کفایة الاصول - قسمت یازدهم
منه جزء إلّا بعد ما انصرم منه جزء وانعدم ، إلّا إنّه ما لم یتخلل فی البین العدم ، بل وأنّ تخلل بما لا یخل بالاتصال عرفاً وأنّ انفصل حقیقة ، کانت باقیة مطلقاً أو عرفاً ، ویکون رفع الید عنها ـ مع الشک فی استمرارها وانقطاعها ـ نقضاً. ولا یعتبر فی الاستصحاب ـ بحسب تعریفه وأخبار الباب وغیرها من أدلته ـ غیر صدق النقض والبقاء کذلک قطعاً هذا. مع أن الانصرام والتدرج فی الوجود فی الحرکة ـ فی الأین وغیره ـ إنّما هو فی الحرکة القطعیة ، وهی کون الشیء فی کلّ آن فی حدّ أو مکان ، لا التوسطیة وهی کونه بین المبدأ والمنتهى ، فإنّه بهذا المعنى یکون قارّاً مستمراً.
فانقدح بذلک إنّه لا مجال للإشکال فی استصحاب مثل اللیل أو النهار وترتیب مالهما من الآثار. وکذا کلما إذا کان الشک فی الأمر التدریجی من جهة الشک فی انتهاء حرکته ووصوله إلى المنتهى ، أو إنّه بعد فی البین. وأما إذا کان من جهة الشک فی کمیته ومقداره ، کما فی نبع الماء وجریإنّه ، وخروج الدم وسیلإنّه ، فیما کان سبب الشک فی الجریان والسیلان الشک فی إنّه بقی فی المنبع والرحم فعلاً شیء من الماء والدم غیر ما سال وجرى منهما ، فربما یشکل فی استصحابهما حینئذ ، فإن الشک لیس فی بقاء جریان شخص ما کان جاریاً ، بل فی حدوث جریان جزء آخر شک فی جریإنّه من جهة الشک فی حدوثه ، ولکنه یتخیل بإنّه لا یختل به ما هو الملاک فی الاستصحاب ، بحسب تعریفه ودلیله حسبما عرفت.
ثم إنّه لا یخفى أن استصحاب بقاء الأمر التدریجی ، امّا یکون من قبیل استصحاب الشخص ، أو من قبیل استصحاب الکلی بأقسامه ، فإذا شک فی أن السورة المعلومة التی شرع فیها تمت أو بقی شیء منها ، صحّ فیه استصحاب الشخص والکلی ، وإذا شک فیه من جهة ترددها بین القصیرة والطویلة ، کان
من القسم الثّانی ، وإذا شک فی إنّه شرع فی أُخرى مع القطع بإنّه قد تمت الأولى کان من القسم الثالث ، کما لا یخفى.
هذا فی الزمان ونحوه من سائر التدریجیات.
وأما الفعل المقید بالزمان ، فتارةً یکون الشک فی حکمه من جهة الشک فی بقاء قیده ، وطوراً مع القطع بانقطاعه وانتفائه من جهة أُخرى ، کما إذا احتمل أن یکون التقیید (1) به إنّما هو بلحاظ تمام المطلوب لا أصله.
فإن کان من جهة الشک فی بقاء القید ، فلا بأس باستصحاب قیده من الزمان ، کالنهار الذی قید به الصوم مثلاً ، فیترتب علیه وجوب الإمساک وعدم جواز الإفطار ما لم یقطع بزواله ، کما لا بأس باستصحاب نفس المقید ، فیقال : إن الامساک کان قبل هذا الآن فی النهار ، والآن کما کان فیجب ، فتأمل.
وإن کان من الجهة الأخرى ، فلا مجال إلّا لاستصحاب الحکم فی خصوص ما لم یؤخذ الزمان فیه إلّا ظرفاً لثبوته لا قیداً مقوماً لموضوعه ، وإلاّ فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه فیما بعد ذاک الزمان ، فإنّه غیر ما علم ثبوته له ، فیکون الشک فی ثبوته له ـ أیضاً ـ شکّاً فی أصل ثبوته بعد القطع بعدمه ، لا فی بقائه.
لا یقال : إن الزمان لا محالة یکون من قیود الموضوع وإن أُخذ ظرفاً لثبوت الحکم فی دلیله ، ضرورة دخل مثل الزمان فیما هو المناط لثبوته ، فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه.
فإنّه یقال : نعم ، لو کانت العبرة فی تعیین الموضوع بالدقة ونظر العقل ، وأما إذا کانت العبرة بنظر العرف فلا شبهة فی أن الفعل بهذا النظر موضوع واحد فی الزمانین ، قطع بثبوت الحکم له فی الزمان الأوّل ، وشک فی بقاء هذا الحکم له وارتفاعه فی الزمان الثّانی ، فلا یکون مجال إلّا لاستصحاب ثبوته.
__________________
1 ـ فی « ب » التعبد.
لا یقال : فاستصحاب کلّ واحد من الثبوت والعدم یجری لثبوت کلاّ النظرین ، ویقع التعارض بین الاستصحابین ، کما قیل.
فإنّه یقال : إنّما یکون ذلک لو کان فی الدلیل ما بمفهومه یعم النظرین ، وإلاّ فلا یکاد یصحّ إلّا إذا سبق بأحدهما ، لعدم إمکان الجمع بینهما لکمال المنافاة بینهما ، ولا یکون فی أخبار الباب ما بمفهومه یعمهما ، فلا یکون هناک إلّا استصحاب واحد ، وهو استصحاب الثبوت فیما إذا أخذ الزمان ظرفا ، واستصحاب العدم فیما إذا أُخذ قیداً ؛ لما عرفت من أن العبرة فی هذا الباب بالنظر العرفی ، ولا شبهة فی أن الفعل فیما بعد ذاک الوقت مع ما قبله متحد فی الأوّل ومتعدد فی الثّانی بحسبه ؛ ضرورة أن الفعل المقید بزمان خاص غیر الفعل فی زمان آخر ، ولو بالنظر المسامحی العرفی.
نعم ، لا یبعد أن یکون بحسبه ـ أیضاً ـ متحداً فیما إذا کان الشک فی بقاء حکمه ، من جهة الشک فی إنّه بنحو التعدد المطلوبی ، وأنّ حکمه بتلک المرتبة التی کان مع ذاک الوقت وأنّ لم یکن باقیاً بعده قطعاً ، إلّا إنّه یحتمل بقاؤه بما دون تلک المرتبة من مراتبه فیستصحب ، فتأمل جیّداً.
إزاحة وهم : لا یخفى أن الطهارة الحدثیة والخبثیة وما یقابلها یکون مما إذا وجدت بأسبابها ، لا یکاد یشک فی بقائها إلّا من قبل الشک فی الرافع لها ، لا من قبل الشک فی مقدار تأثیر أسبابها ، ضرورة إنّها إذا وجدت بها کانت تبقى ما لم یحدث رافع لها ، کانت من الأُمور الخارجیة أو الأُمور الاعتباریة التی کانت لها آثار شرعیة ، فلا أصل لأصالة عدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذی ، وأصالة عدم جعل الملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرّة ، کما حکی عن بعضٍ الأفاضل (1) ، ولا یکون ها هنا أصل إلّا أصالة الطهارة أو
__________________
1 ـ هو الفاضل النراقی فی مناهج الأحکام و الأصول / 242 ، فی الفائدة الأولى من فوائد ذکرها ذیل
النجاسة.
الخامس : إنّه کما لا إشکال فیما إذا کان المتیقن حکماً فعلّیاً مطلقاً ، لا ینبغی الإِشکال فیما إذا کان مشروطاً معلّقاً ، فلو شک فی مورد لأجل طروء بعضٍ الحالات علیه فی بقاء أحکامه ، ففیما صحّ استصحاب أحکامه المطلقة صحّ استصحاب أحکامه المعلقة ، لعدم الاختلال بذلک فیما اعتبر فی قوام الاستصحاب من الیقین ثبوتاً والشک بقاء.
وتوهمّ (1) إنّه لا وجود للمعلق قبل وجود ما علق علیه فاختل أحد رکنیه فاسد ، فإن المعلّق قبله إنّما لا یکون موجوداً فعلاً ، لا إنّه لا یکون موجوداً أصلاً ، ولو بنحو التعلیق ، کیف؟ والمفروض إنّه مورد فعلاً للخطاب بالتحریم ـ مثلاً ـ أو الإِیجاب ، فکان على یقین منه قبل طروء الحالة فیشک فیه بعده ، ولا یعتبر فی الاستصحاب إلّا الشک فی بقاء شیء کان على یقین من ثبوته ، واختلاف نحو ثبوته لا یکاد یوجب تفاوتاً فی ذلک.
وبالجملة : یکون الاستصحاب متمّماً لدلالة الدلیل على الحکم فیما أهمل أو أجمل ، کان الحکم مطلقاً أو معلّقاً ، فببرکته یعم الحکم للحالة الطارئة اللاحقة کالحالة السابقة ، فیحکم ـ مثلاً ـ بأنّ العصیر الزبیبی یکون على ما کان علیه سابقاً فی حال عنبیّته ، من أحکامه المطلقة والمعلقة لو شک فیها ، فکما یحکم ببقاء ملکیته یحکم بحرمته على تقدیر غلیإنّه.
إن قلت : نعم ، ولکنه لا مجال لاستصحاب المعلّق لمعارضته باستصحاب ضدّه المطلق ، فیعارض استصحاب الحرمة المعلقة للعصیر
__________________
تتمیم الاستصحاب بشروط الاستصحاب ، عند قوله : وإذا شک فی بقاء الطهارة الشرعیة الحاصلة بالوضوء ... الخ.
1 ـ راجع المناهل للسید المجاهد / 652.
باستصحاب حلّیّته المطلقة.
قلت : لا یکاد یضر استصحابه على نحو کان قبل عروض الحالة التی شک فی بقاء حکم المعلّق بعده ؛ ضرورة إنّه کان مغیّاً بعدم ما علق علیه المعلّق ، وما کان کذلک لا یکاد یضر ثبوته بعده بالقطع فضلاً عن الاستصحاب ؛ لعدم المضادّة بینهما ، فیکونان بعد عروضها بالاستصحاب کما کانا معاً بالقطع قبل بلا منافاة أصلاً ، وقضیة ذلک انتفاء الحکم (1) المطلق بمجرد ثبوت ما علّق علیه المعلّق ، فالغلیان فی المثال کما کان شرطاً للحرمة کان غایة للحلیة ، فإذا شک فی حرمته المعلّقة بعد عروض حالة علیه ، شک فی حلّیّته المغیّاة لا محالة أیضاً ، فیکون الشک فی حلّیته أو حرمته فعلاً بعد عروضها متّحداً خارجاً مع الشک فی بقائه على ما کان علیه من الحلّیة والحرمة بنحو کانتا علیه ، فقضیّة استصحاب حرمته المعلّقة بعد عروضها الملازم لاستصحاب حلّیته المغیّاة حرمته فعلاً بعد غلیإنّه وانتفاء حلیته ، فإنّه قضیة نحو ثبوتهما کان بدلیلهما أو بدلیل الاستصحاب ، کما لا یخفى بأدنى التفات على ذوی الألباب ، فالتفت ولا تغفل (2).
السادس : لا فرق أیضاً بین أن یکون المتیقّن من أحکام هذه الشریعة أو الشریعة السابقة ، إذا شک فی بقائه وارتفاعه بنسخه فی هذه الشریعة ، لعموم أدلّة الاستصحاب ، وفساد توهّم اختلال أرکإنّه فیما کان
__________________
1 ـ فی « ب » حکم المطلق.
2 ـ کی لا تقول فی مقام التفصی عن إشکال المعارضة : إن الشک فی الحلیّة فعلاً بعد الغلیان یکون مسبّباً عن الشک فی الحرمة المعلَّقة ، فیشک بإنّه لا ترتّب بینهما عقلاً ولا شرعاً ، بل بینهما ملازمة عقلاً ، لما عرفت من أن الشک فی الحلیّة أو الحرمة الفعلیین بعده متحد مع الشک فی بقاء حرمته وحلیته المعلقة ، وأنّ قضیة الاستصحاب حرمته فعلاً ، وانتفاء حلّیته بعد غلیإنّه ، فإن حرمته کذلک وأنّ کان لازماً عقلاً لحرمته المعلقة المستصحبة ، إلّا إنّه لازم لها ، کان ثبوتها بخصوص خطاب ، أو عموم دلیل الاستصحاب ، فافهم منه ( 1 ).
المتیقّن من أحکام الشریعة السابقة لا محالة ، إمّا لعدم الیقین بثبوتها فی حقّهم ، وأنّ علم بثبوتها سابقاً فی حق آخرین ، فلا شک فی بقائها أیضاً ، بل فی ثبوت مثلها ، کما لا یخفى ، وإمّا للیقین بارتفاعها بنسخ الشریعة السابقة بهذه الشریعة ، فلا شک فی بقائها حینئذ ، ولو سلّم الیقین بثبوتها فی حقّهم ؛ وذلک لأنّ الحکم الثابت فی الشریعة السابقة حیث کان ثابتاً لافراد المکلف ، کانت محقّقة وجوداً أو مقدّرة ، کما هو قضیة القضایا المتعارفة المتداولة ، وهی قضایا حقیقیة ، لا خصوص الأفراد الخارجیة ، کما هو قضیة القضایا الخارجیة ، وإلاّ لما صحّ الاستصحاب فی الأحکام الثابتة فی هذه الشریعة ، ولا النسخ بالنسبة إلى غیر الموجود فی زمان ثبوتها ، کان الحکم فی الشریعة السابقة ثابتاً لعامة أفراد المکلف ممّن وجد أو یوجد ، وکان (1) الشک فیه کالشک فی بقاء الحکم الثابت فی هذه الشریعة لغیر من وجد فی زمان ثبوته ، والشریعة السابقة وأنّ کانت منسوخة بهذه الشریعة یقیناً ، إلّا إنّه لا یوجب الیقین بارتفاع أحکامها بتمامها ، ضرورة أن قضیة نسخ الشریعة لیس ارتفاعها کذلک ، بل عدم بقائها بتمامها ، والعلم إجمالاً بارتفاع بعضها إنّما یمنع عن استصحاب ما شک فی بقائه منها ، فیما إذا کان من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالاً ، لا فیما إذا لم یکن من أطرافه ، کما إذا علم بمقداره تفصیلا ، أو فی موارد لیس المشکوک منها ، وقد علم بارتفاع ما فی موارد الأحکام الثابتة فی هذه الشریعة.
ثم لا یخفى إنّه یمکن إرجاع ما أفاده شیخنا العلامة (2) ـ أعلى الله فی الجنان
__________________
1 ـ فی کفایة الیقین بثبوته ، بحیث لو کان باقیا ولم ینسخ لعمه ، ضرورة صدق إنّه على یقین منه ، فشک فیه بذلک ، ولزوم الیقین بثبوته فی حقه سابقاً بلا ملزم.
وبالجملة : قضیة دلیل الاستصحاب جریإنّه لاثبات حکم السابق للاحق وإسرائه إلیه فیما کان یعمه ویشمله ، لولا طروء حالة معها یحتمل نسخه ورفعه ، وکان دلیله قاصراً عن شمولها ، من دون لزوم کونه ثابتا له قبل طروئها أصلاً ، کما لا یخفى ( منه 1 ).
2 ـ فرائد الأصول / 381 ، عند قوله : وثانیاً ان اختلاف الأشخاص .. الخ.
مقامه ـ فی ذب إشکال (1) تغایر الموضوع فی هذا الاستصحاب من الوجه الثّانی إلى ما ذکرنا ، لا ما یوهمه ظاهر کلامه ، من أن الحکم ثابت للکلیّ ، کما أن الملکیة له فی مثل باب الزکاة والوقف العام ، حیث لا مدخل للأشخاص فیها ؛ ضرورة أن التکلیف والبعث أو الزجر لا یکاد یتعلّق به کذلک ، بل لا بدّ من تعلقه بالأشخاص ، وکذلک الثواب أو العقاب المترتّب على الطاعة أو المعصیة ، وکأنّ غرضه من عدم دخل الأشخاص عدم أشخاص خاصة ، فافهم.
وأما ما أفاده من الوجه الأوّل (2) ، فهو وأنّ کان وجیها بالنسبة إلى جریان الاستصحاب فی حقّ خصوص المدرک للشریعتین ، إلّا إنّه غیر مجد فی حق غیره من المعدومین ، ولا یکاد یتمّ الحکم فیهم ، بضرورة اشتراک أهل الشریعة الواحدة أیضاً ، ضرورة أن قضیة الاشتراک لیس إلّا أن الاستصحاب حکم کلّ من کان على یقین فشک ، لا إنّه حکم الکلّ ولو من لم یکن کذلک بلا شک ، وهذا واضح.
السابع : لا شبهة فی أن قضیة أخبار الباب هو إنشاءً حکم مماثل للمستصحب فی إستصحاب الأحکام ، ولأحکامه فی استصحاب الموضوعاًت ، کما لا شبهة فی ترتیب ما للحکم المنشأ بالاستصحاب من الآثار الشرعیة والعقلیة ، وإنما الإِشکال فی ترتیب الآثار الشرعیة المترتبة على المستصحب بواسطة غیر شرعیة عادیة کانت أو عقلیة ، ومنشؤه أن مفاد الأخبار : هل هو تنزیل المستصحب والتعبد به وحده؟ بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة ، أو تنزیله بلوازمه العقلیة أو العادیة؟ کما هو الحال فی تنزیل مؤدیات الطرق والأمارات ، أو بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة؟ بناءً على
__________________
1 ـ الصحیح ما أثبتناه خلافاً لما فی النسخ.
2 ـ فرائد الأصول / 381 ، عند قوله : وفیه أوّلاً .. الخ.
صحة التنزیل (1) بلحاظ أثر الواسطة أیضاً لأجل أن أثر الأثر أثر.
وذلک لأن مفادها لو کان هو تنزیل الشیء وحده بلحاظ أثر نفسه ، لم یترتب علیه ما کان مترتباً علیها ، لعدم إحرازها حقیقة ولا تعبداً ، ولا یکون تنزیله بلحاظه ، بخلاف ما لو کان تنزیله بلوازمه ، أو بلحاظ ما یعم آثارها ، فإنّه یترتب باستصحابه ما کان بوساطتها.
والتحقیق : أن الأخبار إنّما تدلّ على التعبد بما کان على یقین منه فشک ، بلحاظ ما لنفسه من آثاره وأحکامه ، ولا دلالة لها بوجه على تنزیله بلوازمه التی لا یکون کذلک ، کما هی محلّ ثمرة الخلاف ، ولا على تنزیله بلحاظ ماله مطلقاً ولو بالواسطة ، فإن المتیقن إنّما هو لحاظ آثار نفسه ، وأما آثار لوازمه فلا دلالة هناک على لحاظها أصلاً ، وما لم یثبت لحاظها بوجه أیضاً لما کان وجه لترتیبها علیه باستصحابه ، کما لا یخفى.
نعم لا یبعد ترتیب خصوص ما کان محسوباً بنظر العرف من آثار نفسه لخفاء ما بوساطته ، بدعوى أن مفاد الأخبار عرفاً ما یعمه أیضاً حقیقة ، فافهم.
کما لا یبعد ترتیب ما کان بوساطة ما لا یمکن التفکیک عرفاً بینه وبین المستصحب تنزیلاً ، کما لا تفکیک بینهما واقعاً ، أو بوساطة ما لأجل وضوح
__________________
1 ـ ولکن الوجه عدم صحة التنزیل بهذا اللحاظ ، ضرورة إنّه ما یکون شرعاً لشیء من الأثر لا دخل له بما یستلزمه عقلاً أو عادةً ، وحدیث أثر الأثر أثر وأنّ کان صادقاً إلّا إنّه إذا لم یکن الترتب بین الشیء وأثره وبینه وبین مؤثره مختلفاً ، وذلک ضرورة إنّه لا یکاد یعد الأثر الشرعی لشیء أثراً شرعیاً لما یستلزمه عقلاً أو عادةً أصلاً ، لا بالنظر الدقیق العقلی ولا النظر المسامحی العرفی ، إلّا فیما عد أثر الواسطة أثرا لذیها لخفائها أو لشدة وضوح الملازمة بینهما ، بحیث عدا شیئاً واحداً ذا وجهین ، وأثر أحدهما أثر الاثنین ، کما یأتی الإِشارة إلیه ، فافهم منه ( 1 ).
لزومه له ، أو ملازمته معه بمثابة عد أثره أثراً لهما ، فإن عدم ترتیب مثل هذا الأثر علیه یکون نقضاً لیقینه بالشک أیضاً ، بحسب ما یفهم من النهی عن نقضه عرفاً ، فافهم.
ثم لا یخفى وضوح الفرق بین الاستصحاب وسائر الأُصول التعبدیة وبین الطرق والأمارات ، فإن الطریق أو الامارة حیث إنّه کما یحکی عن المؤدّى ویشیر إلیه ، کذا یحکی عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وملازماته ویشیر إلیها ، کان مقتضى إطلاق دلیل اعتبارها لزوم تصدیقها فی حکایتها ، وقضیته حجیة المثبت منها کما لا یخفى ، بخلاف مثل دلیل الاستصحاب ، فإنّه لا بدّ من الاقتصار مما فیه من الدلالة على التعبد بثبوته ، ولا دلالة له إلّا على التعبد بثبوت المشکوک بلحاظ أثره ، حسبما عرفت فلا دلالة له على اعتبارٍ المثبت منه ، کسائر الأصول التعبدیة ، إلّا فیما عدّ أثر الواسطة أثراً له لخفائها ، أو لشدة وضوحها وجلائها ، حسبما حققناه.
الثامن : إنّه لا تفاوت فی الأثر المترتب على المستصحب ، بین أن یکون مترتباً علیه بلا وساطة شیء ، أو بوساطة عنوان کلی ینطبق ویحمل علیه بالحمل الشائع ویتحد معه وجوداً ، کان منتزعاً عن مرتبة ذاته ، أو بملاحظة بعضٍ عوارضه مما هو خارج المحمول لا بالضمیمة ، فإن الأثر فی الصورتین إنّما یکون له حقیقة ، حیث لا یکون بحذاء ذلک الکلی فی الخارج سواه ، لغیره مما کان مبایناً معه ، أو من أعراضه مما کان محمولاً علیه بالضمیمة کسواده مثلاً أو بیاضه ، وذلک لأن الطبیعی إنّما یوجد بعین وجود فرده ، کما أن العرضی کالملکیة والغصبیة ونحوهما لا وجود له إلّا بمعنى وجود منشأ انتزاعه ، فالفرد أو منشأ الانتزاع فی الخارج هو عین ما رتب علیه الأثر ، لا شیء آخر ، فاستصحابه لترتیبه لا یکون بمثبت کما توهّم (1).
__________________
1 ـ المتوهم هو الشیخ (ره) فی الأمر السادس من تنبیهات الاستصحاب عند قوله لا فرق فی الأمر
وکذا لا تفاوت فی الأثر المستصحب أو المترتب علیه ، بین أن یکون مجعولاً شرعاً بنفسه کالتکلیف وبعض أنحاء الوضع ، أو بمنشأ انتزاعه کبعض أنحائه کالجزئیة والشرطیة والمانعیة ، فإنّه أیضاً مما تناله ید الجعل شرعاً ویکون أمره بید الشارع وضعاً ورفعاً ولو بوضع منشأ انتزاعه ورفعه.
ولا وجه لاعتبار أن یکون المترتب أو المستصحب مجعولاً مستقلاً کما لا یخفى ، فلیس استصحاب الشرط أو المانع لترتیب الشرطیّة أو المانعیة بمثبت ، کما ربما توهّم (1) بتخیل أن الشرطیّة أو المانعیة لیست من الآثار الشرعیة ، بل من الأمور الانتزاعیة ، فافهم.
وکذا لا تفاوت فی المستصحب أو المترتب بین أن یکون ثبوت الأثر ووجوده ، أو نفیه وعدمه ، ضرورة أن أمر نفیه بید الشارع کثبوته. وعدم إطلاق الحکم على عدمه غیر ضائر ، إذ لیس هناک ما دلّ على اعتباره بعد صدق نقض الیقین بالشک برفع الید عنه کصدقه برفعها من طرف ثبوته کما هو واضح ؛ فلا وجه للإشکال فی الاستدلال على البراءة باستصحاب البراءة من التکلیف ، وعدم المنع عن الفعل بما فی الرسالة (2) ، من أن عدم استحقاق العقاب فی الآخرة لیس من اللوازم المجعولة الشرعیة ، فإن عدم استحقاق العقوبة وأنّ کان غیر مجعول ، إلّا إنّه لا حاجة إلى ترتیب أثر مجعول فی استصحاب عدم المنع ، وترتب عدم الاستحقاق مع کونه عقلّیاً على استصحابه ، إنّما هو لکونه لازم مطلق عدم المنع ولو فی الظاهر ، فتأمل.
التاسع : إنّه لا یذهب علیک أن عدم ترتب الأثر الغیر الشرعی ولا
__________________
العادی … الخ فرائد الأصول / 384.
1 ـ المتوهم هو الشیخ (ره) فی القول السابع فی الاستصحاب ، عند قوله أن الثّانی مفهوم منتزع الخ فرائد الأُصول / 351.
2 ـ هذا مفاد کلام الشیخ فی التمسک باستصحاب البراءة فی ادلة اصل البراءة ، فرائد الأصول / 204.
الشرعی بوساطة غیره من العادی أو العقلی بالاستصحاب ، إنّما هو بالنسبة إلى ما للمستصحب واقعاً ، فلا یکاد یثبت به من آثاره إلّا أثره الشرعی الذی کان له بلا واسطة ، أو بوساطة أثر شرعی آخر ، حسبما عرفت فیما مرّ (1) ، لا بالنسبة إلى ما کان للأثر الشرعی مطلقاً ، کان بخطاب الاستصحاب أو بغیره من أنحاء الخطاب ، فإن آثاره الشرعیة کانت أو غیرها یترتب علیه إذا ثبت ولو بأن یستصحب ، أو کان من آثار المستصحب ، وذلک لتحقق موضوعها حینئذ حقیقة ، فما للوجوب عقلاً یترتب على الوجوب الثابت شرعاً باستصحابه أو استصحاب موضوعه ، من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة إلى غیر ذلک ، کما یترتب على الثابت بغیر الاستصحاب ، بلا شبهة ولا ارتیاب ، فلا تغفل.
العاشر : إنّه قد ظهر مما مرّ (2) لزوم أن یکون المستصحب حکماً شرعیاً أو ذا حکم کذلک ، لکنه لا یخفى إنّه لابد أن یکون کذلک بقاء ولو لم یکن کذلک ثبوتاً فلو لم یکن المستصحب فی زمان ثبوته حکماً ولا له أثر شرعاً وکان فی زمان استصحابه کذلک ـ أی حکماً أو ذا حکم ـ یصحّ استصحابه کما فی استصحاب عدم التکلیف ، فإنّه وأنّ لم یکن بحکم مجعول فی الأزل ولا ذا حکم ، إلّا إنّه حکم مجعول فیما لا یزال ، لما عرفت من أن نفیه کثبوته فی الحال مجعول شرعاً ، وکذا استصحاب موضوع لم یکن له حکم ثبوتاً ، أو کان ولم یکن حکمه فعلیاً وله حکم کذلک بقاءً ، وذلک لصدق نقض الیقین بالشک على رفع الید عنه والعمل ، کما إذا قطع بارتفاعه یقیناً ، ووضوح عدم دخل أثر الحالة السابقة ثبوتاً فیه وفی تنزیلها بقاء ، فتوهم اعتبارٍ الأثر سابقاً ـ کما ربما یتوهمه الغافل من اعتبارٍ کون المستصحب حکماً أو ذا حکم ـ فاسد قطعاً ، فتدبرّ جیداً.
__________________
1 ـ راجع التنبیه السابع ، ص 413.
2 ـ المصدر المتقدم.
الحادی عشر : لا إشکال فی الاستصحاب فیما کان الشک فی أصل تحقق حکم أو موضوع.
وأما إذا کان الشک فی تقدمه وتأخره بعد القطع بتحققه وحدوثه فی زمان :
فإن لو حظ بالإضافة إلى أجزاء الزمان ، فکذا لا إشکال فی استصحاب عدم تحققه فی الزمان الأوّل ، وترتیب آثاره ؛ لا آثار تأخره عنه ، لکونه بالنسبة إلیه مثبتاً إلّا بدعوى خفاء الواسطة ، أو عدم التفکیک فی التنزیل بین عدم تحققه إلى زمان وتأخره عنه عرفاً ، کما لا تفکیک بینهما واقعاً ، ولا آثار حدوثه فی الزمان الثّانی ، فإنّه نحو وجود خاص ، نعم لا بأس بترتیبها بذا ک الاستصحاب ، بناءً على إنّه عبارة عن أمر مرکب من الوجود فی الزمان اللاحق وعدم الوجود فی السابق.
وإن لو حظ بالإضافة إلى حادث آخر علم بحدوثه أیضاً ، وشک فی تقدم ذاک علیه وتأخره عنه ، کما إذا علم بعروض حکمین أو موت متوارثین ، وشک فی المتقدم والمتأخر منهما ، فإن کانا مجهولی التاریخ :
فتارة کان الأثر الشرعی لوجود أحدهما بنحو خاص من التقدم أو التأخر أو التقارن ، لا للآخر ولا له بنحو آخر ، فاستصحاب عدمه صار بلا معارض ، بخلاف ما إذا کان الأثر لوجود کلّ منهما کذلک ، أو لکلّ من أنحاء وجوده ، فإنّه حینئذ یعارض ، فلا مجال لاستصحاب العدم فی واحد ، للمعارضة باستصحاب العدم فی آخر ، لتحقق أرکإنّه فی کلّ منهما. هذا إذا کان الأثر المهمّ مترتباً على وجوده الخاص الذی کان مفاد کان التامة.
وأما إن کان مترتباً على ما إذا کان متصفاً بالتقدم ، أو بأحد ضدیه الذی کان مفاد کان الناقصة ، فلا مورد ها هنا للاستصحاب ، لعدم الیقین السابق فیه ، بلا ارتیاب.
وأخرى کان الأثر لعدم أحدهما فی زمان الآخر ، فالتحقیق إنّه أیضاً لیس
بمورد للاستصحاب ، فیما کان الأثر المهمّ مترتباً على ثبوته [ للحادث ، بأن یکون الأثر الحادث ] (1) المتصف بالعدم فی زمان حدوث الآخر لعدم الیقین بحدوثه کذلک فی زمان ، [ بل قضیة الاستصحاب عدم حدوثه کذلک ، کما لا یخفى ] (2). وکذا فیما کان مترتباً على نفس عدمه فی زمان الآخر واقعاً ، وأنّ کان على یقین منه فی آن قبل زمان الیقین بحدوث أحدهما ، لعدم إحراز اتصال زمان شکه وهو زمان حدوث الآخر بزمان یقینه ، لاحتمال انفصاله عنه باتصال حدوثه به.
وبالجملة (3) کان بعد ذاک الآن الذی قبل زمان الیقین بحدوث أحدهما زمانان : أحدهما زمان حدوثه ، والآخر زمان حدوث الآخر وثبوته الذی یکون ظرفا للشک فی إنّه فیه أو قبله ، وحیث شک فی أن أیّهما مقدم وأیّهما مؤخر لم یحرز اتصال زمان الشک بزمان الیقین ، ومعه لا مجال للاستصحاب حیث لم یحرز معه کون رفع الید عن الیقین بعدم حدوثه بهذا الشک من نقض الیقین بالشک.
لا یقال : لا شبهة فی اتصال مجموع الزمانین بذاک الآن ، وهو بتمامه زمان الشک فی حدوثه لاحتمال تأخره على الآخر ، مثلاً إذا کان على یقین من عدم حدوث واحد منهما فی ساعة ، وصار على یقین من حدوث أحدهما بلا تعیین فی ساعة أُخرى بعدها ، وحدوث الآخر فی ساعة ثالثة ، کان زمان الشک فی حدوث کلّ منهما تمام الساعتین لا خصوص أحدهما ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ جاءت العبارة فی نسخة « أ » وحذفت من « ب ».
2 ـ أثبتنا الزیادة من « ب ».
3 ـ وأنّ شئت قلت : إن عدمه الأزلی المعلوم قبل الساعتین ، وأنّ کان فی الساعة الأولى منهما مشکوکاً ، إلّا إنّه حسب الفرض لیس موضوعاً للحکم والأثر ، وإنما الموضوع هو عدمه الخاص ، وهو عدمه فی زمان حدوث الآخر المحتمل کونه الساعة الأُولى المتصلة بزمان یقینه ، أو الثانیة المنفصلة عنه ، فلم یحرز اتصال زمان شکه بزمان یقینه ، ولابد منه فی صدق : لا تنقض الیقین بالشک ، فاستصحاب عدمه إلى الساعة الثانیة لا یثبت عدمه فی زمان حدوث الآخر إلّا على الأصل المثبت فیما دار الأمر بین التقدم والتأخر ، فتدبرّ ، منه ( 1 ).
فإنّه یقال : نعم ، ولکنه إذا کان بلحاظ إضافته إلى أجزاء الزمان ، والمفروض إنّه لحاظ إضافته إلى الآخر ، وإنّه حدث فی زمان حدوثه وثبوته أو قبله ، ولا شبهة أن زمان شکه بهذا اللحاظ إنّما هو خصوص ساعة ثبوت الآخر وحدوثه لا الساعتین.
فانقدح إنّه لا مورد ها هنا للاستصحاب لاختلال أرکإنّه لا إنّه مورده ، وعدم جریإنّه إنّما هو بالمعارضة ، کی یختص بما کان الأثر لعدم کلّ فی زمان الآخر ، وإلاّ کان الاستصحاب فیما له الأثر جاریاً.
وأما لو علم بتاریخ أحدهما ، فلا یخلو أیضاً امّا یکون الأثر المهمّ مترتباً على الوجود الخاص من المقدم أو المؤخر أو المقارن ، فلا إشکال فی استصحاب عدمه ، لو لا المعارضة باستصحاب العدم فی طرف الآخر أو طرفه ، کما تقدم.
وإما یکون مترتباً على ما إذا کان متصفاً بکذا ، فلا مورد للاستصحاب أصلاً ، لا فی مجهول التاریخ ولا فی معلومه کما لا یخفى ، لعدم الیقین بالاتصاف به سابقاً فیهما.
وإما یکون مترتباً على عدمه الذی هو مفاد لیس التامة فی زمان الآخر ، فاستصحاب العدم فی مجهول التاریخ منهما کان جاریاً ، لاتصال زمان شکه بزمان یقینه ، دون معلومه لانتفاء الشک فیه فی زمان ، وإنما الشک فیه بإضافة زمإنّه إلى الآخر ، وقد عرفت جریإنّه فیهما تارةً وعدم جریإنّه کذلک أُخرى.
فانقدح إنّه لا فرق بینهما ، کان الحادثان مجهولی التاریخ أو کانا مختلفین ، ولا بین مجهوله ومعلومه فی المختلفین ، فیما اعتبر فی الموضوع خصوصیة ناشىء ة من إضافة أحدهما إلى الآخر بحسب الزمان من التقدم ، أو أحد ضدیه وشک فیها ، کما لا یخفى.
کما انقدح إنّه لا مورد للاستصحاب أیضاً فیما تعاقب حالتان متضادتان
کالطهارة والنجاسة ، وشک فی ثبوتهما وانتفائهما ، للشک فی المقدم والمؤخر منهما ، وذلک لعدم إحراز الحالة السابقة المتیقنة المتصلة بزمان الشک فی ثبوتهما ، وترددها بین الحالتین ، وإنّه لیس من تعارض الاستصحابین ، فافهم وتأملّ فی المقام فإنّه دقیق.
الثانی عشر : إنّه قد عرفت (1) أن مورد الاستصحاب لابد أن یکون حکماً شرعیاً أو موضوعاً لحکم کذلک ، فلا إشکال فیما کان المستصحب من الأحکام الفرعیة ، أو الموضوعاًت الصرفة الخارجیة ، أو اللغویة إذا کانت ذات احکام شرعیة.
وأما الأمور الاعتقادیة التی کان المهمّ فیها شرعاً هو الانقیاد والتسلیم والاعتقاد بمعنى عقد القلب علیها من الأعمال القلبیة الاختیاریة ، فکذا لا إشکال فی الاستصحاب فیها حکماً وکذا موضوعاً ، فیما کان هناک یقین سابق وشک لاحق ، لصحة التنزیل وعموم الدلیل ، وکونه أصلاً عملیا إنّما هو بمعنى إنّه وظیفة الشک تعبّداً ، قبالاً للأمارات الحاکیة عن الواقعیات ، فیعم العمل بالجوانح کالجوارح ، وأما التی کان المهمّ فیها شرعاً وعقلاً هو القطع بها ومعرفتها ، فلا مجال له موضوعاً ویجری حکماً ، فلو کان متیقنا بوجوب تحصیل القطع بشیء ـ کتفاصیل القیامة ـ فی زمان وشک فی بقاء وجوبه ، یستصحب.
وأما لو شک فی حیاة إمام زمانٍ مثلاً فلا یستصحب ، لأجل ترتیب لزوم معرفة إمام زمإنّه ، بل یجب تحصیل الیقین بموته أو حیاته مع إمکانه ، ولا یکاد یجدی فی مثل وجوب المعرفة عقلاً أو شرعاً ، إلّا إذا کان حجة من باب إفادته الظن وکان المورد مما یکتفى به أیضاً ، فالاعتقادیات کسائر الموضوعاًت لابد فی جریإنّه فیها من أن یکون فی المورد أثر شرعی ، یتمکن من موافقته مع بقاء الشک فیه ، کان ذاک متعلقاً بعمل الجوارح أو الجوانح.
__________________
1 ـ فی التنبیه السابع / ص 413.
وقد انقدح بذلک إنّه لا مجال له فی نفس النبوّة ، إذا کانت ناشىء ة من کمال النفس بمثابة یوحى إلیها ، وکانت لازمة لبعض مراتب کمالها ، امّا لعدم الشک فیها بعد اتصاف النفس بها ، أو لعدم کونها مجعولة بل من الصفات الخارجیة التکوینیة ، ولو فرض الشک فی بقائها باحتمال انحطاط النفس عن تلک المرتبة وعدم بقائها بتلک المثابة ، کما هو الشأن فی سائر الصفات والملکات الحسنة الحاصلة بالریاضات والمجاهدات ، وعدم أثر شرعی مهم لها یترتب علیها باستصحابها.
نعم لو کانت النبوّة من المناصب المجعولة وکانت کالولایة ، وأنّ کان لابد فی إعطائها من أهلیّة وخصوصیّة یستحق بها لها ، لکانت مورداً للاستصحاب بنفسها ، فیترتب علیها آثارها ولو کانت عقلیة بعد استصحابها ، لکنه یحتاج إلى دلیل کان هناک غیر منوط بها ، وإلاّ لدار ، کما لا یخفى.
وأما استصحابها بمعنى استصحاب بعضٍ أحکام شریعة من اتّصف بها ، فلا إشکال فیها کما مرّ (1).
ثم لا یخفى أن الاستصحاب لا یکاد یلزم به الخصم ، إلّا إذا اعترف بإنّه على یقین فشک ، فیما صحّ هناک التعبّد والتنزیل ودل علیه الدلیل ، کما لا یصحّ أن یقنع به إلّا مع الیقین والشک والدلیل على التنزیل.
ومنه انقدح إنّه لا موقع لتشبّث الکتابی باستصحاب نبوّة موسى أصلاً ، لا إلزاماً للمسلم ، لعدم الشک فی بقائها قائمة بنفسه المقدسة ، والیقین بنسخ شریعته ، وإلاّ لم یکن بمسلم ، مع إنّه لا یکاد یلزم به ما لم یعترف بإنّه على یقین وشک ؛ ولا اقناعاً مع الشک ، للزوم معرفة النبی بالنظر إلى حالاته ومعجزاته عقلاً ، وعدم الدلیل على التعبد بشریعته لا عقلاً ولا شرعاً ، والاتکال على قیامه فی شریعتنا لا یکاد یجدیه إلّا على نحو محال ؛ ووجوب العمل بالاحتیاط عقلاً فی حال
__________________
1 ـ فی التنبیه السادس / ص 411.
عدم المعرفة بمراعاة الشریعتین ما لم یلزم منه الاختلال ، للعلم بثبوت إحداهما على الإِجمال ، إلّا إذا علم بلزوم البناء على الشریعة السابقة ما لم یعلم الحال.
الثالث عشر : إنّه لا شبهة فی عدم جریان الاستصحاب فی مقام مع دلالة مثل العام ، لکنه ربما یقع الإِشکال والکلام فیما إذا خصّص فی زمان فی أن المورد بعد هذا الزمان مورد الاستصحاب أو التمسک بالعام.
والتحقیق أن یقال : إن مفاد العام ، تارةً یکون ـ بملاحظة الزمان ـ ثبوت حکمه لموضوعه على نحو الاستمرار والدوام ، وأخرى على نحو جعل کلّ یوم من الأیام فرداً لموضوع ذاک العام. وکذلک مفاد مخصصه ، تارةً یکون على نحو أخذ الزمان ظرف استمرار حکمه ودوامه ، وأُخرى على نحو یکون مفرداً ومأخوذاً فی موضوعه.
فإن کان مفاد کلّ من العام والخاص على النحو الأوّل ، فلا محیص عن استصحاب حکم الخاص فی غیر مورد دلالته ، لعدم دلالة للعام على حکمه ، لعدم دخوله على حدة فی موضوعه ، وانقطاع الاستمرار بالخاص الدالّ على ثبوت الحکم له فی الزمان السابق ، من دون دلالته على ثبوته فی الزمان اللاحق ، فلا مجال إلّا لاستصحابه.
نعم لو کان الخاص غیر قاطع لحکمه ، کما إذا کان مخصصاً له من الأوّل ، لما ضرَّ به فی غیر مورد دلالته ، فیکون أول زمان استمراد حکمه بعد زمان دلالته ، فیصحّ التمسک ب ( أَوْفُوا بِالْعُقُود ِ) (1) ولو خصّص بخیار المجلس ونحوه ، ولا یصحّ التمسک به فیما إذا خصص بخیار لا فی أولّه ، فافهم.
وإن کان مفادهما على النحو الثّانی ، فلا بدّ من التمسک بالعام بلا کلام ،
__________________
1 ـ سورة المائدة : الآیة 1.
لکون موضوع الحکم بلحاظ هذا الزمان من أفراده ، فله الدلالة على حکمه ، والمفروض عدم دلالة الخاص على خلافه.
وإن کان مفاد العام على النحو الأوّل والخاص على النحو الثّانی ، فلا مورد للاستصحاب ، فإنّه وأنّ لم یکن هناک دلالة أصلاً ، إلّا أن انسحاب الحکم الخاص إلى غیر مورد دلالته من إسراء حکم موضوع إلى آخر ، لا استصحاب حکم الموضوع ، ولا مجال أیضاً للتمسک بالعام لما مرّ آنفاً ، فلا بدّ من الرجوع إلى سائر الأصول.
وإن کان مفادهما على العکس کان المرجع هو العام ، للاقتصار فی تخصیصه بمقدار دلالة الخاص ، ولکنه لولا دلالته لکان الاستصحاب مرجعاً ، لما عرفت من أن الحکم فی طرف الخاص قد أخذ على نحو صحّ استصحابه ؛ فتأمل تعرف أن إطلاق کلام (1) شیخنا العلامة ( أعلى الله مقامه ) فی المقام نفیاً وإثباتاً فی غیر محله.
الرابع عشر : الظاهر أن الشک فی أخبار الباب وکلمات الأصحاب هو خلاف الیقین ، فمع الظن بالخلاف فضلاً عن الظن بالوفاق یجری الاستصحاب. ویدل علیه ـ مضافاً إلى إنّه کذلک لغةً کما فی الصحاح ، وتعارف استعماله فیه فی الإخبار فی غیر باب ـ قوله 7 فی أخبار الباب : ( ولکن تنقصه بیقین آخر ) حیث إنّ ظاهره إنّه فی بیان تحدید ما ینقض به الیقین وإنّه لیس إلّا الیقین ، وقوله أیضاً : ( لا حتى یستیقن إنّه قد نام ) بعد السؤال عنه 7 عمّا ( إذا حرک فی جنبه شیء وهو لا یعلم ) حیث دلّ بإطلاقه مع ترک الاستفصال بین ما إذا أفادت هذه الامارة الظن ، وما إذا لم تفد ، بداهة إنّها لو لم تکن مفیدة له دائماً لکانت مفیدة له أحیاناً ، على عموم النفی لصورة الإِفادة ، وقوله 7 بعده : ( ولا تنقض الیقین بالشک ) أن الحکم فی المغیّا مطلقاً هو عدم نقض الیقین بالشک ، کما لا
__________________
1 ـ راجع الأمر العاشر من تنبیهات الاستصحاب ، فرائد الأصول / 395.
یخفى.
وقد استدل علیه أیضاً بوجهین آخرین :
الأول (1) : الإجماع القطعی على اعتبارٍ الاستصحاب مع الظن بالخلاف على تقدیر اعتباره من باب الإخبار.
وفیه : إنّه لا وجه لدعواه ولو سلّم اتفاق الأصحاب على الاعتبار ، لاحتمال أن یکون ذلک من جهة ظهور دلالة الإخبار علیه.
الثانی (2) : إن الظن الغیر المعتبر ، إن علم بعدم اعتباره بالدلیل ، فمعناه أن وجوده کعدمه عند الشارع ، وأنّ کلما یترتب شرعاً على تقدیر عدمه فهو المترتب على تقدیر وجوده ، وأنّ کان مما شک فی اعتباره ، فمرجع رفع الید عن الیقین بالحکم الفعلّی السابق بسببه إلى نقض الیقین بالشک ، فتأمل جیداً.
وفیه : إن قضیة عدم اعتباره لإلغائه أو لعدم الدلیل على اعتباره لا یکاد یکون إلّا عدم إثبات مظنونه به تعبداً ، لیترتب علیه آثاره شرعاً ، لا ترتیب آثار الشک مع عدمه ، بل لابد حینئذ فی تعیین أن الوظیفة أیّ أصل من الأُصول العملیة من الدلیل ، فلو فرض عدم دلالة الأخبار معه على اعتبارٍ الاستصحاب فلابد من الانتهاء إلى سائر الأُصول بلا شبهة ولا ارتیاب ، ولعله أُشیر إلیه بالأمر بالتأمل (3) ، فتأمل جیداً.
تتمة : لا یذهب علیک إنّه لا بدّ فی الاستصحاب من بقاء الموضوع ، وعدم
__________________
1 ـ هذا هو الوجه الأوّل فی استدلال الشیخ (ره) على تعمیم الشک ، فی الأمر الثانی عشر من تنبیهات الاستصحاب ، فرائد الأصول / 389.
2 ـ هذا هو الوجه الثالث فی استدلال الشیخ (ره) على تعمیم الشک ، فی الأمر الثانی عشر من تنبیهات الاستصحاب ، فرائد الأصول / 398.
3 ـ راجع فرائد الأصول ، الأمر الثّانی عشر من تنبیهات الاستصحاب / 389.
أمارة معتبرة هناک ولو على وفاقه ، فها هنا مقامان :
المقام الأوّل : إنّه لا إشکال فی اعتبارٍ بقاء الموضوع بمعنى اتحاد القضیة المشکوکة مع المتیقنة موضوعاً ، کاتحادهما حکماً ، ضرورة إنّه بدونه لا یکون الشک فی البقاء بل فی الحدوث ، ولارفع الید عن الیقین فی محلّ الشک نقض الیقین بالشک ، فاعتبار البقاء بهذا المعنى لا یحتاج إلى زیادة بیان وإقامة برهان ، والاستدلال (1) علیه باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر لتقوّمه بالموضوع وتشخصه به غریب ، بداهة أن استحالته حقیقة غیر مستلزم لاستحالته تعبداً ، والالتزام بآثاره شرعا.
وأما بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجاً ، فلا یعتبر قطعاً فی جریإنّه لتحقق أرکإنّه بدونه ، نعم ربما یکون مما لابد منه فی ترتیب بعضٍ الآثار ، ففی استصحاب عدالة زید لا یحتاج إلى إحراز حیاته لجواز تقلیده ، وأنّ کان محتاجاً إلیه فی جواز الاقتداء به أو وجوب إکرامه أو الانفاق علیه.
وإنما الإِشکال کله فی أن هذا الاتحاد هل هو بنظر العرف؟ أو بحسب دلیل الحکم؟ أو بنظر العقل؟ فلو کان مناط الاتحاد هو نظر العقل فلا مجال للاستصحاب فی الأحکام ، لقیام احتمال تغیّر الموضوع فی کلّ مقام شک فی الحکم بزوال بعضٍ خصوصیات موضوعه ، لاحتمال دخله فیه ، ویختص بالموضوعاًت ، بداهة إنّه إذا شک فی حیاة زید شک فی نفس ما کان على یقین منه حقیقة ؛ بخلاف ما لو کان بنظر العرف أو بحسب لسان الدلیل ، ضرورة أن انتفاء بعضٍ الخصوصیات وإن کان موجباً للشک فی بقاء الحکم لاحتمال دخله فی موضوعه ، إلّا إنّه ربما لا یکون بنظر العرف ولا فی لسان الدلیل من مقوماته.
کما إنّه ربما لا یکون موضوع الدلیل بنظر العرف بخصوصه موضوعاً ، مثلاً
__________________
1 ـ استدل به الشیخ (ره) فی خاتمة الاستصحاب ، فی شروط جریان الاستصحاب ، فرائد الأصول / 400.
إذا ورد ( العنب إذا غلى یحرم ) کان العنب بحسب ما هو المفهوم عرفاً هو خصوص العنب ، ولکن العرف بحسب ما یرتکز فی أذهإنّهم ویتخیلونه من المناسبات بین الحکم وموضوعه ، یجعلون الموضوع للحرمة ما یعم الزبیب ویرون العنبیة والزبیبیة من حالاته المتبادلة ، بحیث لو لم یکن الزبیب محکوماً بما حکم به العنب ، کان عندهم من ارتفاع الحکم عن موضوعه ، ولو کان محکوماً به کان من بقائه ، ولا ضیر فی أن یکون الدلیل بحسب فهمهم على خلاف ما ارتکز فی أذهإنّهم بسبب ما تخیلوه من الجهات والمناسبات فیما إذا لم تکن بمثابة تصلح قرینة على صرفه عما هو ظاهر فیه.
ولا یخفى أن النقض وعدمه حقیقة یختلف بحسب الملحوظ من الموضوع ، فیکون نقضاً بلحاظ موضوع ، ولا یکون بلحاظ موضوع آخر ، فلابد فی تعیین أن المناط فی الاتحاد هو الموضوع العرفی أو غیره ، من بیان أن خطاب ( لا تنقض ) قد سیق بأی لحاظ؟.
فالتحقیق أن یقال : إن قضیة إطلاق خطاب ( لا تنقض ) هو أن یکون بلحاظ الموضوع العرفی ، لإنّه المنساق من الإِطلاق فی المحاورات العرفیة ومنها الخطابات الشرعیة ، فما لم یکن هناک دلالة على أن النهی فیه بنظر آخر غیر ما هو الملحوظ فی محاوراتهم ، لا محیص عن الحمل على إنّه بذاک اللحاظ ، فیکون المناط فی بقاء الموضوع هو الاتحاد بحسب نظر العرف ، وأنّ لم یحرز بحسب العقل أو لم یساعده النقل ، فیستصحب مثلاً ما ثبت بالدلیل للعنب إذا صار زبیباً ، لبقاء الموضوع واتحاد القضیتین عرفاً ، ولا یستصحب فیما لا اتحاد کذلک وأنّ کان هناک اتحاد عقلاً ، کما مرت الإِشارة إلیه فی القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلی (1) ، فراجع.
المقام الثّانی : إنّه لا شبهة فی عدم جریان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة
__________________
1 ـ فی نهایة التنبیه الثالث / ص 406.
فی مورد ، وإنما الکلام فی إنّه للورود أو الحکومة أو التوفیق بین دلیل اعتبارها وخطابه.
والتحقیق إنّه للورود ، فإن رفع الید عن الیقین السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه لیس من نقض الیقین بالشک بل بالیقین ، وعدم رفع الید عنه مع الأمارة على وفقه لیس لأجل أن لا یلزم نقضه به ، بل من جهة لزوم العمل بالحجة.
لا یقال : نعم ، هذا لو أُخذ بدلیل الامارة فی مورده ، ولکنه لِمَ لا یؤخذ بدلیله ویلزم الأخذ بدلیلها؟
فإنّه یقال : ذلک إنّما هو لأجل إنّه لا محذور فی الأخذ بدلیلها بخلاف الأخذ بدلیله ، فإنّه یستلزم تخصیص دلیلها بلا مخصص إلّا على وجه دائر ، إذ التخصیص به یتوقف على اعتباره معها ، واعتباره کذلک یتوقف على التخصیص به ، إذ لولاه لا مورد له معها ، کما عرفت آنفاً. وأما حدیث الحکومة (1) فلا أصل له أصلاً ، فإنّه لا نظر لدلیلها إلى مدلول دلیله إثباتاً وبما هو مدلول الدلیل ، وأنّ کان د إلّا على إلغائه معها ثبوتاً وواقعاً ، لمنافاة لزوم العمل بها مع العمل به لو کان على خلافها ، کما أن قضیة دلیله إلغائها کذلک ، فإن کلاً من الدلیلین بصدد بیان ما هو الوظیفة للجاهل ، فیطرد کلّ منهما الآخر مع المخالفة ، هذا مع لزوم اعتباره معها فی صورة الموافقة ، ولا أظن أن یلتزم به القائل بالحکومة ، فافهم فإن المقام لا یخلو من دقة.
وأما التوفیق ، فإن کان بما ذکرنا فنعم الاتفاق ، وأنّ کان بتخصیص دلیله بدلیلها فلا وجه له ، لما عرفت من إنّه لا یکون مع الأخذ به نقض یقین بشک ، لا إنّه غیر منهی عنه مع کونه من نقض الیقین بالشک.
__________________
1 ـ القائل بها هو الشیخ الاعظم (ره) ، راجع فرائد الأُصول ، فی خاتمة الاستصحاب ، الشرط الثالث فی جریان الاستصحاب / 407.
خاتمة
لا بأس ببیان النسبة بین الاستصحاب وسائر الأُصول العملیة ، وبیان التعارض بین الاستصحابین.
أما الأوّل : فالنسبة بینه وبینها هی بعینها النسبة بین الأمارة وبینه ، فیقدّم علیها ولا مورد معه لها ، للزوم محذور التخصیص إلّا بوجه دائر فی العکس وعدم محذور فیه أصلاً ، هذا فی النقلیة منها.
وأما العقلیة فلا یکاد یشتبه وجه تقدیمه علیها ، بداهة عدم الموضوع معه لها ، ضرورة إنّه إتمام حجّة وبیان ومؤمّن من العقوبة وبه الأمان ، ولا شبهة فی أن الترجیح به عقلاً صحیح.
وأما الثّانی : فالتعارض بین الاستصحابین ، إن إن لعدم إمکان العمل بهما بدون علم بانتقاض الحالة السابقة فی أحدهما ، کاستصحاب وجوب أمرین حدث بینهما التضاد فی زمان الاستصحاب ، فهو من باب تزاحم (1) الواجبین.
__________________
1 ـ فیتخیر بینهما إن لم یکن أحد المستصحبین أهم ، وإلاّ فیتعین الأخذ بالأهم ، ولا مجال لتوهم إنّه لا یکاد یکون هناک أهم ، لأجل أن إیجابهما إنّما یکون من باب واحد وهو استصحابهما من دون مزیة فی أحدهما أصلاً ، کما لا یخفى ، وذلک لأن الاستصحاب إنّما یثبت المستصحب ، فکما یثبت به الوجوب والاستحباب ، یثبت به کلّ مرتبة منهما ، فیستصحب ، فلا تغفل منه ( 1 ).
وإن کان مع العلم بانتقاض الحالة السابقة فی أحدهما ، فتارة یکون المستصحب فی أحدهما من الآثار الشرعیة لمستصحب الآخر ، فیکون الشک فیه مسبباً عن الشک فیه ، کالشک فی نجاسة الثوب المغسول بماء مشکوک الطهارة وقد کان طاهراً ، وأُخرى لا یکون کذلک.
فإن کان أحدهما أثراً للآخر ، فلا مورد إلّا للاستصحاب فی طرف السبب ، فإن الاستصحاب فی طرف المسبب موجب لتخصیص الخطاب ، وجواز نقض الیقین بالشک فی طرف السبب بعدم ترتیب أثره الشرعی ، فإن من آثار طهارة الماء طهارة الثوب المغسول به ورفع نجاسته ، فاستصحاب نجاسة الثوب نقض للیقین بطهارته ، بخلاف استصحاب طهارته ، إذ لا یلزم منه نقض یقین بنجاسة الثوب بالشک ، بل بالیقین بما هو رافع لنجاسته ، وهو غسله بالماء المحکوم شرعاً بطهارته.
وبالجملة فکل من السبب والمسبب وأنّ کان مورداً للاستصحاب ، إلّا أن الاستصحاب فی الأوّل بلا محذور (1) ، بخلافه فی الثّانی ففیه محذور التخصیص بلا وجه إلّا بنحو محال ، فاللازم الأخذ بالاستصحاب السببی ، نعم لو لم یجر هذا
__________________
1 ـ وسرّ ذلک أن رفع الید عن الیقین فی مورد السبب یکون فرداً لخطاب : لا تنقض الیقین ، ونقضاً للیقین بالشک مطلقاً بلا شک ، بخلاف رفع الید عن الیقین فی مورد المسبب ، فإنّه إنّما یکون فرداً له إذا لم یکن حکم حرمة النقض یعمّ النقض فی مورد السبب ، وإلاّ لم یکن بفرد له ، إذ حینئذ یکون من نقض الیقین بالیقین ، ضرورة إنّه یکون رفع الید عن نجاسة الثوب المغسول بماء محکوم بالطهارة شرعاً ، باستصحاب طهارته للیقین بأن کلّ ثوب نجس یغسل بماء کذلک یصیر طاهراً شرعاً. وبالجملة من الواضح لمن له أدنى تأمل ، أن اللازم ـ فی کلّ مقام کان للعام فرد مطلق ، وفرد کان فردیته له معلقة على عدم شمول حکمه لذلک الفرد المطلق کما فی المقام ، أو کان هناک عاماًن کان لاحدهما فرد مطلق وللآخر فرد کانت فردیته معلقة على عدم شمول حکم ذاک العام لفرده المطلق ، کما هو الحال فی الطرق فی مورد الاستصحاب ـ هو الالتزام بشمول حکم العام لفرده المطلق حیث لا مخصص له ، ومعه لا یکون فرد آخر یعمّه أو لا یعمّه ، ولا مجال لأن یلتزم بعدم شمول حکم العام للفرد المطلق لیشمل حکمه لهذا الفرد ، فإنّه یستلزم التخصیص بلا وجه ، أو بوجه دائر کما لا یخفى على ذوی البصائر منه ( 1 ).
الاستصحاب بوجه لکان الاستصحاب المسببی جاریاً ، فإنّه لا محذور فیه حینئذ مع وجود أرکإنّه وعموم خطابه (1).
وإن لم یکن المستصحب فی أحدهما من الآثار للآخر ، فالاظهر جریإنّهما فیما لم یلزم منه محذور المخالفة القطعیة للتکلیف الفعلّی المعلوم إجمالاً ، لوجود المقتضی إثباتاً وفقد المانع عقلاً.
أما وجود المقتضی ، فلاطلاق الخطاب وشموله للاستصحاب فی أطراف المعلوم بالإِجمال ، فإن قوله 7 فی ذیل بعضٍ أخبار الباب : ( ولکن تنقض الیقین بالیقین ) (2) لو سلّم إنّه یمنع (3) عن شمول قوله 7 فی صدره : ( لا تنقض الیقین بالشک ) للیقین والشک فی أطرافه ، للزوم المناقضة فی مدلوله ، ضرورة المناقضة بین السلب الکلّی والإِیجاب الجزئی ، إلّا إنّه لا یمنع عن عموم النهی فی سائر الإخبار مما لیس فیه الذیل ، وشموله لما فی أطرافه ، فإن إجمال ذاک الخطاب لذلک لا یکاد یسری إلى غیره مما لیس فیه ذلک.
وأما فقد المانع ، فلأجل أن جریان الاستصحاب فی الأطراف لا یوجب إلّا المخالفة الالتزامیة ، وهو لیس بمحذور لا شرعاً ولا عقلاً.
ومنه قد انقدح عدم جریإنّه فی أطراف العلم بالتکلیف فعلاً أصلاً ولو فی بعضها ، لوجوب الموافقة القطعیة له عقلاً ، ففی جریإنّه لا محالة یکون محذور المخالفة القطعیة أو الاحتمالیة ، کما لا یخفى.
تذنیب
لا یخفى أن مثل قاعدة التجاوز فی حال الإِشتغال بالعمل ، وقاعدة الفراغ
__________________
1 ـ فی نسخة « أ » سقط من هنا إلى بدایة المقصد الثامن.
2 ـ التهذیب 1 / 8 الحدیث 11.
3 ـ هذا ردّ لوجه منع الشیخ عن جریان الاستصحابین ، راجع فرائد الأصول 429 ، خاتمة الاستصحاب ، القسم الثّانی من تعارض الاستصحابین عند قوله : بل لأن العلم الإِجمالی هنا .. الخ.
بعد الفراغ عنه ، وأصالة صحة عمل الغیر إلى غیر ذلک من القواعد المقررة فی الشبهات الموضوعیة إلّا القرعة تکون مقدّمة على استصحاباتها المقتضیة لفساد ما شک فیه من الموضوعاًت ، لتخصیص دلیلها بأدلتها ، وکون النسبة بینه وبین بعضها عموماً من وجه لا یمنع عن تخصیصه بها بعد الإجماع على عدم التفصیل بین مواردها ، مع لزوم قلة المورد لها جداً لو قیل بتخصیصها بدلیلها ، إذ قلّ مورد منها لم یکن هناک استصحاب على خلافها ، کما لا یخفى.
وأما القرعة فالاستصحاب فی موردها یقدم علیها ، لأخصیّة دلیله من دلیلها ، لاعتبار سبق الحالة السابقة فیه دونها ، واختصاصها بغیر الأحکام إجماعاً لا یوجب الخصوصیة فی دلیلها بعد عموم لفظها لها ، هذا مضافاً إلى وهن دلیلها بکثرة تخصیصه ، حتى صار العمل به فی مورد محتاجاً إلى الجبر بعمل المعظم ، کما قیل ، وقوّة دلیله بقلة تخصیصه بخصوص دلیل.
لا یقال : کیف یجور تخصیص دلیلها بدلیله؟ وقد کان دلیلها رافعاً لموضوع دلیله لا لحکمه ، وموجباً لکون نقض الیقین بالیقین بالحجة على خلافه ، کما هو الحال بینه وبین أدلة سائر الأمارات ، فیکون ـ هاهنا أیضاً ـ من دوران الأمر بین التخصیص بلا وجه غیر دائر والتخصّص.
فإنّه یقال : لیس الأمر کذلک ، فإن المشکوک مما کانت له حالة سابقة وأنّ کان من المشکل والمجهول والمشتبه بعنوإنّه الواقعی ، إلّا إنّه لیس منها بعنوان ما طرأ علیه من نقض الیقین بالشک ، والظاهر من دلیل القرعة أن یکون منها بقول مطلق لا فی الجملة ، فدلیل الاستصحاب الدالّ على حرمة النقض الصادق علیه حقیقة ، رافع لموضوعه أیضاً ، فافهم.
فلا بأس برفع الید عن دلیلها عند دوران الأمر بینه وبین رفع الید عن دلیله ، لوهن عمومها وقوة عمومه ، کما أشرنا إلیه آنفاً ، والحمد لله أولاً وآخراً ، وصلى الله على محمد وآله باطناً وظاهراً.
المقصد الثامن
فی تعارض الادلة والامارات
فصل
التعارض هو تنافی الدلیلین أو الادلة بحسب الدلالة ومقام الإِثبات على وجه التناقض أو التضاد حقیقة أو عرضاً ، بأن علم بکذب أحدهما إجمالاً مع عدم امتناع اجتماعهما أصلاً. وعلیه فلا تعارض بینهما بمجرد تنافی مدلولهما ، إذا کان بینهما حکومة رافعة للتعارض والخصومة ، بأن یکون أحدهما قد سیق ناظراً إلى بیان کمیة ما أُرید من الآخر ، مقدماً (1) کان أو مؤخراً. أو کانا على نحو إذا عرضنا على العرف وفق بینهما بالتصرف فی خصوص أحدهما ، کما هو مطرد فی مثل الأدلة المتکفلة لبیان أحکام الموضوعاًت بعناوینها الأولیة ، مع مثل الادلة النافیة للعسر والحرج والضرر والإکراه والاضطرار ، مما یتکفل لأحکامها بعناوینها الثانویة ، حیث یقدم فی مثلهما الادلة النافیة ، ولا تلاحظ النسبة بینهما أصلاً ویتفق فی غیرهما ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ خلافاً لما یظهر فی عبارة الشیخ من اعتبارٍ تقدم المحکوم ، راجع فرائد الأصول 432 ، التعادل والترجیح ، عند قوله وضابط الحکومة .. الخ.
أو بالتصرف فیهما ، فیکون مجموعهما قرینة على التصرف فیهما ، أو فی أحدهما المعینّ ولو کان الآخر أظهر. ولذلک تقدم الأمارات المعتبرة على الأُصول الشرعیة ، فإنّه لا یکاد یتحیر أهل العرف فی تقدیمها علیه بعد ملاحظتهما ، حیث لا یلزم منه محذور تخصیص أصلاً ، بخلاف العکس فإنّه یلزم منه محذور التخصیص بلا وجه أو بوجه دائر ، کما أشرنا إلیه (1) فی أواخر الاستصحاب.
ولیس (2) وجه تقدیمها حکومتها على أدلتها بعدم کونها ناظرة إلى أدلتها بوجه ؛ وتعرضها لبیان حکم موردها لا یوجب کونها ناظرة إلى أدلتها وشارحة لها ، وإلاّ کانت أدلتها أیضاً دالّة ـ ولو بالالتزام ـ على أن حکم مورد الاجتماع فعلاً هو مقتضى الأصل لا الأمارة ، وهو مستلزم عقلاً نفی ما هو قضیة الأمارة ، بل لیس مقتضى حجیتها إلّا نفی ما قضیته عقلاً من دون دلالة علیه لفظاً ، ضرورة أن نفس الامارة لا دلالة له إلّا على الحکم الواقعی ، وقضیة حجیتها لیست إلّا لزوم العمل على وفقها شرعاً المنافی عقلاً للزوم العمل على خلافه وهو قضیة الأصل ، هذا مع احتمال أن یقال : إنّه لیس قضیة الحجیة شرعاً إلّا لزوم العمل على وفق الحجة عقلاً وتنجز الواقع مع المصادفة ، وعدم تنجزه فی صورة المخالفة.
وکیف کان لیس مفاد دلیل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبداً ، کی یختلف الحال ویکون مفاده فی الأمارة نفی حکم الأصل ، حیث إنّه حکم الاحتمال بخلاف مفاده فیه ، لأجل أن الحکم الواقعی لیس حکم احتمال خلافه ، کیف؟ وهو حکم الشک فیه واحتماله ، فافهم وتأملّ جیداً.
فانقدح بذلک إنّه لا تکاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بین الأصل والأمارة ، إلّا بما أشرنا سابقاً وآنفاً ، فلا تغفل ، هذا ولا تعارض أیضاً إذا کان أحدهما قرینة على التصرف فی الآخر ، کما فی الظاهر مع النص أو الأظهر ، مثل
__________________
1 ـ فی خاتمة الاستصحاب / ص 430.
2 ـ القائل بالحکومة هو الشیخ فی فرائد الأصول 432 ، أول مبحث التعادل والترجیح.
العام والخاص والمطلق والمقید ، أو مثلهما مما کان أحدهما نصاً أو أظهر ، حیث إنّ بناءً العرف على کون النص أو الأظهر قرینة على التصرف فی الآخر.
وبالجملة : الأدلة فی هذه الصور وأنّ کانت متنافیة بحسب مدلولاتها ، إلّا إنّها غیر متعارضة ، لعدم تنافیها فی الدلالة وفی مقام الإِثبات ، بحیث تبقى أبناء المحاورة متحیرة ، بل بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها یتصرف فی الجمیع أو فی البعض عرفاً ، بما ترتفع به المنافاة التی تکون فی البین ؛ ولا فرق فیها بین أن یکون السند فیها قطعیاً أو ظنیاً أو مختلفاً ، فیقدّم النص أو الأظهر ـ وأنّ کان بحسب السند ظنیاً ـ على الظاهر ولو کان بحسبه قطعیاً.
وإنما یکون التعارض فی غیر هذه الصور مما کان التنافی فیه بین الأدلة بحسب الدلالة ومرحلة الإِثبات ، وإنما یکون التعارض بحسب السند فیما إذا کان کلّ واحد منها قطعیاً دلالة وجهة ، أو ظنیاً فیما إذا لم یکن التوفیق بینها بالتصرف فی البعض أو الکلّ ؛ فإنّه حینئذ لا معنى للتعبد بالسند فی الکلّ ، امّا للعمل بکذب أحدهما ، أو لأجل إنّه لا معنى للتعبد بصدورها مع إجمالها ، فیقع التعارض بین أدلة السند حینئذ ، کما لا یخفى.
فصل
التعارض وأنّ کان لا یوجب إلّا سقوط أحد المتعارضین عن الحجیة رأساً ، حیث لا یوجب إلّا العلم بکذب أحدهما ، فلا یکون هناک مانع عن حجیة الآخر ، إلّا إنّه حیث کان بلا تعیین ولا عنوان واقعاً ـ فإنّه لم یعلم کذبه إلّا کذلک ، واحتمال کون کلّ منهما کاذباً ـ لم یکن واحد منهما بحجة فی خصوص مؤدّاه ، لعدم التعیّن فی الحجة أصلاً ، کما لا یخفى.
نعم یکون نفی الثالث بأحدهما لبقائه على الحجیة ، وصلاحیته على ما هو علیه من عدم التعین لذلک لا بهما ، هذا بناءً على حجیة الأمارات من باب
الطریقیة ، کما هو کذلک حیث لا یکاد یکون حجة طریقاً إلّا ما احتمل إصابته ، فلا محالة کان العلم بکذب أحدهما مانعاً عن حجیته ،
وأما بناءً على حجیتها من باب السببیة فکذلک لو کان الحجة هو خصوص ما لم یعلم کذبه ، بأن لا یکون المقتضی للسببیة فیها إلّا فیه ، کما هو المتیقن من دلیل اعتبارٍ غیر السند منها ، وهو بناءً العقلاء على أصالتی الظهور والصدور ، لا للتقیة ونحوها ، وکذا السند لو کان دلیل اعتباره هو بناؤهم أیضاً ، وظهوره فیه لو کان هو الآیات والأخبار ، ضرورة ظهورها فیه ، لو لم نقل بظهورها فی خصوص ما إذا حصل الظن منه أو الاطمئنان.
وأما لو کان المقتضی للحجیة فی کلّ واحد من المتعارضین لکان التعارض بینهما من تزاحم الواجبین ، فیما إذا کانا مؤدیین إلى وجوب الضدین أو لزوم المتناقضین ، لا فیما إذا کان مؤدى أحدهما حکماً غیر إلزامی ، فإنّه حینئذ لا یزاحم الآخر ، ضرورة عدم صلاحیة ما لا اقتضاء فیه أن یزاحم به ما فیه الاقتضاء ، إلّا أن یقال بأن قضیة اعتبارٍ دلیل الغیر الالزامی أن یکون عن اقتضاء ، فیزاحم به حینئذ ما یقتضی الإلزامی ، ویحکم فعلاً بغیر الإلزامی ، ولا یزاحم بمقتضاه ما یقتضی الغیر الإلزامی ، لکفایة عدم تمامیة علّة الإلزامی فی الحکم بغیره.
نعم یکون باب التعارض من باب التزاحم مطلقاً لو کان قضیة الاعتبار هو لزوم البناء والالتزام بما یؤدی إلیه من الأحکام ، لا مجرد العمل على وفقه بلا لزوم الالتزام به. وکونهما من تزاحم الواجبین حینئذ وأنّ کان واضحاً ، ضرورة عدم إمکان الالتزام بحکمین فی موضوع واحد من الأحکام ، إلّا إنّه لا دلیل نقلاً ولا عقلاً على الموافقة الالتزامیة للأحکام الواقعیة فضلاً عن الظاهریة ، کما مرّ تحقیقه (1).
وحکم التعارض بناءً على السببیة فیما کان من باب التزاحم هو التخییر لو لم
__________________
1 ـ فی مبحث القطع ، الأمر الخامس ، ص 268.
یکن أحدهما معلوم الاهمیة أو محتملها فی الجملة ، حسبما فصلناه (1) فی مسألة الضد ، وإلاّ فالتعیین ، وفیما لم یکن من باب التزاحم هو لزوم الأخذ بما دلّ على الحکم الالزامی ، لو لم یکن فی الآخر مقتضیاً لغیر الالزامی ، وإلاّ فلا بأس بأخذه والعمل علیه ، لما أشرنا إلیه من وجهه آنفاً ، فافهم.
هذا هو قضیة القاعدة فی تعارض الأمارات ، لا الجمع بینها بالتصرف فی أحد المتعارضین أو فی کلیهما ، کما هو قضیة ما یتراءى مما قیل من أن الجمع مهما أمکن أولى من الطرح ، إذ لا دلیل علیه فیما لا یساعد علیه العرف مما کان المجموع أو أحدهما قرینة عرفیة على التصرف فی أحدهما بعینه أو فیهما ، کما عرفته فی الصور السابقة ، مع أن فی الجمع کذلک أیضاً طرحا للأمارة أو الأمارتین ، ضرورة سقوط أصالة الظهور فی أحدهما أو کلیهما معه ، وقد عرفت أن التعارض بین الظهورین فیما کان سنداهما قطعیین ، وفی السندین إذا کانا ظنیین ، وقد عرفت أن قضیة التعارض إنّما هو سقوط المتعارضین فی خصوص کلّ ما یؤدیان إلیه من الحکمین ، لا بقاؤهما على الحجیة بما یتصرّف فیهما أو فی أحدهما ، أو بقاء سندیهما علیها کذلک بلا دلیلٍ یساعد علیه من عقل أو نقل. فلا یبعد أن یکون المراد من إمکان الجمع هو إمکانه عرفاً ، ولا ینافیه الحکم بإنّه أولى مع لزومه حینئذ وتعینه ، فإن أولویته من قبیل الأولویّة فی أُولی الأرحام ، وعلیه لا إشکال فیه ولا کلام.
فصل
لا یخفى أن ما ذکر من قضیة التعارض بین الأمارات ، إنّما هو بملاحظة القاعدة فی تعارضها ، وإلاّ فربما یَّدعى الإجماع على عدم سقوط کلاّ المتعارضین فی الأخبار ، کما اتفقت علیه کلمة غیر واحد من الأخبار. ولا یخفى أن اللازم فیما إذا لم
__________________
1 ـ لم یتقدم منه ـ 1 ـ فی مسألة الضد تفصیل ولا إجمال من هذه الحیثیة ، نعم له تفصیل فی تعلیقته على الرسالة ، راجع حاشیة فرائد الأصول / 269 ، عند قوله : اعلم أنّ منشأ الاهمیة تارةً ... الخ.
تنهض حجة على التعیین أو التخییر بینهما هو الاقتصار على الراجح منهما ، للقطع بحجیته تخییراً أو تعییناً ، بخلاف الآخر لعدم القطع بحجیته ، والأصل عدم حجیة ما لم یقطع بحجیته ، بل ربما ادعی الاجماع (1) أیضاً على حجیة خصوص الراجح ، واستدل علیه بوجوه أُخر أحسنها الأخبار ، وهی على طوائف :
منها : ما دلّ على التخییر على الإِطلاق ، کخبر (2) الحسن بن الجهم ، عن الرضا 7 : ( قلت : یجیئنا الرجلان وکلاهما ثقة بحدیثین مختلفین ولا یعلم أیهما الحق ، قال : فإذا لم یعلم فموسّع علیک بأیهما أخذت ). وخبر (3) الحارث بن المغیرة ، عن أبی عبدالله 7 : ( إذا سمعت من أصحابک الحدیث وکلهم ثقة ، فموسّع علیک حتى ترى القائم فترد علیه ). ومکاتبة (4) عبدالله بن محمد إلى أبی الحسن 7 ( اختلف أصحابنا فی روایاتهم عن أبی عبدالله 7 ، فی رکعتی الفجر ، فروى بعضهم : صلِّ فی المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلها إلّا فی الأرض ، فوقع 7 : موسع علیک بأیة عملت ) ومکاتبة الحمیری (5) إلى الحجّة 7 ـ إلى أن قال فی الجواب عن ذلک حدیثان ... إلى أن قال 7 ـ ( وبأیهما أخذت من باب التسلیم کان صواباً ) إلى غیر ذلک من الإطلاقاًت.
ومنها : ما (6) دلّ على التوقف مطلقاً.
ومنها : ما (7) دلّ على ما هو الحائط منها.
__________________
1 ـ ادعاه الشیخ فی فرائد الأصول 441 ، المقام الثّانی فی التراجیح من مبحث التعادل والتراجیح.
2 ـ الاحتجاج 357 ، فی احتجاجات الامام الصادق 7.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ التهذیب 3 ، الباب 23 ، الصلاة فی السفر ، الحدیث 92 ، مع اختلاف یسیر.
5 ـ الاحتجاج 483 ، فی توقیعات الناحیة المقدسة.
6 ـ الأصول من الکافی 1 / 66 ، باب اختلاف الحدیث ، الحدیث 7. عوالی اللآلی 4 / 133 ، الحدیث 230.
7 ـ وسائل الشیعة 18 / 111 ، الباب 12 من ابواب صفات القاضی.
ومنها : ما دلّ (1) على الترجیح بمزایا مخصوصة ومرجحات منصوصة ، من مخالفة القوم وموافقة الکتاب والسنة ، والأعدلیة ، والأصدقیة ، والأفقهیة والأورعیة ، والاوثقیة ، والشهرة على اختلافها فی الاقتصار على بعضها وفی الترتیب بینها.
ولأجل اختلاف الإخبار اختلفت الانظار.
فمنهم من أوجب الترجیح بها ، مقیدین بأخباره إطلاقاًت التخییر ، وهم بین من اقتصر على الترجیح بها ، ومن تعدى منها إلى سائر المزایا الموجبة لأقوائیة ذی المزیة وأقربیته ، کما صار إلیه شیخنا العلامة أعلى الله مقامه (2) ، أو المفیدة للظن ، کما ربما یظهر من غیره (3).
فالتحقیق أن یقال : إنّ أجمع خبر للمزایا المنصوصة فی الإخبار هو المقبولة (4) والمرفوعة (5) ، مع اختلافهما وضعف سند المرفوعة جداً ، والاحتجاج بهما على وجوب الترجیح فی مقام الفتوى لا یخلو عن إشکال ، لقوة احتمال اختصاص الترجیح بها بمورد الحکومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة کما هو موردهما ، ولا وجه معه للتعدی منه إلى غیره ، کما لا یخفى.
ولا وجه لدعوى تنقیح المناط ، مع ملاحظة أن رفع الخصومة بالحکومة فی صورة تعارض الحکمین ، وتعارض ما استندا إلیه من الروایتین لا یکاد یکون إلّا بالترجیح ولذا أمر 7 بإرجاء الواقعة إلى لقائه 7 فی صورة
__________________
1 ـ وسائل الشیعة 18 / 75 الباب 9 من ابواب صفات القاضی.
2 ـ فرائد الأصول 450 ، فی المقام الثالث من مقام التراجیح.
3 ـ مفاتیح الأصول / 688 ، التنبیه الثّانی من تنبیهات تعارض الدلیلین.
4 ـ التهذیب 6 / 301 ، الباب 92 ، الحدیث 52. الکافی 1 / 67 ، باب اختلاف الحدیث ، الحدیث 15
الفقیه 3 / 5 ، الباب 9 ، الحدیث 2.
5 ـ عوالی اللآلی 4 / 133 الحدیث 229.
تساویهما فیما ذکر من المزایا ، بخلاف مقام الفتوى ؛ ومجرد مناسبة الترجیح لمقامها أیضاً لا یوجب ظهور الروایة فی وجوبه مطلقاً ولو فی غیر مورد الحکومة ، کما لا یخفى.
وإن أبیت إلّا عن ظهورهما فی الترجیح فی کلاّ المقامین ، فلا مجال لتقیید إطلاقاًت التخییر فی مثل زماننا مما لا یتمکن من لقاء الإمام 7 بهما ، لقصور المرفوعة سنداً وقصور المقبولة دلالة ، لاختصاصها بزمان التمکن من لقائه 7 ، ولذا ما أرجع إلى التخییر بعد فقد الترجیح ، مع أن تقیید الإطلاقاًت الواردة فی مقام الجواب عن سؤال حکم المتعارضین ـ بلا استفصال عن کونهما متعادلین أو متفاضلین ، مع ندرة کونهما متساویین جداً ـ بعید قطعاً ، بحیث لو لم یکن ظهور المقبولة فی ذاک الاختصاص لوجب حملها علیه أو على ما لا ینافیها من الحمل على الاستحباب ، کما فعله بعضٍ الأصحاب (1) ، ویشهد به الاختلاف الکثیر بین ما دلّ على الترجیح من الأخبار.
ومنه قد انقدح حال سائر أخباره ، مع أن فی کون أخبار موافقة الکتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظراً ، وجهه قوة احتمال أن یکون الخبر المخالف للکتاب فی نفسه غیر حجة ، بشهادة ما (2) ورد فی إنّه زخرف ، وباطل ، ولیس بشیء ، أو إنّه لم نقله ، أو أمر بطرحه على الجدار ، وکذا الخبر الموافق للقوم ، ضرورة أن أصالة عدم صدوره تقیة ـ بملاحظة الخبر المخالف لهم مع الوثوق بصدوره لولا القطع به ـ غیر جاریة ، للوثوق حینئذ بصدوره کذلک ، وکذا الصدور أو
__________________
1 ـ الظاهر هو السید الصدر شارح الوافیة ، لکنه ; حمل جمیع أخبار الترجیح على الاستحباب ، شرح الوافیة ، ص مخطوط.
2 ـ الوسائل 18 / 78 ، الباب 9 من ابواب صفات القاضی ، الأحادیث : 10 ، 11 ، 12 ، 14 ، 15 ، 29 ، 35 ، 37 ، 40 ، 47 ، 48.
والمحاسن : 1 / 220 ، الباب 11 ، الأحادیث 128 إلى 131 وص 225 ، الباب 12 ، الحدیث 145 وص 226 ، الباب 14 ، الحدیث 150.
الظهور فی الخبر المخالف للکتاب یکون موهوناً بحیث لا یعمه أدلة اعتبارٍ السند ولا الظهور ، کما لا یخفى ، فتکون هذه الإخبار فی مقام تمیز الحجة عن اللاحجة لا ترجیح الحجة على الحجة ، فافهم.
وإن أبیت عن ذلک ، فلا محیص عن حملها توفیقاً بینها وبین الإطلاقاًت ، امّا على ذلک أو على الاستحباب کما أشرنا إلیه آنفا ، هذا ثم إنّه لولا التوفیق بذلک للزم التقیید أیضاً فی أخبار المرجحات ، وهی آبیة عنه ، کیف یمکن تقیید مثل : ( ما خالف قول ربنا لم أقله ، أو زخرف ، أو باطل )؟ کما لا یخفى.
فتلخص ـ مما ذکرنا ـ أن إطلاقاًت التخییر محکمة ، ولیس فی الإخبار ما یصلح لتقییدها.
نعم قد استدل على تقییدها ، ووجوب الترجیح فی المتفاضلین بوجوه أخر :
منها : دعوى (1) الاجماع على الأخذ بأقوى الدلیلین.
وفیه أن دعوى الاجماع ـ مع مصیر مثل الکلینی إلى التخییر ، وهو فی عهد الغیبة الصغرى ویخالط النواب والسفراء ، قال فی دیباجة الکافی : ولا نجد شیئاً أوسع ولا أحوط من التخییر ـ مجازفة.
ومنها (2) : إنّه لو لم یجب ترجیح ذی المزیة ، لزم ترجیح المرجوح على الراجح وهو قبیح عقلاً ، بل ممتنع قطعاً.
وفیه إنّه إنّما یجب الترجیح لو کانت المزیة موجبة لتأکد ملاک الحجیة فی نظر الشارع ، ضرورة إمکان أن تکون تلک المزیة بالإضافة إلى ملاکها من قبیل الحجر فی جنب الإنسان ، وکان الترجیح بها بلا مرجح ، وهو قبیح کما هو واضح ، هذا.
مضافاً إلى ما هو فی الإِضراب من الحکم بالقبح إلى الامتناع ، من أن
__________________
1 ـ حکاه الشیخ (ره) عن کلام جماعة / فرائد الأصول 469 ، المرجحات الخارجیة ، من الخاتمة فی التعادل والتراجیح.
2 ـ استدل به المحقق القمی (ره) قوانین الأصول 2 / 278 ، فی قانون الترجیح من الخاتمة.
الترجیح بلا مرجح فی الأفعال الاختیاریة ومنها الأحکام الشرعیة ، لا یکون إلا قبیحاً ، ولا یستحیل وقوعه إلّا على الحکیم تعالى ، وإلاّ فهو بمکان من الإِمکان ، لکفایة إرادة المختار علّة لفعله ، وإنما الممتنع هو وجود الممکن بلا علّة ، فلا استحالة فی ترجیحه تعالى للمرجوح ، إلّا من باب امتناع صدوره منه تعالى ، وأما غیره فلا استحالة فی ترجیحه لما هو المرجوح مما باختیاره.
وبالجملة : الترجیح بلا مرجح بمعنى بلا علّة محال ، وبمعنى بلا داعٍ عقلاًئی قبیح لیس بمحال ، فلا تشتبه.
ومنها : غیر ذلک (1) مما لا یکاد یفید الظن ، فالصفح عنه أولى وأحسن.
ثم إنّه لا إشکال فی الإفتاء بما اختاره من الخبرین ، فی عمل نفسه وعمل مقلدیه ، ولا وجه للافتاء بالتخییر فی المسألة الفرعیة ، لعدم الدلیل علیه فیها.
نعم له الافتاء به فی المسألة الأُصولیة ، فلا بأس حینئذ باختیار المقلد غیر ما اختاره المفتی ، فیعمل بما یفهم منه بصریحه أو بظهوره الذی لا شبهة فیه.
وهل التخییر بدوی أم استمراری؟ قضیة الاستصحاب لو لم نقل بإنّه قضیة الإطلاقاًت أیضاً کونه استمراریاً.
وتوهمّ (2) أن المتحیّر کان محکوماً بالتخییر ، ولا تحیر له بعد الاختیار ، فلا یکون الإِطلاق ولا الاستصحاب مقتضیاً للاستمرار ، لاختلاف الموضوع فیهما ، فاسد ، فإن التحیر بمعنى تعارض الخبرین باق على حاله ، وبمعنى آخر لم یقع فی خطاب موضوعاً للتخییر أصلاً ، کما لا یخفى.
فصل
هل على القول بالترجیح ، یقتصر فیه على المرجحات المخصوصة المنصوصة ، أو یتعدى إلى غیرها؟ قیل (3) بالتعدی ، لما فی الترجیح بمثل الاصدقیة
__________________
1 ـ راجع فرائد الأصول 442 ـ 444 ، المقام الثّانی من مقام التراجیح.
2 ـ یظهر ذلک من الشیخ (ره) فی فرائد الأصول 440 ، المقام الأوّل فی المتکافئین.
3 ـ القائل هو الشیخ ( قده ) ونسبه إلى جمهور المجتهدین ، فرائد الأصول / 450.
والأوثقیة ونحوهما ، مما فیه من الدلالة على أن المناط فی الترجیح بها هو کونها موجبة للأقربیة إلى الواقع ، ولما فی التعلیل بأن المشهور مما لا ریب فیه ، من استظهار أن العلة هو عدم الریب فیه بالإضافة إلى الخبر الآخر ولو کان فیه ألف ریب ، ولما فی التعلیل بأن الرشد فی خلافهم.
ولا یخفى ما فی الاستدلال بها :
أما الأوّل : فإن جعل خصوص شیء فیه جهة الإراءة والطریقیة حجة أو مرجحاً لا دلالة فیه على أن الملاک فیه بتمامه جهة إراءته ، بل لا إشعار فیه کما لا یخفى ، لاحتمال دخل خصوصیته فی مرجحیته أو حجیته ، لا سیما قد ذکر فیها ما لا یحتمل الترجیح به إلّا تعبداً ، فافهم.
وأما الثّانی : فلتوقفه على عدم کون الروایة المشهورة فی نفسها مما لا ریب فیها ، مع أن الشهرة فی الصدر الأوّل بین الرواة وأصحاب الأئمة ـ : ـ موجبة لکون الروایة مما یطمأن بصدورها ، بحیث یصحّ أن یقال عرفاً : إنّها مما لا ریب فیها ، کما لا یخفى. ولا بأس بالتعدی منه إلى مثله مما یوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور ، لا إلى کلّ مزیة ولو لم یوجب إلّا أقربیة ذی المزیة إلى الواقع ، من المعارض الفاقد لها.
وأما الثالث : فلاحتمال أن یکون الرشد فی نفس المخالفة ، لحسنها ، ولو سلّم إنّه لغلبة الحق فی طرف الخبر المخالف ، فلا شبهة فی حصول الوثوق بأن الخبر الموافق المعارض بالمخالف لا یخلو من الخلل صدوراً أو جهة ، ولا بأس بالتعدی منه إلى مثله ، کما مرّ آنفاً.
ومنه انقدح حال ما إذا کان التعلیل لأجل انفتاح باب التقیة فیه ، ضرورة کمال الوثوق بصدوره کذلک ، مع الوثوق بصدورهما ، لولا القطع به فی الصدر الأوّل ، لقلة الوسائط ومعرفتها ، هذا.
مع ما فی عدم بیان الامام ـ 7 ـ للکلیة کی لا یحتاج السائل إلى
إعادة السؤال مراراً ، وما فی أمره ـ 7 ـ بالإرجاء بعد فرض التساوی فیما ذکره من المزایا المنصوصة ، من الظهور فی أن المدار فی الترجیح على المزایا المخصوصة ، کما لا یخفى.
ثم إنّه بناءً على التعدی حیث کان فی المزایا المنصوصة مالا یوجب الظن بذی المزیة ولا أقربیته ، کبعض صفات الراوی مثل الأورعیة أو الأفقهیة ، إذا کان موجبهما مما لا یوجب الظن أو الأقربیة ، کالتورع من الشبهات ، والجهد فی العبادات ، وکثرة التتبع فی المسائل الفقهیة أو المهارة فی القواعد الأصولیة ، فلا وجه للاقتصار على التعدی إلى خصوص ما یوجب الظن أو الأقربیة ، بل إلى کلّ مزیة ، ولو لم تکن بموجبة لأحدهما ، کما لا یخفى.
وتوهمّ أن ما یوجب الظن بصدق أحد الخبرین لا یکون بمرجح ، بل موجب لسقوط الآخر عن الحجیة للظن بکذبه حینئذ ، فاسد. فإن الظن بالکذب لا یضر بحجیة ما اعتبر من باب الظن نوعاً ، وإنما یضر فیما أُخذ فی اعتباره عدم الظن بخلافه ، ولم یؤخذ فی اعتبارٍ الأخبار صدوراً ولا ظهوراً ولا جهةً ذلک ، هذا مضافاً إلى اختصاص حصول الظن بالکذب بما إذا علم بکذب أحدهما صدوراً ، وإلاّ فلا یوجبه الظن بصدور أحدهما لإمکان صدورهما مع عدم إرادة الظهور فی أحدهما أو فیهما ، أو إرادته تقیة ، کما لا یخفى.
نعم لو کان وجه التعدی اندراج ذی المزیة فی أقوى الدلیلین لوجب الاقتصار على ما یوجب القوة فی دلیلیته وفی جهة إثباته وطریقیته ، من دون التعدی إلى ما لا یوجب ذلک ، وأنّ کان موجباً لقوة مضمون ذیه ثبوتاً ، کالشهرة الفتوائیة أو الأولویة الظنیة ونحوهما ، فإن المنساق من قاعدة أقوى الدلیلین أو المتیقن منها ، إنّما هو الأقوى دلالة ، کما لا یخفى ، فافهم.
منه جزء إلّا بعد ما انصرم منه جزء وانعدم ، إلّا إنّه ما لم یتخلل فی البین العدم ، بل وأنّ تخلل بما لا یخل بالاتصال عرفاً وأنّ انفصل حقیقة ، کانت باقیة مطلقاً أو عرفاً ، ویکون رفع الید عنها ـ مع الشک فی استمرارها وانقطاعها ـ نقضاً. ولا یعتبر فی الاستصحاب ـ بحسب تعریفه وأخبار الباب وغیرها من أدلته ـ غیر صدق النقض والبقاء کذلک قطعاً هذا. مع أن الانصرام والتدرج فی الوجود فی الحرکة ـ فی الأین وغیره ـ إنّما هو فی الحرکة القطعیة ، وهی کون الشیء فی کلّ آن فی حدّ أو مکان ، لا التوسطیة وهی کونه بین المبدأ والمنتهى ، فإنّه بهذا المعنى یکون قارّاً مستمراً.
فانقدح بذلک إنّه لا مجال للإشکال فی استصحاب مثل اللیل أو النهار وترتیب مالهما من الآثار. وکذا کلما إذا کان الشک فی الأمر التدریجی من جهة الشک فی انتهاء حرکته ووصوله إلى المنتهى ، أو إنّه بعد فی البین. وأما إذا کان من جهة الشک فی کمیته ومقداره ، کما فی نبع الماء وجریإنّه ، وخروج الدم وسیلإنّه ، فیما کان سبب الشک فی الجریان والسیلان الشک فی إنّه بقی فی المنبع والرحم فعلاً شیء من الماء والدم غیر ما سال وجرى منهما ، فربما یشکل فی استصحابهما حینئذ ، فإن الشک لیس فی بقاء جریان شخص ما کان جاریاً ، بل فی حدوث جریان جزء آخر شک فی جریإنّه من جهة الشک فی حدوثه ، ولکنه یتخیل بإنّه لا یختل به ما هو الملاک فی الاستصحاب ، بحسب تعریفه ودلیله حسبما عرفت.
ثم إنّه لا یخفى أن استصحاب بقاء الأمر التدریجی ، امّا یکون من قبیل استصحاب الشخص ، أو من قبیل استصحاب الکلی بأقسامه ، فإذا شک فی أن السورة المعلومة التی شرع فیها تمت أو بقی شیء منها ، صحّ فیه استصحاب الشخص والکلی ، وإذا شک فیه من جهة ترددها بین القصیرة والطویلة ، کان
من القسم الثّانی ، وإذا شک فی إنّه شرع فی أُخرى مع القطع بإنّه قد تمت الأولى کان من القسم الثالث ، کما لا یخفى.
هذا فی الزمان ونحوه من سائر التدریجیات.
وأما الفعل المقید بالزمان ، فتارةً یکون الشک فی حکمه من جهة الشک فی بقاء قیده ، وطوراً مع القطع بانقطاعه وانتفائه من جهة أُخرى ، کما إذا احتمل أن یکون التقیید (1) به إنّما هو بلحاظ تمام المطلوب لا أصله.
فإن کان من جهة الشک فی بقاء القید ، فلا بأس باستصحاب قیده من الزمان ، کالنهار الذی قید به الصوم مثلاً ، فیترتب علیه وجوب الإمساک وعدم جواز الإفطار ما لم یقطع بزواله ، کما لا بأس باستصحاب نفس المقید ، فیقال : إن الامساک کان قبل هذا الآن فی النهار ، والآن کما کان فیجب ، فتأمل.
وإن کان من الجهة الأخرى ، فلا مجال إلّا لاستصحاب الحکم فی خصوص ما لم یؤخذ الزمان فیه إلّا ظرفاً لثبوته لا قیداً مقوماً لموضوعه ، وإلاّ فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه فیما بعد ذاک الزمان ، فإنّه غیر ما علم ثبوته له ، فیکون الشک فی ثبوته له ـ أیضاً ـ شکّاً فی أصل ثبوته بعد القطع بعدمه ، لا فی بقائه.
لا یقال : إن الزمان لا محالة یکون من قیود الموضوع وإن أُخذ ظرفاً لثبوت الحکم فی دلیله ، ضرورة دخل مثل الزمان فیما هو المناط لثبوته ، فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه.
فإنّه یقال : نعم ، لو کانت العبرة فی تعیین الموضوع بالدقة ونظر العقل ، وأما إذا کانت العبرة بنظر العرف فلا شبهة فی أن الفعل بهذا النظر موضوع واحد فی الزمانین ، قطع بثبوت الحکم له فی الزمان الأوّل ، وشک فی بقاء هذا الحکم له وارتفاعه فی الزمان الثّانی ، فلا یکون مجال إلّا لاستصحاب ثبوته.
__________________
1 ـ فی « ب » التعبد.
لا یقال : فاستصحاب کلّ واحد من الثبوت والعدم یجری لثبوت کلاّ النظرین ، ویقع التعارض بین الاستصحابین ، کما قیل.
فإنّه یقال : إنّما یکون ذلک لو کان فی الدلیل ما بمفهومه یعم النظرین ، وإلاّ فلا یکاد یصحّ إلّا إذا سبق بأحدهما ، لعدم إمکان الجمع بینهما لکمال المنافاة بینهما ، ولا یکون فی أخبار الباب ما بمفهومه یعمهما ، فلا یکون هناک إلّا استصحاب واحد ، وهو استصحاب الثبوت فیما إذا أخذ الزمان ظرفا ، واستصحاب العدم فیما إذا أُخذ قیداً ؛ لما عرفت من أن العبرة فی هذا الباب بالنظر العرفی ، ولا شبهة فی أن الفعل فیما بعد ذاک الوقت مع ما قبله متحد فی الأوّل ومتعدد فی الثّانی بحسبه ؛ ضرورة أن الفعل المقید بزمان خاص غیر الفعل فی زمان آخر ، ولو بالنظر المسامحی العرفی.
نعم ، لا یبعد أن یکون بحسبه ـ أیضاً ـ متحداً فیما إذا کان الشک فی بقاء حکمه ، من جهة الشک فی إنّه بنحو التعدد المطلوبی ، وأنّ حکمه بتلک المرتبة التی کان مع ذاک الوقت وأنّ لم یکن باقیاً بعده قطعاً ، إلّا إنّه یحتمل بقاؤه بما دون تلک المرتبة من مراتبه فیستصحب ، فتأمل جیّداً.
إزاحة وهم : لا یخفى أن الطهارة الحدثیة والخبثیة وما یقابلها یکون مما إذا وجدت بأسبابها ، لا یکاد یشک فی بقائها إلّا من قبل الشک فی الرافع لها ، لا من قبل الشک فی مقدار تأثیر أسبابها ، ضرورة إنّها إذا وجدت بها کانت تبقى ما لم یحدث رافع لها ، کانت من الأُمور الخارجیة أو الأُمور الاعتباریة التی کانت لها آثار شرعیة ، فلا أصل لأصالة عدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذی ، وأصالة عدم جعل الملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرّة ، کما حکی عن بعضٍ الأفاضل (1) ، ولا یکون ها هنا أصل إلّا أصالة الطهارة أو
__________________
1 ـ هو الفاضل النراقی فی مناهج الأحکام و الأصول / 242 ، فی الفائدة الأولى من فوائد ذکرها ذیل
النجاسة.
الخامس : إنّه کما لا إشکال فیما إذا کان المتیقن حکماً فعلّیاً مطلقاً ، لا ینبغی الإِشکال فیما إذا کان مشروطاً معلّقاً ، فلو شک فی مورد لأجل طروء بعضٍ الحالات علیه فی بقاء أحکامه ، ففیما صحّ استصحاب أحکامه المطلقة صحّ استصحاب أحکامه المعلقة ، لعدم الاختلال بذلک فیما اعتبر فی قوام الاستصحاب من الیقین ثبوتاً والشک بقاء.
وتوهمّ (1) إنّه لا وجود للمعلق قبل وجود ما علق علیه فاختل أحد رکنیه فاسد ، فإن المعلّق قبله إنّما لا یکون موجوداً فعلاً ، لا إنّه لا یکون موجوداً أصلاً ، ولو بنحو التعلیق ، کیف؟ والمفروض إنّه مورد فعلاً للخطاب بالتحریم ـ مثلاً ـ أو الإِیجاب ، فکان على یقین منه قبل طروء الحالة فیشک فیه بعده ، ولا یعتبر فی الاستصحاب إلّا الشک فی بقاء شیء کان على یقین من ثبوته ، واختلاف نحو ثبوته لا یکاد یوجب تفاوتاً فی ذلک.
وبالجملة : یکون الاستصحاب متمّماً لدلالة الدلیل على الحکم فیما أهمل أو أجمل ، کان الحکم مطلقاً أو معلّقاً ، فببرکته یعم الحکم للحالة الطارئة اللاحقة کالحالة السابقة ، فیحکم ـ مثلاً ـ بأنّ العصیر الزبیبی یکون على ما کان علیه سابقاً فی حال عنبیّته ، من أحکامه المطلقة والمعلقة لو شک فیها ، فکما یحکم ببقاء ملکیته یحکم بحرمته على تقدیر غلیإنّه.
إن قلت : نعم ، ولکنه لا مجال لاستصحاب المعلّق لمعارضته باستصحاب ضدّه المطلق ، فیعارض استصحاب الحرمة المعلقة للعصیر
__________________
تتمیم الاستصحاب بشروط الاستصحاب ، عند قوله : وإذا شک فی بقاء الطهارة الشرعیة الحاصلة بالوضوء ... الخ.
1 ـ راجع المناهل للسید المجاهد / 652.
باستصحاب حلّیّته المطلقة.
قلت : لا یکاد یضر استصحابه على نحو کان قبل عروض الحالة التی شک فی بقاء حکم المعلّق بعده ؛ ضرورة إنّه کان مغیّاً بعدم ما علق علیه المعلّق ، وما کان کذلک لا یکاد یضر ثبوته بعده بالقطع فضلاً عن الاستصحاب ؛ لعدم المضادّة بینهما ، فیکونان بعد عروضها بالاستصحاب کما کانا معاً بالقطع قبل بلا منافاة أصلاً ، وقضیة ذلک انتفاء الحکم (1) المطلق بمجرد ثبوت ما علّق علیه المعلّق ، فالغلیان فی المثال کما کان شرطاً للحرمة کان غایة للحلیة ، فإذا شک فی حرمته المعلّقة بعد عروض حالة علیه ، شک فی حلّیّته المغیّاة لا محالة أیضاً ، فیکون الشک فی حلّیته أو حرمته فعلاً بعد عروضها متّحداً خارجاً مع الشک فی بقائه على ما کان علیه من الحلّیة والحرمة بنحو کانتا علیه ، فقضیّة استصحاب حرمته المعلّقة بعد عروضها الملازم لاستصحاب حلّیته المغیّاة حرمته فعلاً بعد غلیإنّه وانتفاء حلیته ، فإنّه قضیة نحو ثبوتهما کان بدلیلهما أو بدلیل الاستصحاب ، کما لا یخفى بأدنى التفات على ذوی الألباب ، فالتفت ولا تغفل (2).
السادس : لا فرق أیضاً بین أن یکون المتیقّن من أحکام هذه الشریعة أو الشریعة السابقة ، إذا شک فی بقائه وارتفاعه بنسخه فی هذه الشریعة ، لعموم أدلّة الاستصحاب ، وفساد توهّم اختلال أرکإنّه فیما کان
__________________
1 ـ فی « ب » حکم المطلق.
2 ـ کی لا تقول فی مقام التفصی عن إشکال المعارضة : إن الشک فی الحلیّة فعلاً بعد الغلیان یکون مسبّباً عن الشک فی الحرمة المعلَّقة ، فیشک بإنّه لا ترتّب بینهما عقلاً ولا شرعاً ، بل بینهما ملازمة عقلاً ، لما عرفت من أن الشک فی الحلیّة أو الحرمة الفعلیین بعده متحد مع الشک فی بقاء حرمته وحلیته المعلقة ، وأنّ قضیة الاستصحاب حرمته فعلاً ، وانتفاء حلّیته بعد غلیإنّه ، فإن حرمته کذلک وأنّ کان لازماً عقلاً لحرمته المعلقة المستصحبة ، إلّا إنّه لازم لها ، کان ثبوتها بخصوص خطاب ، أو عموم دلیل الاستصحاب ، فافهم منه ( 1 ).
المتیقّن من أحکام الشریعة السابقة لا محالة ، إمّا لعدم الیقین بثبوتها فی حقّهم ، وأنّ علم بثبوتها سابقاً فی حق آخرین ، فلا شک فی بقائها أیضاً ، بل فی ثبوت مثلها ، کما لا یخفى ، وإمّا للیقین بارتفاعها بنسخ الشریعة السابقة بهذه الشریعة ، فلا شک فی بقائها حینئذ ، ولو سلّم الیقین بثبوتها فی حقّهم ؛ وذلک لأنّ الحکم الثابت فی الشریعة السابقة حیث کان ثابتاً لافراد المکلف ، کانت محقّقة وجوداً أو مقدّرة ، کما هو قضیة القضایا المتعارفة المتداولة ، وهی قضایا حقیقیة ، لا خصوص الأفراد الخارجیة ، کما هو قضیة القضایا الخارجیة ، وإلاّ لما صحّ الاستصحاب فی الأحکام الثابتة فی هذه الشریعة ، ولا النسخ بالنسبة إلى غیر الموجود فی زمان ثبوتها ، کان الحکم فی الشریعة السابقة ثابتاً لعامة أفراد المکلف ممّن وجد أو یوجد ، وکان (1) الشک فیه کالشک فی بقاء الحکم الثابت فی هذه الشریعة لغیر من وجد فی زمان ثبوته ، والشریعة السابقة وأنّ کانت منسوخة بهذه الشریعة یقیناً ، إلّا إنّه لا یوجب الیقین بارتفاع أحکامها بتمامها ، ضرورة أن قضیة نسخ الشریعة لیس ارتفاعها کذلک ، بل عدم بقائها بتمامها ، والعلم إجمالاً بارتفاع بعضها إنّما یمنع عن استصحاب ما شک فی بقائه منها ، فیما إذا کان من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالاً ، لا فیما إذا لم یکن من أطرافه ، کما إذا علم بمقداره تفصیلا ، أو فی موارد لیس المشکوک منها ، وقد علم بارتفاع ما فی موارد الأحکام الثابتة فی هذه الشریعة.
ثم لا یخفى إنّه یمکن إرجاع ما أفاده شیخنا العلامة (2) ـ أعلى الله فی الجنان
__________________
1 ـ فی کفایة الیقین بثبوته ، بحیث لو کان باقیا ولم ینسخ لعمه ، ضرورة صدق إنّه على یقین منه ، فشک فیه بذلک ، ولزوم الیقین بثبوته فی حقه سابقاً بلا ملزم.
وبالجملة : قضیة دلیل الاستصحاب جریإنّه لاثبات حکم السابق للاحق وإسرائه إلیه فیما کان یعمه ویشمله ، لولا طروء حالة معها یحتمل نسخه ورفعه ، وکان دلیله قاصراً عن شمولها ، من دون لزوم کونه ثابتا له قبل طروئها أصلاً ، کما لا یخفى ( منه 1 ).
2 ـ فرائد الأصول / 381 ، عند قوله : وثانیاً ان اختلاف الأشخاص .. الخ.
مقامه ـ فی ذب إشکال (1) تغایر الموضوع فی هذا الاستصحاب من الوجه الثّانی إلى ما ذکرنا ، لا ما یوهمه ظاهر کلامه ، من أن الحکم ثابت للکلیّ ، کما أن الملکیة له فی مثل باب الزکاة والوقف العام ، حیث لا مدخل للأشخاص فیها ؛ ضرورة أن التکلیف والبعث أو الزجر لا یکاد یتعلّق به کذلک ، بل لا بدّ من تعلقه بالأشخاص ، وکذلک الثواب أو العقاب المترتّب على الطاعة أو المعصیة ، وکأنّ غرضه من عدم دخل الأشخاص عدم أشخاص خاصة ، فافهم.
وأما ما أفاده من الوجه الأوّل (2) ، فهو وأنّ کان وجیها بالنسبة إلى جریان الاستصحاب فی حقّ خصوص المدرک للشریعتین ، إلّا إنّه غیر مجد فی حق غیره من المعدومین ، ولا یکاد یتمّ الحکم فیهم ، بضرورة اشتراک أهل الشریعة الواحدة أیضاً ، ضرورة أن قضیة الاشتراک لیس إلّا أن الاستصحاب حکم کلّ من کان على یقین فشک ، لا إنّه حکم الکلّ ولو من لم یکن کذلک بلا شک ، وهذا واضح.
السابع : لا شبهة فی أن قضیة أخبار الباب هو إنشاءً حکم مماثل للمستصحب فی إستصحاب الأحکام ، ولأحکامه فی استصحاب الموضوعاًت ، کما لا شبهة فی ترتیب ما للحکم المنشأ بالاستصحاب من الآثار الشرعیة والعقلیة ، وإنما الإِشکال فی ترتیب الآثار الشرعیة المترتبة على المستصحب بواسطة غیر شرعیة عادیة کانت أو عقلیة ، ومنشؤه أن مفاد الأخبار : هل هو تنزیل المستصحب والتعبد به وحده؟ بلحاظ خصوص ما له من الأثر بلا واسطة ، أو تنزیله بلوازمه العقلیة أو العادیة؟ کما هو الحال فی تنزیل مؤدیات الطرق والأمارات ، أو بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة؟ بناءً على
__________________
1 ـ الصحیح ما أثبتناه خلافاً لما فی النسخ.
2 ـ فرائد الأصول / 381 ، عند قوله : وفیه أوّلاً .. الخ.
صحة التنزیل (1) بلحاظ أثر الواسطة أیضاً لأجل أن أثر الأثر أثر.
وذلک لأن مفادها لو کان هو تنزیل الشیء وحده بلحاظ أثر نفسه ، لم یترتب علیه ما کان مترتباً علیها ، لعدم إحرازها حقیقة ولا تعبداً ، ولا یکون تنزیله بلحاظه ، بخلاف ما لو کان تنزیله بلوازمه ، أو بلحاظ ما یعم آثارها ، فإنّه یترتب باستصحابه ما کان بوساطتها.
والتحقیق : أن الأخبار إنّما تدلّ على التعبد بما کان على یقین منه فشک ، بلحاظ ما لنفسه من آثاره وأحکامه ، ولا دلالة لها بوجه على تنزیله بلوازمه التی لا یکون کذلک ، کما هی محلّ ثمرة الخلاف ، ولا على تنزیله بلحاظ ماله مطلقاً ولو بالواسطة ، فإن المتیقن إنّما هو لحاظ آثار نفسه ، وأما آثار لوازمه فلا دلالة هناک على لحاظها أصلاً ، وما لم یثبت لحاظها بوجه أیضاً لما کان وجه لترتیبها علیه باستصحابه ، کما لا یخفى.
نعم لا یبعد ترتیب خصوص ما کان محسوباً بنظر العرف من آثار نفسه لخفاء ما بوساطته ، بدعوى أن مفاد الأخبار عرفاً ما یعمه أیضاً حقیقة ، فافهم.
کما لا یبعد ترتیب ما کان بوساطة ما لا یمکن التفکیک عرفاً بینه وبین المستصحب تنزیلاً ، کما لا تفکیک بینهما واقعاً ، أو بوساطة ما لأجل وضوح
__________________
1 ـ ولکن الوجه عدم صحة التنزیل بهذا اللحاظ ، ضرورة إنّه ما یکون شرعاً لشیء من الأثر لا دخل له بما یستلزمه عقلاً أو عادةً ، وحدیث أثر الأثر أثر وأنّ کان صادقاً إلّا إنّه إذا لم یکن الترتب بین الشیء وأثره وبینه وبین مؤثره مختلفاً ، وذلک ضرورة إنّه لا یکاد یعد الأثر الشرعی لشیء أثراً شرعیاً لما یستلزمه عقلاً أو عادةً أصلاً ، لا بالنظر الدقیق العقلی ولا النظر المسامحی العرفی ، إلّا فیما عد أثر الواسطة أثرا لذیها لخفائها أو لشدة وضوح الملازمة بینهما ، بحیث عدا شیئاً واحداً ذا وجهین ، وأثر أحدهما أثر الاثنین ، کما یأتی الإِشارة إلیه ، فافهم منه ( 1 ).
لزومه له ، أو ملازمته معه بمثابة عد أثره أثراً لهما ، فإن عدم ترتیب مثل هذا الأثر علیه یکون نقضاً لیقینه بالشک أیضاً ، بحسب ما یفهم من النهی عن نقضه عرفاً ، فافهم.
ثم لا یخفى وضوح الفرق بین الاستصحاب وسائر الأُصول التعبدیة وبین الطرق والأمارات ، فإن الطریق أو الامارة حیث إنّه کما یحکی عن المؤدّى ویشیر إلیه ، کذا یحکی عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وملازماته ویشیر إلیها ، کان مقتضى إطلاق دلیل اعتبارها لزوم تصدیقها فی حکایتها ، وقضیته حجیة المثبت منها کما لا یخفى ، بخلاف مثل دلیل الاستصحاب ، فإنّه لا بدّ من الاقتصار مما فیه من الدلالة على التعبد بثبوته ، ولا دلالة له إلّا على التعبد بثبوت المشکوک بلحاظ أثره ، حسبما عرفت فلا دلالة له على اعتبارٍ المثبت منه ، کسائر الأصول التعبدیة ، إلّا فیما عدّ أثر الواسطة أثراً له لخفائها ، أو لشدة وضوحها وجلائها ، حسبما حققناه.
الثامن : إنّه لا تفاوت فی الأثر المترتب على المستصحب ، بین أن یکون مترتباً علیه بلا وساطة شیء ، أو بوساطة عنوان کلی ینطبق ویحمل علیه بالحمل الشائع ویتحد معه وجوداً ، کان منتزعاً عن مرتبة ذاته ، أو بملاحظة بعضٍ عوارضه مما هو خارج المحمول لا بالضمیمة ، فإن الأثر فی الصورتین إنّما یکون له حقیقة ، حیث لا یکون بحذاء ذلک الکلی فی الخارج سواه ، لغیره مما کان مبایناً معه ، أو من أعراضه مما کان محمولاً علیه بالضمیمة کسواده مثلاً أو بیاضه ، وذلک لأن الطبیعی إنّما یوجد بعین وجود فرده ، کما أن العرضی کالملکیة والغصبیة ونحوهما لا وجود له إلّا بمعنى وجود منشأ انتزاعه ، فالفرد أو منشأ الانتزاع فی الخارج هو عین ما رتب علیه الأثر ، لا شیء آخر ، فاستصحابه لترتیبه لا یکون بمثبت کما توهّم (1).
__________________
1 ـ المتوهم هو الشیخ (ره) فی الأمر السادس من تنبیهات الاستصحاب عند قوله لا فرق فی الأمر
وکذا لا تفاوت فی الأثر المستصحب أو المترتب علیه ، بین أن یکون مجعولاً شرعاً بنفسه کالتکلیف وبعض أنحاء الوضع ، أو بمنشأ انتزاعه کبعض أنحائه کالجزئیة والشرطیة والمانعیة ، فإنّه أیضاً مما تناله ید الجعل شرعاً ویکون أمره بید الشارع وضعاً ورفعاً ولو بوضع منشأ انتزاعه ورفعه.
ولا وجه لاعتبار أن یکون المترتب أو المستصحب مجعولاً مستقلاً کما لا یخفى ، فلیس استصحاب الشرط أو المانع لترتیب الشرطیّة أو المانعیة بمثبت ، کما ربما توهّم (1) بتخیل أن الشرطیّة أو المانعیة لیست من الآثار الشرعیة ، بل من الأمور الانتزاعیة ، فافهم.
وکذا لا تفاوت فی المستصحب أو المترتب بین أن یکون ثبوت الأثر ووجوده ، أو نفیه وعدمه ، ضرورة أن أمر نفیه بید الشارع کثبوته. وعدم إطلاق الحکم على عدمه غیر ضائر ، إذ لیس هناک ما دلّ على اعتباره بعد صدق نقض الیقین بالشک برفع الید عنه کصدقه برفعها من طرف ثبوته کما هو واضح ؛ فلا وجه للإشکال فی الاستدلال على البراءة باستصحاب البراءة من التکلیف ، وعدم المنع عن الفعل بما فی الرسالة (2) ، من أن عدم استحقاق العقاب فی الآخرة لیس من اللوازم المجعولة الشرعیة ، فإن عدم استحقاق العقوبة وأنّ کان غیر مجعول ، إلّا إنّه لا حاجة إلى ترتیب أثر مجعول فی استصحاب عدم المنع ، وترتب عدم الاستحقاق مع کونه عقلّیاً على استصحابه ، إنّما هو لکونه لازم مطلق عدم المنع ولو فی الظاهر ، فتأمل.
التاسع : إنّه لا یذهب علیک أن عدم ترتب الأثر الغیر الشرعی ولا
__________________
العادی … الخ فرائد الأصول / 384.
1 ـ المتوهم هو الشیخ (ره) فی القول السابع فی الاستصحاب ، عند قوله أن الثّانی مفهوم منتزع الخ فرائد الأُصول / 351.
2 ـ هذا مفاد کلام الشیخ فی التمسک باستصحاب البراءة فی ادلة اصل البراءة ، فرائد الأصول / 204.
الشرعی بوساطة غیره من العادی أو العقلی بالاستصحاب ، إنّما هو بالنسبة إلى ما للمستصحب واقعاً ، فلا یکاد یثبت به من آثاره إلّا أثره الشرعی الذی کان له بلا واسطة ، أو بوساطة أثر شرعی آخر ، حسبما عرفت فیما مرّ (1) ، لا بالنسبة إلى ما کان للأثر الشرعی مطلقاً ، کان بخطاب الاستصحاب أو بغیره من أنحاء الخطاب ، فإن آثاره الشرعیة کانت أو غیرها یترتب علیه إذا ثبت ولو بأن یستصحب ، أو کان من آثار المستصحب ، وذلک لتحقق موضوعها حینئذ حقیقة ، فما للوجوب عقلاً یترتب على الوجوب الثابت شرعاً باستصحابه أو استصحاب موضوعه ، من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة إلى غیر ذلک ، کما یترتب على الثابت بغیر الاستصحاب ، بلا شبهة ولا ارتیاب ، فلا تغفل.
العاشر : إنّه قد ظهر مما مرّ (2) لزوم أن یکون المستصحب حکماً شرعیاً أو ذا حکم کذلک ، لکنه لا یخفى إنّه لابد أن یکون کذلک بقاء ولو لم یکن کذلک ثبوتاً فلو لم یکن المستصحب فی زمان ثبوته حکماً ولا له أثر شرعاً وکان فی زمان استصحابه کذلک ـ أی حکماً أو ذا حکم ـ یصحّ استصحابه کما فی استصحاب عدم التکلیف ، فإنّه وأنّ لم یکن بحکم مجعول فی الأزل ولا ذا حکم ، إلّا إنّه حکم مجعول فیما لا یزال ، لما عرفت من أن نفیه کثبوته فی الحال مجعول شرعاً ، وکذا استصحاب موضوع لم یکن له حکم ثبوتاً ، أو کان ولم یکن حکمه فعلیاً وله حکم کذلک بقاءً ، وذلک لصدق نقض الیقین بالشک على رفع الید عنه والعمل ، کما إذا قطع بارتفاعه یقیناً ، ووضوح عدم دخل أثر الحالة السابقة ثبوتاً فیه وفی تنزیلها بقاء ، فتوهم اعتبارٍ الأثر سابقاً ـ کما ربما یتوهمه الغافل من اعتبارٍ کون المستصحب حکماً أو ذا حکم ـ فاسد قطعاً ، فتدبرّ جیداً.
__________________
1 ـ راجع التنبیه السابع ، ص 413.
2 ـ المصدر المتقدم.
الحادی عشر : لا إشکال فی الاستصحاب فیما کان الشک فی أصل تحقق حکم أو موضوع.
وأما إذا کان الشک فی تقدمه وتأخره بعد القطع بتحققه وحدوثه فی زمان :
فإن لو حظ بالإضافة إلى أجزاء الزمان ، فکذا لا إشکال فی استصحاب عدم تحققه فی الزمان الأوّل ، وترتیب آثاره ؛ لا آثار تأخره عنه ، لکونه بالنسبة إلیه مثبتاً إلّا بدعوى خفاء الواسطة ، أو عدم التفکیک فی التنزیل بین عدم تحققه إلى زمان وتأخره عنه عرفاً ، کما لا تفکیک بینهما واقعاً ، ولا آثار حدوثه فی الزمان الثّانی ، فإنّه نحو وجود خاص ، نعم لا بأس بترتیبها بذا ک الاستصحاب ، بناءً على إنّه عبارة عن أمر مرکب من الوجود فی الزمان اللاحق وعدم الوجود فی السابق.
وإن لو حظ بالإضافة إلى حادث آخر علم بحدوثه أیضاً ، وشک فی تقدم ذاک علیه وتأخره عنه ، کما إذا علم بعروض حکمین أو موت متوارثین ، وشک فی المتقدم والمتأخر منهما ، فإن کانا مجهولی التاریخ :
فتارة کان الأثر الشرعی لوجود أحدهما بنحو خاص من التقدم أو التأخر أو التقارن ، لا للآخر ولا له بنحو آخر ، فاستصحاب عدمه صار بلا معارض ، بخلاف ما إذا کان الأثر لوجود کلّ منهما کذلک ، أو لکلّ من أنحاء وجوده ، فإنّه حینئذ یعارض ، فلا مجال لاستصحاب العدم فی واحد ، للمعارضة باستصحاب العدم فی آخر ، لتحقق أرکإنّه فی کلّ منهما. هذا إذا کان الأثر المهمّ مترتباً على وجوده الخاص الذی کان مفاد کان التامة.
وأما إن کان مترتباً على ما إذا کان متصفاً بالتقدم ، أو بأحد ضدیه الذی کان مفاد کان الناقصة ، فلا مورد ها هنا للاستصحاب ، لعدم الیقین السابق فیه ، بلا ارتیاب.
وأخرى کان الأثر لعدم أحدهما فی زمان الآخر ، فالتحقیق إنّه أیضاً لیس
بمورد للاستصحاب ، فیما کان الأثر المهمّ مترتباً على ثبوته [ للحادث ، بأن یکون الأثر الحادث ] (1) المتصف بالعدم فی زمان حدوث الآخر لعدم الیقین بحدوثه کذلک فی زمان ، [ بل قضیة الاستصحاب عدم حدوثه کذلک ، کما لا یخفى ] (2). وکذا فیما کان مترتباً على نفس عدمه فی زمان الآخر واقعاً ، وأنّ کان على یقین منه فی آن قبل زمان الیقین بحدوث أحدهما ، لعدم إحراز اتصال زمان شکه وهو زمان حدوث الآخر بزمان یقینه ، لاحتمال انفصاله عنه باتصال حدوثه به.
وبالجملة (3) کان بعد ذاک الآن الذی قبل زمان الیقین بحدوث أحدهما زمانان : أحدهما زمان حدوثه ، والآخر زمان حدوث الآخر وثبوته الذی یکون ظرفا للشک فی إنّه فیه أو قبله ، وحیث شک فی أن أیّهما مقدم وأیّهما مؤخر لم یحرز اتصال زمان الشک بزمان الیقین ، ومعه لا مجال للاستصحاب حیث لم یحرز معه کون رفع الید عن الیقین بعدم حدوثه بهذا الشک من نقض الیقین بالشک.
لا یقال : لا شبهة فی اتصال مجموع الزمانین بذاک الآن ، وهو بتمامه زمان الشک فی حدوثه لاحتمال تأخره على الآخر ، مثلاً إذا کان على یقین من عدم حدوث واحد منهما فی ساعة ، وصار على یقین من حدوث أحدهما بلا تعیین فی ساعة أُخرى بعدها ، وحدوث الآخر فی ساعة ثالثة ، کان زمان الشک فی حدوث کلّ منهما تمام الساعتین لا خصوص أحدهما ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ جاءت العبارة فی نسخة « أ » وحذفت من « ب ».
2 ـ أثبتنا الزیادة من « ب ».
3 ـ وأنّ شئت قلت : إن عدمه الأزلی المعلوم قبل الساعتین ، وأنّ کان فی الساعة الأولى منهما مشکوکاً ، إلّا إنّه حسب الفرض لیس موضوعاً للحکم والأثر ، وإنما الموضوع هو عدمه الخاص ، وهو عدمه فی زمان حدوث الآخر المحتمل کونه الساعة الأُولى المتصلة بزمان یقینه ، أو الثانیة المنفصلة عنه ، فلم یحرز اتصال زمان شکه بزمان یقینه ، ولابد منه فی صدق : لا تنقض الیقین بالشک ، فاستصحاب عدمه إلى الساعة الثانیة لا یثبت عدمه فی زمان حدوث الآخر إلّا على الأصل المثبت فیما دار الأمر بین التقدم والتأخر ، فتدبرّ ، منه ( 1 ).
فإنّه یقال : نعم ، ولکنه إذا کان بلحاظ إضافته إلى أجزاء الزمان ، والمفروض إنّه لحاظ إضافته إلى الآخر ، وإنّه حدث فی زمان حدوثه وثبوته أو قبله ، ولا شبهة أن زمان شکه بهذا اللحاظ إنّما هو خصوص ساعة ثبوت الآخر وحدوثه لا الساعتین.
فانقدح إنّه لا مورد ها هنا للاستصحاب لاختلال أرکإنّه لا إنّه مورده ، وعدم جریإنّه إنّما هو بالمعارضة ، کی یختص بما کان الأثر لعدم کلّ فی زمان الآخر ، وإلاّ کان الاستصحاب فیما له الأثر جاریاً.
وأما لو علم بتاریخ أحدهما ، فلا یخلو أیضاً امّا یکون الأثر المهمّ مترتباً على الوجود الخاص من المقدم أو المؤخر أو المقارن ، فلا إشکال فی استصحاب عدمه ، لو لا المعارضة باستصحاب العدم فی طرف الآخر أو طرفه ، کما تقدم.
وإما یکون مترتباً على ما إذا کان متصفاً بکذا ، فلا مورد للاستصحاب أصلاً ، لا فی مجهول التاریخ ولا فی معلومه کما لا یخفى ، لعدم الیقین بالاتصاف به سابقاً فیهما.
وإما یکون مترتباً على عدمه الذی هو مفاد لیس التامة فی زمان الآخر ، فاستصحاب العدم فی مجهول التاریخ منهما کان جاریاً ، لاتصال زمان شکه بزمان یقینه ، دون معلومه لانتفاء الشک فیه فی زمان ، وإنما الشک فیه بإضافة زمإنّه إلى الآخر ، وقد عرفت جریإنّه فیهما تارةً وعدم جریإنّه کذلک أُخرى.
فانقدح إنّه لا فرق بینهما ، کان الحادثان مجهولی التاریخ أو کانا مختلفین ، ولا بین مجهوله ومعلومه فی المختلفین ، فیما اعتبر فی الموضوع خصوصیة ناشىء ة من إضافة أحدهما إلى الآخر بحسب الزمان من التقدم ، أو أحد ضدیه وشک فیها ، کما لا یخفى.
کما انقدح إنّه لا مورد للاستصحاب أیضاً فیما تعاقب حالتان متضادتان
کالطهارة والنجاسة ، وشک فی ثبوتهما وانتفائهما ، للشک فی المقدم والمؤخر منهما ، وذلک لعدم إحراز الحالة السابقة المتیقنة المتصلة بزمان الشک فی ثبوتهما ، وترددها بین الحالتین ، وإنّه لیس من تعارض الاستصحابین ، فافهم وتأملّ فی المقام فإنّه دقیق.
الثانی عشر : إنّه قد عرفت (1) أن مورد الاستصحاب لابد أن یکون حکماً شرعیاً أو موضوعاً لحکم کذلک ، فلا إشکال فیما کان المستصحب من الأحکام الفرعیة ، أو الموضوعاًت الصرفة الخارجیة ، أو اللغویة إذا کانت ذات احکام شرعیة.
وأما الأمور الاعتقادیة التی کان المهمّ فیها شرعاً هو الانقیاد والتسلیم والاعتقاد بمعنى عقد القلب علیها من الأعمال القلبیة الاختیاریة ، فکذا لا إشکال فی الاستصحاب فیها حکماً وکذا موضوعاً ، فیما کان هناک یقین سابق وشک لاحق ، لصحة التنزیل وعموم الدلیل ، وکونه أصلاً عملیا إنّما هو بمعنى إنّه وظیفة الشک تعبّداً ، قبالاً للأمارات الحاکیة عن الواقعیات ، فیعم العمل بالجوانح کالجوارح ، وأما التی کان المهمّ فیها شرعاً وعقلاً هو القطع بها ومعرفتها ، فلا مجال له موضوعاً ویجری حکماً ، فلو کان متیقنا بوجوب تحصیل القطع بشیء ـ کتفاصیل القیامة ـ فی زمان وشک فی بقاء وجوبه ، یستصحب.
وأما لو شک فی حیاة إمام زمانٍ مثلاً فلا یستصحب ، لأجل ترتیب لزوم معرفة إمام زمإنّه ، بل یجب تحصیل الیقین بموته أو حیاته مع إمکانه ، ولا یکاد یجدی فی مثل وجوب المعرفة عقلاً أو شرعاً ، إلّا إذا کان حجة من باب إفادته الظن وکان المورد مما یکتفى به أیضاً ، فالاعتقادیات کسائر الموضوعاًت لابد فی جریإنّه فیها من أن یکون فی المورد أثر شرعی ، یتمکن من موافقته مع بقاء الشک فیه ، کان ذاک متعلقاً بعمل الجوارح أو الجوانح.
__________________
1 ـ فی التنبیه السابع / ص 413.
وقد انقدح بذلک إنّه لا مجال له فی نفس النبوّة ، إذا کانت ناشىء ة من کمال النفس بمثابة یوحى إلیها ، وکانت لازمة لبعض مراتب کمالها ، امّا لعدم الشک فیها بعد اتصاف النفس بها ، أو لعدم کونها مجعولة بل من الصفات الخارجیة التکوینیة ، ولو فرض الشک فی بقائها باحتمال انحطاط النفس عن تلک المرتبة وعدم بقائها بتلک المثابة ، کما هو الشأن فی سائر الصفات والملکات الحسنة الحاصلة بالریاضات والمجاهدات ، وعدم أثر شرعی مهم لها یترتب علیها باستصحابها.
نعم لو کانت النبوّة من المناصب المجعولة وکانت کالولایة ، وأنّ کان لابد فی إعطائها من أهلیّة وخصوصیّة یستحق بها لها ، لکانت مورداً للاستصحاب بنفسها ، فیترتب علیها آثارها ولو کانت عقلیة بعد استصحابها ، لکنه یحتاج إلى دلیل کان هناک غیر منوط بها ، وإلاّ لدار ، کما لا یخفى.
وأما استصحابها بمعنى استصحاب بعضٍ أحکام شریعة من اتّصف بها ، فلا إشکال فیها کما مرّ (1).
ثم لا یخفى أن الاستصحاب لا یکاد یلزم به الخصم ، إلّا إذا اعترف بإنّه على یقین فشک ، فیما صحّ هناک التعبّد والتنزیل ودل علیه الدلیل ، کما لا یصحّ أن یقنع به إلّا مع الیقین والشک والدلیل على التنزیل.
ومنه انقدح إنّه لا موقع لتشبّث الکتابی باستصحاب نبوّة موسى أصلاً ، لا إلزاماً للمسلم ، لعدم الشک فی بقائها قائمة بنفسه المقدسة ، والیقین بنسخ شریعته ، وإلاّ لم یکن بمسلم ، مع إنّه لا یکاد یلزم به ما لم یعترف بإنّه على یقین وشک ؛ ولا اقناعاً مع الشک ، للزوم معرفة النبی بالنظر إلى حالاته ومعجزاته عقلاً ، وعدم الدلیل على التعبد بشریعته لا عقلاً ولا شرعاً ، والاتکال على قیامه فی شریعتنا لا یکاد یجدیه إلّا على نحو محال ؛ ووجوب العمل بالاحتیاط عقلاً فی حال
__________________
1 ـ فی التنبیه السادس / ص 411.
عدم المعرفة بمراعاة الشریعتین ما لم یلزم منه الاختلال ، للعلم بثبوت إحداهما على الإِجمال ، إلّا إذا علم بلزوم البناء على الشریعة السابقة ما لم یعلم الحال.
الثالث عشر : إنّه لا شبهة فی عدم جریان الاستصحاب فی مقام مع دلالة مثل العام ، لکنه ربما یقع الإِشکال والکلام فیما إذا خصّص فی زمان فی أن المورد بعد هذا الزمان مورد الاستصحاب أو التمسک بالعام.
والتحقیق أن یقال : إن مفاد العام ، تارةً یکون ـ بملاحظة الزمان ـ ثبوت حکمه لموضوعه على نحو الاستمرار والدوام ، وأخرى على نحو جعل کلّ یوم من الأیام فرداً لموضوع ذاک العام. وکذلک مفاد مخصصه ، تارةً یکون على نحو أخذ الزمان ظرف استمرار حکمه ودوامه ، وأُخرى على نحو یکون مفرداً ومأخوذاً فی موضوعه.
فإن کان مفاد کلّ من العام والخاص على النحو الأوّل ، فلا محیص عن استصحاب حکم الخاص فی غیر مورد دلالته ، لعدم دلالة للعام على حکمه ، لعدم دخوله على حدة فی موضوعه ، وانقطاع الاستمرار بالخاص الدالّ على ثبوت الحکم له فی الزمان السابق ، من دون دلالته على ثبوته فی الزمان اللاحق ، فلا مجال إلّا لاستصحابه.
نعم لو کان الخاص غیر قاطع لحکمه ، کما إذا کان مخصصاً له من الأوّل ، لما ضرَّ به فی غیر مورد دلالته ، فیکون أول زمان استمراد حکمه بعد زمان دلالته ، فیصحّ التمسک ب ( أَوْفُوا بِالْعُقُود ِ) (1) ولو خصّص بخیار المجلس ونحوه ، ولا یصحّ التمسک به فیما إذا خصص بخیار لا فی أولّه ، فافهم.
وإن کان مفادهما على النحو الثّانی ، فلا بدّ من التمسک بالعام بلا کلام ،
__________________
1 ـ سورة المائدة : الآیة 1.
لکون موضوع الحکم بلحاظ هذا الزمان من أفراده ، فله الدلالة على حکمه ، والمفروض عدم دلالة الخاص على خلافه.
وإن کان مفاد العام على النحو الأوّل والخاص على النحو الثّانی ، فلا مورد للاستصحاب ، فإنّه وأنّ لم یکن هناک دلالة أصلاً ، إلّا أن انسحاب الحکم الخاص إلى غیر مورد دلالته من إسراء حکم موضوع إلى آخر ، لا استصحاب حکم الموضوع ، ولا مجال أیضاً للتمسک بالعام لما مرّ آنفاً ، فلا بدّ من الرجوع إلى سائر الأصول.
وإن کان مفادهما على العکس کان المرجع هو العام ، للاقتصار فی تخصیصه بمقدار دلالة الخاص ، ولکنه لولا دلالته لکان الاستصحاب مرجعاً ، لما عرفت من أن الحکم فی طرف الخاص قد أخذ على نحو صحّ استصحابه ؛ فتأمل تعرف أن إطلاق کلام (1) شیخنا العلامة ( أعلى الله مقامه ) فی المقام نفیاً وإثباتاً فی غیر محله.
الرابع عشر : الظاهر أن الشک فی أخبار الباب وکلمات الأصحاب هو خلاف الیقین ، فمع الظن بالخلاف فضلاً عن الظن بالوفاق یجری الاستصحاب. ویدل علیه ـ مضافاً إلى إنّه کذلک لغةً کما فی الصحاح ، وتعارف استعماله فیه فی الإخبار فی غیر باب ـ قوله 7 فی أخبار الباب : ( ولکن تنقصه بیقین آخر ) حیث إنّ ظاهره إنّه فی بیان تحدید ما ینقض به الیقین وإنّه لیس إلّا الیقین ، وقوله أیضاً : ( لا حتى یستیقن إنّه قد نام ) بعد السؤال عنه 7 عمّا ( إذا حرک فی جنبه شیء وهو لا یعلم ) حیث دلّ بإطلاقه مع ترک الاستفصال بین ما إذا أفادت هذه الامارة الظن ، وما إذا لم تفد ، بداهة إنّها لو لم تکن مفیدة له دائماً لکانت مفیدة له أحیاناً ، على عموم النفی لصورة الإِفادة ، وقوله 7 بعده : ( ولا تنقض الیقین بالشک ) أن الحکم فی المغیّا مطلقاً هو عدم نقض الیقین بالشک ، کما لا
__________________
1 ـ راجع الأمر العاشر من تنبیهات الاستصحاب ، فرائد الأصول / 395.
یخفى.
وقد استدل علیه أیضاً بوجهین آخرین :
الأول (1) : الإجماع القطعی على اعتبارٍ الاستصحاب مع الظن بالخلاف على تقدیر اعتباره من باب الإخبار.
وفیه : إنّه لا وجه لدعواه ولو سلّم اتفاق الأصحاب على الاعتبار ، لاحتمال أن یکون ذلک من جهة ظهور دلالة الإخبار علیه.
الثانی (2) : إن الظن الغیر المعتبر ، إن علم بعدم اعتباره بالدلیل ، فمعناه أن وجوده کعدمه عند الشارع ، وأنّ کلما یترتب شرعاً على تقدیر عدمه فهو المترتب على تقدیر وجوده ، وأنّ کان مما شک فی اعتباره ، فمرجع رفع الید عن الیقین بالحکم الفعلّی السابق بسببه إلى نقض الیقین بالشک ، فتأمل جیداً.
وفیه : إن قضیة عدم اعتباره لإلغائه أو لعدم الدلیل على اعتباره لا یکاد یکون إلّا عدم إثبات مظنونه به تعبداً ، لیترتب علیه آثاره شرعاً ، لا ترتیب آثار الشک مع عدمه ، بل لابد حینئذ فی تعیین أن الوظیفة أیّ أصل من الأُصول العملیة من الدلیل ، فلو فرض عدم دلالة الأخبار معه على اعتبارٍ الاستصحاب فلابد من الانتهاء إلى سائر الأُصول بلا شبهة ولا ارتیاب ، ولعله أُشیر إلیه بالأمر بالتأمل (3) ، فتأمل جیداً.
تتمة : لا یذهب علیک إنّه لا بدّ فی الاستصحاب من بقاء الموضوع ، وعدم
__________________
1 ـ هذا هو الوجه الأوّل فی استدلال الشیخ (ره) على تعمیم الشک ، فی الأمر الثانی عشر من تنبیهات الاستصحاب ، فرائد الأصول / 389.
2 ـ هذا هو الوجه الثالث فی استدلال الشیخ (ره) على تعمیم الشک ، فی الأمر الثانی عشر من تنبیهات الاستصحاب ، فرائد الأصول / 398.
3 ـ راجع فرائد الأصول ، الأمر الثّانی عشر من تنبیهات الاستصحاب / 389.
أمارة معتبرة هناک ولو على وفاقه ، فها هنا مقامان :
المقام الأوّل : إنّه لا إشکال فی اعتبارٍ بقاء الموضوع بمعنى اتحاد القضیة المشکوکة مع المتیقنة موضوعاً ، کاتحادهما حکماً ، ضرورة إنّه بدونه لا یکون الشک فی البقاء بل فی الحدوث ، ولارفع الید عن الیقین فی محلّ الشک نقض الیقین بالشک ، فاعتبار البقاء بهذا المعنى لا یحتاج إلى زیادة بیان وإقامة برهان ، والاستدلال (1) علیه باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر لتقوّمه بالموضوع وتشخصه به غریب ، بداهة أن استحالته حقیقة غیر مستلزم لاستحالته تعبداً ، والالتزام بآثاره شرعا.
وأما بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجاً ، فلا یعتبر قطعاً فی جریإنّه لتحقق أرکإنّه بدونه ، نعم ربما یکون مما لابد منه فی ترتیب بعضٍ الآثار ، ففی استصحاب عدالة زید لا یحتاج إلى إحراز حیاته لجواز تقلیده ، وأنّ کان محتاجاً إلیه فی جواز الاقتداء به أو وجوب إکرامه أو الانفاق علیه.
وإنما الإِشکال کله فی أن هذا الاتحاد هل هو بنظر العرف؟ أو بحسب دلیل الحکم؟ أو بنظر العقل؟ فلو کان مناط الاتحاد هو نظر العقل فلا مجال للاستصحاب فی الأحکام ، لقیام احتمال تغیّر الموضوع فی کلّ مقام شک فی الحکم بزوال بعضٍ خصوصیات موضوعه ، لاحتمال دخله فیه ، ویختص بالموضوعاًت ، بداهة إنّه إذا شک فی حیاة زید شک فی نفس ما کان على یقین منه حقیقة ؛ بخلاف ما لو کان بنظر العرف أو بحسب لسان الدلیل ، ضرورة أن انتفاء بعضٍ الخصوصیات وإن کان موجباً للشک فی بقاء الحکم لاحتمال دخله فی موضوعه ، إلّا إنّه ربما لا یکون بنظر العرف ولا فی لسان الدلیل من مقوماته.
کما إنّه ربما لا یکون موضوع الدلیل بنظر العرف بخصوصه موضوعاً ، مثلاً
__________________
1 ـ استدل به الشیخ (ره) فی خاتمة الاستصحاب ، فی شروط جریان الاستصحاب ، فرائد الأصول / 400.
إذا ورد ( العنب إذا غلى یحرم ) کان العنب بحسب ما هو المفهوم عرفاً هو خصوص العنب ، ولکن العرف بحسب ما یرتکز فی أذهإنّهم ویتخیلونه من المناسبات بین الحکم وموضوعه ، یجعلون الموضوع للحرمة ما یعم الزبیب ویرون العنبیة والزبیبیة من حالاته المتبادلة ، بحیث لو لم یکن الزبیب محکوماً بما حکم به العنب ، کان عندهم من ارتفاع الحکم عن موضوعه ، ولو کان محکوماً به کان من بقائه ، ولا ضیر فی أن یکون الدلیل بحسب فهمهم على خلاف ما ارتکز فی أذهإنّهم بسبب ما تخیلوه من الجهات والمناسبات فیما إذا لم تکن بمثابة تصلح قرینة على صرفه عما هو ظاهر فیه.
ولا یخفى أن النقض وعدمه حقیقة یختلف بحسب الملحوظ من الموضوع ، فیکون نقضاً بلحاظ موضوع ، ولا یکون بلحاظ موضوع آخر ، فلابد فی تعیین أن المناط فی الاتحاد هو الموضوع العرفی أو غیره ، من بیان أن خطاب ( لا تنقض ) قد سیق بأی لحاظ؟.
فالتحقیق أن یقال : إن قضیة إطلاق خطاب ( لا تنقض ) هو أن یکون بلحاظ الموضوع العرفی ، لإنّه المنساق من الإِطلاق فی المحاورات العرفیة ومنها الخطابات الشرعیة ، فما لم یکن هناک دلالة على أن النهی فیه بنظر آخر غیر ما هو الملحوظ فی محاوراتهم ، لا محیص عن الحمل على إنّه بذاک اللحاظ ، فیکون المناط فی بقاء الموضوع هو الاتحاد بحسب نظر العرف ، وأنّ لم یحرز بحسب العقل أو لم یساعده النقل ، فیستصحب مثلاً ما ثبت بالدلیل للعنب إذا صار زبیباً ، لبقاء الموضوع واتحاد القضیتین عرفاً ، ولا یستصحب فیما لا اتحاد کذلک وأنّ کان هناک اتحاد عقلاً ، کما مرت الإِشارة إلیه فی القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلی (1) ، فراجع.
المقام الثّانی : إنّه لا شبهة فی عدم جریان الاستصحاب مع الأمارة المعتبرة
__________________
1 ـ فی نهایة التنبیه الثالث / ص 406.
فی مورد ، وإنما الکلام فی إنّه للورود أو الحکومة أو التوفیق بین دلیل اعتبارها وخطابه.
والتحقیق إنّه للورود ، فإن رفع الید عن الیقین السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه لیس من نقض الیقین بالشک بل بالیقین ، وعدم رفع الید عنه مع الأمارة على وفقه لیس لأجل أن لا یلزم نقضه به ، بل من جهة لزوم العمل بالحجة.
لا یقال : نعم ، هذا لو أُخذ بدلیل الامارة فی مورده ، ولکنه لِمَ لا یؤخذ بدلیله ویلزم الأخذ بدلیلها؟
فإنّه یقال : ذلک إنّما هو لأجل إنّه لا محذور فی الأخذ بدلیلها بخلاف الأخذ بدلیله ، فإنّه یستلزم تخصیص دلیلها بلا مخصص إلّا على وجه دائر ، إذ التخصیص به یتوقف على اعتباره معها ، واعتباره کذلک یتوقف على التخصیص به ، إذ لولاه لا مورد له معها ، کما عرفت آنفاً. وأما حدیث الحکومة (1) فلا أصل له أصلاً ، فإنّه لا نظر لدلیلها إلى مدلول دلیله إثباتاً وبما هو مدلول الدلیل ، وأنّ کان د إلّا على إلغائه معها ثبوتاً وواقعاً ، لمنافاة لزوم العمل بها مع العمل به لو کان على خلافها ، کما أن قضیة دلیله إلغائها کذلک ، فإن کلاً من الدلیلین بصدد بیان ما هو الوظیفة للجاهل ، فیطرد کلّ منهما الآخر مع المخالفة ، هذا مع لزوم اعتباره معها فی صورة الموافقة ، ولا أظن أن یلتزم به القائل بالحکومة ، فافهم فإن المقام لا یخلو من دقة.
وأما التوفیق ، فإن کان بما ذکرنا فنعم الاتفاق ، وأنّ کان بتخصیص دلیله بدلیلها فلا وجه له ، لما عرفت من إنّه لا یکون مع الأخذ به نقض یقین بشک ، لا إنّه غیر منهی عنه مع کونه من نقض الیقین بالشک.
__________________
1 ـ القائل بها هو الشیخ الاعظم (ره) ، راجع فرائد الأُصول ، فی خاتمة الاستصحاب ، الشرط الثالث فی جریان الاستصحاب / 407.
خاتمة
لا بأس ببیان النسبة بین الاستصحاب وسائر الأُصول العملیة ، وبیان التعارض بین الاستصحابین.
أما الأوّل : فالنسبة بینه وبینها هی بعینها النسبة بین الأمارة وبینه ، فیقدّم علیها ولا مورد معه لها ، للزوم محذور التخصیص إلّا بوجه دائر فی العکس وعدم محذور فیه أصلاً ، هذا فی النقلیة منها.
وأما العقلیة فلا یکاد یشتبه وجه تقدیمه علیها ، بداهة عدم الموضوع معه لها ، ضرورة إنّه إتمام حجّة وبیان ومؤمّن من العقوبة وبه الأمان ، ولا شبهة فی أن الترجیح به عقلاً صحیح.
وأما الثّانی : فالتعارض بین الاستصحابین ، إن إن لعدم إمکان العمل بهما بدون علم بانتقاض الحالة السابقة فی أحدهما ، کاستصحاب وجوب أمرین حدث بینهما التضاد فی زمان الاستصحاب ، فهو من باب تزاحم (1) الواجبین.
__________________
1 ـ فیتخیر بینهما إن لم یکن أحد المستصحبین أهم ، وإلاّ فیتعین الأخذ بالأهم ، ولا مجال لتوهم إنّه لا یکاد یکون هناک أهم ، لأجل أن إیجابهما إنّما یکون من باب واحد وهو استصحابهما من دون مزیة فی أحدهما أصلاً ، کما لا یخفى ، وذلک لأن الاستصحاب إنّما یثبت المستصحب ، فکما یثبت به الوجوب والاستحباب ، یثبت به کلّ مرتبة منهما ، فیستصحب ، فلا تغفل منه ( 1 ).
وإن کان مع العلم بانتقاض الحالة السابقة فی أحدهما ، فتارة یکون المستصحب فی أحدهما من الآثار الشرعیة لمستصحب الآخر ، فیکون الشک فیه مسبباً عن الشک فیه ، کالشک فی نجاسة الثوب المغسول بماء مشکوک الطهارة وقد کان طاهراً ، وأُخرى لا یکون کذلک.
فإن کان أحدهما أثراً للآخر ، فلا مورد إلّا للاستصحاب فی طرف السبب ، فإن الاستصحاب فی طرف المسبب موجب لتخصیص الخطاب ، وجواز نقض الیقین بالشک فی طرف السبب بعدم ترتیب أثره الشرعی ، فإن من آثار طهارة الماء طهارة الثوب المغسول به ورفع نجاسته ، فاستصحاب نجاسة الثوب نقض للیقین بطهارته ، بخلاف استصحاب طهارته ، إذ لا یلزم منه نقض یقین بنجاسة الثوب بالشک ، بل بالیقین بما هو رافع لنجاسته ، وهو غسله بالماء المحکوم شرعاً بطهارته.
وبالجملة فکل من السبب والمسبب وأنّ کان مورداً للاستصحاب ، إلّا أن الاستصحاب فی الأوّل بلا محذور (1) ، بخلافه فی الثّانی ففیه محذور التخصیص بلا وجه إلّا بنحو محال ، فاللازم الأخذ بالاستصحاب السببی ، نعم لو لم یجر هذا
__________________
1 ـ وسرّ ذلک أن رفع الید عن الیقین فی مورد السبب یکون فرداً لخطاب : لا تنقض الیقین ، ونقضاً للیقین بالشک مطلقاً بلا شک ، بخلاف رفع الید عن الیقین فی مورد المسبب ، فإنّه إنّما یکون فرداً له إذا لم یکن حکم حرمة النقض یعمّ النقض فی مورد السبب ، وإلاّ لم یکن بفرد له ، إذ حینئذ یکون من نقض الیقین بالیقین ، ضرورة إنّه یکون رفع الید عن نجاسة الثوب المغسول بماء محکوم بالطهارة شرعاً ، باستصحاب طهارته للیقین بأن کلّ ثوب نجس یغسل بماء کذلک یصیر طاهراً شرعاً. وبالجملة من الواضح لمن له أدنى تأمل ، أن اللازم ـ فی کلّ مقام کان للعام فرد مطلق ، وفرد کان فردیته له معلقة على عدم شمول حکمه لذلک الفرد المطلق کما فی المقام ، أو کان هناک عاماًن کان لاحدهما فرد مطلق وللآخر فرد کانت فردیته معلقة على عدم شمول حکم ذاک العام لفرده المطلق ، کما هو الحال فی الطرق فی مورد الاستصحاب ـ هو الالتزام بشمول حکم العام لفرده المطلق حیث لا مخصص له ، ومعه لا یکون فرد آخر یعمّه أو لا یعمّه ، ولا مجال لأن یلتزم بعدم شمول حکم العام للفرد المطلق لیشمل حکمه لهذا الفرد ، فإنّه یستلزم التخصیص بلا وجه ، أو بوجه دائر کما لا یخفى على ذوی البصائر منه ( 1 ).
الاستصحاب بوجه لکان الاستصحاب المسببی جاریاً ، فإنّه لا محذور فیه حینئذ مع وجود أرکإنّه وعموم خطابه (1).
وإن لم یکن المستصحب فی أحدهما من الآثار للآخر ، فالاظهر جریإنّهما فیما لم یلزم منه محذور المخالفة القطعیة للتکلیف الفعلّی المعلوم إجمالاً ، لوجود المقتضی إثباتاً وفقد المانع عقلاً.
أما وجود المقتضی ، فلاطلاق الخطاب وشموله للاستصحاب فی أطراف المعلوم بالإِجمال ، فإن قوله 7 فی ذیل بعضٍ أخبار الباب : ( ولکن تنقض الیقین بالیقین ) (2) لو سلّم إنّه یمنع (3) عن شمول قوله 7 فی صدره : ( لا تنقض الیقین بالشک ) للیقین والشک فی أطرافه ، للزوم المناقضة فی مدلوله ، ضرورة المناقضة بین السلب الکلّی والإِیجاب الجزئی ، إلّا إنّه لا یمنع عن عموم النهی فی سائر الإخبار مما لیس فیه الذیل ، وشموله لما فی أطرافه ، فإن إجمال ذاک الخطاب لذلک لا یکاد یسری إلى غیره مما لیس فیه ذلک.
وأما فقد المانع ، فلأجل أن جریان الاستصحاب فی الأطراف لا یوجب إلّا المخالفة الالتزامیة ، وهو لیس بمحذور لا شرعاً ولا عقلاً.
ومنه قد انقدح عدم جریإنّه فی أطراف العلم بالتکلیف فعلاً أصلاً ولو فی بعضها ، لوجوب الموافقة القطعیة له عقلاً ، ففی جریإنّه لا محالة یکون محذور المخالفة القطعیة أو الاحتمالیة ، کما لا یخفى.
تذنیب
لا یخفى أن مثل قاعدة التجاوز فی حال الإِشتغال بالعمل ، وقاعدة الفراغ
__________________
1 ـ فی نسخة « أ » سقط من هنا إلى بدایة المقصد الثامن.
2 ـ التهذیب 1 / 8 الحدیث 11.
3 ـ هذا ردّ لوجه منع الشیخ عن جریان الاستصحابین ، راجع فرائد الأصول 429 ، خاتمة الاستصحاب ، القسم الثّانی من تعارض الاستصحابین عند قوله : بل لأن العلم الإِجمالی هنا .. الخ.
بعد الفراغ عنه ، وأصالة صحة عمل الغیر إلى غیر ذلک من القواعد المقررة فی الشبهات الموضوعیة إلّا القرعة تکون مقدّمة على استصحاباتها المقتضیة لفساد ما شک فیه من الموضوعاًت ، لتخصیص دلیلها بأدلتها ، وکون النسبة بینه وبین بعضها عموماً من وجه لا یمنع عن تخصیصه بها بعد الإجماع على عدم التفصیل بین مواردها ، مع لزوم قلة المورد لها جداً لو قیل بتخصیصها بدلیلها ، إذ قلّ مورد منها لم یکن هناک استصحاب على خلافها ، کما لا یخفى.
وأما القرعة فالاستصحاب فی موردها یقدم علیها ، لأخصیّة دلیله من دلیلها ، لاعتبار سبق الحالة السابقة فیه دونها ، واختصاصها بغیر الأحکام إجماعاً لا یوجب الخصوصیة فی دلیلها بعد عموم لفظها لها ، هذا مضافاً إلى وهن دلیلها بکثرة تخصیصه ، حتى صار العمل به فی مورد محتاجاً إلى الجبر بعمل المعظم ، کما قیل ، وقوّة دلیله بقلة تخصیصه بخصوص دلیل.
لا یقال : کیف یجور تخصیص دلیلها بدلیله؟ وقد کان دلیلها رافعاً لموضوع دلیله لا لحکمه ، وموجباً لکون نقض الیقین بالیقین بالحجة على خلافه ، کما هو الحال بینه وبین أدلة سائر الأمارات ، فیکون ـ هاهنا أیضاً ـ من دوران الأمر بین التخصیص بلا وجه غیر دائر والتخصّص.
فإنّه یقال : لیس الأمر کذلک ، فإن المشکوک مما کانت له حالة سابقة وأنّ کان من المشکل والمجهول والمشتبه بعنوإنّه الواقعی ، إلّا إنّه لیس منها بعنوان ما طرأ علیه من نقض الیقین بالشک ، والظاهر من دلیل القرعة أن یکون منها بقول مطلق لا فی الجملة ، فدلیل الاستصحاب الدالّ على حرمة النقض الصادق علیه حقیقة ، رافع لموضوعه أیضاً ، فافهم.
فلا بأس برفع الید عن دلیلها عند دوران الأمر بینه وبین رفع الید عن دلیله ، لوهن عمومها وقوة عمومه ، کما أشرنا إلیه آنفاً ، والحمد لله أولاً وآخراً ، وصلى الله على محمد وآله باطناً وظاهراً.
المقصد الثامن
فی تعارض الادلة والامارات
فصل
التعارض هو تنافی الدلیلین أو الادلة بحسب الدلالة ومقام الإِثبات على وجه التناقض أو التضاد حقیقة أو عرضاً ، بأن علم بکذب أحدهما إجمالاً مع عدم امتناع اجتماعهما أصلاً. وعلیه فلا تعارض بینهما بمجرد تنافی مدلولهما ، إذا کان بینهما حکومة رافعة للتعارض والخصومة ، بأن یکون أحدهما قد سیق ناظراً إلى بیان کمیة ما أُرید من الآخر ، مقدماً (1) کان أو مؤخراً. أو کانا على نحو إذا عرضنا على العرف وفق بینهما بالتصرف فی خصوص أحدهما ، کما هو مطرد فی مثل الأدلة المتکفلة لبیان أحکام الموضوعاًت بعناوینها الأولیة ، مع مثل الادلة النافیة للعسر والحرج والضرر والإکراه والاضطرار ، مما یتکفل لأحکامها بعناوینها الثانویة ، حیث یقدم فی مثلهما الادلة النافیة ، ولا تلاحظ النسبة بینهما أصلاً ویتفق فی غیرهما ، کما لا یخفى.
__________________
1 ـ خلافاً لما یظهر فی عبارة الشیخ من اعتبارٍ تقدم المحکوم ، راجع فرائد الأصول 432 ، التعادل والترجیح ، عند قوله وضابط الحکومة .. الخ.
أو بالتصرف فیهما ، فیکون مجموعهما قرینة على التصرف فیهما ، أو فی أحدهما المعینّ ولو کان الآخر أظهر. ولذلک تقدم الأمارات المعتبرة على الأُصول الشرعیة ، فإنّه لا یکاد یتحیر أهل العرف فی تقدیمها علیه بعد ملاحظتهما ، حیث لا یلزم منه محذور تخصیص أصلاً ، بخلاف العکس فإنّه یلزم منه محذور التخصیص بلا وجه أو بوجه دائر ، کما أشرنا إلیه (1) فی أواخر الاستصحاب.
ولیس (2) وجه تقدیمها حکومتها على أدلتها بعدم کونها ناظرة إلى أدلتها بوجه ؛ وتعرضها لبیان حکم موردها لا یوجب کونها ناظرة إلى أدلتها وشارحة لها ، وإلاّ کانت أدلتها أیضاً دالّة ـ ولو بالالتزام ـ على أن حکم مورد الاجتماع فعلاً هو مقتضى الأصل لا الأمارة ، وهو مستلزم عقلاً نفی ما هو قضیة الأمارة ، بل لیس مقتضى حجیتها إلّا نفی ما قضیته عقلاً من دون دلالة علیه لفظاً ، ضرورة أن نفس الامارة لا دلالة له إلّا على الحکم الواقعی ، وقضیة حجیتها لیست إلّا لزوم العمل على وفقها شرعاً المنافی عقلاً للزوم العمل على خلافه وهو قضیة الأصل ، هذا مع احتمال أن یقال : إنّه لیس قضیة الحجیة شرعاً إلّا لزوم العمل على وفق الحجة عقلاً وتنجز الواقع مع المصادفة ، وعدم تنجزه فی صورة المخالفة.
وکیف کان لیس مفاد دلیل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبداً ، کی یختلف الحال ویکون مفاده فی الأمارة نفی حکم الأصل ، حیث إنّه حکم الاحتمال بخلاف مفاده فیه ، لأجل أن الحکم الواقعی لیس حکم احتمال خلافه ، کیف؟ وهو حکم الشک فیه واحتماله ، فافهم وتأملّ جیداً.
فانقدح بذلک إنّه لا تکاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بین الأصل والأمارة ، إلّا بما أشرنا سابقاً وآنفاً ، فلا تغفل ، هذا ولا تعارض أیضاً إذا کان أحدهما قرینة على التصرف فی الآخر ، کما فی الظاهر مع النص أو الأظهر ، مثل
__________________
1 ـ فی خاتمة الاستصحاب / ص 430.
2 ـ القائل بالحکومة هو الشیخ فی فرائد الأصول 432 ، أول مبحث التعادل والترجیح.
العام والخاص والمطلق والمقید ، أو مثلهما مما کان أحدهما نصاً أو أظهر ، حیث إنّ بناءً العرف على کون النص أو الأظهر قرینة على التصرف فی الآخر.
وبالجملة : الأدلة فی هذه الصور وأنّ کانت متنافیة بحسب مدلولاتها ، إلّا إنّها غیر متعارضة ، لعدم تنافیها فی الدلالة وفی مقام الإِثبات ، بحیث تبقى أبناء المحاورة متحیرة ، بل بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها یتصرف فی الجمیع أو فی البعض عرفاً ، بما ترتفع به المنافاة التی تکون فی البین ؛ ولا فرق فیها بین أن یکون السند فیها قطعیاً أو ظنیاً أو مختلفاً ، فیقدّم النص أو الأظهر ـ وأنّ کان بحسب السند ظنیاً ـ على الظاهر ولو کان بحسبه قطعیاً.
وإنما یکون التعارض فی غیر هذه الصور مما کان التنافی فیه بین الأدلة بحسب الدلالة ومرحلة الإِثبات ، وإنما یکون التعارض بحسب السند فیما إذا کان کلّ واحد منها قطعیاً دلالة وجهة ، أو ظنیاً فیما إذا لم یکن التوفیق بینها بالتصرف فی البعض أو الکلّ ؛ فإنّه حینئذ لا معنى للتعبد بالسند فی الکلّ ، امّا للعمل بکذب أحدهما ، أو لأجل إنّه لا معنى للتعبد بصدورها مع إجمالها ، فیقع التعارض بین أدلة السند حینئذ ، کما لا یخفى.
فصل
التعارض وأنّ کان لا یوجب إلّا سقوط أحد المتعارضین عن الحجیة رأساً ، حیث لا یوجب إلّا العلم بکذب أحدهما ، فلا یکون هناک مانع عن حجیة الآخر ، إلّا إنّه حیث کان بلا تعیین ولا عنوان واقعاً ـ فإنّه لم یعلم کذبه إلّا کذلک ، واحتمال کون کلّ منهما کاذباً ـ لم یکن واحد منهما بحجة فی خصوص مؤدّاه ، لعدم التعیّن فی الحجة أصلاً ، کما لا یخفى.
نعم یکون نفی الثالث بأحدهما لبقائه على الحجیة ، وصلاحیته على ما هو علیه من عدم التعین لذلک لا بهما ، هذا بناءً على حجیة الأمارات من باب
الطریقیة ، کما هو کذلک حیث لا یکاد یکون حجة طریقاً إلّا ما احتمل إصابته ، فلا محالة کان العلم بکذب أحدهما مانعاً عن حجیته ،
وأما بناءً على حجیتها من باب السببیة فکذلک لو کان الحجة هو خصوص ما لم یعلم کذبه ، بأن لا یکون المقتضی للسببیة فیها إلّا فیه ، کما هو المتیقن من دلیل اعتبارٍ غیر السند منها ، وهو بناءً العقلاء على أصالتی الظهور والصدور ، لا للتقیة ونحوها ، وکذا السند لو کان دلیل اعتباره هو بناؤهم أیضاً ، وظهوره فیه لو کان هو الآیات والأخبار ، ضرورة ظهورها فیه ، لو لم نقل بظهورها فی خصوص ما إذا حصل الظن منه أو الاطمئنان.
وأما لو کان المقتضی للحجیة فی کلّ واحد من المتعارضین لکان التعارض بینهما من تزاحم الواجبین ، فیما إذا کانا مؤدیین إلى وجوب الضدین أو لزوم المتناقضین ، لا فیما إذا کان مؤدى أحدهما حکماً غیر إلزامی ، فإنّه حینئذ لا یزاحم الآخر ، ضرورة عدم صلاحیة ما لا اقتضاء فیه أن یزاحم به ما فیه الاقتضاء ، إلّا أن یقال بأن قضیة اعتبارٍ دلیل الغیر الالزامی أن یکون عن اقتضاء ، فیزاحم به حینئذ ما یقتضی الإلزامی ، ویحکم فعلاً بغیر الإلزامی ، ولا یزاحم بمقتضاه ما یقتضی الغیر الإلزامی ، لکفایة عدم تمامیة علّة الإلزامی فی الحکم بغیره.
نعم یکون باب التعارض من باب التزاحم مطلقاً لو کان قضیة الاعتبار هو لزوم البناء والالتزام بما یؤدی إلیه من الأحکام ، لا مجرد العمل على وفقه بلا لزوم الالتزام به. وکونهما من تزاحم الواجبین حینئذ وأنّ کان واضحاً ، ضرورة عدم إمکان الالتزام بحکمین فی موضوع واحد من الأحکام ، إلّا إنّه لا دلیل نقلاً ولا عقلاً على الموافقة الالتزامیة للأحکام الواقعیة فضلاً عن الظاهریة ، کما مرّ تحقیقه (1).
وحکم التعارض بناءً على السببیة فیما کان من باب التزاحم هو التخییر لو لم
__________________
1 ـ فی مبحث القطع ، الأمر الخامس ، ص 268.
یکن أحدهما معلوم الاهمیة أو محتملها فی الجملة ، حسبما فصلناه (1) فی مسألة الضد ، وإلاّ فالتعیین ، وفیما لم یکن من باب التزاحم هو لزوم الأخذ بما دلّ على الحکم الالزامی ، لو لم یکن فی الآخر مقتضیاً لغیر الالزامی ، وإلاّ فلا بأس بأخذه والعمل علیه ، لما أشرنا إلیه من وجهه آنفاً ، فافهم.
هذا هو قضیة القاعدة فی تعارض الأمارات ، لا الجمع بینها بالتصرف فی أحد المتعارضین أو فی کلیهما ، کما هو قضیة ما یتراءى مما قیل من أن الجمع مهما أمکن أولى من الطرح ، إذ لا دلیل علیه فیما لا یساعد علیه العرف مما کان المجموع أو أحدهما قرینة عرفیة على التصرف فی أحدهما بعینه أو فیهما ، کما عرفته فی الصور السابقة ، مع أن فی الجمع کذلک أیضاً طرحا للأمارة أو الأمارتین ، ضرورة سقوط أصالة الظهور فی أحدهما أو کلیهما معه ، وقد عرفت أن التعارض بین الظهورین فیما کان سنداهما قطعیین ، وفی السندین إذا کانا ظنیین ، وقد عرفت أن قضیة التعارض إنّما هو سقوط المتعارضین فی خصوص کلّ ما یؤدیان إلیه من الحکمین ، لا بقاؤهما على الحجیة بما یتصرّف فیهما أو فی أحدهما ، أو بقاء سندیهما علیها کذلک بلا دلیلٍ یساعد علیه من عقل أو نقل. فلا یبعد أن یکون المراد من إمکان الجمع هو إمکانه عرفاً ، ولا ینافیه الحکم بإنّه أولى مع لزومه حینئذ وتعینه ، فإن أولویته من قبیل الأولویّة فی أُولی الأرحام ، وعلیه لا إشکال فیه ولا کلام.
فصل
لا یخفى أن ما ذکر من قضیة التعارض بین الأمارات ، إنّما هو بملاحظة القاعدة فی تعارضها ، وإلاّ فربما یَّدعى الإجماع على عدم سقوط کلاّ المتعارضین فی الأخبار ، کما اتفقت علیه کلمة غیر واحد من الأخبار. ولا یخفى أن اللازم فیما إذا لم
__________________
1 ـ لم یتقدم منه ـ 1 ـ فی مسألة الضد تفصیل ولا إجمال من هذه الحیثیة ، نعم له تفصیل فی تعلیقته على الرسالة ، راجع حاشیة فرائد الأصول / 269 ، عند قوله : اعلم أنّ منشأ الاهمیة تارةً ... الخ.
تنهض حجة على التعیین أو التخییر بینهما هو الاقتصار على الراجح منهما ، للقطع بحجیته تخییراً أو تعییناً ، بخلاف الآخر لعدم القطع بحجیته ، والأصل عدم حجیة ما لم یقطع بحجیته ، بل ربما ادعی الاجماع (1) أیضاً على حجیة خصوص الراجح ، واستدل علیه بوجوه أُخر أحسنها الأخبار ، وهی على طوائف :
منها : ما دلّ على التخییر على الإِطلاق ، کخبر (2) الحسن بن الجهم ، عن الرضا 7 : ( قلت : یجیئنا الرجلان وکلاهما ثقة بحدیثین مختلفین ولا یعلم أیهما الحق ، قال : فإذا لم یعلم فموسّع علیک بأیهما أخذت ). وخبر (3) الحارث بن المغیرة ، عن أبی عبدالله 7 : ( إذا سمعت من أصحابک الحدیث وکلهم ثقة ، فموسّع علیک حتى ترى القائم فترد علیه ). ومکاتبة (4) عبدالله بن محمد إلى أبی الحسن 7 ( اختلف أصحابنا فی روایاتهم عن أبی عبدالله 7 ، فی رکعتی الفجر ، فروى بعضهم : صلِّ فی المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلها إلّا فی الأرض ، فوقع 7 : موسع علیک بأیة عملت ) ومکاتبة الحمیری (5) إلى الحجّة 7 ـ إلى أن قال فی الجواب عن ذلک حدیثان ... إلى أن قال 7 ـ ( وبأیهما أخذت من باب التسلیم کان صواباً ) إلى غیر ذلک من الإطلاقاًت.
ومنها : ما (6) دلّ على التوقف مطلقاً.
ومنها : ما (7) دلّ على ما هو الحائط منها.
__________________
1 ـ ادعاه الشیخ فی فرائد الأصول 441 ، المقام الثّانی فی التراجیح من مبحث التعادل والتراجیح.
2 ـ الاحتجاج 357 ، فی احتجاجات الامام الصادق 7.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ التهذیب 3 ، الباب 23 ، الصلاة فی السفر ، الحدیث 92 ، مع اختلاف یسیر.
5 ـ الاحتجاج 483 ، فی توقیعات الناحیة المقدسة.
6 ـ الأصول من الکافی 1 / 66 ، باب اختلاف الحدیث ، الحدیث 7. عوالی اللآلی 4 / 133 ، الحدیث 230.
7 ـ وسائل الشیعة 18 / 111 ، الباب 12 من ابواب صفات القاضی.
ومنها : ما دلّ (1) على الترجیح بمزایا مخصوصة ومرجحات منصوصة ، من مخالفة القوم وموافقة الکتاب والسنة ، والأعدلیة ، والأصدقیة ، والأفقهیة والأورعیة ، والاوثقیة ، والشهرة على اختلافها فی الاقتصار على بعضها وفی الترتیب بینها.
ولأجل اختلاف الإخبار اختلفت الانظار.
فمنهم من أوجب الترجیح بها ، مقیدین بأخباره إطلاقاًت التخییر ، وهم بین من اقتصر على الترجیح بها ، ومن تعدى منها إلى سائر المزایا الموجبة لأقوائیة ذی المزیة وأقربیته ، کما صار إلیه شیخنا العلامة أعلى الله مقامه (2) ، أو المفیدة للظن ، کما ربما یظهر من غیره (3).
فالتحقیق أن یقال : إنّ أجمع خبر للمزایا المنصوصة فی الإخبار هو المقبولة (4) والمرفوعة (5) ، مع اختلافهما وضعف سند المرفوعة جداً ، والاحتجاج بهما على وجوب الترجیح فی مقام الفتوى لا یخلو عن إشکال ، لقوة احتمال اختصاص الترجیح بها بمورد الحکومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة کما هو موردهما ، ولا وجه معه للتعدی منه إلى غیره ، کما لا یخفى.
ولا وجه لدعوى تنقیح المناط ، مع ملاحظة أن رفع الخصومة بالحکومة فی صورة تعارض الحکمین ، وتعارض ما استندا إلیه من الروایتین لا یکاد یکون إلّا بالترجیح ولذا أمر 7 بإرجاء الواقعة إلى لقائه 7 فی صورة
__________________
1 ـ وسائل الشیعة 18 / 75 الباب 9 من ابواب صفات القاضی.
2 ـ فرائد الأصول 450 ، فی المقام الثالث من مقام التراجیح.
3 ـ مفاتیح الأصول / 688 ، التنبیه الثّانی من تنبیهات تعارض الدلیلین.
4 ـ التهذیب 6 / 301 ، الباب 92 ، الحدیث 52. الکافی 1 / 67 ، باب اختلاف الحدیث ، الحدیث 15
الفقیه 3 / 5 ، الباب 9 ، الحدیث 2.
5 ـ عوالی اللآلی 4 / 133 الحدیث 229.
تساویهما فیما ذکر من المزایا ، بخلاف مقام الفتوى ؛ ومجرد مناسبة الترجیح لمقامها أیضاً لا یوجب ظهور الروایة فی وجوبه مطلقاً ولو فی غیر مورد الحکومة ، کما لا یخفى.
وإن أبیت إلّا عن ظهورهما فی الترجیح فی کلاّ المقامین ، فلا مجال لتقیید إطلاقاًت التخییر فی مثل زماننا مما لا یتمکن من لقاء الإمام 7 بهما ، لقصور المرفوعة سنداً وقصور المقبولة دلالة ، لاختصاصها بزمان التمکن من لقائه 7 ، ولذا ما أرجع إلى التخییر بعد فقد الترجیح ، مع أن تقیید الإطلاقاًت الواردة فی مقام الجواب عن سؤال حکم المتعارضین ـ بلا استفصال عن کونهما متعادلین أو متفاضلین ، مع ندرة کونهما متساویین جداً ـ بعید قطعاً ، بحیث لو لم یکن ظهور المقبولة فی ذاک الاختصاص لوجب حملها علیه أو على ما لا ینافیها من الحمل على الاستحباب ، کما فعله بعضٍ الأصحاب (1) ، ویشهد به الاختلاف الکثیر بین ما دلّ على الترجیح من الأخبار.
ومنه قد انقدح حال سائر أخباره ، مع أن فی کون أخبار موافقة الکتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظراً ، وجهه قوة احتمال أن یکون الخبر المخالف للکتاب فی نفسه غیر حجة ، بشهادة ما (2) ورد فی إنّه زخرف ، وباطل ، ولیس بشیء ، أو إنّه لم نقله ، أو أمر بطرحه على الجدار ، وکذا الخبر الموافق للقوم ، ضرورة أن أصالة عدم صدوره تقیة ـ بملاحظة الخبر المخالف لهم مع الوثوق بصدوره لولا القطع به ـ غیر جاریة ، للوثوق حینئذ بصدوره کذلک ، وکذا الصدور أو
__________________
1 ـ الظاهر هو السید الصدر شارح الوافیة ، لکنه ; حمل جمیع أخبار الترجیح على الاستحباب ، شرح الوافیة ، ص مخطوط.
2 ـ الوسائل 18 / 78 ، الباب 9 من ابواب صفات القاضی ، الأحادیث : 10 ، 11 ، 12 ، 14 ، 15 ، 29 ، 35 ، 37 ، 40 ، 47 ، 48.
والمحاسن : 1 / 220 ، الباب 11 ، الأحادیث 128 إلى 131 وص 225 ، الباب 12 ، الحدیث 145 وص 226 ، الباب 14 ، الحدیث 150.
الظهور فی الخبر المخالف للکتاب یکون موهوناً بحیث لا یعمه أدلة اعتبارٍ السند ولا الظهور ، کما لا یخفى ، فتکون هذه الإخبار فی مقام تمیز الحجة عن اللاحجة لا ترجیح الحجة على الحجة ، فافهم.
وإن أبیت عن ذلک ، فلا محیص عن حملها توفیقاً بینها وبین الإطلاقاًت ، امّا على ذلک أو على الاستحباب کما أشرنا إلیه آنفا ، هذا ثم إنّه لولا التوفیق بذلک للزم التقیید أیضاً فی أخبار المرجحات ، وهی آبیة عنه ، کیف یمکن تقیید مثل : ( ما خالف قول ربنا لم أقله ، أو زخرف ، أو باطل )؟ کما لا یخفى.
فتلخص ـ مما ذکرنا ـ أن إطلاقاًت التخییر محکمة ، ولیس فی الإخبار ما یصلح لتقییدها.
نعم قد استدل على تقییدها ، ووجوب الترجیح فی المتفاضلین بوجوه أخر :
منها : دعوى (1) الاجماع على الأخذ بأقوى الدلیلین.
وفیه أن دعوى الاجماع ـ مع مصیر مثل الکلینی إلى التخییر ، وهو فی عهد الغیبة الصغرى ویخالط النواب والسفراء ، قال فی دیباجة الکافی : ولا نجد شیئاً أوسع ولا أحوط من التخییر ـ مجازفة.
ومنها (2) : إنّه لو لم یجب ترجیح ذی المزیة ، لزم ترجیح المرجوح على الراجح وهو قبیح عقلاً ، بل ممتنع قطعاً.
وفیه إنّه إنّما یجب الترجیح لو کانت المزیة موجبة لتأکد ملاک الحجیة فی نظر الشارع ، ضرورة إمکان أن تکون تلک المزیة بالإضافة إلى ملاکها من قبیل الحجر فی جنب الإنسان ، وکان الترجیح بها بلا مرجح ، وهو قبیح کما هو واضح ، هذا.
مضافاً إلى ما هو فی الإِضراب من الحکم بالقبح إلى الامتناع ، من أن
__________________
1 ـ حکاه الشیخ (ره) عن کلام جماعة / فرائد الأصول 469 ، المرجحات الخارجیة ، من الخاتمة فی التعادل والتراجیح.
2 ـ استدل به المحقق القمی (ره) قوانین الأصول 2 / 278 ، فی قانون الترجیح من الخاتمة.
الترجیح بلا مرجح فی الأفعال الاختیاریة ومنها الأحکام الشرعیة ، لا یکون إلا قبیحاً ، ولا یستحیل وقوعه إلّا على الحکیم تعالى ، وإلاّ فهو بمکان من الإِمکان ، لکفایة إرادة المختار علّة لفعله ، وإنما الممتنع هو وجود الممکن بلا علّة ، فلا استحالة فی ترجیحه تعالى للمرجوح ، إلّا من باب امتناع صدوره منه تعالى ، وأما غیره فلا استحالة فی ترجیحه لما هو المرجوح مما باختیاره.
وبالجملة : الترجیح بلا مرجح بمعنى بلا علّة محال ، وبمعنى بلا داعٍ عقلاًئی قبیح لیس بمحال ، فلا تشتبه.
ومنها : غیر ذلک (1) مما لا یکاد یفید الظن ، فالصفح عنه أولى وأحسن.
ثم إنّه لا إشکال فی الإفتاء بما اختاره من الخبرین ، فی عمل نفسه وعمل مقلدیه ، ولا وجه للافتاء بالتخییر فی المسألة الفرعیة ، لعدم الدلیل علیه فیها.
نعم له الافتاء به فی المسألة الأُصولیة ، فلا بأس حینئذ باختیار المقلد غیر ما اختاره المفتی ، فیعمل بما یفهم منه بصریحه أو بظهوره الذی لا شبهة فیه.
وهل التخییر بدوی أم استمراری؟ قضیة الاستصحاب لو لم نقل بإنّه قضیة الإطلاقاًت أیضاً کونه استمراریاً.
وتوهمّ (2) أن المتحیّر کان محکوماً بالتخییر ، ولا تحیر له بعد الاختیار ، فلا یکون الإِطلاق ولا الاستصحاب مقتضیاً للاستمرار ، لاختلاف الموضوع فیهما ، فاسد ، فإن التحیر بمعنى تعارض الخبرین باق على حاله ، وبمعنى آخر لم یقع فی خطاب موضوعاً للتخییر أصلاً ، کما لا یخفى.
فصل
هل على القول بالترجیح ، یقتصر فیه على المرجحات المخصوصة المنصوصة ، أو یتعدى إلى غیرها؟ قیل (3) بالتعدی ، لما فی الترجیح بمثل الاصدقیة
__________________
1 ـ راجع فرائد الأصول 442 ـ 444 ، المقام الثّانی من مقام التراجیح.
2 ـ یظهر ذلک من الشیخ (ره) فی فرائد الأصول 440 ، المقام الأوّل فی المتکافئین.
3 ـ القائل هو الشیخ ( قده ) ونسبه إلى جمهور المجتهدین ، فرائد الأصول / 450.
والأوثقیة ونحوهما ، مما فیه من الدلالة على أن المناط فی الترجیح بها هو کونها موجبة للأقربیة إلى الواقع ، ولما فی التعلیل بأن المشهور مما لا ریب فیه ، من استظهار أن العلة هو عدم الریب فیه بالإضافة إلى الخبر الآخر ولو کان فیه ألف ریب ، ولما فی التعلیل بأن الرشد فی خلافهم.
ولا یخفى ما فی الاستدلال بها :
أما الأوّل : فإن جعل خصوص شیء فیه جهة الإراءة والطریقیة حجة أو مرجحاً لا دلالة فیه على أن الملاک فیه بتمامه جهة إراءته ، بل لا إشعار فیه کما لا یخفى ، لاحتمال دخل خصوصیته فی مرجحیته أو حجیته ، لا سیما قد ذکر فیها ما لا یحتمل الترجیح به إلّا تعبداً ، فافهم.
وأما الثّانی : فلتوقفه على عدم کون الروایة المشهورة فی نفسها مما لا ریب فیها ، مع أن الشهرة فی الصدر الأوّل بین الرواة وأصحاب الأئمة ـ : ـ موجبة لکون الروایة مما یطمأن بصدورها ، بحیث یصحّ أن یقال عرفاً : إنّها مما لا ریب فیها ، کما لا یخفى. ولا بأس بالتعدی منه إلى مثله مما یوجب الوثوق والاطمئنان بالصدور ، لا إلى کلّ مزیة ولو لم یوجب إلّا أقربیة ذی المزیة إلى الواقع ، من المعارض الفاقد لها.
وأما الثالث : فلاحتمال أن یکون الرشد فی نفس المخالفة ، لحسنها ، ولو سلّم إنّه لغلبة الحق فی طرف الخبر المخالف ، فلا شبهة فی حصول الوثوق بأن الخبر الموافق المعارض بالمخالف لا یخلو من الخلل صدوراً أو جهة ، ولا بأس بالتعدی منه إلى مثله ، کما مرّ آنفاً.
ومنه انقدح حال ما إذا کان التعلیل لأجل انفتاح باب التقیة فیه ، ضرورة کمال الوثوق بصدوره کذلک ، مع الوثوق بصدورهما ، لولا القطع به فی الصدر الأوّل ، لقلة الوسائط ومعرفتها ، هذا.
مع ما فی عدم بیان الامام ـ 7 ـ للکلیة کی لا یحتاج السائل إلى
إعادة السؤال مراراً ، وما فی أمره ـ 7 ـ بالإرجاء بعد فرض التساوی فیما ذکره من المزایا المنصوصة ، من الظهور فی أن المدار فی الترجیح على المزایا المخصوصة ، کما لا یخفى.
ثم إنّه بناءً على التعدی حیث کان فی المزایا المنصوصة مالا یوجب الظن بذی المزیة ولا أقربیته ، کبعض صفات الراوی مثل الأورعیة أو الأفقهیة ، إذا کان موجبهما مما لا یوجب الظن أو الأقربیة ، کالتورع من الشبهات ، والجهد فی العبادات ، وکثرة التتبع فی المسائل الفقهیة أو المهارة فی القواعد الأصولیة ، فلا وجه للاقتصار على التعدی إلى خصوص ما یوجب الظن أو الأقربیة ، بل إلى کلّ مزیة ، ولو لم تکن بموجبة لأحدهما ، کما لا یخفى.
وتوهمّ أن ما یوجب الظن بصدق أحد الخبرین لا یکون بمرجح ، بل موجب لسقوط الآخر عن الحجیة للظن بکذبه حینئذ ، فاسد. فإن الظن بالکذب لا یضر بحجیة ما اعتبر من باب الظن نوعاً ، وإنما یضر فیما أُخذ فی اعتباره عدم الظن بخلافه ، ولم یؤخذ فی اعتبارٍ الأخبار صدوراً ولا ظهوراً ولا جهةً ذلک ، هذا مضافاً إلى اختصاص حصول الظن بالکذب بما إذا علم بکذب أحدهما صدوراً ، وإلاّ فلا یوجبه الظن بصدور أحدهما لإمکان صدورهما مع عدم إرادة الظهور فی أحدهما أو فیهما ، أو إرادته تقیة ، کما لا یخفى.
نعم لو کان وجه التعدی اندراج ذی المزیة فی أقوى الدلیلین لوجب الاقتصار على ما یوجب القوة فی دلیلیته وفی جهة إثباته وطریقیته ، من دون التعدی إلى ما لا یوجب ذلک ، وأنّ کان موجباً لقوة مضمون ذیه ثبوتاً ، کالشهرة الفتوائیة أو الأولویة الظنیة ونحوهما ، فإن المنساق من قاعدة أقوى الدلیلین أو المتیقن منها ، إنّما هو الأقوى دلالة ، کما لا یخفى ، فافهم.