً وجواباً ـ هو التخییر أو الترجیح فی موارد التحیّر ، مما لا یکاد یستفاد المراد هناک عرفاً ، لا فیما یستفاد ولو بالتوفیق ، فإنّه من أنحاء طرق الاستفادة عند أبناء المحاورة.
ویشکل بأن مساعدة العرف على الجمع والتوفیق وارتکازه فی أذهإنّهم على وجه وثیق ، لا یوجب اختصاص السؤالات بغیر موارد الجمع ، لصحّة السؤال بملاحظة التحیّر فی الحال لأجل ما یتراءى من المعارضة وأنّ کان یزول عرفاً بحسب المآل ، أو للتحیر فی الحکم واقعاً وأنّ لم یتحیر فیه ظاهراً ، وهو کافٍ فی صحته قطعاً ، مع إمکان أن یکون لاحتمال الردع شرعاً عن هذه الطریقة المتعارفة بین أبناء المحاورة ، وجل العناوین المأخوذة فی الاسئلة لولا کلها یعمها ، کما لا یخفى.
ودعوى أن المتیقن منها غیرها مجازفة ، غایته إنّه کان کذلک خارجاً لا بحسب مقام التخاطب ، وبذلک ینقدح وجه القول الثانی.
اللهم إلّا أن یقال : إن التوفیق فی مثل الخاص والعام والمقید والمطلق ، کان علیه السیرة القطعیة من لدن زمان الأئمة : ، وهی کاشفة إجمالاً عما یوجب تخصیص أخبار العلاج بغیر موارد التوفیق العرفی ، لولا دعوى اختصاصها به ، وإنّها سؤالاً وجواباً بصدد الاستعلاج والعلاج فی موارد التحیر والاحتیاج ، أو دعوى الإِجمال وتساوی احتمال العموم مع احتمال الاختصاص ، ولا ینافیها مجرد صحة السؤال لما لا ینافی العموم ما لم یکن هناک ظهور إنّه لذلک ، فلم یثبت بأخبار العلاج ردع عما هو
علیه بناءً العقلاء وسیرة العلماء ، من التوفیق وحمل الظاهر على الأظهر ، والتصرف فیما یکون صدورهما قرینة علیه ، فتأمل.
فصل
قد عرفت حکم تعارض الظاهر والأظهر وحمل الأوّل على الآخر ، فلا إشکال فیما إذا ظهر أن أیهما ظاهر وأیّهما أظهر ، وقد ذکر فیما أشتبه الحال لتمییز ذلک ما لا عبرة به أصلاً ، فلا بأس بالإشارة إلى جملة منها وبیان ضعفها :
منها : ما قیل (1) فی ترجیح ظهور العموم على الإِطلاق ، وتقدیم التقیید على التخصیص فیما دار الأمر بینهما ، من کون ظهور العام فی العموم تنجیزیاً ، بخلاف ظهور المطلق فی الإِطلاق ، فإنّه معلق على عدم البیان ، والعام یصلح بیاناً ، فتقدیم العام حینئذ لعدم تمامیة مقتضى الإِطلاق معه ، بخلاف العکس ، فإنّه موجب لتخصیصه بلا وجه إلّا على نحو دائر. ومن أن التقیید أغلب من التخصیص.
وفیه : إن عدم البیان الذی هو جزء المقتضی فی مقدمات الحکمة ، إنّما هو عدم البیان فی مقام التخاطب لا إلى الابد ، وأغلبیة التقیید مع کثرة التخصیص بمثابة قد قیل : ما من عام إلّا وقد خص ، غیر مفید ، فلابد (2) فی کلّ قضیة من ملاحظة خصوصیاتها الموجبة لاظهریة أحدهما من الآخر ، فتدبر.
ومنها : ما قیل فیما إذا دار بین التخصیص والنسخ ـ کما إذا ورد عام بعد حضور وقت العمل بالخاص ، حیث یدور بین أن یکون الخاص مخصصاً أو یکون العام ناسخاً ، أو ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام ، حیث یدور بین أن یکون الخاص مخصصاً للعام ، أو ناسخاً له ورافعاً لاستمراره ودوامه ـ فی وجه تقدیم التخصیص على النسخ ، من غلبة التخصیص وندرة النسخ.
__________________
1 ـ راجع فرائد الأصول 457 ، المقام الرابع من مقام التراجیح.
2 ـ فی « ب » : ولا بد.
ولا یخفى أن دلالة الخاص أو العام على الاستمرار والدوام إنّما هو بالإِطلاق لا بالوضع ، فعلى الوجه العقلی فی تقدیم التقیید على التخصیص کان اللازم فی هذا الدوران تقدیم النسخ على التخصیص أیضاً ، وأنّ غلبة التخصیص إنّما توجب أقوائیة ظهور الکلام فی الاستمرار والدوام من ظهور العام فی العموم إذا کانت مرتکزة فی أذهان أهل المحاورة بمثابة تعد من القرائن المکتنفة بالکلام ، وإلاّ فهی وأنّ کانت مفیدة للظن بالتخصیص ، إلّا إنّها غیر موجبة لها ، کما لا یخفى.
ثم إنّه بناءً على اعتبارٍ عدم حضور وقت العمل فی التخصیص ، لئلا یلزم تأخیر البیان عن وقت الحاجة ، یشکل الأمر فی تخصیص الکتاب أو السنة بالخصوصات الصادرة عن الأئمة : ، فإنّها صادرة بعد حضور وقت العمل بعموماتهما ، والتزام نسخهما بها ولو قیل بجواز نسخهما بالروایة عنهم : کما ترى. فلا محیص فی حلّه من أن یقال : إن اعتبارٍ ذلک حیث کان لأجل قبح تأخیر البیان عن وقت الحاجة ، وکان من الواضح أن ذلک فیما إذا لم یکن هناک مصلحة فی إخفاء الخصوصات أو مفسدة فی إبدائها ، کإخفاء غیر واحد من التکالیف فی الصدر الأوّل ، لم یکن باس بتخصیص عموماتهما بها ، واستکشاف أن موردها کان خارجاً عن حکم العام واقعاً وأنّ کان داخلاً فیه ظاهراً ، ولاجله لا بأس بالالتزام بالنسخ بمعنى رفع الید بها عن ظهور تلک العمومات بإطلاقها فی الاستمرار والدوام أیضاً ، فتفطن.
فصل
لا إشکال فی تعیین الأظهر لو کان فی البین إذا کان التعارض بین الإثنین ، وأما إذا کان بین الزائد علیهما فتعینه ربما لا یخلو عن خفاء ، ولذا وقع بعضٍ (1) الأعلام فی اشتباه وخطأ ، حیث توهّم إنّه إذا کان هناک عام وخصوصات وقد خصص ببعضها ، کان اللازم ملاحظة النسبة بینه وبین سائر الخصوصات بعد
__________________
1 ـ هو المولى النراقی (ره) العوائد / 119 ـ 120 ، العائدة 40.
تخصیصه به ، فربما تنقلب النسبة إلى عموم وخصوص من وجه ، فلابد من رعایة هذه النسبة وتقدیم الراجح منه ومنها ، أو التخییر بینه وبینها لو لم یکن هناک راجح ، لا تقدیمها علیه ، إلّا إذا کانت النسبة بعده على حالها.
وفیه : إن النسبة إنّما هی بملاحظة الظهورات ، وتخصیص العام بمخصص منفصل ولو کان قطعیاً لا ینثلم به ظهوره ، وأنّ انثلم به حجیته ، ولذلک یکون بعد التخصیص حجة فی الباقی ، لأصالة عمومه بالنسبة إلیه.
لا یقال : إن العام بعد تخصیصه بالقطعی لا یکون مستعملاً فی العموم قطعاً ، فکیف یکون ظاهراً فیه؟
فإنّه یقال : إن المعلوم عدم إرادة العموم ، لا عدم استعماله فیه لإفادة القاعدة الکلیة ، فیعمل بعمومها ما لم یعلم بتخصیصها ، وإلاّ لم یکن وجه فی حجیته فی تمام الباقی ، لجواز استعماله حینئذ فیه وفی غیره من المراتب التی یجوز أن ینتهی إلیها التخصیص ، وأصالة عدم مخصص آخر لا یوجب إنعقاد ظهور له ، لا فیه ولا فی غیره من المراتب ، لعدم الوضع ولا القرینة المعینة لمرتبة منها ، کما لا یخفى ، لجواز إرادتها وعدم نصب قرینة علیها.
نعم ربما یکون عدم نصب قرینة مع کون العام فی مقام البیان قرینة على إرادة التمام ، وهو غیر ظهور العام فیه فی کلّ مقام.
فانقدح بذلک إنّه لا بدّ من تخصیص العام بکل واحد من الخصوصات مطلقاً ، ولو کان بعضها مقدماً أو قطعیاً ، ما لم یلزم منه محذور انتهائه إلى ما لا یجوز الانتهاء إلیه عرفاً ، ولو لم یکن مستوعبة لافراده ، فضلاً عما إذا کانت مستوعبة لها ، فلا بدّ حینئذ من معاملة التباین بینه وبین مجموعها ومن ملاحظة الترجیح بینهما وعدمه ، فلو رجح جانبها أو اختیر فیما لم یکن هناک ترجیح فلا مجال للعمل به أصلاً ، بخلاف ما لو رجح طرفه أو قدم تخییراً ، فلا یطرح منها إلّا خصوص ما لا یلزم مع طرحة المحذور من التخصیص بغیره ، فإن التباین إنّما کان بینه وبین
مجموعها لا جمیعها ، وحینئذ فربما یقع التعارض بین الخصوصات فیخصص ببعضها ترجیحاً أو تخییراً ، فلا تغفل.
هذا فیما کانت النسبة بین المتعارضات متحدة ، وقد ظهر منه حالها فیما کانت النسبة بینها متعددة ، کما إذا ورد هناک عامّان من وجه مع ما هو أخص مطلقاً من أحدهما ، وإنّه لابد من تقدیم الخاص على العام ومعاملة العموم من وجه بین العامین من الترجیح والتخییر بینهما ، وأنّ انقلبت النسبة بینهما إلى العموم المطلق بعد تخصیص أحدهما ، لما عرفت من إنّه لا وجه إلّا لملاحظة النسبة قبل العلاج.
نعم لو لم یکن الباقی تحته بعد تخصیصه إلّا ما لا یجوز أن یجوز عنه التخصیص أو کان بعیداً جداً ، لقدم على العام الآخر ، لا لانقلاب النسبة بینهما ، بل لکونه کالنص فیه ، فیقدّم على الآخر الظاهر فیه بعمومه ، کما لا یخفی.
فصل
لا یخفی أن المزایا المرجحة لأحد المتعارضین الموجبة للاخذ به وطرح الآخر ـ بناءً على وجوب الترجیح ـ وأنّ کانت على أنحاء مختلفة ومواردها متعددة ، من راوی الخبر ونفسه ووجه صدوره ومتنه ومضمونه مثل : الوثاقة والفقاهة والشهرة ومخالفة العامة والفصاحة وموافقة الکتاب والموافقة لفتوى الأصحاب ، إلى غیر ذلک مما یوجب مزیة فی طرف من أطرافه ، خصوصاً لو قیل بالتعدی من المزایا المنصوصة ، إلّا إنّها موجبة لتقدیم أحد السندین وترجیحه وطرح الآخر ، فإن أخبار العلاج دلّت على تقدیم روایة ذات مزیة فی أحد أطرافها ونواحیها فجمیع هذه من مرجحات السند حتى موافقة الخبر للتقیة ، فإنّها أیضاً مما یوجب ترجیح أحد السندین وحجیته فعلاً وطرح الآخر رأساً ؛ وکونها فی مقطوعی الصدور متمحضة فی ترجیح الجهة لا یوجب کونها کذلک فی غیرهما ، ضرورة إنّه لا معنى للتعبد بسند ما یتعین حمله على التقیة ، فکیف یقاس على ما لا تعبد فیه للقطع بصدوره؟.
ثم إنّه لا وجه لمراعاة الترتیب بین المرجحات لو قیل بالتعدی وإناطة الترجیح
بالظن أو بالأقربیة إلى الواقع ، ضرورة أن قضیة ذلک تقدیم الخبر الذی ظن صدقه أو کان أقرب إلى الواقع منهما ، والتخییر بینهما إذا تساویا ، فلا وجه لإتعاب النفس فی بیان أن أیها یقدم أو یؤخر إلّا تعیین أن أیها یکون فیه المناط فی صورة مزاحمة بعضها مع الآخر.
وأما لو قیل بالاقتصار على المزایا المنصوصة فله وجه لما یتراءى من ذکرها مرتباً فی المقبولة (1) والمرفوعة (2) ، مع إمکان أن یقال : إن الظاهر کونهما کسائر أخبار الترجیح بصدد بیان أن هذا مرجح وذاک مرجح ، ولذا إقتصر فی غیر واحد منها على ذکر مرجح واحد ، وإلاّ لزم تقیید جمیعها على کثرتها بما فی المقبولة ، وهو بعید جداً ، وعلیه فمتى وجد فی أحدهما مرجح وفی الآخر آخر منها ، کان المرجع هو إطلاقاًت التخییر ، ولا کذلک على الأوّل بل لابد من ملاحظة الترتیب ، إلّا إذا کانا فی عرض واحد.
وانقدح بذلک أن حال المرجح الجهتی حال سائر المرجحات ، فی إنّه لابد فی صورة مزاحمته مع بعضها من ملاحظة أن أیهما فعلاً موجب للظن بصدق ذیه بمضمونه ، أو الأقربیة کذلک إلى الواقع ، فیوجب ترجیحه وطرح الآخر ، أو إنّه لا مزیة لأحدهما على الآخر ، کما إذا کان الخبر الموافق للتقیة بماله من المزیة مساویاً للخبر المخالف لها بحسب المناطین ، فلا بدّ حینئذ من التخییر بین الخبرین. فلا وجه لتقدیمه على غیره ، کما عن الوحید البهبهانی (3) ـ 1 ـ وبالغ فیه
__________________
1 ـ التهذیب 6 / 301 ، الباب 92 ، الحدیث 52.
2 ـ مستدرک وسائل الشیعة 17 : 302 الباب 9 من أبواب صفات القاضی.
3 ـ راجع ملاحظات الفرید على فوائد الوحید (ره) / 120 فی الفائدة 21.
المولى محمد باقر بن محمد أکمل البهبهانی مروج المذهب رأس الماة الثالثة تولد سنة 1118 فی اصفهان وقطن برهة فی بهبهان ، ثم انتقل إلى کربلا ونشر العلم هناک ، صنف ما یقرب من ستین کتابا. منها شرحه على المفاتیح وحواشیه على المدارک وعلى المعالم وغیر ذلک توفی فی الحائر الشریف سنة 1208 ه ( الکنى والالقاب 2 / 97 ).
بعض (1) أعاظم المعاصرین ـ أعلى الله درجته ؛ ولا لتقدیم غیره علیه ، کما یظهر من شیخنا العلامة (2) ـ أعلى الله مقامه ـ قال :
( امّا لو زاحم الترجیح بالصدور الترجیح من حیث جهة الصدور ، بأن کان الارجح صدوراً موافقاً للعامة ، فالظاهر تقدیمه على غیره وأنّ کان مخالفاً للعامة ، بناءً على تعلیل الترجیح بخالفة العامة بإحتمال التقیة فی الموافق ، لأن هذا الترجیح ملحوظ فی الخبرین بعد فرض صدورهما قطعاً کما فی المتواترین ، أو تعبداً کما فی الخبرین بعد عدم إمکان التعبد بصدور أحدهما وترک التعبد بصدور الآخر ، وفیما نحن فیه یمکن ذلک بمقتضى أدلة الترجیح من حیث الصدور.
إن قلت : إن الأصل فی الخبرین الصدور ، فإذا تعبدنا بصدورهما إقتضى ذلک الحکم بصدور الموافق تقیة ، کما یقتضی ذلک الحکم بإرادة خلاف الظاهر فی أضعفهما ، فیکون هذا المرجح نظیر الترجیح بحسب الدلالة مقدماً على الترجیح بحسب الصدور.
قلت : لا معنى للتعبد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعینّ على التقیة ، لإنّه إلغاء لأحدهما فی الحقیقة ).
وقال بعد جملة من الکلام :
( فمورد هذا الترجیح تساوی الخبرین من حیث الصدور ، امّا علماً کما فی المتواترین ، أو تعبداً کما فی المتکافئین من الأخبار ، وأما ما وجب فیه التعبد بصدور أحدهما المعینّ دون الآخر فلا وجه لإعمال هذا المرجح فیه ، لأن جهة الصدور متفرع على أصل الصدور ) إنتهى موضع الحاجة من کلامه ، زید فی علو مقامه.
وفیه ـ مضافاً إلى ما عرفت ـ أن حدیث فرعیة جهة الصدور على أصله إنّما یفید
__________________
1 ـ هو صاحب البدائع فی البدائع / 455 و 457 ، المقام الرابع فی ترتیب المرجحات.
2 ـ فرائد الأصول / 468.
إذا لم یکن المرجح الجهتی من مرجحات أصل الصدور بل من مرجحاتها ، وأما إذا کان من مرجحاته بأحد المناطین ، فأی فرق بینه وبین سائر المرجحات؟ ولم یقم دلیل بعد فی الخبرین المتعارضین على وجوب التعبد بصدور الراجح منهما من حیث غیر الجهة ، مع کون الآخر راجحاً بحسبها ، بل هو أول الکلام ، کما لا یخفى ، فلا محیص من ملاحظة الراجح من المرجحین بحسب أحد المناطین ، أو من دلالة أخبار العلاج ، على الترجیح بینهما مع المزاحمة ، ومع عدم الدلالة ولو لعدم التعرض لهذه الصورة فالمحکم هو إطلاق التخییر ، فلا تغفل.
وقد أورد بعضٍ أعاظم تلامیذه (1) علیه بإنتقاضه بالمتکافئین من حیث الصدور ، فإنّه لو لم یعقل التعبد بصدور المتخالفین من حیث الصدور ، مع حمل أحدهما على التقیة ، لم یعقل التعبد بصدورهما مع حمل أحدهما علیها ، لإنّه إلغاء لاحدهما أیضاً فی الحقیقة.
وفیه ما لا یخفى من الغفلة ، وحسبان إنّه التزم 1 فی مورد الترجیح بحسب الجهة باعتبار تساویهما من حیث الصدور ، امّا للعلم بصدورهما ، وإما للتعبد به فعلاً ، مع بداهة أن غرضه من التساوی من حیث الصدور تعبداً تساویهما بحسب دلیل التعبد بالصدور قطعاً ، ضرورة أن دلیل حجیة الخبر لا یقتضی التعبد فعلاً بالمتعارضین ، بل ولا بأحدهما ، وقضیة دلیل العلاج لیس إلّا التعبد بأحدهما تخییراً أو ترجیحاً.
والعجب کلّ العجب إنّه ; لم یکتف بما أورده من النقض ، حتى ادعى استحالة تقدیم الترجیح بغیر هذا المرجح على الترجیح به ، وبرهن علیه بما حاصله امتناع التعبد بصدور الموافق ، لدوران أمره بین عدم صدوره من أصله ، وبین صدوره تقیة ، ولا یعقل التعبد به على التقدیرین بداهةً ، کما إنّه لا یعقل التعبد بالقطعی الصدور الموافق ، بل الأمر فی الظنی الصدور أهون ، لاحتمال عدم
__________________
1 ـ وهو الشیخ المحقق الحاج میرزا حبیب الله الرشتی ( طاب ثراه ). راجع بدائع الأفکار / 457.
صدوره ، بخلافه.
ثم قال : فاحتمال تقدیم المرجحات السندیة على مخالفة العامة ، مع نص الإمام 7 على طرح موافقهم ، من العجائب والغرائب التی لم یعهد صدورها من ذی مسکة ، فضلاً عمن هو تالی العصمة علماً وعملاً.
ثم قال : ولیت شعری ، إن هذه الغفلة الواضحة کیف صدرت منه؟ مع إنّه فی جودة النظر یأتی بما یقرب من شق القمر.
وأنت خبیر بوضوح فساد برهإنّه ، ضرورة عدم دوران أمر الموافق بین الصدور تقیة وعدم الصدور رأساً ، لاحتمال صدوره لبیان حکم الله واقعاً ، وعدم صدور المخالف المعارض له أصلاً ، ولا یکاد یحتاچ فی التعبد إلى أزید من احتمال صدور الخبر لبیان ذلک بداهة ، وإنما دار احتمال الموافق بین الاثنین إذا کان المخالف قطعیاً صدوراً وجهةً ودلالةً ، ضرورة دوران معارضه حینئذ بین عدم صدوره وصدوره تقیة ، وفی غیر هذه الصورة کان دوران أمره بین الثلاثة لا محالة ، لاحتمال صدوره لبیان الحکم الواقعی حینئذ أیضاً.
ومنه قد إنقدح إمکان التعبد بصدور الموافق القطعی لبیان الحکم الواقعی أیضاً ، وإنما لم یکن التعبد بصدوره لذلک إذا کان معارضه المخالف قطعیاً بحسب السند والدلالة ، لتعیّن حمله على التقیة حینئذ لا محالة ؛ ولعمری إن ما ذکرنا أوضح من أن یخفى على مثله ، إلّا أن الخطأ والنسیان کالطبیعة الثانیة للإنسان ، عصمنا الله من زلل الاقدام والأقلام فی کلّ ورطة ومقام.
ثم إن هذا کله إنّما هو بملاحظة أن هذا المرجح مرجح من حیث الجهة ، وأما بما هو موجب لأقوائیة دلالة ذیه من معارضه ، لاحتمال التوریة فی المعارض المحتمل فیه التقیة دونه ، فهو مقدم على جمیع مرجحات الصدور ، بناءً على ما هو المشهور من تقدم التوفیق ـ بحمل الظاهر على الأظهر ـ على الترجیح بها ، اللهم إلّا إنّ یقال : أن باب احتمال التوریة وأنّ کان مفتوحاً فیما احتمل فیه التقیة ، إلّا إنّه
حیث کان بالتأمل والنظر لم یوجب أن یکون معارضه أظهر ، بحیث یکون قرینة على التصرف عرفاً فی الآخر ، فتدبر.
فصل
موافقة الخبر لما یوجب الظن بمضمونه ولو نوعاً من المرجحات فی الجملة ـ بناءً على لزوم الترجیح ـ لو قیل بالتعدی من المرجحات المنصوصة ، أو قیل بدخوله فی القاعدة المجمع علیها کما ادعی (1) ، وهی لزوم العمل بأقوى الدلیلین ، وقد عرفت أن التعدی محلّ نظر بل منع ، وأنّ الظاهر من القاعدة هو ما کان الأقوائیة من حیث الدلیلیة والکشفیة ، ومضمون أحدهما مظنوناً ، لأجل مساعدة أمارة ظنیة علیه ، لا یوجب قوة فیه من هذه الحیثیة ، بل هو على ما هو علیه من القوة لو لا مساعدتها ، کما لا یخفى ، ومطابقة أحد الخبرین لها لا یکون لازمه الطن بوجود خلل فی الآخر ، امّا من حیث الصدور ، أو من حیث جهته ، کیف؟ وقد اجتمع مع القطع بوجود جمیع ما اعتبر فی حجیة المخالف لولا معارضة الموافق ؛ والصدق واقعاً لا یکاد یعتبر فی الحجیّة ، کما لا یکاد یضر بها الکذب کذلک ، فافهم. هذا حال الامارة الغیر المعتبرة لعدم الدلیل على اعتبارها.
أما ما لیس بمعتبر بالخصوص لأجل الدلیل على عدم اعتباره بالخصوص کالقیاس ، فهو وأنّ کان کالغیر المعتبر لعدم الدلیل ، بحسب ما یقتضی الترجیح به من الإخبار بناءً على التعدی ، والقاعدة بناءً على دخول مظنون المضمون فی أقوى الدلیلین ، إلّا أن الأخبار الناهیة عن القیاس ( 2) وأنّ السنّة إذا قیست محق الدین (3) ، مانعة عن الترجیح به ، ضرورة أن استعماله فی ترجیح أحد الخبرین
__________________
1 ـ راجع فرائد الأصول / 469.
2 ـ الکافی 1 : 46 باب البدع والرأی والمقاییس. الأحادیث 13 و 16.
3 ـ المصدر المتقدم ، الحدیث 15 والکافی 7 : 299 ، کتاب الدیات ، باب الرجل یقتل المرأة و ... الخ ، الحدیث 6.
وللمزید راجع جامع أحادیث الشیعة 1 : 269 ، الباب 7 عدم حجیة القیاس والرأی و .. الخ.
استعمال له فی المسألة الشرعیة الأصولیة ، وخطره لیس بأقل من استعماله فی المسألة الفرعیة.
وتوهمّ أن حال القیاس ها هنا لیس فی تحقق الأقوائیة به إلّا کحاله فیما ینقح به موضوع آخر ذو حکم ، من دون اعتماد علیه فی مسألة لا أصولیة ولا فرعیة ، قیاس مع الفارق ، لوضوح الفرق بین المقام والقیاس فی الموضوعاًت الخارجیة الصرفة ، فإن القیاس المعمول فیها لیس فی الدین ، فیکون إفساده أکثر من إصلاحه ، وهذا بخلاف المعمول فی المقام ، فإنّه نحو إعمال له فی الدین ؛ ضرورة أنّه لولاه لما تعیّن الخبر الموافق له للحجیة بعد سقوطه عن الحجیّة بمقتضى أدلة الاعتبار ، والتخییر بینه وبین معارضه بمقتضى أدلّة العلاج ، فتأمّل جیداً.
وأمّا ما إذا اعتضد بما کان دلیلاً مستقلاً فی نفسه ، کالکتاب والسنة القطعیة ، فالمعارض المخالف لأحدهما : إن کانت مخالفته بالمباینة الکلیة ، فهذه الصورة خارجة عن مورد الترجیح ، لعدم حجیة الخبر المخالف کذلک من أصله ، ولو مع عدم المعارض ، فإنّه المتیقن من الإخبار الدالة على إنّه زخرف أو باطل ، أو أنّه : لم نقله ، أو غیر ذلک (1).
وإن کانت مخالفته بالعموم والخصوص المطلق ، فقضیة القاعدة فیها ، وأنّ کانت ملاحظة المرجحات بینه وبین الموافق وتخصیص الکتاب به تعییناً أو تخییراً ، لو لم یکن الترجیح فی الموافق ، بناءً على جواز تخصیص الکتاب بخبر الواحد ، إلّا أن الإخبار الدالة على أخذ الموافق من المتعارضین غیر قاصرة عن العموم لهذه الصورة ، لو قیل بإنّها فی مقام ترجیح أحدهما لا تعیین الحجة عن اللاحجة ، کما نزلناها علیه ، ویؤیده أخبار (2) العرض على الکتاب الدالة على عدم حجیة المخالف من
__________________
1 ـ راجع ص 444 ، هامش 2.
2 ـ وسائل الشیعة 18 : 78 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضی / الأحادیث 10 ، 11 ، 12 ، 14 ، 15 ، 18.
أصله ، فإنّهما تفرغان عن لسان واحد ، فلا وجه لحمل المخالفة فی إحدهما (1) على خلاف المخالفة فی الأخرى ، کما لا یخفى.
اللهمّ إلّا أن یقال : نعم ، إلّا أن دعوى اختصاص هذه الطائفة بما إذا کانت المخالفة بالمباینة ـ بقرینة القطع بصدور المخالف الغیر المباین عنهم : کثیراً ، وإباءِ مثل : ( ما خالف قول ربنا لم أقله ، أو زخرف أو باطل ) عن التخصیص ـ غیر بعیدة ، وأنّ کانت المخالفة بالعموم والخصوص من وجه ، فالظاهر إنّها کالمخالفة فی الصورة الأُولى کما لا یخفى.
وأما الترجیح بمثل الاستصحاب ، کما وقع فی کلام غیر واحد من الأصحاب ، فالظاهر إنّه لأجل اعتباره من باب الظنّ والطریقیة عندهم ، وأما بناءً على اعتباره تعبداً من باب الإخبار وظیفةً للشاک ، کما هو المختار ، کسائر الأصول العملیة التی یکون کذلک عقلاً أو نقلاً ، فلا وجه للترجیح به أصلاً ، لعدم تقویة مضمون الخبر بموافقته ، ولو بملاحظة دلیل اعتباره کما لا یخفى.
هذا آخر ما أردنا إیراده ، والحمد لله أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً.
__________________
والمحاسن 1 : 220 ، کتاب مصابیح الظلم ، الباب 11 ، الأحادیث 128 إلى 131. وص 225 ، الباب 12. الحدیث 145 وص 226 ، الباب 14 ، الحدیث 150.
1 ـ فی « ب » : احدهما.
أما الخاتمة : فهی فیما یتعلق بالاجتهاد والتقلید
فصل
الاجتهاد لغةً : تحمّل المشقة ، واصطلاحاً کما عن الحاجبی (1) والعلامة (2) : استفراغ الوسع فی تحصیل الظن بالحکم الشرعی ، وعن غیرهما (3) : ملکة یقتدر بها على استنباط الحکم الشرعی الفرعی من الأصل فعلاً أو قوة قریبة.
ولا یخفى أن اختلاف عباراتهم فی بیان معناه اصطلاحاً ، لیس من جهة الاختلاف فی حقیقته وماهیته ، لوضوح إنّهم لیسوا فی مقام بیان حدّه أو رسمه ، بل إنّما کانوا فی مقام شرح اسمه والإِشارة إلیه بلفظ آخر وأنّ لم یکن مساویاً له بحسب مفهومه ، کاللغوی فی بیان معانی الألفاظ بتبدیل لفظ بلفظ آخر ، ولو کان أخصّ منه مفهوماً أو أعمّ.
ومن هنا انقدح إنّه لا وقع للإیراد على تعریفاته بعدم الانعکاس أو الاطراد ، کما هو الحال فی تعریف جل الأشیاء لولا الکلّ ، ضرورة عدم الإحاطة بها بکنهها ، أو بخواصها الموجبة لامتیازها عما عداها ، لغیر علام الغیوب ، فافهم.
__________________
1 ـ راجع شرح مختصر الأصول / 460 ، عند الکلام عن الاجتهاد.
2 ـ التهذیب ـ مخطوط ـ.
3 ـ زبدة الأصول للشیخ البهائی (ره) / 115 المنهج الرابع فی الاجتهاد والتقلید.
وکیف کان ، فالأولى تبدیل الظن بالحکم بالحجة علیه ، فإن المناط فیه هو تحصیلها قوة أو فعلاً لا الظن حتى عند العامة القائلین بحجیته مطلقاً ، أو بعضٍ الخاصة القائل بها عند انسداد باب العلم بالأحکام ، فإنّه مطلقاً عندهم ، أو عند الانسداد عنده من أفراد الحجة ، ولذا لا شبهة فی کون استفراغ الوسع فی تحصیل غیره من أفرادها ـ من العلم بالحکم أو غیره مما اعتبر من الطرق التعبدیة الغیر المفیدة للظن ولو نوعاً ـ اجتهاداً أیضاً.
ومنه قد انقدح إنّه لا وجه لتأبّی الأخباری عن الاجتهاد بهذا المعنى ، فإنّه لا محیص عنه کما لا یخفى ، غایة الأمر له أن ینازع فی حجیة بعضٍ ما یقول الأُصولی باعتباره ویمنع عنها ، وهو غیر ضائر بالاتفاق على صحة الاجتهاد بذاک المعنى ؛ ضرورة إنّه ربما یقع بین الإخباریین ، کما وقع بینهم وبین الأُصولیین.
فصل
ینقسم الاجتهاد إلى مطلق وتجزٍّ ، فالاجتهاد المطلق هو ما یقتدر به على استنباط الأحکام الفعلیة من أمارة معتبرة ، أو أصل معتبر عقلاً أو نقلاً فی الموارد التی لم یظفر فیها بها ، والتجزی هو ما یقتدر به على استنباط بعض الأًحکام.
ثم إنّه لا إشکال فی إمکان المطلق وحصوله للأعلام ، وعدم التمکن من الترجیح فی المسألة وتعیین حکمها والتردد منهم فی بعضٍ المسائل إنّما هو بالنسبة إلى حکمها الواقعی ، لأجل عدم دلیل مساعد فی کلّ مسألة علیه ، أو عدم الظفر به بعد الفحص عنه بالمقدار اللازم ، لا لقلة الاطلاع أو قصور الباع. وأما بالنسبة إلى حکمها الفعلّی ، فلا تردد لهم أصلاً.
کما لا إشکال فی جواز العمل بهذا الاجتهاد لمن اتصف به ، وأما لغیره فکذا لا إشکال فیه ، إذا کان المجتهد ممن کان باب العلم أو العلمی بالأحکام مفتوحاً له ـ على ما یأتی من الادلة على جواز التقلید ـ بخلاف ما إذا انسد علیه بابهما ، فجواز تقلید الغیر عنه فی غایة الإِشکال ، فإن رجوعه إلیه لیس من رجوع الجاهل إلى العالم بل إلى الجاهل ،
وأدلة جواز التقلید إنّما دلّت على جواز رجوع غیر العالم إلى العالم کما لا یخفى ، وقضیة مقدمات الانسداد لیست إلّا حجیة الظن علیه لا على غیره ، فلا بدّ فی حجیة اجتهاد مثله على غیره من التماس دلیل آخر غیر دلیل التقلید وغیر دلیل الانسداد الجاری فی حق المجتهد ، من إجماع أو جریان مقدمات دلیل الانسداد فی حقه ، بحیث تکون منتجة لحجیة الظن الثابت حجیته بمقدماته له أیضاً ، ولا مجال لدعوى الاجماع ، ومقدماته کذلک غیر جاریة فی حقه ، لعدم انحصار المجتهد به ، أو عدم لزوم محذور عقلی من عمله بالاحتیاط وأنّ لزم منه العسر ، إذا لم یکن له سبیل إلى إثبات عدم وجوبه مع عسره.
نعم ، لو جرت المقدّمات کذلک ، بأن انحصر المجتهد ، ولزم من الاحتیاط المحذور ، أو لزم منه العسر مع التمکن من إبطال وجوبه حینئذٍ ، کانت منتجة لحجیته فی حقه أیضاً ، لکن دونه خرط القتاد ، هذا على تقدیر الحکومة.
وأما على تقدیر الکشف وصحته ، فجواز الرجوع إلیه فی غایة الإِشکال لعدم مساعدة أدلة التقلید على جواز الرجوع إلى من اختصّ حجیة ظنه به ، وقضیة مقدمات الانسداد اختصاص حجیة الظن بمن جرت فی حقه دون غیره ، ولو سلّم أن قضیتها کون الظن المطلق معتبراً شرعاً ، کالظنون الخاصة التی دلّ الدلیل على اعتبارها بالخصوص ، فتأمل.
إن قلت : حجیة الشیء شرعاً مطلقاً لا یوجب القطع بما أدى إلیه من الحکم ولو ظاهراً ، کما مرّ تحقیقه (1) ، وإنّه لیس أثره إلّا تنجز الواقع مع الإصابة ، والعذر مع عدمها ، فیکون رجوعه إلیه مع انفتاح باب العلمی علیه أیضاً رجوعاً إلى الجاهل ، فضلاً عما إذا انسد علیه. قلت : نعم ، إلّا إنّه عالم بموارد قیام الحجة الشرعیة على الأحکام ، فیکون من رجوع الجاهل إلى العالم.
__________________
1 ـ فی بیان الأمارات الغیر القطعیة ، ص 277.
إن قلت : رجوعه إلیه فی موارد فقد الأمارة المعتبرة عنده التی یکون المرجع فیها الأصول العقلیة ، لیس إلّا الرجوع إلى الجاهل.
قلت : رجوعه إلیه فیها إنّما هو لأجل اطلاعه على عدم الامارة الشرعیة فیها ، وهو عاجز عن الاطلاع على ذلک ، وأما تعیین ما هو حکم العقل وإنّه مع عدمها هو البراءة أو الاحتیاط ، فهو إنّما یرجع إلیه ، فالمتبع ما استقل به عقله ولو على خلاف ما ذهب إلیه مجتهده ، فافهم.
وکذلک لا خلاف ولا إشکال فی نفوذ حکم المجتهد المطلق إذا کان باب العلم أو العلمی له مفتوحاً ، وأما إذا انسد علیه بابهما ففیه إشکال على الصحیح من تقریر المقدّمات على نحو الحکومة ، فإن مثله ـ کما أشرت آنفاً ـ لیس ممن یعرف الأحکام ، مع أن معرفتها معتبرة فی الحاکم ، کما فی المقبولة ، إلّا أن یَّدعى عدم القول بالفصل ، وهو وأنّ کان غیر بعید ، إلّا إنّه لیس بمثابة یکون حجة على عدم الفصل ، إلّا أن یقال بکفایة انفتاح باب العلم فی موارد الإجماعات والضروریات من الدین أو المذهب ، والمتواترات إذا کانت جملة یعتدّ بها ، وأنّ انسد باب العلم بمعظم الفقه ، فإنّه یصدق علیه حینئذٍ إنّه ممن روى حدیثهم : ونظر فی حلالهم : وحرامهم : : وعرف أحکامهم عرفاً حقیقة. وأما قوله 7 فی المقبولة ( فإذا حکم بحکمنا ) فالمراد أن مثله إذا حکم کان بحکمهم حکم ، حیث کان منصوباً منهم ، کیف وحکمه غالباً یکون فی الموضوعاًت الخارجیة ، ولیس مثل ملکیة دار لزید أو زوجیة أمراًة له من أحکامهم : فصحة إسناد حکمه إلیهم : إنّما هو لأجل کونه من المنصوب من قبلهم.
وأما التجزی فی الاجتهاد ففیه مواضع من الکلام :
الأول : فی إمکانه ، وهو وأنّ کان محلّ الخلاف بین الأعلام إلّا إنّه لا ینبغی الارتیاب فیه ، حیث کانت أبواب الفقه مختلفة مدرکاً ، والمدارک متفاوتة سهولة
وصعوبة ، عقلیة ونقلیة ، مع اختلاف الأشخاص فی الاطلاع علیها ، وفی طول الباع وقصوره بالنسبة إلیها ، فرب شخص کثیر الاطلاع وطویل الباع فی مدرک باب بمهارته فی النقلیات أو العقلیات ، ولیس کذلک فی آخر لعدم مهارته فیها وابتنائه علیها ، وهذا بالضرورة ربما یوجب حصول القدرة على الاستنباط فی بعضها لسهولة مدرکه أو لمهارة الشخص فیه مع صعوبته ، مع عدم القدرة على ما لیس کذلک ، بل یستحیل حصول اجتهاد مطلق عادةً غیر مسبوق بالتجزی ؛ للزوم الطفرة. وبساطة الملکة وعدم قبولها التجزئة ، لا تمنع من حصولها بالنسبة إلى بعضٍ الأبواب ، بحیث یتمکن بها من الإحاطة بمدارکه ، کما إذا کانت هناک ملکة الاستنباط فی جمیعها ، ویقطع بعدم دخل ما فی سائرها به أصلاً ، أو لا یعتنی باحتماله لأجل الفحص بالمقدار اللازم الموجب للاطمئنان بعدم دخله ، کما فی الملکة المطلقة ، بداهة إنّه لا یعتبر فی استنباط مسألة معها من الاطلاع فعلاً على مدارک جمیع المسائل ، کما لا یخفى.
الثانی : فی حجیة ما یؤدی إلیه على المتصف به ، وهو أیضاً محلّ الخلاف ، إلّا أن قضیة أدلة المدارک حجیته ، لعدم اختصاصها بالمتصف بالاجتهاد المطلق ، ضرورة أن بناءً العقلاء على حجیة الظواهر مطلقاً ، وکذا ما دلّ على حجیة خبر الواحد ، غایته تقییده بما إذا تمکن من دفع معارضاته کما هو المفروض.
الثالث : فی جواز رجوع غیر المتصف به إلیه فی کلّ مسألة اجتهد فیها ، وهو أیضاً محلّ الإِشکال ، من إنّه من رجوع الجاهل إلى العالم ، فتعمّه أدلة جواز التقلید ، ومن دعوى عدم إطلاق فیها ، وعدم إحراز أن بناءً العقلاء أو سیرة المتشرعة على الرجوع إلى مثله أیضاً. وستعرف إن شاء الله تعالى ما هو قضیة الادلة.
وأما جواز حکومته ونفوذ فصل خصومته فأشکل ، نعم لا یبعد نفوذه فیما إذا عرفّ جملة معتدة بها واجتهد فیها ، بحیث یصحّ أن یقال فی حقه عرفاً إنّه ممن عرفّ
أحکامهم ، کما مرّ فی المجتهد المطلق المنسد علیه باب العلم والعلمی فی معظم الأًحکام.
فصل
لا یخفى احتیاج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربیة فی الجملة ولو بأن یقدّر على معرفة ما یبتنی علیه الاجتهاد فی المسألة ، بالرجوع إلى ما دوّن فیه ، ومعرفة التفسیر کذلک.
وعمدة ما یحتاج إلیه هو علم الأُصول ، ضرورة إنّه ما من مسألة إلّا ویحتاج فی استنباط حکمها إلى قاعدة أو قواعد برهن علیها فی الأُصول ، أو برهن علیها مقدّمة فی نفس المسألة الفرعیة ، کما هو طریقة الأخباری ، وتدوین تلک القواعد المحتاج إلیها على حدة لا یوجب کونها بدعة ، وعدم تدوینها فی زمانهم : لا یوجب ذلک ، وإلاّ کان تدوین الفقه والنحو والصرف بدعة.
وبالجملة : لا محیص لاحد فی استنباط الأحکام الفرعیة من أدلتها إلّا الرجوع إلى ما بنى علیه فی المسائل الأُصولیة ، وبدونه لا یکاد یتمکن من استنباط واجتهاد ، مجتهداً کان أو أخباریاً. نعم یختلف الاحتیاج إلیها بحسب اختلاف المسائل والازمنة والأشخاص ، ضرورة خفة مؤونة الاجتهاد فی الصدر الأوّل ، وعدم حاجته إلى کثیر مما یحتاج إلیه فی الازمنة اللاحقة ، مما لا یکاد یحقق ویختار عادةً إلّا بالرجوع إلى ما دوّن فیه من الکتب الأصولیة.
فصل
اتفقت الکلمة على التخطئة فی العقلیات ، واختلفت فی الشرعیات ، فقال أصحابنا بالتخطئة فیها أیضاً ، وأنّ له تبارک وتعالى فی کلّ مسألة حکماً یؤدی إلیه الاجتهاد تارةً وإلى غیره أُخرى.
وقال مخالفونا بالتصویب ، وأنّ له تعالى أحکاماً بعدد آراء المجتهدین ، فما
یؤدی إلیه الاجتهاد هو حکمه تبارک وتعالى ، ولا یخفى إنّه لا یکاد یعقل الاجتهاد فی حکم المسألة إلّا إذا کان لها حکم واقعاً ، حتى صار المجتهد بصدد استنباطه من أدلته ، وتعیینه بحسبها ظاهراً. فلو کان غرضهم من التصویب هو الالتزام بإنشاء أحکام فی الواقع بعدد الآراء ـ بأن تکون الأحکام المؤدی إلیها الاجتهادات أحکاماً واقعیة کما هی ظاهریة ـ فهو وأنّ کان خطأ من جهة تواتر الأخبار ، وإجماع أصحابنا الأخیار على أن له تبارک وتعالى فی کلّ واقعة حکماً یشترک فیه الکلّ ، إلّا إنّه غیر محال. ولو کان غرضهم منه الالتزام بإنشاء الأحکام على وفق آراء الأعلام بعد الاجتهاد ، فهو مما لا یکاد یعقل ، فکیف یتفحص عما لا یکون له عین ولا أثر ، أو یستظهر من الآیة أو الخبر ، إلّا أن یراد التصویب بالنسبة إلى الحکم الفعلّی ، وأنّ المجتهد وأنّ کان یتفحص عما هو الحکم واقعاً وإنشاءً ، إلّا أن ما أدّى إلیه اجتهاده یکون هو حکمه الفعلّی حقیقة ، وهو مما یختلف باختلاف الآراء ضرورة ، ولا یشترک فیه الجاهل والعالم بداهة ، وما یشترکان فیه لیس بحکم حقیقةً بل إنشاءً ، فلا استحالة فی التصویب بهذا المعنى ، بل لا محیص عنه فی الجملة بناءً على اعتبارٍ الإخبار من باب السببیة والموضوعیة کما لا یخفى ، وربما یشیر إلیه ما اشتهرت بیننا أن ظنیة الطریق لا ینافی قطعیة الحکم.
نعم بناءً على اعتبارها من باب الطریقیة ، کما هو کذلک ، فمؤدیات الطرق والامارات المعتبرة لیست بأحکام حقیقیة نفسیّة ، ولو قیل بکونها أحکاما طریقیة ، وقد مرّ (1) غیر مرة إمکان منع کونها أحکاما کذلک أیضاً ، وأنّ قضیة حجیتها لیس إلّا تنجز مؤدیاتها عند إصابتها ، والعذر عند خطئها ، فلا یکون حکم أصلاً إلّا الحکم الواقعی ، فیصیر منجّزاً فیما قام علیه حجة من علم أو طریق معتبر ، ویکون غیر منجز بل غیر فعلّی فیما لم تکن هناک حجة مصیبة ، فتأمل جیداً.
__________________
1 ـ فی دفع الایراد عن إمکان التعبد بالامارة غیر القطعیة / ص 277 وفی التنبیة الثّانی من تنبیهات الاستصحاب / ص 405.
فصل
إذا اضمحل الاجتهاد السابق بتبدل الرأی الأوّل بالآخر أو بزواله بدونه ، فلا شبهة فی عدم العبرة به فی الأعمال اللاحقة ، ولزوم اتباع اجتهاد اللاحق مطلقاً أو الاحتیاط فیها ؛ وأما الأعمال السابقة الواقعة على وفقه المختل فیها ما اعتبر فی صحتها بحسب هذا الاجتهاد ، فلا بدّ من معاملة البطلان معها فیما لم ینهض دلیل على صحة العمل فیما إذا اختل فیه لعذر ، کما نهض فی الصلاة وغیرها ، مثل : لا تعاد (1) ، وحدیث الرفع (2) ، بل الاجماع على الإِجزاء فی العبادات على ما ادّعی.
وذلک فیما کان بحسب الاجتهاد الأوّل قد حصل القطع بالحکم وقد اضمحل واضح ، بداهة إنّه لا حکم معه شرعاً ، غایته المعذوریة فی المخالفة عقلاً ، وکذلک فیما کان هناک طریق معتبر شرعاً علیه بحسبه ، وقد ظهر خلافه بالظفر بالمقید أو المخصص أو قرینة المجاز أو المعارض ، بناءً على ما هو التحقیق من اعتبارٍ الأمارات من باب الطریقیة ، قیل بأن قضیة اعتبارها إنشاءً أحکام طریقیة ، أم لا على ما مرّ منّا غیر مرة ، من غیر فرق بین تعلقه بالأحکام أو بمتعلقاتها ، ضرورة أن کیفیة اعتبارها فیهما على نهج واحد ، ولم یعلم وجه للتفصیل بینهما ، کما فی الفصول (3) ، وأنّ المتعلقات لا تتحمل اجتهادین بخلاف الأحکام ، إلّا حسبان أن الأحکام قابلة للتغیر والتبدل ، بخلاف المتعلقات والموضوعاًت ، وأنت خبیر بأن الواقع واحد فیهما ، وقد عین أولاً بما ظهر خطؤه ثانیاً ؛ ولزوم العسر والحرج والهرج والمرج المخلّ بالنظام والموجب للمخاصمة بین الأنام ، لو قیل بعدم صحة العقود والإِیقاعات والعبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الأوّل الفاسدة بحسب الاجتهاد الثانی ،
__________________
1 ـ الفقیه : 1 / 225 ، الباب 49. الحدیث 8 والباب 42 ، الحدیث 17 والتهذیب 2 / 152 ، الباب 9 ، الحدیث 55.
2 ـ راجع ص 339 ، فی الاستدلال على البراءة بالسنة.
3 ـ الفصول : 409 ، فی فصل رجوع المجتهد عن الفتوى.
ووجوب العمل على طبق الثّانی ، من عدم ترتیب الأثر على المعاملة وإعادة العبادة ، لا یکون إلّا أحیاناً ، وأدلة نفی العسر لا ینفی إلّا خصوص ما لزم منه العسر فعلاً ، مع عدم اختصاص ذلک بالمتعلقات ، ولزوم العسر فی الأحکام کذلک أیضاً لو قیل بلزوم ترتیب الأثر على طبق الاجتهاد الثّانی فی الأعمال السابقة ، وباب الهرج والمرج ینسد بالحکومة وفصل الخصومة.
وبالجملة : لا یکون التفاوت بین الأحکام ومتعلقاتها ، بتحمل الاجتهادین وعدم التحمل بینّاً ولا مبینّاً، بما یرجع إلى محصل فی کلامه ـ زید فی علو مقامه ـ فراجع وتأمل.
وأما بناءً على اعتبارها من باب السببیة والموضوعیة ، فلا محیص عن القول بصحة العمل على طبق الاجتهاد الأوّل ، عبادةً کان أو معاملةً ، وکون مؤداه ـ ما لم یضمحل ـ حکماً حقیقة ، وکذلک الحال إذا کان بحسب الاجتهاد الأوّل مجرى الاستصحاب أو البراءة النقلیة ، وقد ظفر فی الاجتهاد الثّانی بدلیل على الخلاف ، فإنّه عمل بما هو وظیفته على تلک الحال ، وقد مرّ فی مبحث الإِجزاء تحقیق المقال ، فراجع هناک.
فصل
فی التقلید
وهو أخذ قول الغیر ورأیه للعمل به فی الفرعیات ، أو للالتزام به فی الاعتقادیات تعبداً ، بلا مطالبة دلیل على رأیه ، ولا یخفى إنّه لا وجه لتفسیره بنفس العمل ، ضرورة سبقه علیه ، وإلاّ کان بلا تقلید ، فافهم.
ثم إنّه لا یذهب علیک أن جواز التقلید ورجوع الجاهل إلى العالم فی الجملة ، یکون بدیهیا جبلیّاً فطریاً لا یحتاج إلى دلیل ، وإلاّ لزم سدّ باب العلم به على العامی مطلقاً غالباً ، لعجزه عن معرفة ما دلّ علیه کتاباً وسنّةً ، ولا یجوز التقلید فیه أیضاً ، وإلاّ لدار أو تسلسل ، بل هذه هی العمدة فی أدلته ، وأغلب ما عداه قابل للمناقشة ، لبُعد تحصیل الاجماع فی مثل هذه المسألة ، مما یمکن أن یکون القول فیه لأجل کونه من الأمور الفطریة الارتکازیة ، والمنقول منه غیر حجة فی مثلها ، ولو قیل بحجیتها فی غیرها ، لوهنه بذلک.
ومنه قد انقدح إمکان القدح فی دعوى کونه من ضروریات الدین ، لاحتمال أن یکون من ضروریات العقل وفطریاته لا من ضروریاته ، وکذا القدح فی دعوى (1) سیرة المتدینین.
__________________
1 ـ الفصول : 411 فی فصل جواز التقلید.
وأما الآیات ، فلعدم دلالة آیة النفر (1) والسؤال (2) على جوازه ، لقوة احتمال أن یکون الارجاع لتحصیل العلم لا للاخذ تعبداً ، مع أن المسؤول فی آیة السؤال همّ أهل الکتاب کما هو ظاهرها ، أو أهل بیت العصمة الاطهار کما فسّر به فی الإخبار (3).
نعم لا بأس بدلالة الإخبار علیه بالمطابقة أو الملازمة ، حیث دلّ بعضها (4) على وجوب اتباع قول العلماء ، وبعضها (5) على أن للعوام تقلید العلماء ، وبعضها (6) على جواز الافتاء مفهوماً مثل ما دلّ على المنع عن الفتوى بغیر علم ، أو منطوقاً مثل (7) مادلّ على إظهاره 7 المحبة لأن یرى فی أصحابه من یفتی الناس بالحلال والحرام.
لا یقال : إن مجرد إظهار الفتوى للغیر لا یدلّ على جواز أخذه واتباعه.
فإنّه یقال : إن الملازمة العرفیة بین جواز الافتاء وجواز اتباعه واضحة ، وهذا غیر وجوب إظهار الحق والواقع ، حیث لا ملازمة بینه وبین وجوب أخذه تعبداً ، فافهم وتأمّل.
وهذه الأخبار على اختلاف مضامینها وتعدد أسانیدها ، لا یبعد دعوى القطع بصدور بعضها ، فیکون دلیلاً قاطعاً على جواز التقلید ، وأنّ لم یکن کلّ واحد منها
__________________
1 ـ التوبة : 122.
2 ـ النحل : 43.
3 ـ الکافی : 1 / 163 ، کتاب الحجّة الباب 20 ، الأحادیث.
4 ـ الوسائل : 18 / 98 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، الأحادیث : 4 و 5 و 9 و 15 و 23 و 27 و 33 و 42 و 45 والباب 12 ، الحدیث 54.
5 ـ الاحتجاج : 2 / 457 فی احتجاجات أبی محمد العسکری وجاء فی الوسائل : 18 / 94 الباب 10 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 20.
6 ـ الوسائل : 18 / 9 ، الباب 4 من أبواب صفات القاضی ، الأحادیث : 1 و 2 و 3 و 31 و 33 والباب 6 ، الحدیث 48. والباب 9 ، الحدیث 23 والباب 11 ، الحدیث 12.
7 ـ الوسائل : 18 / 108 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 36.
بحجة ، فیکون مخصصاً لما دلّ على عدم جواز اتباع غیر العلم والذم على التقلید ، من الآیات والروایات. قال الله تبارک وتعالى : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) وقوله تعالى : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) (2) مع احتمال أن الذم إنّما کان على تقلیدهم للجاهل ، أو فی الأصول الاعتقادیة التی لابدّ فیها من الیقین ، وأما قیاس المسائل الفرعیة على الأصول الاعتقادیة ، فی إنّه کما لا یجوز التقلید فیها مع الغموض فیها کذلک لا یجوز فیها بالطریق الأولى لسهولتها ، فباطل ، مع إنّه مع الفارق ، ضرورة أن الأصول الاعتقادیة مسائل معدودة ، بخلافها فإنّها مما لا تعدّ ولا تحصى ، ولا یکاد یتیسر من الاجتهاد فیها فعلاً طول العمر إلّا للاوحدی فی کلیاتها ، کما لا یخفى.
فصل
إذا علم المقلد اختلاف الأحیاء فی الفتوى مع اختلافهم فی العلم والفقاهة ، فلابد من الرجوع إلى الافضل إذا احتمل تعینه ، للقطع بحجیته والشک فی حجیة غیره ، ولا وجه لرجوعه إلى الغیر فی تقلیده ، إلّا على نحو دائر.
نعم لا بأس برجوعه إلیه إذا استقل عقله بالتساوی ، وجواز الرجوع إلیه أیضاً ، أو جوّز له الأفضل بعد رجوعه إلیه ، هذا حال العاجر عن الاجتهاد فی تعیین ما هو قضیة الادلة فی هذه المسألة.
وأمّا غیره ، فقد اختلفوا فی جواز تقلید (3) المفضول وعدم جوازه ، ذهب بعضهم إلى الجواز ، والمعروف بین الأصحاب ـ على ما قیل ـ عدمه وهو الأقوى ،
__________________
1 ـ الاسراء : 36.
2 ـ الزخرف : 23.
3 ـ فی « ب » : تقدیم.
للأصل ، وعدم دلیل على خلافه ، ولا إطلاق فی أدلة التقلید بعد الغضّ عن نهوضها على مشروعیة أصله ، لوضوح إنّها إنّما تکون بصدد بیان أصل جواز الأخذ بقول العالم لا فی کلّ حال ، من غیر تعرض أصلاً لصورة معارضته بقول الفاضل ، کما هو شأن سائر الطرق والأمارات على ما لا یخفى.
ودعوى (1) السیرة على الأخذ بفتوى أحد المخالفین فی الفتوى من دون فحص عن أعلمیته مع العلم بأعلمیة أحدهما ، ممنوعة.
ولا عسر فی تقلید الاعلم ، لا علیه لاخذ فتاواه من رسائله وکتبه ، ولا لمقلدیه لذلک أیضاً ، ولیس تشخیص الأعلمیة بأشکل من تشخیص أصل الاجتهاد ، مع أن قضیة نفی العسر الاقتصار على موضع العسر ، فیجب فیما لا یلزم منه عسر ، فتأمل جیداً.
وقد استدلّ للمنع أیضاً بوجوه :
أحدها (2) : نقل الإجماع على تعیّن تقلید الافضل.
ثانیها (3) : الإخبار الدالّة على ترجیحه مع المعارضة ، کما فی المقبولة (4) وغیرها (5) ، أو على اختیاره للحکم بین الناس ، کما دلّ علیه المنقول (6) عن أمیر المؤمنین 7 : ( اختر للحکم بین الناس أفضل رعیتک ).
ثالثها (7) : إن قول الأفضل أقرب من غیره جزماً ، فیجب الأخذ به عند
__________________
1 ـ راجع شرح مختصر الأصول / 484.
2 ـ مطارح الأنظار / 303 ، فی التنبیه السادس ، عند استدلاله على القول بوجوب تقلید الأفضل.
3 ـ مفاتیح الأصول / 627.
4 ـ التهذیب 6 : 301 ، الباب 92 ، الحدیث 6 ـ الکافی 1 : 54. باب اختلاف الحدیث من کتاب فضل العلم ، الحدیث 10.
5 ـ التهذیب 6 / 301 ، الباب 92 ، الحدیث 50 و 51 ـ الفقیه 3 : 5 الباب 9 الحدیث 1 و 2.
6 ـ نهج البلاغة الجزء الثالث : 104 فی کتابه 7 للاشتر النخعی.
7 ـ الذریعة 2 : 801 ، فی باب الاجتهاد ، فصل صفة المفتی والمستفتی.
المعارضة عقلاً.
ولا یخفى ضعفها :
أمّا الأوّل : فلقوة احتمال أن یکون وجه القول بالتعیین للکلّ أو الجل هو الأصل ، فلا مجال لتحصیل الإجماع مع الظفر بالاتفاق ، فیکون نقله موهوناً ، مع عدم حجیة نقله ولو مع عدم وهنه.
وأمّا الثانی : فلان الترجیح مع المعارضة فی مقام الحکومة ، لأجل رفع الخصومة التی لا تکاد ترتفع إلّا به ، لا یستلزم الترجیح فی مقام الفتوى ، کما لا یخفى.
وأما الثالث : فممنوع صغرى وکبرى.
أما الصغرى فلاجل أن فتوى غیر الأفضل ربما یکون أقرب من فتواه ، لموافقته لفتوى من هو أفضل منه ممن مات ، ولا یصغى إلى أن فتوى الأفضل أقرب فی نفسه ، فإنّه لو سلّم إنّه کذلک إلّا إنّه لیس بصغری لما ادعى عقلاً من الکبرى ، بداهة أن العقل لا یرى تفاوتاً بین أن تکون الأقربیة فی الأمارة لنفسها ، أو لأجل موافقتها لامارة أُخرى ، کما لا یخفى.
وأما الکبرى فلأن ملاک حجیة قول الغیر تعبداً ولو على نحو الطریقیة ، لم یعلم إنّه القرب من الواقع ، فلعله یکون ما هو فی الأفضل وغیره سیان ، ولم یکن لزیادة القرب فی أحدهما دخل أصلاً. نعم لو کان تمام الملاک هو القرب ، کما إذا کان حجة بنظر العقل ، لتعین الاقرب قطعاً ، فافهم.
فصل
اختلفوا فی اشتراط الحیاة فی المفتی ، والمعروف بین الأصحاب (1) الاشتراط
__________________
1 ـ المعالم / 241. فی « أصل : یعتبر فی المفتی .. الخ » من المطلب التاسع. ( ا ) راجع مسالک الافهام 1 : 127 ، فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر. وقواعد الأحکام 119
وبین العامة (1) عدمه ، وهو خیرة الأخباریین (2) ، وبعض المجتهدین (3) من أصحابنا ، وربما نقل تفاصیل :
منها (4) : التفصیل بین البدوی فیشترط ، والاستمراری فلا یشترط ، والمختار ما هو المعروف بین الأصحاب ، للشک فی جواز تقلید المیت ، والأصل عدم جوازه ، ولا مخرج عن هذا الأصل ، إلّا ما استدل به المجوّز على الجواز من وجوه ضعیفة.
منها (5) : استصحاب جواز تقلیده فی حال حیاته ، ولا یذهب علیک إنّه لا مجال له ، لعدم بقاء موضوعه عرفاً ، لعدم بقاء الرأی معه ، فإنّه متقوّم بالحیاة بنظر العرف ، وأنّ لم یکن کذلک واقعاً ، حیث إنّ الموت عند أهله موجب لانعدام المیت ورأیه ؛ ولا ینافی ذلک صحة استصحاب بعضٍ أحکام حال حیاته ، کطهارته ونجاسته وجواز نظر زوجته إلیه ، فإن ذلک إنّما یکون فیما لا یتقوم بحیاته عرفاً بحسبان بقائه ببدنه الباقی بعد موته ، وأنّ احتمل أن یکون للحیاة دخل فی عروضه واقعاً ؛ وبقاء الرأی لابد منه فی جواز التقلید قطعاً ، ولذا لا یجوز التقلید فیما إذا تبدّل الرأی أو ارتفع ، لمرض أو هرم إجماعا.
وبالجملة : یکون انتفاء الرأی بالموت بنظر العرف بانعدام موضوعه ، ویکون حشره فی القیامة إنّما هو من باب إعادة المعدوم ، وأنّ لم یکن کذلک حقیقة ، لبقاء موضوعه ، وهو النفس الناطقة الباقیة حال الموت لتجرده ، وقد عرفت فی باب الاستصحاب أن المدار فی بقاء الموضوع وعدمه هو العرف ، فلا یجدی بقاء النفس
__________________
کتاب الجهاد ، فی المقصد الخامس.
1 ـ شرح البدخشی 3 : 287 والابهاج فی شرح المنهاج 3 : 268 وفواتح الرحموت 2 : 407.
2 ـ الفوائد المدنیة 149.
3 ـ راجع مطارح الأنظار : صفحة 280.
4 ـ راجع مفاتیح الأصول / 624.
5 ـ راجع مفاتیح الأصول / 624 ، فی التنبیه الأوّل من تقلید المیت.
عقلاً فی صحة الاستصحاب مع عدم مساعدة العرف علیه ، وحسبان أهله إنّها غیر باقیة وإنما تعاد یوم القیامة بعد انعدامها ، فتأمل جیداً.
لا یقال : نعم ، الاعتقاد والرأی وأنّ کان یزول بالموت لانعدام موضوعه ، إلّا أن حدوثه فی حال حیاته کافٍ فی جواز تقلیده فی حال موته ، کما هو الحال فی الروایة.
فإنّه یقال : لا شبهة فی إنّه لا بدّ فی جوازه من بقاء الرأی والاعتقاد ، ولذا لو زال بجنون أو تبدل ونحوهما لما جاز قطعاً ، کما أُشیر إلیه آنفاً. هذا بالنسبة إلى التقلید الابتدائی.
وأما الاستمراری ، فربما یقال بإنّه قضیة استصحاب الأحکام التی قلده فیها ، فإن رأیه وأنّ کان مناطاً لعروضها وحدوثها ، إلّا إنّه عرفاً من أسباب العروض لا من مقومات الموضوع والمعروض.
ولکنه لا یخفى إنّه لا یقین بالحکم شرعاً سابقاً ، فإن جواز التقلید إن کان بحکم العقل وقضیة الفطرة کما عرفت فواضح ، فإنّه لا یقتضی أزید من تنجز ما أصابه من التکلیف والعذر فیما أخطأ ، وهو واضح. وأنّ کان بالنقل فکذلک ، على ما هو التحقیق من أن قضیة الحجیة شرعاً لیس إلّا ذلک ، لإِنشاء أحکام شرعیة على طبق مؤداها ، فلا مجال لاستصحاب ما قلده ، لعدم القطع به سابقاً ، إلّا على ما تکلفنا فی بعضٍ تنبیهات الاستصحاب (1) ، فراجع ؛ ولا دلیل على حجیة رأیه السابق فی اللاحق.
وأما بناءً على ما هو المعروف بینهم ، من کون قضیة الحجیة الشرعیة جعل مثل ما أدت إلیه من الأحکام الواقعیة التکلیفیة أو الوضعیة شرعاً فی الظاهر ، فلاستصحاب ما قلده من الأحکام وأنّ کان مجال ، بدعوى بقاء الموضوع عرفاً ، لأجل کون الرأی عند أهل العرف من أسباب العروض لا من مقومات المعروض. إلّا أن الإِنصاف عدم کون الدعوى خالیة عن الجزاف ، فإنّه من المحتمل ـ لولا
__________________
1 ـ التنبیه الثّانی / ص 405.
المقطوع ـ أن الأحکام التقلیدیة عندهم أیضاً لیست أحکاماً لموضوعاًتها بقول مطلق ، بحیث عدّ من ارتفاع الحکم عندهم من موضوعه ، بسبب تبدل الرأی ونحوه ، بل إنّما کانت أحکاماً لها بحسب رأیه ، بحیث عدّ من انتفاء الحکم بانتفاء موضوعه عند التبدل ، ومجرد احتمال ذلک یکفی فی عدم صحة استصحابها ، لاعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو عرفاً ، فتأمل جیداً.
هذا کله مع إمکان دعوى إنّه إذا لم یجز البقاء على التقلید بعد زوال الرأی ، بسبب الهرم أو المرض إجماعاً ، لم یجز فی حال الموت بنحو أولى قطعاً ، فتأمّل.
ومنها : إطلاق الآیات (1) الدالّة على التقلید.
وفیه ـ مضافاً إلى ما أشرنا إلیه من عدم دلالتها علیه ـ منع إطلاقها على تقدیر دلالتها ، وإنما هو مسوق لبیان أصل تشریعه کما لا یخفى. ومنه انقدح حال إطلاق ما دلّ من الروایات على التقلید (2) ، مع إمکان دعوى الانسیاق إلى حال الحیاة فیها.
ومنها : دعوى (3) أنّه لا دلیل على التقلید إلّا دلیل الانسداد ، وقضیته جواز تقلید المیت کالحی بلا تفاوت بینهما أصلاً ، کما لا یخفى.
وفیه أنّه لا یکاد تصل النوبة إلیه ، لما عرفت من دلیل العقل والنقل علیه.
ومنها (4) : دعوى السیرة على البقاء ، فإن المعلوم من أصحاب الأئمّة
__________________
1 ـ آیة النفر / التوبة : 122 وآیة السؤال / النحل : 43 وآیة الکتمان / البقرة : 159 وآیة النبأ / الحجرات : 5.
2 ـ إکمال الدین وإتمام النعمة : 2 / 483 ، باب ذکر التوقیعات ، الحدیث 4 وللمزید راجع الوسائل : 18 / 101 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضی ، الحدیث 9.
3 ـ استدل به المحقق القمی (ره) قوانین الأصول : 2 / 265 فی قانون عدم اشتراط مشافهة المفتی ، عند قوله : بل الدلیل علیه هو ما ذکرنا من البرهان ... الخ.
4 ـ مطارح الأنظار : 295 فی أدلة القائلین بجواز الاستمرار على تقلید المیت.
: عدم رجوعهم عما أخذوه تقلیدا بعد موت المفتی.
وفیه منع السیرة فیما هو محلّ الکلام ، وأصحابهم : إنّما لم یرجعوا عما أخذوه من الأحکام لأجل إنّهم غالباً إنّما کانوا یأخذونها ممن ینقلها عنهم : بلا واسطة أحد ، أو معها من دون دخل رأی الناقل فیه أصلاً ، وهو لیس بتقلید کما لا یخفى ، ولم یعلم إلى الآن حال من تعبّد بقول غیره ورأیه ، إنّه کان قد رجع أو لم یرجع بعد موته.
[ ومنها (1) : غیر ذلک مما لا یلیق بأن یسطر أو یذکر ] (2).
__________________
1 ـ راجع مفاتیح الأصول للسید المجاهد : 622 فی مفتاح : اختلفوا فی جواز تقلید المجتهد المیت عند ذکره أدلة المجوزین.
2 ـ أثبتناها فی « ب » وشطب علیها المصنف فی « أ ».